مغامرة جوهرة مازارين
سَرَّ الدكتورَ واطسون أنْ يجِدَ نفسَه مرةً أخرى في حُجرة الطَّابق الأوَّل غيرِ المُرتَّبة في شارع بيكر التي كانت نقطةَ انطلاق العديد من المُغامَرات الرائعة. نَظر حوْله متطلِّعًا إلى المخطَّطات العلمية المعلَّقة على الجِدار، ورفِّ المواد الكيميائية المتفحِّم سطْحُه بفعل الأحماض، وحقيبةِ الكمان المركونة في الزاوية، وسَطْل الفحم الذي احتوى منذ وقتٍ طويلٍ على الغلايين وعلى تبْغ. وأخيرًا، تحوَّلت عيناه إلى الوجه النَّضِر والمبتسِم لبيلي الخادمِ الشديدِ الحكمةِ والفطنةِ رغم حداثة سِنِّه، الذي ساعد بعض الشيء على مَلْء فراغ الوحدة والعزلة اللتين أحاطتا بشخصيةِ المحقِّق العظيمِ الكئيبةِ المزاج.
«يبدو كلُّ شيء كما هو إلى حدٍّ كبير يا بيلي. وأنت كذلك لا تتغيَّر. آمل أن يكون بوسعي قول الشيء نفسه عنه.»
ألقى بيلي، بشيء من القلق، نظرةً خاطفةً ناحيةَ باب غرفة النوم المغلَق.
قال: «أظن أنه في فِراشه ونائم.»
كانت الساعة السابعةَ من مساءِ يومٍ صيفيٍّ جميل، لكن الدكتور واطسون كان معتادًا بما فيه الكفاية على عدم انتظام أوقات خلود صديقه القديم إلى فِراشه واستيقاظه، فلم يَشعُر بالاندهاش من الفكرة.
«أظن أنَّ هذا يعني أنَّ لديه قضية، أليس كذلك؟»
«بلى يا سيدي، إنه يبذل قصارى جهده فيها في الفترة الحالية. إنني أخشى على صحته. إنه يزداد شحوبًا وهزالًا، ولا يَقْرَب الطعام. وحين سألَتْه السيدة هدسون: «متى تود أن تتناول العشاء يا سيد هولمز؟» أجابها قائلًا: «في السابعة والنصف من بعدِ غدٍ.» أنت تعرف طريقتَه حين يكون مهتمًّا بقضية.»
«نعم يا بيلي أعرف.»
«إنه يتتبع شخصًا ما. بالأمس خرج متنكِّرًا في هيئةِ عامل يدوي يبحث عن عمل، واليوم كان سيدةً عجوزًا. جعل الأمرَ ينطلي عليَّ تمامًا، حقًّا فعل، وكان يجب الآن أن أكون محيطًا بوسائله.» وأشار بيلي بابتسامة عريضة إلى مِظلَّة منتفخة جدًّا كانت مُسْندةً إلى الأريكة، وقال: «ذاك جانبٌ من زي السيدة العجوز.»
«ولكن يا بيلي، ماذا وراء كلِّ هذا؟»
خفض بيلي صوتَه، كمن يناقش أسرارًا هائلة خاصة بالدولة، وقال: «لا مانعَ عندي من أن أخبرك يا سيدي، لكن يجب ألا تخبِرَ أيَّ شخصٍ آخَر بالأمر. إنها تلك القضية المتعلقة بجوهرة التاج.»
«ماذا! أتقصد قضيةَ السطو على الجوهرة التي قِيمتُها مائة ألف جنيه؟»
«نعم يا سيدي. ولا بدَّ لهم يا سيدي من استعادتها، ولهذا السبب كان رئيس الوزراء ووزير الداخلية عندنا، وكان كلاهما جالسًا على تلك الأريكة نفسِها. وكان السيد هولمز في غاية اللطف معهما، وسرعان ما هدَّأ من رَوْعِهما ووعدهما بأنه سيفعل كلَّ ما بوسعه. لكن اللورد كانتلمير …»
«حسنًا!»
«نعم يا سيدي، أنت تعْلم ما الذي يعنيه هذا. إنه يا سيدي مثْل جثةٍ باردة بلا حياة، إن جاز لي قول ذلك؛ فبإمكاني أن أنسجِمَ مع رئيس الوزراء، وليس لدي اعتراضٌ البتة على وزير الداخلية الذي بدا رَجلًا من النوع المهذَّب، طيب الخُلُق، لكنني لا أطيق سيادة اللورد. ولا السيد هولمز يطيقه يا سيدي؛ فهو، حسبما أرى، غيرُ مقتَنِع بالسيد هولمز، وكان معترِضًا على الاستعانة به. إنه يفضِّل لو فشل في مسعاه.»
«أيعرفُ السيد هولمز ذلك؟»
«إن السيد هولمز دائمًا ما يعرف كلَّ ما تَجِب معرفتُه.»
«حسنًا، فلنأملْ ألا يخفِقَ وأن يخيب رجاء اللورد كانتلمير. لكنِ اسمعْ يا بيلي، ما الغرض من تلك السِّتارة التي تغطِّي النافذة؟»
«وَضَعَها السيد هولمز هناك منذ ثلاثة أيام؛ فقد وضعنا شيئًا عجيبًا خلفَها.»
تقدَّم بيلي وأماط السِّتارَةَ التي كانت تحجُب مِحرابَ النافذة المقوَّسة.
لم يستطِع الدكتور واطسون أن يكتمَ صيحةَ اندهاش؛ فهناك كانت توجد نسخة طِبْق الأصل من صديقه القديم، بلباس البيت وكل الأشياء الأخرى، ملتفتًا بثلاثة أرباع وجهه ناحيةَ النافذة ومنحنيًا لأسفل، وكأنه يقرأ كتابًا غيرَ مَرئي، بينما غاص الجسد في مقعدٍ ذي مسندَين. فصلَ بيلي الرأسَ ورفعه في الهواء.
«نضعه بزوايا مختلفة، حتى يبدوَ أكثرَ محاكاةً للواقع. لم أكن لأجرؤ على لمْسه لو لم تكن الحاجبة منسدلة، لكن حينما تكون مرفوعةً تستطيع أن ترى هذا من الجهة المقابلة من الطريق.»
«استخدمنا شيئًا من هذا القبيل في مرة سابقة.»
قال بيلي: «قبل مجيئي.» جذب سِتارتَي النافذة مباعدًا بينهما ونظر خارجًا نحو الشارع. «ثمَّة أُناسٌ يراقبوننا من هناك. يمكنني رؤيةُ شخصٍ الآن عند النافذة. ألقِ نظرةً بنفسك.»
