الحزور والألغاز في الحكايات العربية
من المتفق عليه أن الألغاز والحزور والأحجية، وبشكلٍ عامٍّ تلك اللغة السحرية الأسطورية المضمنة التي نصادفها بكثرة مفرطة في ثنايا الحكايات الخرافية والشعبية بعامة؛ ملمحٌ عالمي سحري عُثِر عليه بكثرة شديدة في فولكلور مختلف الشعوب، وهو ليس بقاصر على الحكايا الشعبية بقدر ما هو موجود في ثنايا السِّيَر والملاحم والبالاد الشعرية والشعر الفولكلوري عامةً.
إلا أنَّ من المتفق عليه أيضًا هو تفرُّد الفولكلور العربي وإغراقه في هذه المستنقعات السحرية الملغزة منذ أقدم نصوصه — ملحمة جلجاميش — بما يمكن أن يشكِّل ملمحًا محدَّد السمات والخصائص للتراث العربي من كلاسيكي وفولكلوري.
فما أكثر الحزور والألغاز ومباريات الذكاء والفصاحة في التراث العربي السامي، سواء منذ قصة أحيكار أو أهيكار السريانية ذات الجذور البابلية.
ولقد أَوْلَت المدرسة الفنلندية اهتمامًا ملحوظًا لهذه الخصيصة الفولكلورية منذ روادها الأُوَل، وأخصهم «إنتي آرني»، بما أسهم في بلورة منهجه الجغرافي التاريخي في دراسته للألغاز.
فاستوفى آرني معالمَ ومقوماتِ هذا المنهج في بحثه عن حكايات ومأثورات الألغاز والأحجية، وما يُعْرَف بالفوازير «وحزر فزر»، ويُطْلَق عليه في بعض الأحيان ﺑ «الحزر»، ويبدو أنه تعبير درج على استخدامه في معظم مجتمعاتنا العربية.
وتشير كلمة «حزر» إلى حظر بمعنى الممنوع والمحظور، والذي هو بذاته مرادف التابو، وهو — كما لاحَظَ آرني — سمة مشتركة في هذه الحكايات الأحجية أو المحجبة الغاصة بالتضمينات والعبارات: من شعرية لسجعية لتعاويذ غامضة، تشمل المواقف والأمكنة والأفعال المحرمة، كما يشمل نفس التحريم والحظر بالنسبة للنطق، وكذا التعامل مع ساعات النهار والليل وفصول السنة، وأيضًا أطوار العمر المختلفة، خاصةً ما يتصل بالأطفال الموعودين الذين يأتون الخوارق الملغزة، بل هي تصاحب مولدهم مع أَشْهُر الحمل التسعة، ملازِمةً لنموهم المدهش كما حدث مع إبراهيم، ويوسف، وموسى، وسميراميس، والمسيح، وهكذا.
فالتابو هنا جزئية أو موتيف رئيسي مصاحب لحكايات الحزور والحكايات الملغزة التي يغلب عليها الذكاء الكوني، وكشف حُجُب المستقبل بل والماضي، واستجلاء أستاره وخباياه، والتطاول في إتيان أفعال معجزة، والقدرة اللامحدودة للفولكلور العربي في التصديات لتحديات التناقضات في كلٍّ من الذات والموضوع، أو الإنسان والطبيعة.
وهي كما يتضح حكايةٌ شديدة الثراء من حيث موضوعنا، تُغْرِي بالدراسة المتأنية، سواء من المنطلق الفرويدي لتشبيه الخادم المتنكِّر في ثياب امرأة بالسكين، وزوجة الملك الخائنة العاشقة بالبطيخة — الجبسة — الحمراء المكتملة النضوج، التي تشقُّها السكين أو عضو التذكير.
