حكايات الحيوان الطوطمية العربية
وفي حالة تعرُّضنا لحكايات الحيوان والطيور، التي يرى البعض أنها أكثر قِدَمًا من الأساطير، وأنها ترجع إلى مراحل التوحش والبربرية والطوطمية، فهي حكايات أقرب إلى التعليمية أو الشرح والتفسير، كما أنها حكايات ملخصةٌ، غاية في الدقة من حيث التصميم والتلخيص، ولها مغزاها وحكمتها ودقة ملاحظتها بالنسبة للطبيعة وغموضها، وكذلك بالنسبة لحكمة الإنسان البدائي وفلسفته، بإزاء قدرات الحيوانات والطيور والزواحف والهوام والنباتات التي حُرِمَ منها الإنسان بعجزه على الطيران، والغوص في الماء، وقوى الحيوانات الوحشية والبهيمية وهكذا.
ويحتفي دارِسُو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف احتفاءً خاصًّا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك مَن يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير، وأنها أكثر قِدَمًا وبدائيةً منها؛ إذ إنها كانت وعاءً لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات؛ أيْ إن أكثر هذه المعتقدات كان يتجسَّد في شكل حيوانات وطيور، فالإله زيوس كان نسرًا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي ثور كان طائرَ جنةٍ صغيرًا، والإله تير كان ذئبًا، مثله في هذا مثل الإله الروماني مارس، وضريبه السليني ديباتر.
كما أن هناك شبه إجماع من جانب دارِسِي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة هي المصدر الأم أو الأصل التي منها انحدرَتِ الخرافات.
وقصص الحيوان الشارحة هي تلك القصص التي فسَّر بمقتضاها الأقدمون الفَرْقَ بين حيوانٍ وآخَر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالِف لِلَوْن الغراب الأسود، وكذلك التفسيرات الغيبية التي فسَّر بها البدائيون السببَ أو السرَّ في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالة أُذُنَي الأرنب والحمار، واختفاء الخفافيش عن العيون نهارًا هربًا من الدائنين، وغوص الطائر البحري إلى أعماق الماء بحثًا عن الأشياء الغارقة من حطام سفن وغيرها.
وفي واحدة من الحكايات السودانية — التي موطنها النيل الأبيض — تكشف لنا الحكايةُ كيف أن الدنكا لا يضربون الكلاب؛ اعتقادًا منهم في أن الكلب هو أول مَنْ جاء بالنار لقبيلة الدنكا، فلقد «عاش الدنكا حقبة طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكةً قطعها قطعًا ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس».
وفي حكاية شارحة أخرى — من الشاوك — عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خُلِقَت في السماء، ووقعت على الأرض فتكسَّرت أسنانها، ولما رآها الكلب أغرَقَ في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أُذُنَيْه، وظلَّ على هذا الحال حتى اليوم.
فما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعةُ حكايات تحدِّد أوصافَه وأخصَّ معالِمِه وتحيطه بتفسيرِ عصورِ ما قبل العِلْم، كما هو واضح في هذه المجموعة من الحكايات العربية السامية بخاصة.
ذلك أن للعرب الساميين باعًا ملحوظًا في أنهم موطن ومصدر هذه الحكايات الحيوانية الطوطمية قبل الهنود الآريين والإغريق الهلينيين.
فالعبد الإغريقي، الذي يُعَدُّ أهمَّ وأقدمَ مصدرٍ لهذه الحكايات الحيوانية «إيسوب»، الذي يرى البعض — ومنهم كراب — أنه كان رقيقًا ساميًّا يشتغل بالكتابة، وجمع هذه المأثورات في إيونيا، ومن هنا وصلت هذه الحكايات من الشرق السامي، وأنها ارتحلت أيضًا من الشرق السامي إلى الهند مع ما ارتحَلَ إليها من ثقافة العراق وما بين النهرين.
وتحفل قصص الخلق الأولى والطوفان البابلي والعبري بمثل هذه الحكايات، منها حكاية أشجار «يوثام» التي أولاها فريزر اهتمامًا خاصًّا.
كما تحفل الآداب الجاهلية والإسلامية بالآلاف المؤلَّفة من هذه الحكايات عند الجاحظ والدميري وغيرهما.
ثم لماذا نذهب بعيدًا والمصدر الأكثر قِدَمًا من «إيسوب» ذاته، وهو «الحكيم لقمان»، الذي أوضحَتْ حفائرُه أصولَه البابلية؛ وبالتالي فهو أسبق من إيسوب بأكثر من خمسة عشر قرنًا.
