أَلْفُ الدِّينَارِ
(١) فِي بِلَادِ الْغُرْبَةِ
لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مُفَاجَأَةٌ عَجِيبَةٌ أَنْ يُوجَدَ الْإِنْسَانُ فِي مَجْلِسٍ مِنَ الْغُرَبَاءِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ، فَلَا يَكَادُ يَجْلِسُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَرَاهُمْ مَشْغُولِينَ بِالْحَدِيثِ عَنْهُ، وَقَدْ ظَهَرَتْ عَلَى وُجُوهِهِمْ عَلاَمَاتُ السُّرُورِ وَالاِرْتِيَاحِ. هَكَذَا شَعَرْتُ حِينَ دَخَلْتُ الْفُنْدُقَ الْكَبِيرَ، بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ، فِي مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَكُنْ رَأَيْتُهَا قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ. والْفُنْدُقُ أَوَّلُ مَا يَهْتَمُّ بِهِ الْغَرِيبُ، فَهُوَ خَانٌ مُعَدٌّ لِنُزُولِ الْغُرَبَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ. وَلَقَدْ كَانَ السَّفَرُ — وَلَا يَزَالُ — مِنْ أَحَبِّ الْأَشْيَاءِ إِلَى نَفْسِي. وَقَدِ اسْتَفَدْتُ مِنْهُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً جِدًّا، وَعَرَفْتُ مَا لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُهُ مِنْ لَطائِفِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُمَثِّلُ أَخْلَاقَ النَّاسِ وَطَبَائِعَهُمْ.
(٢) حَدِيثُ التُّجَّارِ
كَانَتْ هذِهِ الرِّحْلَةُ السَّعِيدَةُ مِنْ أَعْجَبِ الرِّحْلَاتِ الَّتِي مَرَّتْ بِي فِي حَيَاتِي. وَلَمْ أَكَدْ أَحُلُّ بِالْفُنْدُقِ حَتَّى رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ التُّجَّارِ يَتَحَدَّثُونَ، فَبَدَأْتُهُمْ بِالسَّلَامِ، فَرَدُّوا عَلَيَّ أَحْسَنَ رَدٍّ، وَرَحَّبُوا بِي أَكْرَمَ تَرْحِيبٍ.
ثُمَّ عَادُوا يَتَحَدَّثُونَ كَمَا كَانُوا قَبْلَ حُضُورِي. وَكَانَتْ دَهْشَتِي عَظِيمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ عَنِّي.
(٣) الْفُضُولِيُّ
وَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ حَدِيِثِهِمْ قَوْلُ أَحَدِهِمْ: «إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ ما عَرَفْتُهُ مِنْ لَطَائِفِ صَاحِبِكُمْ: «أَبِي الْغُصْنِ جُحَا» قِصَّتَهُ مَعَ جَارِهِ «إِبْرَاهِيمَ الْمُوَسْوِسِ». وَكَانَ هَذَا الْجَارُ — إِذَا صَحَّ مَا قِيلَ عَنْهُ — رَجُلًا يَجْمَعُ بَيْنَ الْغَبَاوَةِ وَالتَّلَصُّصِ. وَقَدْ عُرِفَ — بَيْنَ أَصْحَابِهِ — بِالْغَفْلَةِ وَالْفُضُولِ وَالاِنْدِفَاعِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، بِلَا تَعَقُّلٍ، وَلَا رَوِيَّةٍ، وَلا تَدَبُّرٍ. وَكَانَ جِيرَانُهُ وَأَصْحَابُهُ يُبْغِضُونَهُ أَشَدَّ الْبُغْضِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ مِنَ التَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَتْرُكُ الْإِسَاءَةَ إِلَيْهِمْ، وَاحِدًا بَعْدَ الْآخَرِ. وَكَثِيرًا مَا أَبْصَرَهُ «جُحَا» يُطِلُّ عَلَيْهِ مِنْ نَافِذَةٍ صَغِيرَةٍ بِالْقُرْبِ مِنْ سَطْحِ غرْفَتِهِ، لِيَتَعَرَّفَ أَخْبَارَهُ، مَسَاءً، وَظُهْرًا، وَقُبَيْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
