الفصل الأول

العصر البطولي

يشمل هذا العصر حقبةً موغِلة في القِدم (من ١٢٠٠ إلى ١٠٠٠ق.م. تقريبًا)، وهي الفترة التي وقعَت فيها حرب طروادة وتسودها الأساطير اليونانية، ويمثِّلها «هوميروس» و«هزيود».١ فماذا كان مركز المرأة في هذا العصر؟ «كان وضعُ المرأة سيئًا للغاية … فإذا ما نظرنا إلى الوضع الخارجي للنساء، لوَضَعنا عصر هوميروس في أسفل السُّلَّم الحضاري؛ فلم تكن للنساء تقريبًا حقوق في ذلك العصر، وإنما كنَّ يخضعنَ لسيطرة الرجُل تمامًا، يعشنَ في قلقٍ دائم بصدد مصيرهنَّ المقبِل؛ فقد تكون المرأة من أسرة رفيعة، ذات حسَبٍ ونسب، أو حتى أميرة، لكنَّها تعلم مع ذلك أن رجلًا غريبًا سوف يأتي يومًا ما، ويحملها بعيدًا، وأنها لهذا السبب يمكن أن تكون جاريةً في منزلِ رجُل آخَر.»٢ فالرجُل هو السيد المسيطِر في عصر البطولة، والنموذج أو المثل الأعلى لهذا الرجُل: القوة، والشجاعة، والقدرة على مواجهة الأعداء، وحماية بيته وأسرته من هجمات الآخَرين؛ ولهذا كانت أسمى الفضائل فضيلة الذكاء المقرونة بالشجاعة والقسوة؛ وكلمة الفضيلة مشتقة من لفظ الرجولة (Virtus = فضيلة ورجولة)، ومن آريس Ares (إله الحرب). والرجُل الفاضل في هذا العصر ليس هو الرجُل المتسامِح الأمين الوقور … إلخ، بل هو مَن يحارب ببسالةٍ واقتدار، وليس الطالح مَن يدمن الشرابَ أو يكذب ويقتل ويغدر، وإنما هو الجبان أو الضعيف.٣ ومن هنا جاء الوضع السيِّئ للمرأة في عصرٍ كان المبدأ السائد فيه «القوة هي الحقُّ»، والذراع القوية هي وحدها التي تؤكِّد الحقَّ وتدعمه؛ فعلى المقاتل الجسور أن يدافع عمَّا يملك ضدَّ الغازي أو المعتدي، مع أنه هو نفسه قد يغزو المدن المجاوِرة وينهبها؛ ومن ثَم، فقد تتعرض مدينته للسلب والنهب، ولكنْ، إذا ما أُخذَت زوجته بين السبايا لتكون محظيَّة للغازي، فإنه ينبغي عليه أن يضع حدًّا لحياته بضربةٍ من سيفه. ولمَّا لم تكن النساء محاربات، فقد كان عليهنَّ أن يعتمدنَ على الرجال تمامًا في حمايتهنَّ؛ وعليهنَّ، نتيجة لذلك، أن يخضعنَ لهم.٤ والواقع أن أي مجتمع يمجِّد فكرة البطولة، ويتخذها مثلًا أعلى، فإنه في الأعم الأغلب يعامل المرأة معاملةً سيئة، ولن يمجِّد هذا المجتمع المرأةَ إلا إذا كانت في مواقفَ كثيرة تسلك مسلكَ الرجال، فترحب بالخطر ولا تجفل من سفك الدماء؛٥ على نحوِ ما سنرى في المجتمع الإسبرطي فيما بعد.

وفضلًا عن ذلك، فقد كان الرجُل هو صانع الثروة أيضًا، صحيح أن طبقة العبيد تقوم بجميع الأعمال اليدوية وفلاحة الأرض … لكنَّ الرجل اليوناني هو الذي يملك هؤلاء العبيد؛ وبالتالي هو الذي يملك مصادر الثروة، وهكذا سوف تمتدُّ ملكيته إلى المرأة أيضًا. ومن هنا ارتبط وضع المرأة في المجتمع بلونِ الملكية القائم. وفي هذا العصر البطولي امتلك الرجُل المرأةَ، وجعل مشاركتها له في الحياة تقتصر على تدبير المنزل وتربية الأطفال.

