الأبطال اللصوص والشطَّار النَّزِقين والمكَّارين
كنتُ متأفِّفًا قليلًا وأنا أجمع هذا النص — اللص والملك — من مصدره الشفاهي بإحدى قرى الفيوم الصغيرة المجدبة، الواقعة قريبًا من بحيرة قارون، إلى أن وقع نظري على مصدره المدوَّن حين أورده «هيرودوت» في كتابه الثاني من كتبه التسعة، التي يحوي كلُّ جزء منها إحدى عرائس العلوم والفنون من بنات «زيوس» التسع، التي تحدَّثَ فيهم أبو التاريخ عن الشرق القديم، مسميًا كلَّ جزء باسمه العام، كالأحاديث الليبية أو الروايات الآشورية، ثم حديثه عن مصر التي زارها حوالي عام ٤٤٠ق.م، ودوَّن فيها هذه الحكاية الشفاهية التي جمعتها عام ١٩٦٣ مع ما جمعه ودوَّنه من أحداث ومشاهدات ومواد فولكلورية وأسطورية، كما يشير بهذا في الفصل ٩٩: «إن ما قلته حتى الآن هو نتيجة لمشاهداتي الخاصة وآرائي وأبحاثي الشخصية، وسأبدأ من الآن فصاعدًا بقصِّ الروايات المصرية طبقًا لما سمعته.»
وهيرودوت مثله مثل كل المؤرخين والرحَّالة والمفكرين الذين سبقوه في المجيء إلى مصر والشرق القديم — سواء سبقوه في المجيء مثل: «هيكاتية الملطي»، وفيثاغورس، وأبقراط، وطاليس، ووسولون، وديموقريطس الأبدري، وكذلك ديودور الصقلي، واسترابون، وبلينوس، وأسطفانوس البيزنطي، وبلوتارخ، وأفلاطون، والمئات غيرهم — أصبحت كتاباتهم وملاحظاتهم مراجِعَ أساسية لأغلب المعارف الإنسانية، سواء ما يتصل منها بالتاريخ والاجتماع، أو ما يتصل بالفولكلور والدراسات الإثنولوجية والأساطير المقارنة وعلم ما قبل التاريخ.
وبرغم أن أولئك المؤرخين والرحَّالة كانوا دائِمِي التشكيك في بعضهم البعض، ففي الوقت الذي شكَّك فيه هيرودوت فيمَن سبقوه — مثل هكاتية الملطي الذي اتهمه بالجهل — اتهم بلوتارخ هيرودوت بأنه كان «صديقًا للبرابرة»؛ وذلك لتغلغله داخل الحياة الشعبية في مصر، راصدًا ومسجلًا ما تقع عليه عيناه النفاذتان وبصيرته الفاحصة.
وفي تقديري أن العهد الذي قطعه هيرودوت على نفسه بعدم الغوص بكامله في قضايا اللاهوت والآلهة والأساطير المصرية، بعكس ما تمَّ مثلًا بالنسبة لغيره من المؤرخين والمفكرين الذين زاروا مصر، مثل: هكاتية وديودور الصقلي واسترابون وبشكل أخص بلوتارخ، فقد وجَّه طاقته إلى رصد مظاهر الحياة والمعتقدات، مثل: القصص والحكايات وطقوس وشعائر الميلاد والزواج والوفاة، وكذلك التقويم المصري القديم والجاليات والأقليات التي كانت تزدحم بها مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، من فرس ويونانيين وفينقيين وفريجيين وأحباش وليبيين، وما يتبعهم من عادات وتقاليد ومظاهر معيشية يومية.
لذا راح هيرودوت يتحدَّث عن مهن «الفرازين» الذين يفرزون البهائم بتحسُّس ما تحت ذيولها. وعن «التابو» الذي حرَّم على المصريين عدم أكل رأس الحيوان — إذ إن الرأس مكمن كل خطيئة — والخنازير وطرق إخراج أحشاء الذبيحة بعد ذبحها، وتحريمهم ذبح إناث الأبقار؛ تقديسًا لحيوان إيزيس المقدس، وتحريم التضحيات البشرية من الأطفال الذكور والبنات على خلاف عادات الآسيويين والساميين والإيجيين وحتى اليونانيين، وكذلك تحدَّث عن نجاسة الخنازير والكلاب، وتحريمهم دخول المعابد بعد الجماع دون اغتسال، «وسائر الشعوب — فيما عدا المصريين واليونانيين — يجامعون النساء في المعابد، ويدخلونها دون اغتسال»، ثم سبقهم عن الكيفية التي كان يتقي بها المصريون القدماء البعوضَ باستعمال «الناموسيات»، وسبقهم في اكتشاف «باسم أي إله يسمى كل شهر وكل يوم، وحظ مَن يُولَد في يوم كذا وكذا»، وكذلك اكتشافهم الأول لعلم «المساحة»، وكذلك تحدَّث عن الطبقات السبع التي كان يتكوَّن منها المجتمع: طبقة الكهنة، وطبقة المحاربين، ورعاة البقر، ورعاة الخنزير، والتجار، والمترجمين، «والملَّاحين»، لكن كان أقسى صمته وفاءً لما قطعه على نفسه بعدم الحديث عن لاهوت مصر، حين تحدث عن تلك «الاستعراضات التي كانت تُقدَّم ليلًا في هذه البحيرة المستديرة التي تمثِّل مصيرَه المحزن (يقصد أوزيريس) التي يسميها المصريون «أسرارًا»، ومع أنني عليم بتفاصيل ما يدور بكلٍّ منها إلا أنني ألتزم الصمت بصددها.»