-
أسد وإنسان اختلفا حول القوة والبأس، ورأيَا على جدارٍ رسمًا لإنسان يقتل أسدًا، فقال الأسد: لو أن السباع مصورون لَمَا قتل الأسد بني آدم، بل لَقدر للأسد قَتْل بني آدم.
-
أسد وثوران اجتمعا عليه ينطحانه بقرونهما لكي لا يُدْخِلاه بينهما، فانفرد بأحدهما وخدعه ووعده بأن لا يعارضهما إنْ تخلَّى عن صاحبه، فلما افترقا افترسهما جميعًا.
(ومعناه: إذا افترقَتْ مدينتان تمكَّنَ العدو منهما وأهلكهما معًا.)
-
أيل — يعني غزالًا — عطش فأتى عين ماء ليشرب منها، نظر خياله في الماء من دقة قوائمه، لكنه ابتهج من قرونه وكبرهما، وحين خرج عليه الصيادون في السهل فلم يدركوه، لكنه حين دخل الجبال وعبر بين الشجرة لحقوه وقتلوه، فقال عند موته: «الويل لي أنا المسكين الذي ازدريتُ به، هو خلَّصَني والذي رجَوْتُه أهلَكَني.»
-
مرض غزال وجاء أصحابه من الوحوش يزورونه … يأكلون العشب والحشيش، ولما أفاق من مرضه والتمَسَ شيئًا ليأكله لم يجد، فهلك جوعًا.
(ومعناه: مَنْ كَثُرَ أهله وإخوانه، كَثُرَتْ أحزانه.)
-
أسد اشتد عليه الحر فدخل في بعض المغائر يتظلل، أتاه جرذ ومشي فوق ظهره، فنظر الأسد وضحك منه، قال الأسد: ليس من الجرذ خوفي، وإنما كَبُر عليَّ احتقاره لي.
(ومعناه: الهوان على العاقل أشد من الموت.)
-
أسد وثور، الأسد احتال عليه وعزمه على وليمة، ذهب الثور فوجد حطبًا كثيرًا، ففرَّ هاربًا، وعندما سأله: لماذا هربت؟ قال: لأني رأيتُ أن الاستعداد لِمَا هو أكبر.
(ومعناه: لا يصدِّق العاقلُ عدوَّه.)
-
أسد شاخ وضعف وتمارض ورقد في المغاور، وكلما أتاه حيوان افترَسَه، ولما جاءه الثعلب يسلِّم عليه فقال له: لِمَ لا تدخل يا أبا الحصين؟ أجاب: لأني رأيتُ آثارَ أقدامٍ كثيرة دخلَتْ ولم تخرج.
-
غزال هرب من الناس، فجاءه الأسد وافترسه داخل المغارة قائلًا: وقعتَ في يد مَنْ هو أشد منهم.
(ومعناه: مَنْ يفر من خوفٍ يسيرٍ، يقع في بلاء عظيم.)
-
قال أرنب لِلَبُؤَة متباهيًا: أنا أَلِدُ كلَّ سنة أولادًا كثيرين. قالت اللَّبُؤَة: صدقتَ، غير أن واحدًا أَلِده فهو سبع.
-
امرأة عندها فرخة تبيض لها بيضة فضة كلَّ يوم، أكثرَتْ علفها فانشقَّتْ حوصلتُها.
-
وقفت بعوضة على قرن ثور، وحين قالت له: أثقلتُ عليكَ؟ أجابها الثور: لا يهمُّ فنزولك مثل رحيلك.
-
إنسان ثقلت عليه أحماله، فرمى بها وطلب الموت، وحين جاءه وقال له: لماذا دعوتني؟ قال: دعوتُك لترفع عني جرزة الحطب١ عن كتفي.
-
قال البستاني: البقل البري يَهَب منظرًا جميلًا؛ لأنه تربية أمه، أما المخدوم فهو تربية امرأة أبيه.
-
إنسان يعبد صنمًا ويذبح له كلَّ يوم ذبيحة، إلى أن أتى على جميع ما يملك، فقال له الصنم: «لا تنفق مالك عليَّ، ثم تلومني آخِر الأمر.»