•••

ذكرنا منذ قليل أن العصر البطولي هو عصر الأساطير اليونانية، وأن وضع المرأة هو ما أمرَت به الآلهة كما ذهب «زينوفون»؛ ومن ثَم فإن علينا أن نقف قليلًا عند وضع المرأة في هذه الأساطير، لا سِيَّما إذا وضعنا في ذهننا أن اليونانيين كانوا يوحِّدون بين السلطة، والجنس والله، والذَّكر والأنثى في هويةٍ واحدة، أو قُل إنها موضوعاتٌ ترتبط عندهم برباطٍ وثيق٦ ومن هنا يقول فينلي M. Finley ليس من شكٍّ في أنَّ هوميروس يكشف تمامًا ما كان يصدق على العالَم القديم كلِّه، وهو النظر إلى المرأة على أنها بحُكم الطبيعة أدنى من الرجُل؛ ومن ثَم فهي تقتصر في وظيفتها على الجنس والإنجاب، وأداء الواجبات المنزلية؛ أمَّا العلاقات الاجتماعية ذات المغزى، فينبغي أن تُترك للرجُل.٧
فماذا كانت صورة المرأة في الأساطير اليونانية سواء تلك التي رواها هوميروس أو هزيود …؟ الحق أنَّ الأساطير اليونانية صورَت وضع المرأة في السماء كما هو على الأرض، ألَمْ تكن تعبيرًا أمينًا عن أحلام البشر؟ فقد كانت الأُسرة الإلهية في جبال الأوليمب تتألف من زيوس Zeus وإخوانه الخمسة، وأبنائه الستة، ثم ابن «هيرا» وحدها المسمَّى «هيفاستوس Hephaestus» الإله الأعرج الذي وُلد قبل اكتماله، وهو إله الحدادة والبراكين. والطريف أن زيوس، باعتباره كبير هذه العائلة، كان يستأثر بكلِّ امتيازات «الرجُل اليوناني» وحقوقه؛ فقد تزوَّج من «هيرا Hera» (والكلمة تعني حرفيًّا السيدة؛ فهي مؤنث Heros السيد أو الفارس) وتمَّت مراسيم هذا الزواج على الأرض المقدَّسة، ثم أصبحَت «هيرا» ربَّة الزواج وسيدة المنزل التي تساعد غيرها من النساء على الزواج، وتقف بجوارهنَّ أثناء الحمل والولادة، لكنها كانت هي نفسها تعاني — كأيِّ زوجة يونانية — من متاعبَ لا حَصْر لها مع «زيوس» كبير الآلهة ورب الأُسرة؛ فهو رغم مكانته وجلال قَدْره، لم يكن زوجًا مخلصًا، فلم يجِدْ حرجًا أو غضاضة في خيانة زوجته، بل إنه يتحايل بشتَّى الطُّرق للاتصال بغيرها من النساء سواء أكنَّ إلهاتٍ أو بشرًا؛٨ ومن ثَم فقد أضاعت هيرا معظم وقتها في تعقُّبه للكشف عن خياناته والإيقاع به، والانتقام من عشيقاته، بغضِّ النظر عمَّا ينتحلنَه من أعذارٍ لتبرير مَسلكهنَّ. لكنْ، كان يضاعف من صعوبة مهمَّتها قدرة زيوس الإلهية على التخفي، وتقمُّص أشكالٍ متنوعة آدمية أحيانًا وحيوانية أحيانًا أخرى؛ مما جعل من العسير اكتشاف أعماله أو فضح أساليبه. ولم يتوقف زيوس عند حدِّ الخيانة، وإنما كان مِزواجًا أيضًا، الأمر الذي أثار الغيرةَ الشديدة في قلب الزوجة المخلصة، وجعلها تكرِّس جهدها للنيل من زوجاته وأبنائه منهنَّ؛ فلجأ زيوس إلى إنجاب ابنته «أثينا» من رأسه دون اتصالٍ جنسي؛ ولهذا، فإن زوجته الشرعية تملَّكها الغضب، وسَعَت هي الأخرى إلى إنجاب أبناء دون معاونته. ونلاحظ هنا أنها لم تحاول خيانته قَط؛ فهي بوصفها زوجةً مخلصة، وبما أنها ربَّة «الزواج»، فلا يجوز لها أن تدنس فراش الزوجية مهما فعَلَ زوجها (وهذا هو المثل الأعلى للزوجة اليونانية)؛ ولهذا نراها تصيح غاضبةً في اجتماع الآلهة الخالدين كأيِّ زوجة مخلِصة أرهقَتها خيانة زوجها: «أنصِتوا إليَّ أيتها الآلهة، وانظروا كيف يجلب لي زيوس العار والمهانة. وهو أول مَن يفعل ذلك الفعل المُشين بعد أن صِرتُ له زوجة. أي زيوس! أيها الوحش المُخادِع، كيف اجترأتَ على أن تلد أثينا؟ أوَلَمْ يكُن في وُسعي أن أُنجب لك طفلًا؟ أوَلستُ زوجتك؟ إنني سأعمل من الآن على أن أُنجب ابنًا سوف يكون دُرَّة بين الآلهة، وسأفعل ذلك دون أن أدنِّس فراشك أو فراشي، ولن أتصل بك بعد اليوم، لكنِّي سوف أهجُرك.»٩
وتروي المثيولوجيا اليونانية أيضًا أن «زيوس» هو الذي أدخل «الجنسية المِثلية» إلى اليونان؛ فقد كانت ابنته «هيبه Hebe» الجميلة ربَّة الصبا والشباب، تعمل لديه ساقيةً وحاملةً لكُئوسه؛ فلمَّا تزوجها هرقل، اضطر زيوس إلى البحث عن نديمٍ آخَر، فاتَّخذ صورة نسر وطاف يحلق في مُلكه الواسع حتى رأى الراعي الجميل «جانميد Ganymedes»، ابن ملك طروادة نائمًا فوق ربوة، وكان الجمال يشعُّ من وجهه، فأيقظه وطار به إلى الأوليمب واتخذه نديمًا وخليلًا، وأعطى لأبيه في مقابل ذلك مجموعةً من الجياد الكريمة.١٠ وباختصار، كان «لزيوس» عدَّة عشيقات فيما يشبه «الحريم» إلى جانب زوجته الشرعية. لكنه كان رجلًا خائنًا لعهود الزواج ميئُوسًا من إصلاحه، ولم يكن أمام زوجته سوى الاستسلام. وهذا ما كان يحدُث بالضبط على الأرض، فقد كان الإغريق من الشعوب التي تمارس الزواج الواحدي، أيْ تؤمن بزوجةٍ شرعية واحدة. لكنَّهم كانوا لا يضيقون ذرعًا بانحرافِ الأزواج ويُغمِضون العينَ عن العلاقات الكثيرة غير المشروعة التي يمارسها الرجُل. فالأب من الوجهة النظرية هو صاحب السلطان الأعلى، يملك ما يشاء من السراري ويقدِّمهنَّ لضيوفه، ويضع أطفاله على قمم الجبال ليموتوا أو يذبحهم قربانًا للآلهة.١١
وما كان يصدق على «زيوس» كبير الآلهة، ينطبق على بقية الآلهة الخالدين؛ فقد كان «بوزيدون»، إله البحر، كأخيه «زيوس» مزواجًا، أو له عدَّة عشيقات، فقد تزوج كثيرًا من عرائس البحر وحوريات الينابيع … إلخ، وأنجب منهنَّ كثيرًا من الأبناء قاموا بأدوارٍ هامة في الأساطير، كما كان ابنه «تريتون Triton» جامحَ الشهوة مغتصبًا للنساء والغلمان.
