«مقدمة»

القضية التي يطرحها هذا البحث للدراسة، تتلخص في محاولةٍ الإجابة عن هذه الأسئلة: هل كان أفلاطون حقًّا نصيرًا للمرأة؟ هل كان أولَ فيلسوف يدعو إلى المساواة بين الرجُل والمرأة، كما هو شائع في كثيرٍ من الكتب الفلسفية؟ أكان حقًّا رسولًا لحقوقها في العالَم القديم؟ وهل سبقَ حركاتِ تحرير المرأة عندما دعا إلى عِتقها من سِجن الحريم؟

لكي نُجيب عن هذه الأسئلة، التي وصفها بعض الباحثين بأنها «لغز محيِّر»، كان علينا أن نُقسِّم البحث إلى بابَين كبيرَين: يدور الباب الأول حول «المرأة في المجتمع اليوناني»، حيث يعرض في فصلَين للخلفية الثقافية التي عاش فيها أفلاطون؛ فتحدَّث في الفصل الأول عن العصر الأول عن العصر البطولي بما فيه من أساطير، ويكشف عن وضع المرأة في هذه الأساطير التي هي «أحلام البشر»، وهو وضعٌ لا يختلف كثيرًا عن وضعها على الأرض. بينما يدرس الفصل الثاني العصر الكلاسيكي، المرأة في أثينا، حيث وُلد أفلاطون وتربَّى وأنشأ مدرسته … إلخ؛ ثُم المرأة في إسبرطة، التي يقال إنَّ فيلسوفنا قد تأثر بها بقوة. وننتهي من هذا الباب إلى أنَّ وضْعَ المرأة في المجتمع اليوناني، بصفةٍ عامة، كان سيِّئًا؛ فأثينا سجنَتها في ركنٍ مظلِم هو «الحريم»، وحرَّمت عليها الخروجَ إلا وعلى وجهها خمارٌ تُعلن بواسطته أنها «ملكيةٌ خاصة» للرجُل ينبغي ألَّا تُمسَّ. بينما جرَّدتها إسبرطة من أنوثتها وحوَّلتها إلى امرأةٍ «مسترجِلة»، لا تهمُّها العواطف أو المشاعر، حتى لو كانت مشاعر الأم وعواطفها؛ وذلك لكي تكون «امرأةً قوية» لا تلِدُ إلا الأقوياء من الفرسان.

في الباب الثاني، نبدأ في دراسة أفكار أفلاطون عن المرأة في ثلاثة فصول:

الفصل الأول

المرأة في محاورة الجمهورية، ونتحدث فيه عن المجتمع المثالي الذي يريد أفلاطون إقامته، وعن الصفوة من الحراس التي اختارها للحُكم وحرَّم عليها الملكية؛ لأنها مصدرٌ للشقاق والتنافر. ومن ثَم اختفَت الأُسرة، ومع اختفائها اختفى دورُ المرأة التقليدي (حيث إنَّ أفلاطون كان يعتقد أنَّ المرأة من مقتنيات الأُسرة، فإذا ألغيَت الملكية تحرَّرَت المرأة من دورها الطبيعي) فماذا يكون دورها الجديد؟ ما هي وظيفتها بعد إلغاء الأُسرة؟ هنا يُحيلها فيلسوفنا إلى «رجُلٍ» بحيث تتدرب على الحرب والقتال كما يفعل الرجُل وهي عاريةٌ تمامًا دون أن تشعر بأيِّ خجل. وتعيش بين الرجال وكأنها واحدٌ منهم. ولا يكون الفارق بينها وبين الرجل إلا كالفرق بين الرجُل ذي الشَّعر والرجُل الأصلع.