(٤) حِيلَةُ «جُحَا»
فَعَزَمَ «جُحَا» عَلَى أَنْ يُعَاقِبَهُ عِقَابًا لَا يَنْسَاهُ، مَدَى الْحَيَاةِ. وَرَآهُ «جُحَا» ذَاتَ يَوْمٍ — فِي الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ — يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِ. فَتَظَاهَرَ بِأَنَّهُ لَمْ يَرَ شَيْئًا وَلَمْ يَفْطُنْ إِلَى أَحَدٍ. وَراحَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ وَهُوَ يَدْعُو اللهَ أَنْ يَمْنَحَهُ أَلْفَ دِينارٍ كامِلَةً، لا تَنْقُصُ شَيْئًا وَلَا تَزِيدُ شَيْئًا. فَإِذَا نَقَصَتْ، وَلَوْ دِينَارًا وَاحِدًا، أَوْ زَادَتْ دِينَارًا وَاحِدًا، فَلَنْ يَمَسَّها، وَلَنْ يَقْبَلَهَا أَبَدًا. وَظَلَّ «أَبُو الْغُصْنِ» يُرَدِّدُ هَذَا الدُّعَاءَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ مِنْ كُلِّ صَبَاحٍ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ جَارُهُ وَهُوَ يَتَجَسَّسُ عَلَيْهِ، حَتَّى جَازَتْ حِيلَتُهُ عَلَى هَذَا الْفُضُولِيِّ الْأَبْلَهِ.
(٥) دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ
وَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ دَفَعَهُ فُضُولُهُ وَغَبَاوَتُهُ إِلَى اخْتِبَارِ «جُحَا» وَتَجْرِبَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ صِدْقَ ما يَقُولُ فِي دُعائِهِ إِلَى اللهِ. وَلَمْ يَتَرَدَّدْ جَارُهُ فِي أَنْ يُلْقِي إِلَيْهِ مِنْ نَافِذَةِ حُجْرَتِهِ كِيسًا، فِيهِ تِسْعُمِئَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ دِينارًا. وَأَطَلَّ عَلَيْهِ الْجارُ مُتَجَسِّسًا مُتَلَصِّصًا لِيَرَى مَا يَصْنَعُ. فَمَاذَا رَأَى؟ رَأَى «جُحَا» يَبْتَهِجُ لِرُؤْيَةِ الدَّنَانِيرِ، وَيَهَشُّ لَهَا فَرْحَانَ مَسْرُورًا، ثُمَّ يَعُدُّهَا دِينَارًا بَعْدَ دِينَارٍ. فَإِذَا انْتَهَى مِنْ عَدِّهَا، حَمِدَ اللهَ عَلَى تَحْقِيقِ رَجائِهِ، واسْتِجَابَةِ دُعَائِهِ، ثُمَّ قَالَ «تَبَارَكْتَ يَا رَبَّ السَّمَاءِ، مَا أَعْظَمَ فَضْلَكَ وَأَكْثَرَ مِنَنَكَ عَلَى عَبْدِكَ «جُحَا» الشَّاكِرِ لِنَعْمَائِكَ. لَقَدْ نَوَّلْتَنِي مَا طَلَبْتُ، وَأَظْفَرْتَنِي بِمَا أُرِيدُ. وَما أَظُنُّ الدِّينَارَ الْباقِي إِلَّا آتِيًا بَعْدَ قَلِيلٍ».
وَلَمْ يَكَدْ «أَبُو الْغُصْنِ» يُتِمُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَتَّى أَسْرَعَ إِلَى غُرْفَةٍ أُخْرَى، لِيَخْبَأَ فِيهَا مَا ظَفِرَ بِهِ مِنَ الْمَالِ.
