الآلهة البركة وتوابعها
ودون عزلة عن المدى الذي قطعته دراسة الحكاية الشعبية من خرافية وطوطمية حيوانية نباتية لمحلية، سواء من حيث التصنيف والفهرست بحسب موضوعاتها وأغراضها.
فمن المفيد أن يكون لنا تصنيفنا المعبِّر عن خصائص وسمات تراثنا الفولكلوري العربي في مجال الحكاية.
وعلى هذا، فنظرًا للدور الكبير الواضح لجزئيات الأفكار المجردة مثل: حكايات ومأثورات البركة المنتشرة على طول شفاهيات الكيانات العربية، ولها استخداماتها المختلفة، سواء في الحكايات أو تبادُل التحايا والدعاء: «بارَكَ الله فيك» و«حصلت البركة» … إلخ.
فجزئية البركة، كمقولة طوباوية، لها بالقطع دورُها السالب المبدد والمعاكس للحتميات العلمية والتقنية في ذات الآن.
فالبركة وما يرادفها من سعد ووعد وبخت وقسمة ونصيب بما يفضي بها إلى القدرية، التي هي مَلْمَح جوهري لتراثنا العربي؛ تَرِد بكثرة مُلْفِتة في تراثنا.
وهذا ما دفعني هنا إلى إعطائها نصيبها من التأنِّي الدراسي؛ نظرًا لجانبها الأقرب إلى الخطر، وَلْنَقُل الآفة الحضارية التي قد تمتد بدءًا من التصور والمخيلة الذاتية إلى الجمعية المعوقة لطاقات الإنتاج ومؤسساته.
ولعله من المُلْفِت والمُفْجِع معًا — بالنسبة لتراجيديا العقل الغيبي المتمثِّل في اللامعرفة — أن أقْدَمَ أشكالِ فكرة البركة هذه وُلِدَت أسطوريًّا مع مولد إسرائيل.
ولعله أيضًا أول ذِكْر لإسرائيل مرادف للبركة، التي سعى إليها ذلك التاجر السامي يعقوب أو إسرائيل وانتزعها انتزاعًا.
أما الواقعة الثانية التي تبرز فكرة البركة، فمكانها بعد أن تحقَّقَ وعد الآباء في أرض إسرائيل — الولي المبارك — ووجدت أول مملكة أو دولة، والتي فيها أَقْدَمَ داود على إحصاء شعبه، فكان أن عُوقِب — نظرًا لاقتحامه الزائد المبكر المتمثِّل في تعداد الشعب — باللعنات الثلاث التي قد نصل بها على مستوى الاشتقاق التخميني اللغوي للبركة، أي الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والحق التاريخي على تلك القصص الإسرائيلية الهابطة المغيرة، تحدوها أساطير أرض الميعاد المرادفة للبركة، التي قد نصل بها على مستوى الاشتقاق التخميني اللغوي للبركة، أيْ بركة — بكسر الباء — الماء وموارده كمرادف أيضًا للخير؛ ومن هنا فما تزال هذه الأفكار الخرافية عن ارتباط البِرْكة بِبِرَك الماء الآسن المنتشرة على طول قرى البلدان العربية، والتي يتبرَّك بها بالفعل، وهي مصدر تخلُّف صحي محقق.
وتتبدَّى شعيرة البركة هذه خلال تبادل التحايا والأدعية: «الله يبارك فيك»، وبخاصة في المعاملات التجارية وإتمام الصفقات: «الله يباركلك، ومبروك». ومع كل جديد أو بدء أو أول، سواء حصاد المحاصيل، أو ارتداء ملابس وأحذية جديدة، كما تتبدَّى بكثرة في الأسماء: مبروك وبركات وبركة، وبكثرة مفرطة في الحكايات الخرافية العربية عامةً والمصرية خاصةً، وهي حكايات أقرب إلى المأثورات، قصيرة متماسكة محكمة التصميم والبناء.
من ذلك ما توصَّلتُ إلى جمعه من حكايات، ومنه أن فلاحًا أجيرًا ثقل عليه الجوع، فذهب لزراعة أرض مالك، وافَقَه وأعطاه أردبين من القمح ليبذرهما، فأكلهما هو وأولاده، وبذر بدلًا منهما أردبين من الرمل، وما إن ذهبا هو ومالك الأرض ليريا المحصول حتى وجد الفلاح أن ما بذره رملًا طرحت فيه البركة فأنبت قمحًا مزهرًا.
أما عن أجير آخر، فما إن يحين أوان الكيل للمحصول لأخذ حصته من المالك، حتى يصل كيله للغلة إلى ٨ زكائب بدلًا من ١٢، ومرجوع الفرق هنا إلى أن الأجير الزارع مبروك كما تكشف الحكاية.
فتَرِدُ تنويعات حكايات بسطاء الناس المبروكين بكثرة، وكذا الزوجات والأطفال — الموعودين القدريين — كما قد تختصُّ بها — أيِ البركة — بعضَ الحيوانات والطيور، من ماعز ودجاجات تبيض ذهبًا وجِمَال وأبقار. من ذلك أن رجلًا اشترى بقرة من السوق، وفي البيت حين أقدموا على حلبها اكتشفوا أن لها ثديًا واحدًا بدلًا من أربعة كما هي العادة في حالة الأبقار السَّوِية، لكنْ ولأن زوجة الشاري بيدها البركة، حلبت البقرة بأثدائها الأربعة.