-
إنسانٌ رأى آخَر أسود اللون يستحمُّ في الماء، فقال له: لا تعكِّر الماء، فإنك لا تستطيع أن تصبح أبيض، ولن تقدر عليه أبد الدهر.٢
-
راعٍ حمل على بهائمه كبشًا وعنزًا وخنزيرًا، ثم استوقفه اضطراب وخوف الخنزير، فقال له: يا أشر الوحوش لماذا أنت وحدك الخائف؟ فأجاب الخنزير: لأنك سترحم كبشك لصوفه، وعنزك لِلَبَنه، أما أنا فلا صوف لي ولا لبن، وسأُذْبَح فورًا.
-
تسابق الأرنب والسلحفاة إلى أن تعب الأرنب فنام، فسبقت السلحفاة البطيئة.
-
رجل أسود يغتسل بالثلج ليصبح أبيض، فبادَرَه آخَر: لا تُتْعِب نفسك.
-
اصطاد كلب أرنبًا ومضى يعضه بقوة ليلحس دمعه، فبادره الأرنب: تعضني كأنك عدوِّي، وتقبِّلني كأنك صديقي.
-
إنسان رأى حيَّتَيْن تقتتلان وجاءت ثالثة لتُصْلِح بينهما، فقال: لولا أنك أشر منهما ما تدخَّلتِ بينهما.
-
لاحَظَ حدَّاد أن أصوات المطارق لا تُوقِظ كلبَه من نومه، أما صوت المضغ فيُوقِظه على الفور.
-
الشمس والريح تخاصمتا حول مَنْ منهما يقدر أن يجرِّد الإنسان من ملابسه، وما إنِ اشتدَّت الريح حتى مضى الناس يلفون ملابسهم حول أجسادهم، ولكن ما إنْ سطعت الشمس وارتفع الحر، حتى خلع الناس ثيابهم من الحر.
-
وقع خلاف أفضى إلى الحرب بين النسور والأرانب، وعندما لجأ الأرانب إلى طلب حِلْف مع الثعالب، رفضَتِ الثعالبُ معتذرةً لقوة عدوهم من النسور.
ولعلني أكتفي بهذه المجموعة من المأثورات والحكايات الحيوانية التي تُنْسَب إلى لقمان الحكيم، الذي يرجعه البعض إلى أنه هو بذاته أحيقار السيرياني أو «هيكار» البابلي — ٤ آلاف عام.
ففي مثل هذه الحكايات يبرز ذكاء العاجز بإزاء خصمه القوي، فالفأر عادةً ما يحقِّق انتصاره على الأسد، والعصفور واسع الحيلة — أو الزعرور في الحكايات السورية — ينتصر في النهاية على الضبع، وعنزة العنزوية التي تأتي لأولادها الثلاثة بالحشائش مغنية، وعندما يتنكر الضبع ويقلِّدها مختطفًا أولادها تستردُّهم في النهاية بمبارزةِ الضبع بقرونها الذهبية، كما أن العصفور أو الحجل ينجح في الإفلات من الثعلب المكَّار ليطير محلقًا من بين مخالبه.
ولا بأس من التوقف هنيهة عند حكاية من هذا النوع، عن تعاليم ثلاث لعصفور ذكي، صادفتني تنويعاتها في عديد من حكايات البلدان العربية.
فتعاليم الطائر الثلاث حكايات بسيطة لدرجة أنه ليس لها سوى موتيفة روائية واحدة، وبهدف الاستشهاد فإن النموذج الواحد يكفي.
ولقد عُثِرَ على هذه الحكاية بالتحديد في عديد من أقدم المصادر المعروفة، ورُوعِيَ في اختيار أنموذج دقيق لها، كما رُوعِيَ المحافظة على أدق التفاصيل الأساسية للقصة، دون الأحداث الوصفية، أو المتنوعات الأخلاقية للحكاية والتي كثيرًا ما يتوالى تكرارها بشكلٍ يتملَّك الجسد الأساسي للحكاية ويحرفها، وخصوصًا فيما يتصل بالحكايات الدينية بشكل عام.
أمسَكَ رجل بعندليب، فوعده العندليب بثلاث نصائح غالية إذا ما أطلَقَ سراحه وتركه يطير في حرية، ولما وافَقَ الرجل، قال العندليب في التو: «لا تجرِّبِ المستحيل، لا تتحسَّرْ على ما فات، لا تصدِّقْ حكايةً بعيدةَ الاحتمال.» وهنا أطلق الرجل سراحَ الطائر، وبعد أن انطلق الطائر حرًّا، أراد أن يمتحن الرجل فقال له: «يا غبي، إنك لم تتعرَّف على الكنز الذي أضعْتَه من يدك؛ لأن معي لؤلؤة كبيرة في حجم عين النسر.» وتملَّكَ الطمع الرجل، وحاوَلَ أن يُمسِك بالعندليب مستعينًا بالباب، واعدًا بأنه سيعيد إطلاق سراحه، فقال العندليب: «لقد عرفت الآن الكيفيةَ التي استعملت بها نصائحي الثلاث، فأنا نصحتك بأن لا تيأس على ما فات، وها أنت الآن تقف متحسرًا لإطلاق سراحي، ونصحتك بألَّا تقتحم المستحيل، وها أنت تحاول الإمساك بي برغم عجزك، ولقد أخبرتك بأن لا تعتقد فيما هو بعيد الاحتمال، لكنك صدَّقْتَني عندما قلت لك: إن بحوزتي لؤلؤة أضخم من كل جسدي.»