أو المنطلق القدري لقاتل التسعة والتسعين، المكتوب على جبينه والمقدَّر له أن يُتِمَّ المائة، وحين يتحدَّى قومُه قدرَه ومكتوبه بإحراقِه وذرِّ رماده في الهواء — كما هو مألوف مع الشخصية الشريرة في الوجدان العربي المعروفة ﺑ «البين»، وأشلاء سيرته مع الملك معروف — يأتي ابنه سفاحًا فيكمل قدره ومكتوبه بقتل المائة.
وكذا يمكن تناولها من منطلق الجارية التي تحمل دون أن يمسها بشر مثل مريم العذراء، ونعناعة في نص مصري مشابه، وفاطمة في حكاية سودانية، التي تكيد لها زوجة أخيها محمد وتسقيها بول البهائم، فتشرب وتحمل سفاحًا دون أن يمسها بشر.
وفي حكاية سودانية ثانية — ود النمير — يطلب المنجم من الزوجة العاقر صحنًا من عظام الموتى لتشربه زوجة ود النمير، لكن ما إن يقع المحظور ويشرب زوجها من المعلاق بدلًا منها، حتى يحمل في وركه.
كذلك يمكن التعرض لجزئية قاتل التسعة والتسعين الموعود بأن يصل بضحاياه إلى المائة، حتى إنه في بعض النصوص؛ ملحمة النبوت، التي سأنشرها بكاملها في الجزء التالي المخصَّص للملاحم والسِّيَر العربية، يذهب قاتل التسعة والتسعين إلى المقابر ليزرع نبوته، فإذا اخضرَّ في اليوم التالي اتخذ طريقه بعد الموت إلى الجنة، ولكن ما أن يُفاجَأ داخل المقبرة برجل إنسي شَبِق ينكح جثة لامرأة جميلة دُفِنَت حديثًا، فيقتله بنبُّوته مكملًا المائة ويزرع نبُّوته ويُفاجَأ باخضراره؛ أيْ إن حسنة القتيل الأخير المائة ذهبت بسيئاته التسع والتسعين السابقة عليها.
كما يُلاحَظ بالطبعِ الجانبُ الوحشي أو الهمجي الدافع إلى القتل، سواء من المدخل السالب للقدرية والدهرية كملمح سامي، وبتحديد أكثر عربي إسلامي.
وتأكيدًا لما سبَقَ أنْ أوضَحَه المنهجُ الجغرافي التاريخي، يمكن ملاحظة خاصية انقسام الجزئيات أو الموتيفات التي تشكِّل بنية حكاية قاتل التسعة والتسعين السورية هذه، إلى ما لا نهاية له من الجزئيات، فتناول رماد وعظام الموتى يسبب الحمل حتى ﻟ «ود النمير» في وركه.
وهكذا تتوالى الجزئيات مثل: رؤيا الملك، اللغز، الزوجة الخائنة، تنكُّر الخادم العشيق، بديل الملك، عدالة القتل، تمجيد القاتل، أو القاتل الصالح، ناهيك هنا عن المقولة الطبقية الاجتماعية للطفل بديل الملك والمغتال في ذات الآن، حفاظًا على التاج والتسلط.
ولعله ملمح يشير إلى صراعَي الخير والشر في الثنائية الفارسية والعربية — الإسلامية فيما بعدُ — مثل الرحلات العبورية، ومنها مصاحبة جلجاميش لخصمه ونقيضه أنكيدو، والخضر لموسى، والحكيم لقمان للإسكندر المقدوني، فكثيرًا ما يتبدى الخضر لموسى كقاتل ومغتال صالح؛ فهو يُغْرِق سفنًا، ويهدم جدرانًا، ويقتل طفلًا، مُجزِيًا أو منتقِمًا للمحسن ومعاقبًا المسيء بالقتل.
ويشير كراب بطريقة متعجِّلة إلى أن الأوروبيين أُتِيح لهم معرفة هذه الشخصية الأسطورية — الخضر — خلال فترة الحروب الصليبية.
وحتى لا نفقد خيط بدايتنا عن تحكُّم سلسلة من التابوات في الحكايات الخرافية الملغزة أو الحزور والمحظورات، وكيف أن أناسًا أقل شأنًا في مقدورهم حل هذه الألغاز والطلاسم والرؤى والكلمات والعبارات والتعاويذ والأشعار والأسجاع العويصة الملغزة والمحظورة لغيرهم.