واحتفالات عيد قيامة الإله الممزق أوزيريس، وما يطابقه من آلهة الجوع والإخصاب على طول الشرق الأوسط: أدونيس تموز واتيس وديونسيوس زاجريوس» في جزر بحر إيجه، وديونسيوس عند الإغريق قائلًا: «ويكاد يكون احتفال المصريين بعيد «ديونسيوس» — يعني أوزيريس — أن يشبه من جميع الوجوه احتفال اليونانيين به فيما عدا الرقص، وقد ابتكروا بدلًا من المذاكير تماثيلَ، طول التمثال منها ذراع، يمكن تحريكها بواسطة خيط تطوف بها النساءُ القرى، وعضو التذكير بها متحرك ولا يقل كثيرًا عن باقي الجسم، ويتقدَّم الموكب الزمَّار، تتبعه النساء اللاتي تتغنَّى بديونسيوس، أما عن السبب الذي من أجله كان عضو التذكير كبير الحجم، وكان يتحرك دون سائر أجزاء الجسم، فلذلك قصة مقدَّسة يروونها.»
ويصمت هيرودوت عن الخوض في سرد «القصة» التي هي وكما يقول عالِمنا د. أحمد بدوي في شرحه وتعليقاته الموسوعية على كتاب هيرودوت: «إنها أسطورة إيزيس وأوزيريس، وتحريك العضو المذكور من التمثال دون سائر الأعضاء، فقد يكون المقصود منه الرمز إلى بعث «أزوريس» والعثور على العضو، ثم إلى عودة الحياة بين يدي النهر.»
وسلامة تفسير الدكتور أحمد بدوي صحيحة؛ لأن هيرودوت قَدِمَ إلى مصر في أيام الفيضان، ويؤيد فريزر هذا الرأي — في الجزء الرابع من المجلد الثاني في موسوعته الذهبية «الغصن الذهبي» البالغة أربعة عشر جزءًا — بقوله في دراسته الرائدة عن الآلهة الفصلية، آلهة الزرع والاخضرار التي تموت وتصحو بجدب وقحط الماء والنبات، «والتي كانت منتشرة بكثرة في شرق البحر الأبيض المتوسط تحت اسم أوزيريس، تموز، أدونيس، واتيس وديونسيوس لشعوب مصر وغرب آسيا».
وقالوا إن «رامبسينيتوس» قد امتلك من الفضة ثروة طائلة، لم يستطع ملك ممَّن خلفوه فيما بعدُ أن يقتني أكثر من هذه الثروة، أو أن يدانيه فيها.
ويعلِّق د. بدوي على هذا بقوله: «والشيء الذي لا شكَّ فيه هو أن رمسيس الثالث كان مَلِكًا غنيًّا واسع الغنى … أعطى فأجزل عطاءً لم نسمع بمثله في تاريخ الفراعين من أسلافه وخلفائه.»
وفي تقديري أن لشخصية ذلك الملك تأثيرًا كبيرًا لجانب من حواديتنا أو حكاياتنا الشعبية، ونظرًا لأن هذه الحكاية التي قمتُ بتدوين نصِّها الشفاهي عام ١٩٦٣، والتي دوَّنها هيرودوت في القرن الخامس، على اعتبار أنها وقعت لذلك الملك — رمسيس الثالث — الذي حكم مصر لمدة ٣٢ عامًا في القرن الثاني عشر ق.م، يصبح عمر هذه الحدوتة حوالي ٣٢ قرنًا من الزمان. ونظرًا لأنها حكايةٌ يمكن تصنيفها تحت ما يُعْرَف في الحكايات الشعبية باسم حكايات «المكَّارين» أو «الشطَّار»، وهي حكايات شائعة في فولكلور كل العالم، فكثيرًا ما كانت تصادفني «موتيفاتها» أو بعض أفكارها الرئيسية التي تتصل بنمطها العام الثابت، مهاجِرَة تائهة من حكاية لأخرى في حواديتنا المصرية.