وتعيش هذه الحكاية الآن في مجموعات الحكايات الشعبية التي تحتوي على ما هو شفاهي منها، وما له مصادر أدبية، فلقد رواها شحاذ هندي، وأطفال إحدى قرى جزيرة سيلان، ودُوِّنَت في كتاب «حكايات قرية سيلانية»، وقيل إن مؤثرات إيرانية تبدو فيها، ووُجِدَ ﻟ «العصفور العاقل والرجل الغبي» سبعة أشكال في الفولكلور الألماني، وفي قاموس موتيفات الحكايات الشعبية وأنماطها لتومبسون، كما وُجِدَت أشكال لها تحت اسم «التعاليم الثلاثة».
والحكايات التي مصدرها الهند نقلها البوذيون إلى الصين والتبت وبقية الدول الشرقية، وأيضًا إلى الغرب بعد رجوع الإسكندر من الهند، وخلال القرون أصبح لكتاب برلام شعبية واسعة في كلا الشرق والغرب، وتُرْجِم إلى الهندية والصينية والفارسية والعربية والعبرية وعديد من اللغات الشرقية، وصلت أكثر من ٦٠ ترجمة، وفي كثير من الدول الأوروبية وخصوصًا في القرون الوسطى، بَدَتْ ترجمات هذا الكتاب كما لو كانت تجري وقائعها في أوروبا ووجدت أصوله في عديد من المتاحف والمكتبات.
وتغيِّرت معالم الكتاب الهندي واختفت تمامًا مصادره البوذية إلى أن أُعِيد اكتشافه في القرن التاسع عشر، باكتشاف أن الأمير يوسف لم يكن سوى البوذا ذاته.
لكن خلال العصور لم يحاول أحد مشقة الوصول إلى مَنْ هو برلام ومَنْ هو يوسف، وأين عاشا، واتخذت أسماؤهم صدى الأسماء العربية والعبرية، وربما كان موطنهما فلسطين أو الشرق الأدنى بشكل أعم، ووصل الأمر ببرلام ويوسف إلى حدِّ أنِ اتخذهما الرومان الكاثوليك والكنيسة اليونانية كقديسَيْن خلال أيام جريجوري الثالث عشر، وهكذا عُومِلَا كقديسين واتخذا أماكنهما في «أجندة القديسين» للإخوة الدومينيكان في القرن الثالث عشر، فاتسع انتشارها أكثر فأكثر، حتى وصلت إلى اللهجات الشعبية لكل الشعوب الأوروبية، ووصل بين سنتَيْ ١٤٧٥ حتى ١٥٢٠ إلى تحقيق أقصى مدًى ممكن من الانتشار حقَّقه كتاب.
وفي العصور الوسطى استُخدِمت قصصُ هذا الكتاب الاستطرادية في كافة أغراض الخلق الأدبي في كتب القصص والأشعار والمسرح.
وكذلك تَرِدُ قصة «برلام ويوسف» في الأدب السرياني مدوَّنة على النحو التالي:
«قصة ابن الملك يوسف ومعلمه المسيحي برلام» وهو: أنه كان بأرض الهند ملك كبير يحب الدنيا ويعمل جاهدًا لها، يكره الزهد ويحرق الزاهدين، فلما كان ذات يوم سأل عن رجل من خاصته، فقيل له إنه قد زهد في الدنيا؛ فعَظُمَ ذلك عليه وأرسل في طلبه، فلما مَثَلَ بين يدَيْه أنكر عليه الملك هلاكَه لنفسه ومفارقته لأهله، فأجابه الناسك بأن الدنيا إلى فناء، فحياتها موت، وغناها فقر، وفرحها حزن، وشبعها جوع، وصحتها سَقَم، وقوتها ضعف، وعزها ذل، ولذتها ألم.