(٦) فَزَعُ «الْمُوَسْوِسِ»
وَلَمْ يَكَدْ جَارُهُ يَرَى هَذَا حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْفَزَعُ. وَتَمَلَّكَهُ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ مِنَ الضَّيَاعِ. فَأَسْرَعَ إِلَى «جُحَا» يُطَالِبُهُ بِرَدِّ دَنَانِيرِهِ إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ حَدَّثَهُ بِقِصَّتِهِ كُلِّهَا. وأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى شَيْءٍ سِوَى مُدَاعَبَتِهِ (أَيْ: مُمَازَحَتِهِ). وَاشْتَدَّتْ بَيْنَهُمَا الْمُنَاقَشَةُ عَلَى غَيْرِ طَائِلٍ، أَعْنِي: بِلَا فَائِدَةٍ.
فَأَمْسَكَ «الْمُوَسْوِسُ» بِصَاحِبِهِ وَأَصَرَّا عَلَى أَنْ يَذْهَبا مَعًا إِلَى قاضِي الْمَدِينَةِ، لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَيَقْضِيَ فِي أَمْرِهِمَا.
(٧) بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي
فَقالَ «جُحَا»: «وَلكِنَّ دَارَ الْقَاضِي بَعِيدَةٌ، وَبَرْدَ الشِّتَاءِ قَارِسٌ شَدِيدٌ لَا يُحْتَمَلُ، وَلَيْسَ عِنْدِي ثِيَابٌ أَلْبَسُهَا، وَلَا حِمارٌ أَرْكَبُهُ. وَأَنَا شَيْخٌ عَاجِزٌ عَنِ الْمَشْيِ لِشَيْخُوخَتِي وَكِبَرِ سِنِّي. فَهَوَّنَ عَلَيْهِ جَارُهُ، وَجَاءَهُ بِفَرْوَةٍ ثَمِينَةٍ لِيَلْبَسَهَا، وَبَغْلَةٍ قَوِيَّةٍ لِيَرْكَبَهَا. وَذَهَبَ «جُحَا» إِلَى دَارِ الْقَاضِي كَاسِيًا رَاكِبًا، وَمَعَهُ جَارُهُ رَاجِلًا (أَيْ: مَاشِيًا عَلَى رِجْلَيْهِ). فَلَمَّا وَقَفَا بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي، قَالَ «جُحَا»: «لَقَدْ طَلَبْتُ مِنَ اللهِ مَالًا فَأَعْطَانِي مَا طَلَبْتُ. وَقَدْ حَسَدَنِي هَذَا الْفُضُولِيُّ عَلَى مَا ظَفِرْتُ بِهِ مِنَ الْمَالِ، فَجَاءَنِي يَزْعُمُ (أَيْ: يَدَّعِي) أَنَّهُ صَاحِبُ الْمَالِ. وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْبُخْلِ بَيْنَ النّاسِ جَمِيعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ رَأَى فَقِيرًا يَكَادُ يَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ لَمَا أَعَانَهُ بِكِسْرَةٍ مِنَ الْخُبْزِ. فَكَيْفَ يَجُوزُ — فِي ذِهْنِ عَاقِلٍ — أَنْ يَمْنَحَنِي (أَيْ: يُعْطِيَنِي) هَذِهِ الثَّرْوَةَ الطَّائِلَةَ، وَهُوَ عَلَى مَا عَرَفْنَا مِنَ الْبُخْلِ والْحِرْصِ عَلَى الْمَالِ؟ إِنَّ هَذَا الْمُدَّعِيَ الْجَرِيءَ لَا يَسْتَحِي مِنْ شَيْءٍ. وَرُبَّمَا ادَّعَى أَيْضًا أَنَّ بَغْلَتِي — الَّتِي حَمَلَتْنِي إِلَى دَارِ الْقَضَاءِ — مِلْكٌ لَهُ».