تقدَّم واطسون خطوة للأمام وحينئذٍ فُتح بابُ حجرة النوم، وأطلَّ منه هولمز بهيئته الفارعة الهزيلة، وقد بدا على وجهه الشحوبُ والإنهاك، وإن ظلَّ خطوُه ومِشيتُه بنشاطهما المعهود؛ فبوثبةٍ واحدة كان عند النافذة، وسَحَبَ الحاجبة مرةً أخرى.
ثم قال: «كفى يا بيلي؛ لقد كانت حياتك معرَّضة للخطر منذ حينٍ يا بني، ولا يمكنني بعدُ أن أتدبَّرَ أمري دونك. حسنًا يا واطسون، تَسُرني رؤيتُك في مسكنك القديم مرةً أخرى. جئتَ في لحظةٍ حرجة.»
«هكذا استنتجت.»
«يمكنك أن تذهبَ يا بيلي. ذلك الفتى يمثِّل لي مشكلةً يا واطسون. ألديَّ مبررٌ كافٍ للسماح بتعريضه للخطر؟»
«أيُّ خطر يا هولمز؟»
«خطرُ الموت المفاجئ؛ فأنا أتوقَّع أمرًا ما هذا المساء.»
«ما الذي تتوقَّع حدوثه؟»
«أن أُقْتل يا واطسون.»
«لا، لا، أنت تمزح يا هولمز!»
«حتى حِسُّ دُعابتي المحدودُ يمكنه أن يتفتَّقَ عن مَزْحةٍ أفضلَ من تلك، ولكن يمكننا أن نَركنَ إلى الاسترخاء حتى ذلك الحين، أليس كذلك؟ ألَنا أن نتناولَ الكحوليات؟ جهاز تحضير الصودا والسيجار موجودان في مكانهما القديم. دعني أراك جالسًا مرةً أخرى في المقعد المعتاد ذي المسندَين. لم تتعلَّم، حسبما آمل، ازدراءَ غليوني وتبْغي المَعيب، أليس كذلك؟ فلا بدَّ أن يَحُلَّ محلَّ الطعام في هذه الأيام.»
«لكن لِمَ لا تأكل؟»
«لأن القدرات العقلية تُصْقَل عندما تُجَوِّعُها؛ لذلك قطعًا، بصفتك طبيبًا يا عزيزي واطسون، لا بدَّ أن تُقِرَّ بأنَّ ما يحظى به هضمُك من إمدادات الدم هو إلى حدٍّ كبير بمثابة خسارة للمخ. وأنا أعتمد اعتمادًا كاملًا على مخي يا واطسون، أمَّا بقية جسدي فهو مجرَّد زائدة دودية؛ لذا فالمخُّ هو ما يجب أن أهتم به.»
«لكن ماذا عن هذا الخطر يا هولمز؟»
«حسنًا، نعم، في حالةِ وقوعِه ربما تضطر أنت أيضًا إلى أن تُرهِق ذاكرتَك باسم القاتل وعنوانه، ويمكنك أن تعطيهما لسكوتلاند يارد، مع حبِّي ووداعٍ أخير. اسمه سيلفيوس؛ الكونت نيجريتو سيلفيوس. فلتدوِّنْه يا رجل، دوِّنْه! ١٣٦ موورسايد جاردنز، شمال غرب لندن. أفهمتَ؟»
راح وجهُ واطسون الموحي بالبراءة ينتفض من القلق؛ فقد عرف حقَّ المعرفةِ المخاطرَ الجمَّةَ التي يخوضها هولمز، وأدرك جيدًا أنَّ ما قاله هو على الأرجح تهوينٌ لا تهويلٌ. كان واطسون على الدوام رجلَ أفعال، وقد كان على قدْرِ الحدث.
«أنا معك يا هولمز؛ فليس لدي ما يَشغلني ليوم أو يومين.»
«لا انصلاحَ لأخلاقك يا واطسون؛ لقد أضفْتَ الكذبَ إلى نقائصك. أنت تَحمل كلَّ أمارات الطبيب المشغول، الذي يتلقَّى استدعاءاتٍ كلَّ ساعة.»
«إنها ليست ذات بال. ولكنْ أَلَا يمكنك أن تعمل على القبض على هذا الشخص؟»
«نعم يا واطسون أستطيع. وهذا ما يُقلقه للغاية.»
«ولكن لماذا لا تفعل؟»
«لأنني لا أعرف مكانَ الألماسة.»
«أجل! أخبرَني بيلي بذلك؛ جوهرة التاج المفقودة!»
«نعم، جوهرة مازارين الصفراء الضخمة. لقد ألقيتُ شبَكَتي ولديَّ سمكاتي، لكنني لم أظفرْ بالجوهرة. فما فائدة الإمساك بهم؟ يمكننا أن نُخلِّصَ العالَم منهم بأن نأتي بهم مكبَّلِين بالأصفاد. لكن ليس هذا ما أسعى إليه؛ فالجوهرة هي ما أبتغيه.»
«وهل هذا المدعو الكونت سيلفيوس هو إحدى السمكات التي اصطدْتَها؟»
«نعم، وهو سمكة قرش؛ فهو فتَّاك. والآخر هو سام ميرتون الملاكم. إنَّ سامَ ليس شخصًا شريرًا، ولكن الكونت استغلَّه. سام ليس سمكةَ قرش، إنه سمكةُ بربوط ضخمة عظيمة وحمقاء وعنيدة، لكنه يتخبَّط في مكانٍ ما في شبكتي على كل حال.»
«أين هذا الكونت سيلفيوس؟»
«كنتُ على مقربة شديدة منه طوال الصباح. لقد رأيتني متنكِّرًا في هيئة امرأة عجوز من قبلُ يا واطسون. لم أكن قَطُّ مقنِعًا كهذه المرة. المفاجئ في الأمر أنَّه مرةً حَمَل مِظلَّتي من أجْلي، وقال: «بعد إذنكِ يا سيدتي.» فهو نصف إيطالي ويتحلَّى بسلوك أهل الجنوب المتَّسِم بالكِياسة حين يكون مزاجُه رائقًا، لكنه شيطانٌ متجسِّدٌ عندما يتعكَّر مزاجُه. كم في الحياة من تقلُّباتٍ يا واطسون!»
«وربما كانت مأساةً.»