واستمر الناسك على ذلك يصف الدنيا وأهلها وأحوالها في حديث طويل، ما إن انتهى منه حتى سأل الملك: هل يريد أن يصف له الآخرة؟ ولم يكن جواب الملك إلا أن جازاه بالشقاء والحرمان، وبطرده من مملكته.
ويدور الفلك ويُرْزَق الملك بغلام بعد يأس من الخلف والإنجاب، ويجتمع المنجمون والعلماء ويبلغونه أن هذا المولود سيجيء بدين جديد.
•••
فإذا ما كانت نقطة بدئنا هي الحكاية الحيوانية الطوطمية ضيقة الجزئيات، وأنموذجها الموفق في «تعاليم الطائر الثلاث»، بصرف النظر عمَّا صاحَبَها من استطرادات، وَلْنَقُلْ: ما طرأ عليها من هجرات ومؤثرات بوذية، ثم مسيحية، وأخيرًا سريانية.
ففي الإمكان الارتداد إلى نقطةِ منطلقنا عن حكايات الحيوان الشارحة، وتقديم أنموذج آخَر منها، جمعتُ أحدَ نصوصه من مصر الوسطى عام ١٩٥٤، وأقدِّمه هنا كنصٍّ شفهي للمحافظة على فويماته.
الديب والتمساح
التمساح يعوم به على وش بركة قارون، ويلف به يفسحه في عموم البحور.
التمساح رجع البيت، وجدها عاملة عيانة، ولما سألها وقالت له إن دواها على قلب ديب، التمساح طمنها وقال لها: «الديب موجود وصاحبي، وحايجيني بكره الصبح البحر، وحاجيبلك قلبه.»
ولما الديب تاني يوم زار التمساح الصبح، وركب على ضهره زي عوايده، التمساح خده في وسط البحر وحكالو الحكاية، فقاللو الديب: لا مؤاخذة يا تمساح أنا سايب قلبي في البيت وماجبتوش معايا النهاردة، طلعني على البر، وأنا أروح أجيبلك قلبي من البيت وأرجع.
التمساح وصله للبر، والديب أول ما حط رجله على البر مات على روحه من الضحك، التمساح شافه قاللو: «بتضحك ليه؟» الديب قاللو: بضحك عليك؛
عليل ما دويت،
وصاحب ما بقيت.
ما إن خلق الله العالَم حتى أمر مَلَاك الموت أن يُلقِي بمجموعة من الحيوانات من كل الأنواع في البحر؛ لكي يعيش كل حيوان مع ما يخالفه من حيوانات، وعندما جاء مَلَاك الموت للثعلب وجده يصرخ ويهلل على شاطئ البحر، وما إن سأله عن السبب، حتى قال إنه يبكي صديقه الذي أُلْقِي به في البحر. اندهش مَلَاك الموت، وترك الثعلب يمضي.
لكن الديب الذي خبر لعبة الثعلب نجح أيضًا في التهرب، وفي نهاية السنة بعد أن أحصى الحوت (ملك البحر) جميع الحيوانات افتقد الثعلب والديب، وأرسل الحوت رُسُلَه ليكتشف كيف هربا من مملكته، وعندما سمع بخبث الثعلب رغب في أن يلتهم قلبه لكي يزداد ذكاؤه وحيلته، وأرسَلَ عديدًا من الأسماك ليُحْضِروا له الحيوان الماهر، وعندما وجد السمكُ الثعلبَ بجانب البحر، أخبروه أن الحوت قد مات، وأنه سيُنَصَّب مَلِكًا بدلًا منه، فامتطى الثعلب ظهر إحدى الأسماك وحُمِل إلى داخل البحر، وفي داخل البحر ارتبك، فسأل الأسماك عن حقيقة ما يحدث، فقالت إحدى الأسماك إن الحوت حاقدٌ على ما يتمتع به من دهاء، وإنه يرغب في التهام قلبه ليصبح أكثر دهاءً منه، وهنا أجاب الثعلب بأنه كان من الواجب تذكيره مبكرًا؛ لأن الثعالب عادةً تترك قلوبها في منازلها قبل خروجها.
وهنا أعادَتْه الأسماك إلى الشاطئ ليذهب ويُحضِر قلبه.
على الشاطئ سخر الثعلب من السمك الذي يعتقد بأن مخلوقًا بدون قلب يمكن أن يعيش … وفتك الحوت برُسُله الأغبياء فقتلهم والتهمهم.
