مسرح مندثر للنساء فقط
ظاهرة ملحوظة في تراثنا لم تلقَ الاهتمام الكافي، وهي ظاهرة المسارح الشعبية مجهولة المؤلف؛ أي: الكوميديا آرتي. ومنها ما يختص بالرجال والنساء التي اندثرت مثل «مسرح الفصول المضحكة النسائي».
وكان يُعرف بمسرح النساء أو فصول حجرات النوم النسائي، الذي تضطلع بتقديم غرَّة ليلة دخلة العروس — فرقة — آخر الليل للعروس، وأهلها من النساء، حيث لا يُسْمَح للرجل — الذكر — حضور مشاهده التي عادة ما تكون مسخرة نسائية، هذا العرس الاحتفالي يستخرج الدفين من المواجع والتابوات ضد الرجل وتسلطه، هذا العرس الاحتفالي تبدأ الرواية فيه بتوجع شخصيتها الرئيسية لجمهورها: آه يا ننوسي، يا مطلع حسي.
وكالعادة تبادرها الفرفورة أو الداية والبلانة: ما بالك يا ستي؟
وتروح تتحسس أعضاءها المباشرة التناسلية وسط حمى الضحكات النسائية، وما أجاهد في تذكرة من خبايا هذا المسرح فرقة زنوبة وعيوشة اللتان اعتدنا استقدامهما أيضًا من المدينة، ست أو سبع نساء يحترفن التمثيل والغناء والسخرية من الرجل وخصاله و«ذيله النجس» إلى حد المهانة، داخل ماعد أو مقاعد — حريمية — معزولة عزلة حجرات النوم، يحرم دخولها على جنس الرجل الذكر، ويصعب التعرُّف على خبايا ذلك المسرح النسائي، وبضعة عينات من رواياته أو عروضه التي كانت تستلزم — مثل صنوه الذكري الرجالي — التحكم في الضوء وخفوته، والقدرة على التنكُّر والتقمُّص، وتغيير الهيئة، والاستعانة بملابس رجالية، وعمم كبيرة — كاريكاتورية — ومسابح وعصيان وعكاز وجلود الأرنب لصنع الذقون تمثلًا بالرجل.
وأذكر أن اسكتشات ذلك المسرح وعروضه لم تكن وقفًا على النيل من الرجل بعدما تناثرت منه بضعة مواضيع نسائية عن الحمل ومتطلبات كل أشهره التسعة؛ من أكل أنواع محددة من الأطعمة، وكذا المضاجعة، وأساليب الوحم، وإثقال الزوج بالمطالب، والتوحم ليس فقط على أشياء تُؤْكَلُ ولو كانت في غير أوانها أو موسمها، وإلا انعكس الحرمان منها سلبًا على الوليد خاصَّة الذكر، بل يصل الوحم إلى حد مطالبة الزوج بالأملاس والصيغة؛ من ذهب لفضة لأحجار كريمة، تعيد صفاء المزاج — كالعقيق — الذي يفك الضيق، والسليماني، وحجر الدم في حالة الفصد، ودم العادة الشهرية.
إنه مسرح غاب عني الكثير منه ومن أسراره الطقسية الموائمة لانفتاحه الإباحي على أقصى مصراعيه، في مواجهة تحطيم كل تابوات الحياء المفتعل المتوارث منذ عصور موغلة في التخلُّف والهمجية بقيا — شعائر — تقديس الجنس عند العرب الساميين بعامة.
إنه مسرح تتحدث رغباته الدفينة الضاربة عن نساء موعودات … حيث لا فكاك ولا مهرب من ثقل القدر أو الوعد وتجبره في مجتمع جبري كمجتمعاتنا العربية.
ومن هنا وبالمقابل يتوحد الدهر أو القدر أو الوعد بمواجع — المبلى — أو المبتلى، أو المصاب بأمراض — سحرية لا علمية — مثلما يعرف ﺑ «السودة»، أو لعلها السوداوية — عند بعض النساء الشبقات.
ولعل هذا المسرح الحريمي السحري هو ما دفعني — فيما بعد — إلى كتابة مسرحية المستخبي — شوقي عبد الحكيم — التي بدأت كتابتها فعلًا في السجن، وقُدِّمَتْ على مسرح الجيب المصري ٦٣ مع شفيقة ومتولي، عن زوجة جمَّال يقهرها إلى حد النفي التام، حتى إذا ما حانت لحظة غدر جمله به عبر فضاء الحقول والأجران تجهز هي عليه متوحد بالجمل المنتقم الغادر، وتقودها جدلية فعلتها إلى حد إعادة السيطرة والتملك لابنها ووحيدها الذي تنتهي باغتياله، وفي حين تبدو أمام المجتمع والعالم الخارجي امرأة ثاكلة تعود فتنهش نفسها في وحدتها وأحلامها إلى مناطق اللانهاية.
ذلك على الرغم من توصلي — في ذات الفترة — إلى جمع كم لا بأس به من استكشات ومواضيع هذا المسرح من أشعار العديد والنواح والبكائيات التي تُعَدُّ من أشق أنواع الفنون والآداب الشعبية بالنسبة لجامعي الفولكلور — انظر البكائيات الجنائزية — دراسة ونماذج، فمنشدات هذا النوع الأدبي البكائي من الندابات يتوحَّدن في الوجدان الشعبي الجمعي بالشؤم؛ لذا كن على الدوام عرضة لمطاردة الحكومات الريفية المحلية ورجال الدين، وكثيرًا ما تعرض بعضهنَّ للضرب والطرد من مساكنهن، وتحطيم دفوفهن وطاراتهن العنيفة الإيقاع.
ولعل هذا ما صاحب أيضًا مطاردة واضطهاد الفائسات على بقايا طقوس تلك المسارح الجريمية من ممثلات وفنانات.