كذلك فقد نصل بسلطة البركة داخل عيِّنات هذه الحكايات من خرافية وشعبية، إلى حد أن الأولياء في مقدورهم إحياء الأطفال الذبيحة والمحترقة بالبركة لا غير.
وعادةً ما تلازم الثنائية مثل هذه الحكايات، فحيث تلازم البركةُ الشخصَ الصالح ممثَّلةً في فتح مغارة، أو كنز، أو إتيانِ أفعالٍ صغيرة كالأكل والشرب، تصل الشخصية إلى مبتغاها، بينما تخفق نقيضتها الطالحة أو الشريرة.
وفي حكاية مصرية من هذا النوع، تتفتَّح الكنوز للأخ الذي يندسُّ في ذِكْرٍ للأولياء، مُنشِدًا: «الله حي، اللي راح أحسن من اللي جي» كمقولة سلفية، بينما يخفق الأخ الطالح المستقبلي الذي يقلِّده مردِّدًا: «الله حي، اللي جي أحسن من اللي راح».
فكما أوضحنا فهناك وثاق جوهري بين أفكار البركة وميكنزمات العقل الجبري الأسطوري القدري العربي بخاصةٍ، والسامي بعامةٍ، واستنادًا إلى مقولة دين لاين غير المقننة كما ينبغي، عن خاصية تراث الحكايات الفولكلورية العربية، من خلال ألف ليلة وليلة، مشيرًا إلى أن «الحكايات العربية لا تعرف في النهاية سوى إله واحد هو الله»، وهذا الإله ليس له سوى رسول واحد هو محمد، وهذا الرسول لم ينزل عليه سوى كتاب واحد هو القرآن، ولا يعترف هذا الكتاب سوى بفكرة واحدة هي الإيمان بالقضاء والقدر، وفي هذا الإيمان بالقضاء والقدر — الذي يمثِّل الخضوع المطلق لله — قوةٌ صلبة، كما أنه يؤدي بصفةٍ خاصةٍ في مجموعةِ سلسلةِ الحكايات الخرافية النجيبة إلى معرفةٍ عقيديةٍ خالصة بالطبائع الغريبة للأشياء.
ولقد ساق هذا الباحث الألماني رأيه هذا في مواجَهة، أو هي مناظَرة بين التراثين الآري الهندي الفارسي المنفتح، مع متاخمه — وَلْنَقُلْ: مزاوِجه — التراث العربي السامي القبلي المنغلق، المعادي في كل حالاته للحتميات التقنية الحياتية.
ولعلها حالة، بالمعنى الوبائي، تشكِّل جذبًا قويًّا وميسِّرًا للقوى الرجعية الفاشية الإمبريالية في مداها الأخير.
فكيف يمكن أن تتلاءم وتستقيم مفاهيم البركة الشعائرية أو الطقسية مع الاحتياجات والحتميات العلمية التقنية بجفافها الرياضي المعهود.
ولعله من هذا المسلك تفشَّت وأفرخت أوبئة الأمية والانفجارات السكانية والأبنية السلوكية والخلقية، خاصةً على المستوى السياسي.
والسؤال هنا: أي تراث وأية ثورة؟
ذلك أن المعضلة الحضارية أكثر وعورةً ممَّا يتصوَّر الكثيرون من الثوريين حَسَنِي النية والمقصد.
فلقد تسلَّلَتْ مثل هذه الأفكار — التي لا قوام مادي أو عقلي لها — داخلةً في مجمل حياتنا، بدءًا باللغة وتعاويذها وبنائية اللسان العربي، وكذا بقية المعاملات والممارسات من تجارية لا نهائية.
ولعلنا لا نبعد كثيرًا إذا ما ربطنا بين البركة وبين بنية العقل الفاشي في مجمله، المُعادِي في كل حالاته للالتزام بخطة وبرنامج عمل؛ لذا فهو منتكس في معظم أحواله بإزاء حتميات المستقبل.
فكما نرى فالعقل العربي محبط على الدوام بالآنية وما تقتضيه وتستلزمه من تكنيك موصل في أحسن حالاته إلى باب المصيدة اليومية، دون درايةٍ كافية بالانفتاح الاستراتيجي المستقبلي بالضرورة، ففي لجوء العقل العربي إلى التجريد المطلق تأكيدٌ لمكوناته ومنطلقاته الغيبية الأسطورية.
ومن هنا جعل من البركة إلهًا يزور أبطالَ الحكايات الخرافية في منازلهم وحوانيتهم وحقولهم، في تناظُر مع بقية توابعه من آلهةٍ للرزق، وأخرى للسعد والبخت، ورابعة للعقل والحكمة، والأمر لا يبعد كثيرًا بنا اليومَ عن تراث العرب — البائدة والمندثرة — الجاهليين.