كانت المرأة، إذن في الميثولوجيا اليونانية ضعيفةً مغلوبة على أمرها، ليس لها حقوق حتى وإنْ كانت إلهة، تمامًا كما كانت المرأة في المجتمع اليوناني. وإن كان هذا التراث الأسطوري يذكر لنا ضربَين من الإلهات:
  • الأول: ليس على هذا القدر من الضَّعف أو المهانة، فهو محترَم مبجَّل. وهناك بصفةٍ خاصة ثلاث إلهات «أثينا»، و«هستيا»، و«آرتميس»، وهنَّ عذارى رفضنَ الزواج من جميع الخُطَّاب؛ فأصبحت الأولى راعية للحِرف والصناعات المنزلية (لا سِيَّما الغزل ونَسْج الصوف وتمشيطه، والأشغال النسوية بصفةٍ عامة)، والثانية هي ربَّة الموقد التي تبسط حمايتها على مَن يستجيرون بالموقد المقدَّس في المنزل الذي يطاف حوله بالمولود الجديد في اليوم الخامس من ولادته، حتى يُعترف به عضوًا في الأُسرة؛ أما «آرتميس»، فهي ربة الحيوانات الصغيرة التي تحمي الصغار من كلِّ نوع، ومنها المواليد من بَني الإنسان، ولهذا لُقِّبت ﺑ «الربة الأم»؛ فهنَّ إذن «عوانس» الأسرة الإلهية الموقَّرة. وهناك ملاحظة أخرى، هي أنَّ كلمة «آلهة» في المثيولوجيا اليونانية لم تكن تدلُّ بالضرورة على جميع الخصائص التي تُنسب عادةً للأنثى البشرية. فمثلًا، أعظم الإلهات تمجيدًا، وهي الإلهة أثينا، كانت تُمتدح لمَا لها من صفاتٍ «رجولية».١٢ وقد انعكس ذلك على فكر أفلاطون على نحوٍ يتضح في محاورة المأدبة (١٨١أ–ﺣ)، وسوف نعود إلى هذا الموضوع فيما بعد. ويكفي الآن أن نذكر قصةَ مولد «أثينا» من رأس «زيوس» عندما شعَرَ بصداعٍ حادٍّ كادت رأسه تنفجر.١٣ فهوى الإله «هيفاستوس» على رأسه بالفأس الإلهية؛ فشجَّها شجًّا انبثقَت منه الإلهة أثينا، وقد خرجَت مدجَّجة بالدروع تصيح صيحةَ الحرب التي ارتجَّت لها السموات والأرض وارتاع منها الآلهة أنفسهم، وزلزل جبل أولمبوس نفسه وهاج البحر وماج.١٤ فلَمْ تكن «أثينا» بالمرأة الرقيقة، وإنما هي الفارس المحارب أو البطل الذي كان المثل الأعلى للرجُل في هذا العصر. وفي ظننا أن هذا هو التفسير الصحيح لمكانة المرأة في الأساطير اليونانية، وهي مكانة لا تبعد كثيرًا عمَّا كانت عليه في دنيا الناس؛ ومن هنا كان الخطأ الذي يقع فيه البعض حين يستدلُّون على مكانة المرأة الأثينية مما هو موجود في الأساطير، أو قولهم «إنَّ مَن يستعرض الصور المنحوتة في البارثنون Parthenon يلمس العنصر الأنثوي لا في الأساطير وحدها بل في الديانة كذلك، وجديرٌ بالذِّكر أن الأثينيين اتخذوا من الربة أثينا راعيةً لمدينتهم وحاميةً لها ورمزًا».١٥ فالاستدلال من ذلك على «أنَّ المرأة الأثينية لم تكن كمًّا مهملًا»، خطأٌ ظاهِر.
  • والضرب الثاني: من النساء، في مجمع الآلهة الخالدين، تمثِّله «أفروديت» ابنة زيوس أو عشيقته، وهي راعية غانيات أثينا. حتى إنَّ طريقة مولدها، على ما يروي هزيود، كانت جنسيةً؛ فقد انبثقَت من زبد البحر الذي اختلط بقضيب «أورانوس» إله السماء، بعد أن مزقه أبناؤه إربًا، ولهذا خرجَت أفروديت من البحر عاريةً ناضجةَ الأنوثة. ويبدو أنها «عشتاروت» في الشرق ربَّة الخصب (للأرض والمرأة معًا) وربَّة الحُب، التي ترمز لدورة الطبيعة في حياة النبات في الأرض، والجنس عند المرأة؛ فهي رمزٌ لاستمرار الحياة عن طريق التناسل. وكانت ربةً متقلبة الأهواء، كثيرة العشَّاق.١٦ وإنْ كان أفلاطون يرى أن هناك نوعَين من «أفروديت»: واحدة سماوية، والأخرى أرضية؛ وهو يمجِّد الأُولى ويرفض الثانية على نحوِ ما سنعرف فيما بعد.