«حسنًا، وربما كانت كذلك. لقد تتبَّعته إلى ورشة العجوز ستروبينزي في شارع مينوريز. والمسألة كما أفهم، أن ستروبينزي صَنع له البندقيةَ الهوائية؛ يا له من عملٍ يدويٍّ ماهرٍ جدًّا! وأكاد أجزم أنها في النافذة المقابلة في اللحظة الراهنة. هل رأيتَ المجسَّم؟ بالطبع، لقد أراك بيلي إياه. حسنًا، قد يُصاب برصاصة في رأسه الجميل في أي لحظة. نعم يا بيلي، ما الأمر؟»
كان الفتى قد ظهرَ من جديد في الغرفة ومعه بطاقةٌ فوق صينية، فألقى هولمز عليها نظرةً بحاجبَين مرفوعَين وابتسامةِ تَفكُّه.
«إنه ذات الرجل. لم أكن أتوقَّع هذا. تَماسكْ يا واطسون! يا لجرأة هذا الرجل! ربما يكون قد بلغ سمْعَك صيتُه بوصفه صيادًا للطرائد الكبيرة. لا شكَّ أنها ستكون خاتمةً مظفَّرة لسجله الرياضي المتميز إنْ أضافني إلى جَعْبة صيده. هذه الزيارة دليلٌ على شعوره أنني في أعقابه.»
بادرتُه قائلًا: «استدعِ الشرطة.»
«ربما أفعل، ولكن ليس الآن. هلَّا نظرتَ نظرةً خاطفة بحذرٍ من النافذة يا واطسون لترى إن كان هناك شخصٌ يتجوَّل في الشارع!»
نظرَ واطسون محتاطًا من وراء طَرَف السِّتارة.
«نعم، ثمَّة شخصٌ فظُّ المظهرِ بالقُرب من الباب.»
«لا بدَّ أنه سام ميرتون؛ سام المخلص ولكنه أحمق. أين هذا السيد يا بيلي؟»
«في حجرة الانتظار يا سيدي.»
«رافِقْه لأعلى حين أقرع الجرس.»
«حسنًا يا سيدي.»
«إن لم أكن في الغرفة، أدخِلْه على أي حال.»
«حسنًا يا سيدي.»
انتظرَ واطسون حتى أُغلق الباب، ثم التفتَ بجديةٍ إلى رفيقه.
«أصغِ إليَّ يا هولمز، هذا مستحيلٌ تمامًا؛ فهذا رجلٌ يائس، وهو على استعدادٍ لفعل أي شيء. ربما يكون قد أتى ليقتلك.»
«لن يفاجئني ذلك.»
«إنني مصرٌّ على البقاء معك.»
«ستُمثِّل عائقًا فظيعًا.»
«في طريقه؟»
«لا يا عزيزي، في طريقي أنا.»
«حسنًا، مُحالٌ أن أتركك.»
«بل تستطيع يا واطسون، وستفعل لأنك لم تُخفِق قَطُّ في الالتزام بالقواعد، وأنا على يقينٍ أنك ستفعل ذلك حتى النهاية. هذا الرجل جاء من أجل هدفه، لكنني سأدَعَه يبقى من أجل هدفي.» ثم أخرج هولمز دفترَ ملاحظاته وكتبَ بضعةَ سطور بغيرِ اعتناءٍ، ثم قال: «استقِلَّ عربةَ أجرةٍ إلى سكوتلاند يارد، وأعطِ هذه الورقةَ إلى يول في قِسْم التحقيقات الجنائية. عُدْ ومعك الشرطة؛ فالأمر التالي سيكون القبض على الرجل.»
«سيسرني القيامُ بذلك.»
«ربما يُتاح لي وقتٌ كافٍ بالضبط لمعرفةِ مكانِ الجوهرة قبل أن ترجع.» لمسَ الجرسَ وأردفَ قائلًا: «أعتقد أننا سنخرج من خلال غرفة النوم. هذا المخرج الثاني مفيدٌ للغاية. أُفضِّل أن أرى قِرشي دون أن يراني، ولديَّ، كما تَذْكر، طريقتي الخاصة للقيام بالأمر.»
ومن ثَمَّ أرشدَ بيلي بعد دقيقةٍ الكونت سيلفيوس إلى غرفةٍ خاوية. كان هذا الصيَّاد والرياضي ورجل المجتمع الراقي الشهير شخصًا هائلًا، داكن البشرة، ذا شارب داكن مهيب، يغطِّي فمًا قاسيًا رفيعَ الشفتين، ويعلوه أنفٌ طويلٌ ومعقوفٌ مثل منقار نسر. كان يرتدي ملابسَ أنيقةً، إلا أن ربطة عنقه اللامعة، ودبُّوسه البرَّاق، وخواتمه المتلألئة كانت ذات وقْع مبهرج. ما إن أُغلق الباب خلْفه حتى جال ببصره بعينَين حادتَين ذاهلتَين، كشخصٍ يشتبه في وجودِ فخٍّ في كلِّ رُكن. ثم انتفض انتفاضةً عنيفةً حين رأى الرأسَ الجامدَ وياقةَ الرِّداءِ المنزلي اللذين برزا من فوق المقعد ذي المسندَين لدى النافذة. في البداية بدا عليه سيما الاندهاش التام، ثم التمع في عينيه الداكنتَين الفتاكتَين بصيصُ أملٍ مريع؛ فألقى نظرةً سريعةً أخرى حوْله ليتأكد من عدم وجود شهود، ثم اقترب على أطراف أصابعه من الجسد الساكن، وعصاه السميكة مرفوعة بعض الشيء. وبينما كان يربض متهيئًا لِهَبَّتِه وضرْبتِه الأخيرتَين، بادره صوتٌ باردٌ متهكِّمٌ صادرٌ من باب غرفة النوم المفتوح قائلًا:
«لا تَكسِره يا سيدي الكونت! لا تَكسِره!»
تراجعَ القاتل للخلف، والذهول على وجهه المضطرب، وللحظةٍ رفع عصاه الثقيلة بعض الشيء مرةً أخرى، كما لو كان سيحوِّل عُنفَه من المثال إلى الأصل، لكن ثمَّة شيء في تَينك العينَين الرماديتَين الثابتتَين والابتسامة المتهكمة جعل يده تسقط إلى جانبه.
«إنه شيء بسيط بارع»، قال هولمز وهو يتقدَّم ناحية التمثال. «صَنَعه المثَّال الفرنسي تافيرنير. إنه يجيد صناعةَ تماثيلِ الشمع كما يجيد صديقُك ستروبينزي صناعةَ البنادق الهوائية.»