كما قد تلجأ الحبيبة إلى تعريف حبيبها ببلدتها وعنوانها في لغز أو حزر. وفي حكاية سودانية تُلْقِي الفتاة سرًّا لحبيبها بإبرة وليمونة وحجر، وأخيرًا بعود ثقاب بعد أن نقرت على سنتها، فيفهم الحبيب أنها من بلدة سن: نار — أو سنار — وفي بيتها الحجري شجرة ليمون، وبجوار البيت حائك: رمز الإبرة.
وللبدو والقبائل العربية أصحاب الوبر باعٌ طويل في طرح وحل هذه الألغاز والطلاسم والحزور، فلقد يذهب بطل الحدوتة يقطع المخاطر؛ لكي يسأل «عرب العربة» أو العرب العاربة إشارةً إلى الفصاحة العربية، وعلاقة التسمية العربية بالإعراب اللغوي، وقد تتمثَّل هذه الفصاحة والذكاء في فتاة عربية، كما في هذه الحكاية السورية عن شاعر الملك الذي لفظ له بشطرة بيت: «لوح لي عائدي فقلت له» ومات.
وعندما سأل الملك فتاةً عربيةً فصيحةً، أكملت له:
ويمكن الجزم بأن الاقتدار بحلِّ مثل هذه الألغاز والحزور منوط على الدوام ببسطاء الناس من المضطهدين في مواجَهةِ مَنْ يسومونهم الاضطهاد والقهر.
ومن اللائق هنا أن لا ننسى أقدمَ أشكالِها المصاحبة لحل يوسف وهو سجين مضطهد لحُلم خادمي فرعون، ثم فرعون ذاته، لحين الوصول إلى أقصى سلطة.
ثم جمرة وتمرة موسى — الطفل — في مواجهة فرعون، حين نتف له ذقنه، وكاد فرعون أن يفتك به، فتدخَّلت زوجة فرعون السيدة آسيا؛ بحجة أنه طفل لا يفرِّق الجمرة من التمرة، وحين جاءوا بالجمرة والتمرة فعلًا أُلْهِمَ موسى وأمسك بالجمرة بدلًا من التمرة، ومن هنا ثقل لسانه: «ربِّ إني ثقيل الفم واللسان.»
ولا تبعد الألغاز والحزور كثيرًا عن الخوارق والمعجزات، بدءًا من الأخوَيْن، ولعنات موسى العشر للمصريين، وضربه البحر بعصاه، ومساس أشعة الشمس لقاعه مرةً واحدة حتى إنها أصبحت لغزًا شعريًّا:
وكذا بقية خوارق موسى مع قارون، حين أمر الأرض بابتلاع قصر قارون وثروته التي تسدُّ عين الشمس وإطاعة الأرض لأمره، حين واجهه مشيرًا: «يا أرض خديه.» فأغرقت الأرضُ قارونَ وقصرَه وضِياعَه.
وتُعَدُّ المنوعات الأكثر قِدَمًا السومرية والبابلية لملحمة جلجاميش من أقدم النصوص المُغْرِقة في هذه التضمينات والألغاز، خاصةً خلال تجوال جلجاميش أو قلقاميش — كما تسمِّيه العرب — في العالَم السفلي؛ حيث ظلَّ اثنتي عشرة ساعة مضاعَفة يتجوَّل دائمًا في الظلام، وقاوَمَ النومَ ستةَ أيام وسبعَ ليالٍ، بحثًا عن الخلود الذي يبدو أنه مرادف التيقُّظ.
ويبدو أن طرح مثل هذه الألغاز والحزور — التي عادةً ما يصادفها أبطال الحكايات الخرافية — كانت بمثابة حيلة لتعطيل البطل، لكن كثيرًا ما يلجأ البطل ذاته إلى طرحها على ما يتهدَّده من مَرَدة وعفاريت وجان وأعوان ليُعجِزهم.