والحكاية المدوَّنة عند هيرودوت يمكن تلخيصها في أن بنَّاء خزنة الملك، التي «تمتد إحدى حوائطها إلى الجدار الخارجي من القصر»، صنَعَ حيلةً في بنائها، وأطلع ولدَيْه عليها قبل أن يموت؛ «حرصًا منه في أن يعيشا في رخاء»، وبعد أن مات وتناوب الولدان سرقتها، إلى أن اكتشف الملك النقصَ في خزائنه ونصب فخًّا أطبق على أحدهما ممَّا اضطر الثاني لأن يقطع رأس أخيه؛ مخافةَ أن ينكشف أمره هو أيضًا، ودخل بها على أمه يحمل رأس أخيه، وتتوالى الحكاية بعد ذلك لتكشف عن مكر ودهاء وألاعيب كلٍّ من الملك واللص، تنتهي بانتصار اللص على الملك، وإقرار الملك بذكائه وبراعته وكان أنْ زوَّجه ابنته.
أما حكايتنا الشفاهية فإنها تستبدل بالأخين اللصين ولد وخاله شقيق أمه، فبدلًا من أن يقطع لص هيرودوت «الشاطر» رأسَ أخيه، يقطع «حرامي» — اليوم — النص الشفاهي رأسَ خاله.
فالاختلافات ضنينة بين النصين، وكان لا بد من حدوثها؛ نظرًا لبُعْدِ الفاصل الزمني بين النص الشفاهي ومصدره المدوَّن، بالإضافة إلى الزمن الذي وقعَتْ فيه الحكاية، وهو ما يفصلها عن نص اليوم الشفاهي ٣٢٠٠ سنة كما ذكرنا.
وهنا لا بد من مهلة بسيطة لتوضيح بعض الملاحظات، أهمها: الاعتذار عن الاستطراد السالف عن هيرودوت وغوصه في حياتنا الشعبية، بما أوصله منذ ٢٥ قرنًا إلى تدوين هذا النص الحي المتواتر إلى أيامنا، وكأنه جامع فولكلور يَقِظ يعرف ويدرك — بصائب فكره المستقبلي — أهميةَ النص الشفهي الجماعي الفولكلوري، الذي سنتبيَّن مدى صداه، وتلك هي أهمية الجمع الميداني للنصوص الشعبية.
إلا أنه لم يذكر موطن جمعه لهذه الحكاية التي نحن بصددها، والتي صادَفَني نصُّها الشفهي فجمعته من الفيوم عام ١٩٦٣، وظلت تشغلني إلى حد كبير مؤرق، لكن المُلفِت أن الاختلافات بين بعض موتيفات النص المدوَّن القديم ونصها الشفاهي المعاش على أيامنا؛ تجيء طبيعيةً شبه متَّفق عليها، وبعضها الآخر خاضع لهجرات داخلية داخل نمط أو نموذج الحكاية الواحدة.
كما أن بعضها الثالث دخيل على كلا النصين من الخارج؛ نتيجةً للاحتكاكات المتوالية التي تعتري التراثَ وتُحْدِثها الاتصالات والتبادُلات البشرية من قرية لأخرى، ومن قُطْر لآخَر، بالنسبة للحكايات الشعبية والفولكلور بشكل عام.
ويتمثَّل هذا الاختلاف الدخيل الثالث بشكل واضح في الخدعة الأخيرة التي اتبعها الملك مع اللص للإيقاع به، وهي إقدامه على وضع ابنته في «ماخور، وأمرها أن تستقبل جميع مَنْ يفدون إليها على السواء»، على أن يفوز بمضاجعتها الزائر الذي يحكي لها «أبرع وأخبث ما فعل في حياته».
فهذه الجزئية قد تكون دخيلةً على النصين، سواء أكان مصدرها الهلينيين من يونانيين وإيجيين الذين استقى هيرودوت منهم معلوماته، أو التراجِمَة من المصريين والذين كانوا يُقِيمون بكثرة في مصر، جاء بهم قمبيز الفارسي إليها قبل مجيء هيرودوت بأقل من قرن.
ويقول هيرودوت في هذا إنه عندما جهَّز قمبيز حملةً على مصر، «أخذ من شعوب مملكته اليونانيين الذين كانوا تحت إمرته».
ونفس هذه الفكرة عاد هيرودوت ونسبها إلى الملك خوفو: «ولقد بلغ كيوبس — فيما يقولون — أحطَّ درجات الرذيلة، حتى إنه — لحاجته إلى المال — وضع ابنته هو في ماخور وأمرها أن تحصل على مبلغ معين لم يذكروا إلى مقداره.»