«بنادقُ هوائية! ماذا تقصد يا سيدي؟»
«ضعْ قبعتك وعصاك على الطاولة الجانبية. شكرًا! تفضلْ بالجلوس. هلَّا تفضلتَ بإخراج مسدسك أيضًا؟ أوه، لا بأس ما دمتَ تفضِّل الجلوسَ عليه. حقًّا لقد جاءت زيارتُك في وقتٍ مناسب جدًّا؛ فقد كنتُ أرغب بشدة في الدردشة معك لبضع دقائق.»
هنا عبس الكونت بحاجبَين كثيفَين متوعِّدَين.
«أنا كذلك أردتُ تبادُلَ بضع كلمات معك يا هولمز. لهذا السبب أنا هنا، ولن أُنكِر أنني كنت أنوي للتوِّ مهاجمتَك.»
أَرْجَحَ هولمز ساقَه ووضعها على حافة الطاولة.
وقال: «أدركتُ نوعًا ما أن في رأسك أفكارًا من هذا النوع. لكن لماذا هذا الاهتمام الشخصي؟»
«لأنك بذلتَ قصارى جهدك لمضايقتي، ولأنك وضعتَ تابعيك في أثري.»
«تابعيَّ! أؤكد لك أنني لم أفعل!»
«هراء! لقد أرسلتُ في إثْرهم مَن يتعقَّبهم. يمكنني أن أردَّ لك صاعًا بصاعٍ، يا هولمز.»
«إنها نقطة قليلة الأهمية يا كونت سيلفيوس، ولكن ربما سيكون من الأفضل لو تكرَّمتَ بأن تُلْحِق لقبًا باسمي عندما تخاطبني. يمكنك أن تتفهَّم أنني، مع نمط عملي، قد أجد نفسي وقد رُفِعَت الكُلْفة بيني وبين نصف المجرمين، ولعلك توافقني الرأي في أن الاستثناءات ظالمة.»
«حسنًا، إذن يا سيد هولمز.»
«رائع! لكن أؤكد لك أنك مخطئ بشأن جواسيسي المزعومِين.»
حينذاك ضحك الكونت سيلفياس باستهزاء.
«ثمَّة أناسٌ آخرون يستطيعون ملاحظةَ الأشياء مثلما تفعل. بالأمس كان ثمَّة رجلٌ رياضيٌّ مُسِنٌّ، واليوم كانت توجد سيدةٌ عجوز، ظلَّا يراقبانني طوال اليوم.»
«حقًّا يا له من إطراء منك يا سيدي! قال البارون الراحل داوسون في الليلة السابقة على شنقه إنَّ المكسبَ الذي تحقَّق للقانون، في حالتي، يعادل الخسارة التي مُنيت بها خشبة المسرح. وها أنت الآن تتكرَّم وتُثني على تقمُّصي المتواضع للشخصيات.»
«كان ذلك أنت؛ بنفسك؟»
هزَّ هولمز مَنْكِبيه، وقال: «يمكنك أن ترى في الزاوية المِظلَّةَ التي ناولتني إياها بمنتهى الذوق في شارع مينوريز قبْل أن يتسرَّب إليك الشك.»
«لو كنتُ أعلم ربما ما كنتَ أنت قد …»
«رأيتُ هذا البيتَ المتواضعَ ثانيةً. كنتُ أدركُ ذلك تمامًا. لدى كلٍّ منَّا فرصٌ ضائعةٌ يتحسَّر عليها. واقع الأمر أنك لم تكن تعلم؛ ومِن ثَمَّ ها نحن أولاء!»
ازداد انعقادُ حاجبَي الكونت الكثيفَين فوق عينيه المتوعدتَين، وقال: «ما تقوله يزيد الطين بِلَّةً ليس إلا؛ فلم يكن أولئك جواسيسَك، وإنما كنتَ أنت أيها الممثِّل الفضولي! أنت تعترف أنك كنتَ تقتفي أثري، فلماذا؟»
«تصرَّفْ بعقلانية أيها الكونت؛ لقد كنتَ تصطاد الأُسود في الجزائر.»
«وماذا في ذلك؟»
«لكن لماذا؟»
«لماذا؟ لأجل التسلية، والإثارة، والمخاطرة!»
«ولأجل تخليص البلد من إحدى الآفات بلا شك.»
«بالضبط!»
«إنها نفس أسبابي باختصار!»
هبَّ الكونت واقفًا، وتحرَّكت يده للخلف لا إراديًّا إلى جيب سرواله الخلفي.
«اجلسْ يا سيدي، اجلسْ! كان لديَّ سببٌ آخَر، سببٌ عمليٌّ أكثر. أريد تلك الماسة الصفراء!»
تراجعَ الكونت سيلفياس في مقعده مبتسمًا ابتسامةً شريرة.
وقال: «عجبًا!»
«كنت تعلم أن ذلك ما اتبعتُكَ لأجله. والسبب الحقيقي لمجيئك الليلة هو أن تكتشفَ مقدار ما أعلم عن الأمر ومدى أهمية التخلُّص مني. حسنًا، دعني أخبرك أنه أمرٌ في غاية الأهمية من وجهة نظرك؛ فأنا أعلم كلَّ ما يتعلَّق بالأمر، ما عدا شيئًا واحدًا، أنت على وشْك أن تخبرني به.»
«يا إلهي، حقًّا! وما هي، رجاءً، هذه المعلومة الناقصة؟»
«المكان الذي توجد فيه ألماسة التاج الآن.»
رمقَ الكونتُ جليسَه بنظرات حادَّة، وقال: «هكذا إذن، ذلك ما تريد معرفته، أليس كذلك؟ وكيف، بحق الشيطان، أستطيع أن أخبرَك بمكانها؟»
«تستطيع، وستفعل.»
«عجبًا!»
«لا يمكنك خداعي يا كونت سيلفيوس.» كانت عينا هولمز، بينما كان يحملق فيه، تنقبضان وتومضان، قبل أن تصيرا ثابتتَين كنقطتين متوعدتين من الفولاذ، ثم استطرد قائلًا: «أنت مجرَّد لوح من الزجاج. إنني أرى ما يدور في أعماق عقلك.»
«إذن، لا بدَّ أنك ترى مكان الماسة!»
صفَّق هولمز بيديه تفكُّهًا، ثم أشار باستهزاء بأصبعه، وقال: «إذن أنت تعرف فعلًا. لقد اعترفتَ بالأمر!»
«لمْ أعترف بشيء.»
«اسمعْ أيها الكونت، إن تحليتَ بالعقل، يمكننا أن نعقد صفقة، وإن لم تفعل، فستتأذَّى.»
رفع الكونت سيلفيوس ناظريه إلى السقف، وقال: «وأنت مَن كنت تقول إنني أحاول خداعك!»