أما الفصل الثاني

فهو يدرس المرأةَ في محاورة القوانين، وهو يؤكِّد القضية السابقة ويثبتها، ففي هذه المحاورة يسمح أفلاطون بعودة الملكية، وهكذا تعود الأُسرة إلى الظهور من جديد. وبعودتها ترتدُّ المرأة إلى وظيفتها السابقة «ربَّة البيت». وهنا تظهر الفروق بينها وبين الرجُل في التدريبات الرياضية، وفي تعلُّم الموسيقى، وفي شَغْل الوظائف المختلفة في الدولة، وفي المشاركة في الحياة العامة لا سِيَّما الجوانب السياسية منها حتى إن أفلاطون لا يذكر وظيفةً واحدة يمكن أن تشغلها المرأة اللهم إلا لجنة الإشراف على الزواج المؤلَّفة من مجموعة من النساء العجائز، وهي وظيفة كانت تقوم بها عجائز أثينا بالفعل. وهنا أيضًا تعود سلطات الأب إلى الظهور من جديد فهو «واجب الاحترام» من الزوجة والأبناء معًا؛ لأنه «مالك» للأُسرة بالمعنى الحَرفي للكلمة فهو يستطيع أن يهَب ابنه، مثلًا، لمَن يريد أن يتبناه. وفضلًا عن ذلك، فالمرأة في قوانين أفلاطون قاصر، وليس من حقِّها أن ترث ولا بدَّ من البحث عن رجُل يرث المتوفى، كما أنه لا يجوز لها أن تزوِّج نفسها … لا بد من وجود وصي هو الذي يقوم بذلك.

أما الفصل الثالث

فهو يدور حول الحُب الأفلاطوني الشهير وعلاقته بالمرأة، فقد ظنَّ البعض أن الحُب الأفلاطوني «حُب عذري» بين الرجُل والمرأة، وهذا في الواقع لا أساسَ له من الصحة؛ ذلك لأن «الجنسية المثلية» كانت منتشرةً عند اليونان، وعلى الرغم من أن أفلاطون هاجمها بعنف ووصفها بأنها إهانةٌ، ليس فقط لإنسانية الإنسان بل لحيوانيته أيضًا؛ فإن هذا الهجوم لم يكن لصالح الجنسية المغايرة، أي للاتصال بين الرجُل والمرأة، وإنما كان للارتفاع بصداقة الرجُل والرجُل إلى مستوى الحُب الرفيع؛ ومن ثَم ينتهي الفصل إلى أن الحُب الأفلاطوني الشهير، لا علاقة له بالحُب بين الرجُل والمرأة وإنما هو إعلاء للواط، أو هو تسامٍ بالجنسية المِثلية. والحق أنَّ أفلاطون كره جميع أنواع العلاقات الجنسية؛ لأنه متَّسقًا مع مبادئه في الميتافيزيقا. كره المادة؛ ومن ثَم كره الجسد، واعتبره سجنًا للرُّوح. ولهذا، فقد قَصَر الاتصال الجنسي بين الرجُل والمرأة على الإنجاب فحسب؛ حتى لا يفنى النوع الإنساني.

ونخلص من ذلك كله إلى أنَّ أفلاطون لم يخرج عن إطار التراث اليوناني الذي كان يحمل في أعماقه عداء، إن لم نقُل كراهية، للمرأة؛ فليس صحيحًا ما يقال من أنه كان أولَ مَن نادى بتحرير المرأة، أو أنه دعا إلى المساواة بين الجنسين؛ ذلك لأن عبارات المساواة في «محاورة الجمهورية» خداعة. لأنها لم تكن مقصودةً لذاتها، وإنما جاءت نتيجة لإلغاء «وجود المرأة» وتحويلها إلى رجُل نتيجةً لإلغاء الملكية واختفاء الأُسرة، ومن ثَم اختفاء الدور التقليدي للمرأة كربَّة منزل؛ لأنه لم يعُد ثمَّة منزل. لكنْ، عندما يعود المنزل تعود المرأة إلى دورها التقليدي.

وهكذا نصِل إلى نتيجةٍ هامة، وهي أن فلسفة أفلاطون عكسَت «كراهية المرأة» المتأصِّلة في التراث اليوناني؛ فكانت تعبيرًا صريحًا عن عصرها، مِصداقًا لقولِ هيجل: «إن الفلسفة هي عصرها ملخصًا في الفكر. وكما أنه من الحمق أن نتصور إمكانَ تخطِّي الفردِ لزمانه، فإنه لمن الحماقة أيضًا أنْ نتصوَّر إمكانَ تجاوُز الفلسفة لزمانها الخاص …»١

وسوف نرى في العدد القادم كيف وضع أرسطو نظريةً متكاملة ليؤكِّد — من الناحيةِ العقلية الخالصة — الوضعَ المتدني للمرأة الذي ساد التراثَ اليوناني القديم.

١  أصول فلسفة الحق، المجلد الأول، ص٢٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