وتكثر في حكاياتنا العربية جزئياتُ مقاوَمةِ النوم، بل يُلاحَظ أن كثيرًا من حكايات الشطار المصرية والشامية، يلجأ فيها أصغر الشطار الثلاثة — الموعود بحل اللغز — إلى جرح نفسه ليظل معانيًا صاحيًا متيقظًا.
وتحفل الحكايات الهندية بشكلٍ خاصٍّ بالمضمون القائل بأن «مَنْ يعجز عن حل اللغز يفقد حياته». وفي حكاية هندية من هذا النوع يكون اللغز الذي يطرحه الملك على راغبي الزواج من ابنته الأميرة الجميلة؛ عبارة عن دميتين خشبيتين لهما نفس الشكل والحجم والإيقاع، والمطلوب التفريق بينهما، وحين يتقدَّم ولدٌ فقير صبيُّ خياطٍ أو حائك، يفشل طويلًا في حل لغز الدميتين المتشابهتين بالحجم الطبيعي إلى أقصى حد، إلى أن ينتبه في النهاية إلى أدوات مهنته، فيستخرج إبرتين يُسقِطهما في أذن إحدى الدميتين فتستخرجهما من فمها؛ أيْ إنها لا تحفظ السر وتصونه كوخز الإبر في أعماقها، لكنْ ما أن يُسقِط إبرتَيْه في أذن الدمية الثانية، فإنها تحتفظ بهما دون أن تلفظهما من فمها، بمعنى أنها تكتم السر، وأنها هي الدمية الفاضلة القادرة على الكتمان وحفظ السر.
وعلى هذا النحو اخترق صبي الحائك اللغز باستخدامه فقط لأدواته أو «كاره»؛ مهنته واستعداده.
وعادةً ما يُطْرَح اللغز أو الحزر في اجتماعات احتفالية جماهيرية أشبه بساحات المدن والقصور، من ذلك منازَلة جلجاميش لخصمه أنكيدو أمام بيوت العرائس، والمقصود بها ساحات المعابد العشتروتية للبغايا المقدسات.
أما لغز فاطمة الجميلة في حكاية الخلخال السودانية، فهو إجادتها لِلُعْبة سودانية شعبية منقرضة تُعْرَف ﺑ «المانقلا»، تجرِّد طالِبَ الاتصال بها من ثروته — وربما ثيابه — حين تهزمه.
والمرأة في الحكايات السورية واللبنانية والأردنية لها جانبها العشتروتي؛ حيث إنها تشترط على مَنْ يتزوجها «أن ينام معها أولًا ليلة واحدة، فإنْ أدرَكَه الصباح وهو حي قَبِلَتْه زوجًا».
فتكمن جدلية الحزر أو التابو في أنه محمَّل ببذور فنائه، طالما أن بطل الحكاية قادر في نهاية الأمر على الانتصار في اقتحام المخاطر والمحظورات، وإلحاق الهزائم بكل ما يعترض طريق رحلاته العبورية المتفائلة دومًا، بل إن لمثل هذه الحكايات الملغزة نهاياتها السعيدة كمَلْمَح جوهريٍّ وأكيدٍ ملازِمٍ للحكاية — أو الخرافة — الشعبية في كل شفاهيات العالَم.
ومن هنا فالبطل في كل حالاته يقف في مواجَهة المحظور بمعنى التابو، سواء أكانت أمكنة وعالم — الذوات — ما تحت الأرض، أو كانت الاقتتال مع الجان والشياطين والعفاريت والرياح والنداهات والسلعوات ووحوش الجبال، من ضِباع لحِيتانٍ وثعابين وتنينات حيوانية وحشية خرافية مجنحة، أقرب إلى ما جاءت بها الحفائر والرسوم البابلية والآشورية، ولها أسماؤها الغريبة، مثل: الهايشة والهجين والمَرَدة والأعوان، وسواء أكانت مطالب البطل ميسَّرة أو غير ممكنة «كأنْ يجدل حبلًا من رمل الصحراء»، أو أشجارًا وجنَّاتٍ تَطْرَح في غير أوانها، أو مولودًا يتكلم بالحكمة في المهد، والانتصارُ حليفُ البطل في نهاية الأمر.