وَلَمْ يَكَدِ «المُوَسْوِسُ» يَسْمَعُ ذَلِكَ حَتَّى تَمَلَّكَهُ الْعَجَبُ والدَّهَشُ. وَخَافَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ «جُحَا» عَلَى بَغْلَتِهِ، بَعْدَ أَنِ اسْتَوْلَى عَلَى دَنَانِيرِهِ. فَصَاحَ فِيهِ مُتَعَجِّبًا: «وَهَلْ فِي ذَلِكَ شَكٌّ يَا جُحَا؟ أَلَمْ تَسْتَلِفْ مِنِّي بَغْلَتِي — لِتَحْمِلَكَ إِلَى دَارِ الْقَضَاءِ — بَعْدَ أَنْ شَكَوْتَ إِلَيَّ عَجْزَكَ عَنِ الْمَشْيِ، لِشَيْخُوخَتِكَ وَكِبَرِ سِنِّكَ؟».
فَضَرَبَ «جُحَا» كَفًّا بِكَفٍّ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْقَاضِي مُسْتَغْرِبًا، أَعْنِي مُسْتَغْرِقًا فِي الضَّحِكِ، وَقَالَ مُتَعَجِّبًا: «إِنَّ دَعْوَى هَذَا الرَّجُلِ لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ. وَإِنِّي لَا آمَنُ عَلَى شَيْءٍ أَمْلِكُهُ بَعْدَ الْيَوْمِ. وَلَوْ فُتِحَ لَهُ بَابُ الِادِّعَاءِ، لَقالَ: إِنَّ كُلَّ مَا أَمْلِكُهُ إِنَّمَا هُوَ لَهُ وَحْدَهُ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ! وَلَسْتُ أَدْرِي لِمَاذَا لَا يَدَّعِي أَنَّ هَذِهِ الْفَرْوَةَ الثَّمِينَةَ الَّتِي أَرْتَدِيهَا (أَيْ: أَلْبَسُهَا) مِلْكٌ لَهُ أَيْضًا، كَمَا ادَّعَى — أَمَامَكَ الْآنَ — أَنَّ الْبَغْلَةَ الَّتِي جَاءَت بِي إِلَيْكَ، وَالْمَالَ الَّذِي حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثِهِ، مِلْكٌ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ؟».
فَاشْتَدَّتْ حَيْرَةُ الْجَارِ، وَصَرَخَ مُتَأَلِّمًا: «وَهَلْ تُنْكِرُ أَنَّ هذِهِ الْفَرْوَةَ الثَّمِينَةَ لِي، وأَنَّكَ اسْتَلَفْتَهَا مِنِّي؟»
(٨) حُكْمُ الْقَاضِي
وَهُنَا غَضِبَ الْقَاضِي مِنْ جُرْأَةِ «الْمُوَسْوِسِ» وَضَاقَ صَدْرُهُ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الدَّعَاوَى الْجَرِيئَةِ الَّتِي لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ.
وَتَبَيَّنَ لِلْقَاضِي سُوءُ نِيَّتِهِ، وَتَحَامُلُهُ عَلَى «جُحَا»، وَرَغْبَتُهُ فِي سَلْبِ مَالِهِ وَبَغْلَتِهِ وَفَرْوَتِهِ. فَوَبَّخَهُ الْقَاضِي، وَرَفَضَ تَصْدِيقَ مَقَالِهِ. وَقَضَى بِبُطْلَانِ زَعْمِهِ وَرَفْضِ دَعْوَاهُ.
(٩) دَرْسٌ لَا يُنسَى
وَفِي الْيَوْمِ التَّالِى ذَهَبَ «جُحَا» إِلَى جَارِهِ، وَرَدَّ إِلَيْهِ دَنانِيرَهُ وَبَغْلَتَهُ وَفَرْوَتَهُ، بَعْدَ أَنْ عاهَدَهُ جارُهُ عَلَى أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ إِيذَاءِ النَّاسِ، وَيَتْرُكَ التَّجَسُّسَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَدْخُلَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ.
وَلَمْ يَنْسَ «الْمُوَسْوِسُ» هَذَا الدَّرْسَ الْبَلِيغَ طُولَ عُمْرِهِ. وَأَصْبَحَ مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الْكَرَمِ وَالْبِرِّ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَصَارَ مُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ، مِنْ أَصْدِقَاءِ «جُحَا» الْمُخْلِصِينَ.