كانت «أفروديت» في السماء الربة اللعوب؛ ولهذا كانت ربة الجنس والبغاء المقدَّس، وقِصصها لا تنتهي. أمَّا على الأرض، فكانت مدينةُ أثينا تعترف بهذه الربة «عمليًّا» فأصبح البغاء رسميًّا تقرُّه الدولة، وتقوم بفرض ضريبةٍ على البغايا وهنَّ في الأعمِّ الأغلب من الأجنبيات اللائي مارسنَ هذه المهنة كمصدرٍ للرزق والاتصال بعلية القوم في المدينة. ومن هنا، فقد أصبح العُهر في أثينا، وفي معظم المدن اليونانية، مهنةً كثيرة الروَّاد.١٧
بقي أن نختم هذا الجزء بالهبوط من السماء إلى الأرض، من الآلهة إلى البشَر، فكيف كانتِ الصِّلة بينهما؟ كيف خلقَت الآلهة الإنسان؟ يروي هزيود في «الأعمال والأيام» (أبيات ٥٤–١٠٥)، و«أنساب الآلهة» (٥٢١–٦١٦)، أنَّ «برومثيوس Prometheus» (والكلمة تعني حرفيًّا المتبصِّر أو المتروي) هو الذي خلَقَ الرجُل «خلَقَ رجالًا كثيرين، وجلس على أكمةٍ عالية يُشرف على عباده الصالحين … ثم فكَّر في نعمة يسبغها عليهم … فسرق النار المقدَّسة في غفلة من زيوس؛ فغضب كبير الآلهة، وعاقبه بتكبيله بالأغلال … إلخ.١٨
أمَّا الرجال فكان لا بد من عقابهم أيضًا، فخلَقَ لهم الأنثى وأعطَتها أفروديت بعضًا من جمالها، وعلَّمَتها أثينا أعمالَ المنزل وغزل الصوف؛ وهذه المرأة الأُولى هي «بندورا Pandora» (والكلمة تعني حرفيًّا العطايا أو الهِبات الشاملة) وتروي الأسطورة أنَّ «هرمز» رسول الآلهة حملها إلى برومثيوس، لكنه رفضها، لأنه «متبصِّر»، وتزوجها شقيقه «إبيمتوس Epimetheus» (أي المتهوِّر أو العجول). وهكذا نجد أن «هزيود» يجعل من الإله المتروي — برومثوس — خالقًا للرجُل، وهيفاستوس الأعرج الشائه خالقًا للمرأة.١٩ ويذهب هزيود أيضًا إلى أن الرجُل كان يعيش في جنةٍ دانيةِ القطوف لا يعمل ولا تُصيبه أمراض، وهذا هو العصر الذهبي الذي يشبه الأيام التي قضاها آدم في الجنة قبل أن يعرف حواء. وبعد سرقة النار خلق «زيوس» الفصول الأربعة، فلم يعُد الزمان ربيعًا دائمًا، كما كان، فانتقل الرجُل إلى العصر الفضي؛ لكنْ بمجيء المرأة بندورا إلى الأرض، بدأ العصر النحاسي بسبب تلك الأشباح التي جلبَتها معها؛ المرض، والعلل، وآفات الفقر التي انطلقَت من الصندوق.٢٠ فملأت الأرض بمختلف أنواع الشدائد. ثم كثرَت المصائب؛ فانتقل إلى العصر الحديدي حيث تغلغلَت الخطيئة في نفوس الناس يتكالبون على الأرزاق، ويقتل بعضهم بعضًا.٢١ ويلخِّص هزيود رأيه في المرأة بقوله: «إن جنس النساء اللطيف جاء من بندورا، هذا الجنس الخبيث الذي هو شر مستطير يتلبس الرجال؛ فالمرأة ليست رفيقة حياة تشارك زوجها الفقر والألم، وإنما هي تطالب بالطعام والثياب ولا يقف نهمها عند حد، هكذا خلق زيوس المرأة لتكون مصدر شر وفساد.»