فإذا كانت أقصى حالات التابو تتمثَّل في مجتمعاتنا الشرقية والعربية بخاصة بالنسبة للمرأة والجنس، فإن الحزر قادرٌ على الدوام على إيلاجها.
وعندما عرف منها الملك أنها ما تزال بنت بنوت صغيرة، حينئذٍ سألها كيف عرفت، فحدَّثَتْه عن آلام ولادة أمها ومعاناتها، فعرفت أن الدافع لهذا العذاب لا بد وأن يكون هو لذة اللذة.
وتصل هذه الجزئية — اللغز — إلى أقصى انفتاحها في المصادر الهندية، فيذكر «بنفي» حكاية هندية، صادَفَها في الملحمة الهندية الشهيرة الماهابهارتا، عن ملك يتحوَّل إلى امرأةٍ حين ينزل ليستحمَّ في نهرٍ محدَّد — تابو — وهنا يتخلَّى عن عرشه عبر رحلة عبورية في غابة موحشة، وهناك يلد — بعد أن أصبح امرأةً — أولادًا جددًا.
وحين يزوره الإله إندرا ليطرح عليه لغزه أو سؤاله عن «لذة اللذة»، وأي الوضعين يفضِّل: أن يتحوَّل مرتدًّا إلى رجلٍ، أم يظل امرأة؟ يجيب الملكُ المرأةُ بأنه يفضِّل أن يظل امرأةً؛ «لأن المرأة أكثر استمتاعًا بالحب — الجنس — من الرجل».
كذلك فكثيرًا ما اعترت مثلُ هذه التحولاتِ النوعية الجنسية الحكاياتِ الهومريةَ الإغريقية، مثل الكاهن المتنبئ الخرافي تريزياس وهيرا حول هذا اللغز: «أيهما يجني لذةً أكبرَ من الاتصال الجنسي: أهو الرجل أم المرأة؟» بل إن تريزياس نفسه — ذلك الكاهن الواقف على الدوام في صف التسلط — كثيرًا ما تحوَّل إلى امرأة، ونفس الشيء يجري حدوثه للآلهة في الكلاسيكيات الهندية.
وعادةً ما تكشف حكايات الألغاز والحزور — أو التابوات — عن أصولها الطوطمية، بل هي قد تؤكد مأثورًا أو حكمة شعبية عالية القيمة، وعلى درجة ملحوظة من حيث الذكاء والتبصُّر، سواء من جانب إنسان أو طائر أو حبيبة وزوجة وهكذا، في مواجَهة قُوًى تسلُّطيةٍ لملوك وفراعنة ونماردة وأعوان، ومُلَّاك كبار شبعانين متسلِّطين.
فما إن يواجه ملك مثل هذه الخرافة، البنت — العربية أو البدوية — الجميلة، حتى يبادرها من فوره طارحًا تساؤله هذا الطبقي الفلسفي: ليه يا بير عاليك مش زي واطيك، وواطيك مش زي عاليك؟
وهي بالطبع مأثورات أو أمثال متداولة، إلا أن الملاحظة هنا مكانها تقديس الأخشاب.
وأيضًا يمكن ملاحظة مدى الواقعية الصادمة للمأثور والشائع عن كيف أن كل إنسان في هذا العالم الطاحن معلق من عرقوبه كمثل ذبيحة، فجدلية هذا المأثور في مدى وحشيته الدامية إلى جانب فرديته وموقفه اللاقبلي — بل اللاأسري — مما يشير إلى حداثته.
فالحكايات العربية التي من هذه الفصيلة دورها الأخلاقي يتمثَّل في إرساء قيمة بعينها، مثل: الكرم العربي، وتقديس الخال، والإقلال من شأن المرأة.