وليس الهدف من استقصاء هذه الفكرة أو الجزئية هو الدفاع الخلقي عن مصر القديمة وملوكها، بقدر ما تكمن الرغبة في طرح المقارنة بين الفكرتين أو الخدعتين، فالنص الشفاهي الذي جمعته يستبدل فكرة وضع الملك لابنته في ماخور بإطلاقه لسَبْعه شاهر الذراع الذي يعرف مكان الجثث، «والملك افتكر، بعث جاب السبع، والسبع رفع شفتورة فوق وشفتورة تحت، وضرب بكفه راح على سراية محمد الحرامي، الذي عاجله بضربة واحدة وأغلق عليه الباب، فالسبع مات، ما داش منطق». والضربة الواحدة القاتلة التي لا تتكرَّر، ضربة الرجال ما تتناش، هي تضمينة أسطورية، تصادفنا كثيرًا في سِيَر الأبطال وملاحمهم، وكذلك الحكايات الشعبية.
وربما كان أصل هذا الإله أنه كان إلهًا سومريًّا، توارَثَه البابليون والآشوريون منذ الألف الثالثة قبل الميلاد، وتُنسَب إليه الأساطير الأيرلندية والإنجليزية أنه «أول مَن استعمل الحصان في المعارك الحربية».
ويُخيَّل إليَّ أن كلا «الموتيفين» أو الجزئيتين — سواء وضْع الملك لابنته في ماخور لمعرفة سر اللص عند هيرودوت، واستعانته بالأسد لمعرفة السر في النص الشفاهي — يُكْمِل كلًّا منهما الآخَر، وبمعنى آخر: إنهما كانا في الأصل تضمينة أسطورية مترابطة.
ويرى «سير ج. ل. جوم» أنه «عندما أصبح الشُّطَّار والمكَّارون بشريين — بدلًا من كونهم في أصل مقدسين — وعندما أصبح البطل إنسانًا — بدلًا من كونه إلهًا — أصبحت الأسطورة أحدوثة».
واسم شمشون معناه ابن إله، و«دان» هو اسم قبيلته «اشتقاق من إله الشمس الآشوري شماش».
وإذا ما عُدْنَا إلى حكايتنا الشفاهية لَوجدنا أن قَتْل الشاطر محمد للأسد بضربة واحدة من سيفه، وطَبْخ لحمه — وربما أكله كما بدا في حديثه مع جاسوس الملك — ثم مطاردة ابنة الملك له لمعرفة السر، أمكن لنا في النهاية مطابقة هذه الأفعال مع كلٍّ من الإلهين الشمسيين: شمشون وهرقل، فكلاهما قتل الأسد، وكلاهما طاردته امرأة لمعرفة سره: دليلة مع شمشون، و«ديانييرا» نحو هرقل في الأسطورة الكلاسيكية وكل متنوعاتها ومشتقاتها في الغرب.
وأوضحت د. سهير القلماوي أن بعض متنوعاتها وأشكالها دخيلة على ألف ليلة وليلة.
أخيرًا فإن احتفاء حكايات مختلف الشعوب بحيل اللصوص الفقراء الذين يدوِّخون الملوك والحكام، كتلك التي عُثِرَ عليها منذ القرن الرابع عشر في إيطاليا وقبرص وسيبيريا، كما عُثِرَ على أقدم أنماط في الكلاسيكيات الهندية.
ويُلاحَظ أن حكايات اللصوص والمكارين والخطافين تكثر وتزدهر في أواخر كل أحقاب حضارية، «حين تسرع تلك الحضارة إلى الأفول»، ويؤكد هذا الرأي ما ذكره هيرودوت ذاته من أن حكايته وقعت في مصر أثناء الدولة الوسطى؛ أيْ خلال الفترة التاريخية المتقلبة التي اضمحلت فيها الدولة القديمة المركزية.
كذلك يُلاحَظ أن حكايات اللصوص والحرامية والأفَّاقين تشكِّل الجانب الأوضح في ألف ليلة وليلة، ويُرْجِعها شبنجلر إلى حضارة السحر، حين كان حلفاء بغداد والقاهرة يحثون الخطى نحو انحلال دولتهم.
وتوجد آلاف مؤلَّفة من مثل هذه الحكايات في فولكلور شعوب البحر الأبيض بعامة، ومصر بخاصة، وسأُورِد هنا مجموعةَ نماذج لمثل هذه الحكايات المتصلة باللصوص والمكارين وأخلاقياتهم ونزقهم وطرائفهم في النصوص الشفهية التي قمتُ بجمعها على مدى سنوات طويلة، ويَرِد نَشْرُها في هذا الكتاب.