٢٢ وإذا كانت الصورة التي رسمها هزيود قاتمةً عن مثيلتها عند هيرموس،٢٣ فإنها أكثر أهميةً من الأخيرة؛ ذلك لأنَّ هوميروس كان ينشد في قصور الملوك والأمراء ولا يتحدث إلا إلى النبلاء … أما هزيود، فهو يتحدث إلى عامة الناس، أي جماهير الشعب العادية، ويستخدم لغةً تلائمهم، بل إنه ألَّف كتابه «الأعمال والأيام» للفلَّاحين أمثاله، ليُسدي إليهم النصح، ويصف حياة البؤس والشقاء التي كان يعاني منها عامة الناس؛ مما جعله أكثر شعبيةً، وكُتب لأفكاره الرواج وسْطَ الجمهور العريض وتأثَّر بأفكاره كثيرٌ من الفلاسفة.٢٤
١  ترى «سارة بومبري» أن الأساطير ليست مجرد أكاذيب وإنما هي محاولة من الإنسان لفرض نظامٍ رمزي على الكون، كما أن المثيولوجيا اليونانية تعطينا أول «لمحة» عن العلاقة بين الرجُل والمرأة في هذه الحضارة؛ ومن ثَم كانت دراسة الأساطير تشكِّل تمهيدًا ضروريًّا لدراسة تاريخ المرأة. قارنْ كتابها «النساء في العالَم القديم»، المقدمة وص١ و٢.
٢  James Donaldson: Woman: Her Position, p. 11.
٣  ول ديورانت، قصة الحضارة، مجلد ٦، ص٩٦-٩٧.
٤  J. Donaldson: op. cit. p. 12.
٥  د. عبد اللطيف أحمد علي، تاريخ اليونان، المجلد الأول، ص٥١.
٦  J. B. Elshtain: Public Man & Private Woman, pp. 11-12.
٧  M. I. Finley: The World of Odysseus p. 138.
٨  Sarah B. Pomeroy “Women in Classical Antiquity” pp. 7–8.
٩  قارن: د. عبد اللطيف أحمد علي، في كتابه السابق، ص٢٢٩؛ ودريني خشبة، أساطير الحُب والجمال عند الإغريق، ج١، ص٤٠.
١٠  يشير أفلاطون إلى هذه القصة، لكنه يرفض أن يُوصم «زيوس» بهذه التُّهمة البشعة، ويرى أن الكريتين هم الذين اختلقوا هذه القصة؛ ليجدوا لأنفسهم مبررًا إلهيًّا لإشباع شهواتهم الشاذة (انظر محاورة القوانين الكتاب الأول ٦٣٦ﺣ، ومحاورة فايدروس ٢٥٥ﺣ).
١١  ول ديورانت، قصة الحضارة، مجلد ٦، ص٩٧.
١٢  Susan M. Okin: Women in Western Political Thought, p. 16.
١٣  سبب هذا الصداع العنيف أن «زيوس» اشتهى ميتس Metis وهي ربةٌ بدائية من الجبابرة، لكنها تهربَت منه بصورٍ شتَّى؛ وأخيرًا تمكَّن منها، وجامعها؛ فحملَت منه، وسرَت نبوءة تقول إنَّ المولود سيكون ذكرًا يطيح بعرش أبيه، كما فعل زيوس نفسه مع والده كرونوس، فاحتاط زيوس للأمر وراح يغوي «ميتس» بكلامٍ معسول حتى استكانت له، وبغتةً فتح فاه وابتلعها. ونسي كبير الآلهة الحادث، ومضَت أيام وشهور، وفجأةً أصابه صداعٌ شديد، وهو يسير على بُحيرة تريتون Triton حتى أحسَّ برأسه تكاد تنفجر، فأخذ يعوي كالمجنون من شدَّة الألم حتى أنقذه هيفاستوس بضربةٍ من فأسه.