ولقد عكف اثنان من كبار أساتذة الفولكلور — هما: د. موسى جاستر والبروفيسور لويس جنزبرج — على دراسة هذه القصة أو الفابيولا من ألفية ابن سيرا، وأرجَعَ د. جاستر أن القصة متشابهة قليلًا مع أخرى هي «قصة القرد والتمساح»، وأضاف أن نهايتها تشير إلى قصة أخرى هي «قصة الأسد الذي قتل حمارًا، وألقى بجثته لثعلب، واستطاع الثعلب أن يتسلَّل ويسرق قلب الحمار ويأكله، مُوهِمًا الأسد أن الحمار لا قلبَ له».
واتفق جنزبرج مع د. جاستر في أن أسطورة فابيولة ابن سيرا مَزْج بين ثلاث قصص متفرقة: حكاية الثعلب وملك الموت، وحكاية الثعلب والأسماك، وأخيرًا حكاية الأسد وابن آوى والحمار؛ إذ إن حكاية الثعلب ومَلَاك الموت لا رابطَ بينها وبين الثعلب والسمك، والأخيرة لا علاقةَ لها بحكاية هندية عن القرد والتمساح التي يمكن تتبُّعها في كليلة ودمنة.
القرد والسلحفاة البرية
ومن هنا وصلت كليلة ودمنة أوروبا في القرن الحادي عشر الميلادي، وقُبَيْل بداية القرن السادس عشر تُرْجِمت إلى اليونانية واللاتينية والإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والسلافية القديمة والتشيكية، وأصبحت كليلة ودمنة في كل أوروبا أول كتاب شرقي يحظى باستقبال شعبي كبير.
•••
وإذا ما اكتفينا بهذا القدر حول مصادر الحكايات الطوطمية — خاصةً في كليلة ودمنة — وانتقلنا إلى مثل تطبيقي ثانٍ، وليكن ما يتصل بقصص الخلق الحشرية الطوطمية، وهي أيضًا مَلْمَح جوهري من ملامح تراثنا العربي السامي؛ نجد أن الحكاية أو الفابيولا تَرِدُ بسيطة عفوية على النحو التالي:
فعندما أراد الإله الأَسْمَى سينجابونجا أنْ يشكِّل مادة الأرض، أمر السلحفاة البرية أن تذهب وتحضر له بعض الطمي من أعماق المياه الفطرية، وغطست السلحفاة في أعماق المياه وأخذت الطمي ووضعته على ظهرها، وخلال صعودها ذاب الطمي بواسطة الماء وفشلت السلحفاة، ونفس القدر السيئ صادَفَ الرسول الثاني «أبو جلمبو» أو الزعرور.
وهذه واحدة من أوسع أساطير الخلق المتصلة بموضوعنا عن الحكايات الطوطمية الحشرية، والمرتبطة بخلق الأرض عن طريق إرسال نصف رسول منفذ، يأمر فيطيع منفذًا.
وهم غالبًا ثلاثة طيور أو حيوانات — الثالثة ثابتة — يغوصون وسط مياه المحيط الصاخب لإحضار مادة خلق الإنسان والعالم، وفي بعض الحالات يهدف الإله أن يحضروا التربة من الأعماق، وغالبًا ما يفشل الرسولان الأولان، والثالث فقط هو الذي ينجح في إحضار الطمي أو التربة التي عن طريقها ستُشكَّل الأرض.
وفي عديد من قصص الخلق الطوطمية المتنوعة — من وسط وشمال آسيا — يحاول الشيطان إحضار الطمي من أعماق المحيطات، وغالبًا ما يفشل مرتين أو ينجح في المرة إلى الحيوات والحيوان.
ونماذج أساطير خلق الأرض لها أشكالها المتنوعة عند عديدٍ من القبائل الهندية القديمة، ووسط وشمال آسيا، وفي شمال أمريكا وغرب الهند الأمريكية.
ففي كينيا تُعَدُّ قصصًا شعبية، وهي أيضًا قصص شعبية في أوروبا الشرقية ورومانيا وروسيا وإستونيا وفنلندا وكل مكان.
ونحن لا نقصد هنا طرح الأساطير المتنوعة حول منوعات هذه الأسطورة، أو حتى مجرد تتبُّع أصلها البعيد، ويكفي أن نلاحظ هنا أن كل الاحتمالات تشير إلى أن الأسطورة الأم منشؤها الهند، كما تؤكِّده أغلب المصادر الهندية، خاصةً في البرجاباتي عند البراهمة، وفيها يتخذ الرسول هيئةَ الخنزير البري (الحلوف) أو السلحفاة، يغوص في مياه المحيط الفطرية ليُحْضِرَ مادةَ الأرض من قاعه.