من ذلك أن عربيًّا كلما طلب شيئًا من زوجته، قال لها: «هاتي الشيء الفلاني يا بنت عادم الرأي.» وما إن اعترضت الزوجة حتى طرح عليها لغزه عن «أخف الخفيف، وأثمن الثمين، وأثقل الثقيل».
أما أثقل الثقيل فهو نزول الضيف على البخيل.
وتستطرد الحكاية في مباراة بين الأب وابنه بعد أن تعرَّفه الأب، ربما يشير إلى الاعتقاد في توارُث حتى الذكاء والفصاحة؛ ذلك أن الأب يطلب من ابنه أن يردَّ ويباريه فينطلق الابن قائلًا: «يابا ما يرد الحصان إلا اللجام والجمل الخزام، وما يرد بنت الرجال إلا رجالها.» أيْ أهلها وعائلتها أو قبيلتها أو بدنتها.
أجاب الملك: على الضيف.
تنحنح الطفل قائلًا: «أنا سني ٦٠ سنة، لكن وأنا صغير أمي جابت كتكوتين، ضربتهم ماتوا كلهم ما عدا كتكوت، وقعت عليه نواية بلح، ومن حدف الطوب في النخلة أصبحت جزيرة حرتها وزرعتها سمسم، مر عليه جاري وقللي: يا جدع الأرض دي ما تزرعشي سمسم، فلميت السمسم من الأرض في الزكايب، وحاولت أربط الزكايب، زكيبة منهم زعلت وقالت: أنا ما اتربطشي عشان غايب مني سمسماية، دورت عليها، لقيتها في حافر الطور.»
وما أن يقاطع الملك الطفل ضائقًا من كذبه، حتى يبادره الطفل موافقًا وطالبًا منه في ذات الوقت الموافَقة على نية الملك في اختطاف زوجة الصياد الفقير الجميلة، وهنا طق الملك ومات.
•••
وحراث آخر يعمل بأقصى عنفه دون منتبه لحنش الثعبان الذي علق بكعبه المشقق، وحين يختاره الملك ليعمل في حديقته تأخذه وتتملَّكه حياة القصور ونعيمها، لدرجة أنه يمرض عند أول دخول شوكة نبات صغيرة في أصبعه ويلازِم الفراش.
وكذا — ولكي لا ننسى — حكاياتُ الطرد من الفردوس عند أول اقتحامٍ لشجرة المعرفة، وعند أول شكايةٍ من الموت داخل المدن المسحورة والفاضلة واليوطوبية.
ومن الصعب التغافُل عن تلك المنمنمات العربية التي جاءت بها الليالي للسندباد الحكيم، ولقمان، وهيكار الحكيم، أو أحيقار السرياني ذي الأصل البابلي، وحكايات داود وسليمان، وحكايات الشمامسة والزاهدين، والراهب الشحاذ، ثم نسوة بغداد، وحياة الحريم والبغاء المقدَّس، وذلك المزيج الخليط المشير إلى بداية تواجد الطبقة الوسطى الصغيرة من حرفيين وصنايعية؛ من فطاطرية، وحلوانية، وخبازين، وإسكافية، وخياطين، وصيادين، وصياغ مَهَرة، وبَحَّارة، وحلَّاقين ثرثارين، وذوي عاهات جبَّارين، مثل الأحدب المحجب، وأطفال حكماء، ولصوص، وصيع، وأفَّاقين.
والقاسم المشترك لكل هذه الحكايات الملغزة هو أن القادر يعجز، بينما العاجز يقدر.
وهو كما يُلاحَظ نتيجةٌ أو حدٌّ ثالث لجدلية تُعْلِي من شأن الفقراء وبسطاء الناس، عبر صراعهم الأزلي المتفاقم دومًا في مواجَهة الطرف أو الحد الثاني للقوى السلطوية المتجبرة القادرة داخل المجتمع.
تنتهي دومًا بانتصار البسطاء؛ الشعب.