١٤  هذه الصفات «الرجولية» أو صفات البطولة التي كانت تتَّسم بها بعض الإلهات الإناث، كانت موضعَ إعجابٍ شديد من الآلهة أيضًا؛ مما يدلُّ على أن مجتمعهم كان ذكوريًّا أيضًا. فالعذراء قورينا Cyrene كانت تشبه آرتميس، وقيل إنها أهدَتها كلبَين من كلاب الصيد لحراسة أغنامِ أبيها من وحوش البريَّة. ولقد أُعجب بها الإله أبوللو عندما رآها وحدها تصارع أسدًا وهي عزلاء من السلاح، وسرعان ما انقلب إعجابه بها إلى حُب جارفٍ بسبب «بسالتها». وكانت «أتلانتا» أمهر الصيادين في كل بلاد اليونان؛ فهي التي كان سهمها أولَ سهم يصيب الخنزير البري المفترس الذي كان يفتك بالناس، وعندما أراد أبوها أن يزوجها اشترطَت ألَّا تتزوج إلا بمَن يفوز عليها ويكون القتل مصير الخاسرين، ولذلك أعرض الخُطَّاب عنها وظلَّت عذراء، إلخ. كذلك كانت الإلهة آرتميس Artemis (ديانا عند الرومان) إلهة الصيد التي تُطلق السهام من بُعد قصي. كما كانت تفضِّل أن تقضي أيامها في الجبال والغابات مع الحيوانات المفترسة … بعيدًا عن الآلهة والناس. انظر:
Sarah Pomeroy: Women in Antiquity, p. 5. Schocken Books N.Y. 1975.
١٥  قارن ما تقوله سارة بوميروي عن أن الإلهة أثينا كانت «مسترجلة»، فكثرة من صفاتها هي صفات الرجُل؛ فهي محاربة حامية للقلاع والحصون، ترتدي الدرع والخوذة، وكثيرًا ما تتخفى في زِي رجُل لتقدِّم خدماتها كما فعلَت مع أوديسوس، ص٤.
١٦  د. عبد اللطيف أحمد علي، في كتابه السابق، ﺟ١، ص٦٣.
١٧  ول ديورانت، قصة الحضارة، مجلد ٧، ص١٠٣.
١٨  كان برومثيوس قد خدع «زيوس» وهو يوزع الذبائح المشوية، التي كانت تقدَّم كقرابين للآلهة، فأعطاه الشحم بدلًا من اللحم. فغضب زيوس، وأخفى النار عن الإنسان.
١٩  الأسطورة تكشف مدى الكراهية المتأصلة في التراث اليوناني للمرأة، فخالقها هو إله شائه، جاء إلى الدنيا بقدمَين معكوستَين أصابعهما في الخلف، وعقبهما إلى الأمام، وأنجبَته «هيرا» وهي في حالة غضبٍ من زيوس، ووضعَته قبل ميعاد ولادته.
٢٠  هو الصندوق الذي أرسله زيوس هديةً إلى بندورا بمناسبة زواجها، وكان يحوي جميع المصائب والشرور.
٢١  د. محمد كامل عياد، تاريخ اليونان، الجزء الأول، ص١١٧، دار الفكر بدمشق.
٢٢  المرجع السابق، ص١١٨-١١٩.
٢٣  ظلت هذه الصورة القاتمة عن المرأة موجودةً في العصر الكلاسيكي، ولهذا نجد هيبوليتوس Hippolytus في مسرحية يوربيدس الشهيرة يسأل زيوس محتجًّا: «لِمَ خلقتَ المرأة تلك اللعنة على الجنس البشري كله؟ للإنجاب. ألَمْ يكن من الممكن أن يُباع الأطفال في المعابد لقاء ذهبٍ وفضة وقِطع نقدية من البرونز، ثم نعيش بعد ذلك أحرارًا بعيدًا عن الأنثى؟» أبيات ٦١٥–٦٢٠، وجشع المرأة، ومطالبها التي لا تقف عند حد، سببٌ رئيسي في فساد نظام الحُكم الديمقراطي فيما يرى أفلاطون (الجمهورية، ٥٤٩د).
٢٤  كان فيثاغورس يقتبس من أشعار هوميروس وهزيود ليُنزل السكينة على قلوب أتباعه من الجماعة الفيثاغورية. انظر مثلًا: P. Gorman: Pythagoras: A life, pp. 58–159.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