والغرضُ من هذا الاستطراد هو في جذب انتباه الفولكلوريين والدارسين لهذه الأسطورة، وللحقيقة العلمية التي ينفرد بها اليهود والعرب والفلاشا والأحباش، ومن جانبٍ ثانٍ لمدى الأهمية التي قد يجنيها باحث الفولكلور وجامِعه من مجرد الاهتمام بالحكايات الطفولية لقصص الحيوان والزواحف والنبات الطوطمية.
وتجدر الملاحظة إلى أن المتنوعات السامية لهذه الأسطورة تنفرد باحتوائها على خلق الإنسان الأول — آدم أبو البشر — بعكس الفولكلور اللاسامي الذي تتوقَّف حدوده عند مجرد خلق الأرض، والأدوات الثلاث المشار إليها وهي: الطمي، الطين، التراب، والتي بحث عنها أنصاف الرُّسُل الثلاثة الذين لا أهميةَ لاثنين منهما، والثالث فقط هو الذي نجح، والموتيفة الأخيرة شائعة في الأساطير السامية وغير السامية، وليس هناك خط فاصل بين الخلق الأصلي للأرض ومخلوقاتها بعد الطوفان أو فيما قبله.
وتصف أسطورة الخلق عند الشيروس والهنود أن الإله الأكبر «بهاجوان» تضايَقَ من الرسولين الأولين اللذين أخفَقَا، وأمَرَ الرسول الثالث بأن يُحْضِرَ الطمي من أي مكان، فأحضره «جارو» من السماء، وليس من أعماق المحيط العميق القديم الفطرية.
وقصة الخلق في الفالاشا تبدأ على النحو التالي: فعندما أراد الله أن يخلق الإنسان، وأرسل رُسُلَه الثلاثة من الملائكة الثلاثة: «جبرمائيل، وبرنائيل، ثم ميكائيل.»
ويتشابه النموذج العام لأسطورة الخلق هذه مع واحدة من أهم أساطير الخلق الشعبية لدى مجتمعاتنا الإسلامية، ولها عديد من الأشكال في الآداب العربية الكلاسيكية، كما يوجد أيضًا منها عديد من النصوص الشفاهية الحديثة مسجلة من فلسطين وتركيا، ويوجد أيضًا أسطورة رومانية مشابهة للأسطورة الإسلامية.
وتكشف هذه الأسطورة عن كيف أن أداة خلق الإنسان هي نفسها أداة موته المتمثلة في مَلَاك الموت، وكيف أن دائرة المجيء والغياب نهائية، وأن الموت ضروري، وإلا ازدحمت الأرض بمخلوقاتها.
ولعديد من الفولكلوريين دراسات عن هذه الأسطورة، منهم مَنْ يضيف بأنه عندما علم عزرائيل بمهمته انخرط يبكي ويندب ويقول: «بين كل أبناء الإنسان، سيكون هناك أنبياء وقديسون سيمقتونني — بلا جدال — على ما فعلته.» فأجاب الإله: «سأرسل عديدًا من المصائب والكوارث على الجنس البشري وسأشغلهم عن معاداتك.»
وتتشابه هذه الفكرة في الملحمة الهندوسية حيث ذُكِرَت مرتين في المهابهارتا، فإلهة الموت خلَقَها الإله براهما بلا شفقة من أجل الأرض المزدحمة، واشتكت طويلًا من أنها ستصبح ممقوتةً مكروهة من الناس، فوعدها براهما بأن كل أنواع الكوارث والأوبئة ستجعل جميع المخلوقات ترحِّب بمجيئها وتستقبلها بكل ترحاب.
ويعتقد «م. وينتميرنيتز» أن لهذه الملحمة قيمة أثرية؛ إذ إن براهما يظهر فيها كالخالق ذاته.
وبالإضافة للأسطورة — التي يلعب فيها عزرائيل الدورَ الذي يلعبه «برنائيل» في الفلاشا — توجد حكاية أخرى يلعب فيها إبليس دورَ عزرائيل بشكل مدهش مُلْفِت للأنظار، منتميًا أكثر للأسطورة الفلاشية.