نظر هولمز إليه متفكرًا، مثل لاعب شطرنج بارع يَدرُس خطوته الحاسمة، ثم فَتح درجَ الطاولة بسرعة وأخرج منه دفترَ ملاحظات صغير وسميك.
«هل تعلم ما الذي أحتفظ به في هذا الكتاب؟»
«لا يا سيدي، لا أعلم!»
«أنت!»
«أنا!»
«نعم يا سيدي، أنت! كل شيء متعلِّق بك موجودٌ هنا؛ كل فعلة فعلتَها في حياتك الآثمة والمحفوفة بالمخاطر.»
حينذاك صاح الكونت بعينَين مشتعلتَين غضبًا قائلًا: «عليك اللعنة يا هولمز! ثمَّة حدودٌ لصبري!»
بادره هولمز قائلًا: «كل شيء هنا يا أيها الكونت. الوقائع الحقيقية التي أحاطت بوفاة السيدة هارولد العجوز، التي تركت لك إقطاعية بلايمر، التي سرعان ما بددتَها في المقامرة.»
«لا بدَّ أنك تحلُم!»
«وتاريخ حياة الآنسة ميني واريندير بالكامل.»
«يا للخسارة! لن تجني شيئًا من ذلك!»
«لديَّ المزيد هنا أيها الكونت. ها هي السرقة التي وقعت في القطار الفاخر المتجه إلى الريفييرا في الثالث عشر من فبراير، عام ١٨٩٢. وها هو شيك بنك كريدي ليوني المزوَّر في العام نفسه.»
«لا، أنت مخطئ في ذلك الأمر.»
«إذن، فأنا على حق في الأمور الأخرى! والآن اسمعْ يا كونت، أنت تجيد لعب الورق. حينما يمتلك الشخصُ الآخرُ كلَّ الأوراق الرابحة، فإن طرحك لأوراقك يوفِّر الوقت.»
«ما علاقةُ كلِّ هذا الكلام بالجوهرة التي تحدثت عنها؟»
«على رِسْلك أيها الكونت. فلتكبح جماح ذهنك المندفع! دعني أصِل إلى صُلب الأمور بأسلوبي الممل. إنني أملك ضدك كلَّ هذا، ولكن، الأهم من كل ذلك، أن لديَّ قضيةً واضحةَ المعالم ضدك أنت وتابعك المقاتل المتنمِّر فيما يتعلَّق بماسة التاج.»
«حقًّا!»
«لديَّ حُوذِيُّ عربةِ الأجرةِ الذي أقلَّك إلى شارع وايتهول والحُوذيُّ الذي أقَلَّك منه. لديَّ الحاجبُ الذي رآك بالقرب من الواقعة. لديَّ إيكي ساندرز الذي رفضَ أن يُقَطِّعَها لك. لقد وشى إيكي بك، وانكشفتِ اللعبة.»
برزت العروق في جبهة الكونت، وقبض يديه الداكنتَين المشعرتَين اللتين تشنجتا تحت وطأة انفعال مكبوت، وحاول أن يتكلم، لكن لم تطاوعه الكلمات.
قال هولمز: «هذه هي أوراق اللعب التي أعتمد عليها، أضعُها كلَّها على الطاولة، لكن ثمَّة ورقة ناقصة، ورقة ملك الماس؛ فأنا لا أعلم أين الجوهرة.»
«ولن تعلم أبدًا.»
«حقًّا؟ فلتكن حصيفًا أيها الكونت. أمعِنِ التفكيرَ في الموقف. سوف تُسجَن خمسة وعشرين عامًا. وكذلك سام ميرتون. فما الفائدة التي ستعود عليك من ماسَتِك؟ لا فائدة البتة، لكن إن سلَّمتَها فعندئذٍ سأعقد معك تسويةً ونتغاضى عن الجناية؛ فنحن لا نريدك أنت ولا سام. نريد الجوهرة، فلتسلِّمْها، وفيما يعنيني، بوسعك أن تتمتَّع بحريَّتك ما دمتَ ستُحسن التصرُّف مستقبلًا. أمَّا إن زللتَ مرة أخرى فعندئذٍ ستكون تلك المرَّةَ الأخيرة. لكن المهمة المسندة إليَّ هذه المرة هي جلب الجوهرة وليس جلبك أنت.»
«ولكن ماذا لو رفضتُ؟»
«ما بالك! وا أسفاه! في هذه الحالة، سأضطر لتسليمك أنت، وليس الجوهرة.»
كان بيلي قد حضر استجابةً لجرس.
«أعتقد، أيها الكونت، أنه يجدُر أن يحضرَ صديقُك سام هذه المباحثة؛ فلا بدَّ، على الرغم من كل شيء، لمصالحه أن تُمَثَّل. سترى يا بيلي سيدًا ضخمَ الجثة وقبيحَ المنظر واقفًا خارج الباب الأمامي، فلتطلبْ منه الصعود.»
«ماذا إن رفض المجيء يا سيدي؟»
«من دون عنفٍ يا بيلي. لا تعاملْه بخشونة. إن أخبرتَه أنَّ الكونت سيلفيوس يريده فسيأتي بالتأكيد.»
عندما غاب بيلي عن أنظارهما، تساءل الكونت قائلًا: «ماذا ستفعل الآن؟»
أجابه هولمز: «كان صديقي واطسون معي للتو. قلتُ له إنَّ لديَّ سمكةَ قرش وسمكةَ بربوط في شبكتي؛ وأنا الآن آخذٌ في سحب الشبكة وستبرزان إلى السطح معًا.»
كان الكونت قد نهض من مقعده، ويده خلف ظهره، أمسك هولمز شيئًا ما برزَ نصفُه من جيب ردائه المنزلي.
«لن تموت بسلام وأنت نائم في فراشك يا هولمز.»
«طالما راودتني الفكرةُ نفسُها. هل يُهِم ذلك كثيرًا؟ على أي حال يا أيها الكونت، الأرجحُ أنك ستخرج على قدميك لا مستلقيًا على ظهرك. لكن هذه التنبؤات المستقبلية مروعة. فلمَ لا نُطلِق العِنان لأنفسنا لنستمتع بالحاضر بلا قيود؟»
لاح فجأةً وهجٌ في عينَي المجرم المحترف الداكنتَين المخيفتَين كأنه لحيوانٍ بري. وبدا كأنَّ قامة هولمز ازدادت طولًا مع ازدياده توترًا وتأهبًا.
