الذاكرة الشعبية الجماعية الفولكلورية
لا خلاف على أن الذاكرة الشعبية الجماعية هي ما حفظت لنا هذا التراث المتواتر منذ طفولة البشرية الأولى، وهو الفولكلور. وللذاكرة الشعبية — تحت تأثير العادة والتوارث — حضورها وإعجازها لمن خبر التعامل معها؛ ذلك أنها مخزون متواتر الحلقات، تحفظ أدق دقائق شعائر وممارسات الولادة والموت الأولى إلى أيامنا، بنفس درجة حفظها لما يصاحب التنفس والتثاؤب، وكل ما يتصل ويصاحب الانتقال من النيئ إلى المطبوخ بالنسبة لمطبخ البخار المصري، كذلك فهي ذاتها الذاكرة الشعبية أو الشفهية التي أسهمت في الكشف عن الكثير من تراث البشرية التاريخي أو الحفري الأركيولوجي، وما من مكتشف أثري — مثلًا — لم يستهدِ ويَسْتَفِدْ من مخزون الحكايات الشعبية، والحواديت وفابيولات الكنوز — المقابر — المدفونة، وعالم ما تحت الأرض، منذ د. فلاندوز بيتري الذي دأب على تأكيد أن هذه الخرافات التي كانت يجمعها ويستمع إليها من فلاحي الفيوم والدلتا قادته إلى اكتشاف كنوز من الآلاف المؤلفة من البرديات الأدبية والفولكلورية والتاريخية التي يُنْظَرُ إليها اليوم بكل تقدير. والشيء نفسه أشار إليه ماريت، وماسبيرو، وكارتر مكتشف عصر توت عنخ أمون، وغيرهم من الرواد الأثريين الذين عملوا في حفائر ومكتشفات العالم العربي، خاصة بسوريا والعراق، أمثال: كلوديوس ريش، وسيد هنري لايارد، اللذين استفادا من ألف ليلة وليلة، والنصوص الشفهية لفلاحي العراق في مناطق أو مديريات الموصل، وجلجاميش، وتمرود، وبقية رحاب العراق.
فللذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية قدراتها وإعجازها الذي لمسته وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة الفيوم وبني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتني في النهاية أعتقد — إلى حد كبير — في الذاكرة الشعبية كعملية جدلية عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولًا وعرضًا، أو زمانًا ومكانًا، وتكاد أن لا تفقد شيئًا أو تفتقده من مخزونها الجمعي.
ومن هذا المدخل يمكن القول بأن لا شيء مفتقد، بل إن المفتقد — تاريخيًّا أو أركيولوجيًّا — يمكن استجلاؤه والتحقق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية، أو متنوعات وعينات وعبارات الأيتم، أو النمط الواحد أو العنصر، مهما كان موضوع البحث جانبًا أو ضئيلًا.
وإذا كان من الصعب علينا اليوم في أيامنا هذه تقبُّل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع، فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية — ٣ آلاف عام ق.م — ومن هنا كان الانتشار الشديد — لعادة أو شعيرة — للحفظ والتحفيظ، والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف — تواتره — إلى اليوم في مناهجنا الكتاتيبية المتوارثة. ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الإنيزمية أو الدينية — رغم انتشار الترانزيستور — بل الشعر، وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية، وبالطبع عند مختلف الشعوب.
ويبرز — طوطم — الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدًّا، فتسمية راحيل أو راشيل — أم النبي يوسف — هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى حمام.
كما قد لا ننس حمامة الأيك، كطوطم وشعار إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.
وكما يقول الأستاذ تومبسون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا — السامية الشرقية — الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية، ورواة سير ومدَّاحين، وشعراء جوالين — تروبادوز — ما يزالون إلى اليوم يملأون حياتنا، وتزدحم بهم أسواقنا ومواليدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ فيه الأساطير، والعكس صحيح.
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري، مثل افتراض العثور على مجموعات الحكايات المصرية التي تُرْجِمَتْ من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاندرزبيتري، وغيره من الحفريين، وأُعِيدَ نشرها في الفرنسية عدة مرَّات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية»، وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر إيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات: جودوين، شاباس، أبيروس.
وسجل بيتري في الجزءين اللذين نشرهما عن حكاياتنا المصرية الفرعونية مجموعة ملاحظات بسيطة، منها إفاضة الحكايات المصرية، فالأعاجيب أو الملاعيب التي تذكرنا بملاعيب شيحا، وعلي الزيبق، وبعض سير آباء الكنيسة القبطية التي يعج بها تاريخها — الينكسار — والتي ما تزال تتبدى إلى اليوم أكثر وضوحًا في حكايات الشطار، وهو ما أسماه بالينوفسكي بالفنتازيا المصرية.
كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.
كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءًا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابهًا أو تماثلًا يطبع كل مصر على أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية، ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر يبدو جليًّا فيها.»