فعندما أرسَلَ الله إبليس أخذ حفنةً من الطمي من على ظهر الأرض من الخصب والمالح، والتي منها خلق الله آدم، من تلك الحفنة التي جلبها إبليس، وهذا هو سبب قول إبليس: «أأسجد لواحدٍ خلقته من تراب، تلك الحفنة من التراب التي أحضرتها بنفسي؟»
ويجدر بنا الإشارة لما بين الأسطورة الإسلامية والأسطورة الفلاشية، مثل: عقاب برنائيل وتكريم الإله لعزرائيل، فمما لا شك فيه أن للأسطورة الفلاشية تأثيرًا على أسطورتَي الخلق عند المسلمين، وكذا الأبوكريفا اليهودية ومنابع الأرباب اليهود، على الأقل فيما يتصل بواقعة السقوط التي جاءت بها الأبوكريفا الإثيوبية.
وفي «كتاب إينوش» إذا ما تتبعنا فقط الالتقاء بين هذين المصدرين، كما تبيَّنَ العالِم «ليسلد»، نجد أن النقطة المهمة في هذا التوافق هي الإشارة إلى أرض دلمون، التي ذُكِرَت مرارًا في الأسطورة الفلاشية، ولم تكن خطأً مطبعيًّا في المصدر العربي، فهي نفسها أرض ديدال لكتاب إينوش الإثيوبي، التي ذُكِرَت بوضوح وتعيين: «وقال الرب مرةً أخرى لبرنائيل: كتِّف إدين ورجلين عزرائيل، وأَلْقِ به في ظلام الهاوية، ثم اصنع انفتاحًا في الصحراء التي هي ديدايل، وأَلْقِ به هناك منبوذًا وغطِّه بالصخور والأحجار.»
ويُجْمِع دارسو الأساطير على أن عزرائيل هنا هو المَلَاك الساقط أو المطرود، والمصادر الأسطورية الهندوسية المُغرِقة في القِدَم (مختلف الإشارات في الفيدا) أكَّدت أن الأرض الجديدة المزهرة فجأةً اغتُصِبَت بواسطة الحية العظيمة: حية البحر العظيمة (المختصة بالنظام الشمسي)، وفي هذا أيضًا تشابُه مع الأسطورة البابلية للإله مردوك الذي تغلَّب على التنين البحري.
•••
وفي أساطير أقدم، فإن الله خلق مجموعة من الملائكة وسألهم: «أليست هذه رغبتكم أن أخلق الإنسان على صورتي؟» غضبوا: «ما هو هذا الإنسان الذي أنت مشغول به؟» وصرفهم وأتى بالمجموعة الثانية. ففي هذه الأسطورة المبكرة نجد أن مجموعتَي الملائكة: الأولى والثانية، عارضَتْ خلْقَ الإنسان، وهي تتفق في هذا مع الفلاشا والإسلام.
والمتنوعات كثيرة، ففي بعض أساطير الخلق الهندية الشائعة التي فكرتها الأساسية أن الإنسان شُكِّلَ واتخذ هيئته وشكله من قذارة جسد الخالق.
ومن الإضافات المثيرة في أسطورة الخلق المندانية نجد أن روح الإنسان مسيَّرة خلال رحلتها عبر ممالك الكمال بواسطة برنائيل، أما في أساطير الخلق الآسيوية فإن المتملِّك لهذه المسيرة هو الشيطان ذاته وليس برنائيل.
وهناك قصة شعرية دينية أخذها اليهود من أصولها الإسلامية، وهي قصة الخلق المحفوظة التي موجزها: أنه عندما نزل جبريل كرسول من الله ليُحضِر التراب لخلق الإنسان، رفضته الأرض ودفعته بعيدًا، فاعترض جبريل محتجًّا: «لماذا أيتها الأرض لا تسمعين لصوت الله؟» وأجابت الأرض: «إني موعودة مقضي عليَّ باللعنة من الإنسان.»
أخيرًا أردت من تقديم هذه الإلمامة المقارنة عن قصص الخلق — للعالَم والإنسان — الطوطمية أو الحشرية للرُّسُل الثلاثة، من سلحفاة برية لأبو جلمبو لدودة العلق، والتي انتهت في الرُّسُل الثلاثة إلى إضفاء المزيد من الأهمية لحكايات الحيوان والطير والحشرات والهوام المصاحبة لطفولة الإنسان الأول، ومن هنا تجيء أهميتها القصوى.
كذلك أردت عبر هذه الإلمامة الموجزة المقارنةَ لقصص الخلق الأولى للإنسان وأرضه أو عالَمه عن طريق الرُّسُل الحشراتية، وأهمهم — عربيًّا وعبريًّا — هنا هو دودة العلق.
حقًّا أَلَا ما أقرب اليوم من أمس بأكثر من غد!