قال هولمز بصوتٍ هادئ: «لا جدوَى من تحسُّسك لمسدسك يا صديقي؛ فأنت تعلم تمامَ العلم أنك لا تجرؤ على استخدامه، حتى لو أعطيتك الوقتَ لتُشهِره. يا لها من أشياء رديئة، صاخبة، تلك المسدسات، أيها الكونت! الأفضل أن تلزم البنادق الهوائية. حسنًا! أعتقد أنني أسمع وقعَ الأقدام الرقيق لشريكك المبجل. طاب يومك يا سيد ميرتون. الأجواء مملة نوعًا ما في الشارع، أليس كذلك؟»
وقف الملاكم المحترف، الذي كان شابًّا ضخمَ البنية، له وجه غبي، عنيد، مسطَّح الجانبين، عند الباب مرتبكًا وهو يجول ببصره فيما أمامه وقد اكتسى وجهُه بالحيرة. كانت طريقة هولمز الدمثة تجربةً جديدة عليه، ورغم أنه شعر على نحوٍ مبهم بأنها طريقة تنطوي على عدائية، لم يعرف كيف يجابهها، والتفت إلى صديقه الأكثر فطنة ملتمسًا العون.
كان صوته خفيضًا وأجشَّ عندما قال: «ماذا يجري الآن، أيها الكونت؟ ماذا يريد هذا الرجل؟ ما الأمر؟»
هزَّ الكونت مَنكِبيه، وكان هولمز هو مَن أجاب.
وقال: «إن جاز لي أن أصوغَ الأمرَ باختصار يا سيد ميرتون، فسأقول إن كلَّ شيء قد انكشف.»
استمرَّ الملاكم في التوجُّه بملاحظاته إلى شريكه.
وقال: «هل هذا الرجل يحاول أن يكون مضحكًا، أم ماذا؟ ليس لديَّ مزاج للمزاح.»
قال هولمز: «لا، أتوقَّع ألا تكون ذلك. أظن أنني أستطيع أن أعدَك بأن شعورك بالمرح لن يلبث أن يتضاءل أكثر مع قدوم المساء. والآن، أصغِ إليَّ يا كونت سيلفيوس. أنا رجلٌ مشغول ولا أملك إهدار الوقت. سأدلف إلى حجرة النوم تلك، وأرجو أن تعتبرا نفسيكما في بيتكما تمامًا في غيابي. يمكنك أن توضِّح لصديقك الوضعَ الذي عليه الأمر دون قيدِ وجودي. سأتدرب على عزف أنشودة البحَّارة من أوبرا هوفمان على كماني، وسأعود بعد خمس دقائق لأحصل على ردِّك النهائي. أنت تفهم تمامًا البديل، ألست كذلك؟ هل سنقبض عليكما، أم سنحصل على الجوهرة؟»
انسحب هولمز، ملتقطًا كمانَه من الزاوية أثناء مروره. وبعد بضع لحظات تصاعدت خافتةً كالأنينِ النغماتُ الممتدةُ لذلك اللحن الآسر للغاية من خلال باب حجرة النوم المُوصَد.
سأل ميرتون رفيقَه بقلقٍ حين التفتَ إليه: «ما الأمر إذن؟ هل يعلم بأمر الجوهرة؟»
فأجابه قائلًا: «إنه يعلم عنها قدْرًا كبيرًا أكثرَ مما ينبغي. لستُ على يقينٍ من أنه لا يحيط علمًا بكل شيء عنها.»
صاح الملاكم، وقد استحال وجهه الشاحب أكثرَ امتقاعًا: «يا للهول!»
«لقد وشى بنا إيكي ساندرز.»
«لقد فعلها، أليس كذلك؟ لأوسعنَّه ضربًا من أجل ذلك حتى لو أدَّى الأمر إلى شنقي.»
«لن يفيدنا ذلك كثيرًا. يجب أن نحسمَ أمرنا بشأن ما سنفعله.»
قال الملاكم وهو ينظر بارتياب إلى باب حجرة النوم: «انتظر لحظة. إنه رجلٌ ماكرٌ يريد مراقبتنا. أحسَبُه لا يسمعنا، أليس كذلك؟»
«كيف له أن يسمعنا وتلك الموسيقى تُعزَف؟»
«هذا صحيح. ربما يوجد شخصٌ ما خلف إحدى الستائر. هناك الكثير من الستائر في هذه الغرفة.» وبينما كان ينظر فيما حوله رأى فجأةً المجسمَ في النافذة لأول مرة، ووقف يحملق فيه ويشير إليه، وقد ضاعت منه الكلمات لفرط ذهوله.
قال الكونت: «أُفٍّ! ما هذا إلا مجسَّم.»
«تقليد، أهو كذلك؟ حسنًا يا للدهشة! لا قِبَل لمدام توسو بمثله. إنه يبدو نسخةً حيةً منه، بردائه وكل متعلقاته. لكن تلك الستائر، أيها الكونت!»
«أُفٍّ، اللعنة على الستائر! إننا نضيع وقتنا، وليس لدينا وقت أكثر من اللازم لنضيعه. إنه يستطيع أن يزجَّ بنا في السجن بسبب هذه الجوهرة.»
«يستطيع وحقِّ الشيطان!»
«لكنه سيتركنا نفلت إن أخبرناه بمكان الجوهرة المنهوبة.»
«ماذا! نتنازل عنها؟ نتنازل عن مائة ألف جنيه؟»
«إمَّا هذا الخيار أو الخيار الآخر.»
حكَّ ميرتون رأسه القصير الشعر.
ثم قال: «إنه بمفرده بالداخل، فلنقضِ عليه. لن يكون لدينا ما نخشاه إذا انطفأ بريقُ الحياة في عينيه.»
هزَّ الكونت رأسه.
«إنه مسلَّح ومتأهب. وإن أطلقنا عليه النار فلن نستطيع الهربَ في مكانٍ كهذا، إلى جانب أنه من المرجَّح أن الشرطة على علمٍ بكلِّ ما لديه من أدلة. مهلًا! ما هذا؟»
كان ثمَّة صوتٌ غامضٌ بدا أنه يأتي من النافذة، فهبَّ الرجلان متلفتَين، لكنَّ الصمت كان يلف المكان؛ فما عدا الجسم الغريب الجالس في المقعد، كانت الغرفة خاليةً من دون شك.
قال ميرتون: «شيءٌ ما في الشارع. اسمعني الآن يا زعيم، أنت صاحب العقل الراجح. ولا شك في أنك تستطيع أن تفكِّر في مخرج. وما دام ليس للضرب فائدة، إذن فالقرار قرارك.»
أجابه الكونت قائلًا: «لقد خدعتُ رجالًا أفضلَ منه.»
وأردف بقوله: «الجوهرة معي هنا في جيبي السري؛ فلن أجازف بترْكها في الجوار. من الممكن أن تُغادر إنجلترا الليلة وتُقطَّع إلى أربعِ قطعٍ في أمستردام قبل يوم الأحد. إنه لا يعرف شيئًا عن فان سيدار.»
«ظننتُ أن فان سيدار سوف يذهب الأسبوع القادم.»
«كان سيفعل. لكن الآن يجب أن يفرَّ على المركب القادم. يجب أن يتسلل أحدنا ومعه الجوهرة إلى شارع لايم ويخبره.»
«لكن القاع السري للحقيبة ليس جاهزًا.»
«حسنًا، يجب أن يأخذها كما هي ويجازف. لا نملك إضاعة لحظة واحدة.» مجددًا، بحس الخطر الذي يصير غريزيًّا لدى مَن يمارسون الصيد، توقَّف وأمعن النظر إلى النافذة. نعم، من المؤكد أن ذلك الصوت الخافت قد أتى من الشارع.
استطرد قائلًا: «أما هولمز فنستطيع خداعه بسهولة كافية. اسمع، ذلك الأحمق اللعين لن يقبض علينا إذا ما استطاع الحصول على الجوهرة. حسنًا، سنمنِّيه بالجوهرة. سنضلله بشأنها، وقبل أن يكتشف أنه قد ضُلِّل ستكون في هولندا ونكون نحن قد غادرنا البلد.»
قال سام ميرتون بابتسامة عريضة: «يروق لي ذلك!»
«امضِ واطلبْ من الرجل الهولندي أن يُعجِّل بالمضي قُدمًا. أما أنا فسأجلس مع هذا المغفل وأحشو رأسَه باعترافٍ زائف؛ سأخبره أن الجوهرة في ليفربول. سحقًا لتلك الموسيقى التي تشبه العويل، إنها تثير أعصابي! حين يكتشف أنها ليست في ليفربول ستكون قُطِّعَت إلى أربعة أرباع ونكون نحن في عُرْض البحر. تعالَ إلى هنا، بعيدًا عن مرمى الناظر من ثقب المفتاح. ها هي الجوهرة.»
«أعجبُ كيف واتَتْك الجرأة على حملها معك.»
«أين كان بإمكاني أن أجد مكانًا آمنَ من هذا؟ ما دمنا استطعنا أن نخرجها من وايتهول، فبإمكان شخصٍ آخَر أن يُخرجها من مسكني بالتأكيد.»
«فَلْنُلقِ نظرةً عليها.»
حدج الكونت سيلفيوس شريكه بنظرةٍ غيرِ محبَّبةٍ نوعًا ما، وتجاهل اليدَ المتسخة التي كانت ممدودة نحوه.
«ماذا! أتعتقد أني سأنتزعها منك؟ اسمع يا سيد، لقد بدأتُ أسأم بعض الشيء من أساليبك.»
«حسنًا، حسنًا، لا أقصد إهانتك يا سام. ليس لدينا متَّسع من الوقت للشجار. تعالَ إلى النافذة إن كنتَ تريد أن ترى ذلك الجمال على النحو الصحيح. والآن ارفعها إلى الضوء! هكذا!»
«أشكرك!»
بوثبةٍ واحدة كان هولمز قد قفز من مقعد الدمية وأمسك بالجوهرة الثمينة. كان حينئذٍ يمسكها بإحدى يديه، بينما يصوِّب بالأخرى مسدسًا إلى رأس الكونت. تراجع الرجلان الشريران مترنحَين في ذهول تام. وقبل أن يثوبا من ذهولهما كان هولمز قد ضغط على الجرس الكهربائي.
«من دون عنف يا سادة، من دون عنف، أرجوكما! انتبها إلى الأثاث! لا بدَّ أن يكون واضحًا لكما للغاية أن موقفكما مَيْئوسٌ منه؛ فالشرطة تنتظر بالأسفل.»
تغلَّب ارتباك الكونت على غضبه وخوْفه.
وأخذ يلهث قائلًا: «لكن كيف بحق الشيطان …؟»
«دهشتُك أمرٌ طبيعي جدًّا؛ فأنت لا تدرك أن ثمَّة بابًا ثانيًا يؤدي من غرفة نومي إلى خلف تلك السِّتارة. اعتقدتُ أنك لا بدَّ أن تكون قد سمعتني عندما نقلتُ المجسَّم، لكن الحظ حالفني؛ منحني هذا الفرصةَ لأستمع إلى حديثكما المشوق، الذي كان سيصير مقيدًا للغاية لو كنتما أدركتما وجودي.»
ظهرت على الكونت أماراتُ الاستسلام.
«نعترف بتفوُّقك يا هولمز. أعتقد أنك الشيطان ذاتُه.»
أجابه هولمز بابتسامةٍ مهذبة: «لا أختلف جدًّا عنه بأي حال.»
لم يُقَدِّر ذكاءُ سام ميرتون البطيءُ الموقفَ إلا تدريجيًّا. وأخيرًا خرج عن صمته الآن حين أتى صوتُ وقع أقدام ثقيلة على الدَّرَج بالخارج.
قال: «أعترف بجُرْمي! لكن ماذا عن ذلك الكمان اللعين! فما زلتُ أسمعه.»
أجابه هولمز بقوله: «عجبًا! أنت محقٌّ تمامًا. دَعْه يعزف! أجهزة الجرامافون الحديثة هذه اختراعٌ رائع.»
توافَدَ رجالُ الشرطة، وطقطقت الأصفاد، واقتيد المجرمان إلى العربة المنتظرة. بقي واطسون مع هولمز، مهنئًا إياه على هذا الإنجاز الجديد الذي أُضيفَ إلى أمجاده. مرةً أخرى قاطع بيلي الرابطُ الجأشِ حوارَهما حاملًا صينية بطاقاته.
«اللورد كانتلمير يا سيدي.»
أجابه هولمز: «اصعدْ به يا بيلي. إنه النبيلُ الأغرُّ الذي يمثِّل المصالح العليا. إنه شخصٌ عظيم ومخلص، لكنه ينتمي بالأحرى إلى النظام القديم؛ فهل نستطيع جعله أقلَّ تشدُّدًا؟ هل نجرؤ على المخاطرة برفعِ الكلفة قليلًا؟ يمكننا أن نخمِّن أنه لا يعلم شيئًا عمَّا حدث.»
انفتح البابُ ليدخل منه شخصٌ نحيفٌ متجهِّم، ذو وجهٍ رفيعٍ حادِّ الملامح وسوالفَ متدليةٍ على النمط السائد في أواسط العصر الفيكتوري، لها لونٌ أسودُ لامع لم تنسجم مع الكتفين الدائريَّتين والمِشيةِ الواهنة. تقدَّم هولمز نحوه بلطف، وصافحَ يدَه غيرَ المستجيبة.
«كيف حالك أيها اللورد كانتلمير؟ الجو بارد مُقارَنةً بهذا الوقت من العام، لكنه دافئ نوعًا ما بالداخل. هل تسمح لي بأخذ مِعْطفك؟»
«لا، أشكرك، لن أخلعه.»
أمسك هولمز بإصرارٍ بالكُم.
«أرجوك اسمحْ لي! من شأن صديقي الدكتور واطسون أن يؤكِّد لك أن هذه التغيُّرات في الحرارة خدَّاعةٌ للغاية.»
انتفض سيادة اللورد محرِّرًا نفسَه وقد اعتراه بعض نفاد الصبر.
«إنني مستريح تمامًا يا سيدي. لستُ بحاجة للبقاء، إنما جئت في زيارة قصيرة للاطلاع على تطورات المهمَّة التي كلَّفتَ نفسَك بها.»
«إنها صعبة، صعبة للغاية.»
«كان لديَّ تخوُّف من أنك ستجدها هكذا.»
كان ثمَّة استهزاءٌ جليٌّ في كلماتِ رجلِ الحاشية العجوز وأسلوبه.
«لكل رجل حدود يا سيد هولمز، لكن على الأقل هذا ما يشفينا من نقيصة الاعتداد بالنفس.»
«أجل يا سيدي؛ فأنا في حيرة كبيرة.»
«بلا ريب.»
«وخصوصًا فيما يتعلَّق بنقطة واحدة. لعلك تستطيع مساعدتي بشأنها؟»
«إنك تطلب نصيحتي في مرحلة متأخرة جدًّا. كنت أظن أن لديك وسائلَ وافيةً تمامًا. ومع ذلك، أنا مستعِدٌّ لمعاونتك.»
«في الواقع أيها اللورد كانتلمير نستطيع، دون شك، تلفيقَ قضيةٍ ضد اللصوص الفعليِّين.»
«بعد أن تكون قد قبضتَ عليهم.»
«بالضبط، لكن السؤال هو كيف سنُقاضي متلقِّي الجوهرة المسروقة؟»
«أليس هذا استباقًا للأحداث بعض الشيء؟»
«من الأفضل أن نستعِدَّ بخططنا. أخبرني إذن، ما الذي من شأنك أن تعتبره دليلًا قطعيًّا ضد متلقي الجوهرة المسروقة؟»
«الحيازة الفعلية للجوهرة.»
«وهل ستلقي القبض عليه بناءً على ذلك؟»
«دونَ أدنى شك.»
لم يكن هولمز يضحك إلا فيما ندُر، لكن يتذكر صديقه القديم واطسون أنه كاد يضحك حينذاك.
«في تلك الحالة يا سيدي العزيز، سأكون مُجبَرًا بكل ألمٍ على أن أوصي بالقبض عليك.»
استشاط اللورد كانتلمير غضبًا، وتدفَّق بعض من دمائه ليُشعل وجنتيه الشاحبتَين.
«إنك تبالغ في تخطِّي الحدود يا سيد هولمز. لا أتذكَّر أنني مررتُ بموقفٍ كهذا خلال خمسين عامًا من الحياة الرسمية. إنني رجل مشغول يا سيدي، ومنهمك في شئونٍ هامة، وليس لديَّ وقتٌ أو ولع بالمزحات السخيفة. دعني أُخبرك بصراحة يا سيدي، أنني لم أُومن بقدراتك قَطُّ، وطالما اعتقدت أن الأمر كان سيصير أكثر أمانًا بين يدي قوات الشرطة النظامية. سلوكُك يؤكِّد كلَّ استنتاجاتي. يشرفني يا سيدي أن أتمنَّى لك مساءً طيبًا.»
كان هولمز قد غيَّرَ موقعه سريعًا ووقف بين السيد النبيل والباب.
وقال: «لحظة واحدة يا سيدي، إن انصرافك وبحوزتك جوهرة مازارين من شأنه أن يكون جريمةً أخطرَ من ضبطها في حوزتك بشكل مؤقت.»
«سيدي، هذا سلوك غير مقبول! دعني أَمُر.»
«ضع يدك في جيب معطفك الأيمن.»
«ماذا تقصد يا سيدي؟»
«هيا، هيا، نفِّذ ما طلبتُه منك.»
بعد هنيهة وقف السيد النبيل مذهولًا، عيناه تطرفان متلعثمًا، حاملًا الجوهرة الصفراء الضخمة في كفِّه المرتجفة.
«مهلًا! مهلًا! كيف حدث هذا يا سيد هولمز؟»
صاح هولمز قائلًا: «يا للأسف الشديد أيها اللورد كانتلمير! يا للأسف الشديد! سيخبرك صديقي العجوز هذا أن من عاداتي الشيطانية تدبيرَ المقالب. كما أنني لا أستطيع أبدًا مقاومة المواقف الدرامية؛ لذا فقد تجاسرتُ — بل أعترف أنني تجاسرتُ بشدَّة — ووضعتُ الجوهرة في جيبك في بداية لقائنا.»
انتقلت عينا السيد النبيل من التحديق في الجوهرة إلى الوجه المبتسِم قبالته.
«أنا في حيرة من أمري يا سيدي. لكن … نعم … إنها حقًّا جوهرة مازارين. إننا مدينون لك بالكثير يا سيد هولمز. ربما تكون لديك روحُ دعابة شاذَّة، كما تُقِرُّ، وتخرج منك في أوقاتٍ غيرِ مناسبة مطلقًا، لكنني رغم ذلك أسحب أيَّ ملاحظةٍ أبديتُها عن قدراتك المهنية المذهلة. لكن كيف …»
«إنما انتهينا من نصف القضية؛ يمكن تأجيلُ أمرِ الحديث عن التفاصيل. لا شكَّ أيها اللورد كانتلمير أن سعادتك بإبلاغ الدائرة الرفيعة التي ستعود إليها بهذه النتيجة الموفَّقة ستكون تكفيرًا متواضِعًا عن هذا المقلب. بيلي، اصطحبْ سيادة اللورد إلى الخارج، وأبلغِ السيدة هدسون أنني سأكون مسرورًا إنْ تفضَّلَتْ بإرسال عشاءٍ لشخصين بالطابق العلوي في أسرع وقتٍ ممكن.»