العصر الكلاسيكي
نقصد بالعصر الكلاسيكي تلك الحقبة التي ازدهرَت فيها أثينا وإسبرطة — أقوى المدن اليونانية على الإطلاق — حيث بلغَت إسبرطة قمة مجدها العسكري، وعاشت أثينا عصرها الذهبي في الثقافة والفنون والآداب وهو عصر ربما امتدَّ ثلاثة قرون (من نهاية السابع إلى نهاية الرابع ق.م.) ووقعَت فيه الحروب الطاحنة بين هاتَين الدولتين الكبيرتَين. ومن المعروف أنَّ اليونانيين لم يضعوا في ذهنهم إمكان وجود دستورٍ سياسي واحد يمكن أن يمتدَّ خارج نطاق المدينة؛ فكان لكل مدينة دستورها الخاص الذي ينظم حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وعلاقاتها بجيرانها … إلخ. ويهمُّنا بصفةٍ خاصة أن نعرض لوضع المرأة في أثينا حيث وُلد أفلاطون، وقضى حياته، وأنشأ مدرسةً، ونظَّم أفكاره. كما نعرض لمركزها في إسبرطة التي تأثَّر بها فيلسوفنا، حتى قيل إنه نقل عنها معظمَ أفكاره الجريئة عن المرأة.
أولًا: المرأة في أثينا
لم ينصلح حال المرأة كثيرًا في العصر الكلاسيكي عمَّا كان عليه في العصر البطولي، ولا حتى في أثينا ذات الحضارة المزدهرة؛ فقد ظلَّت الوظيفة الأساسية للمرأة «الحرة» إدارة المنزل وتربية الأطفال. ونعني بالمرأة «الحرة» المواطِنة الأثينية الأصيلة؛ ذلك لأننا نجد في أثينا في ذلك العصر صنفَين من النساء إلى جانب الجواري: صنف يندر جدًّا أن يخطو خطوةً واحدة خارج جدران البيت فهو مقيَّد بكافة الأغلال، وتلك هي المرأة الأثينية «الحرَّة» على ما في ذلك من مفارقة! أمَّا الفئة الثانية، فهي النساء الأجنبيات، وهؤلاء لا قيود عليهنَّ، ففي استطاعتهنَّ الخروج في أي وقتٍ، وعمل ما يرونَه مناسبًا. وكم كانت الفئة الحرَّة تحسد الأجنبيات على هذه الحرية! وعلينا الآن أن نسوق كلمةً موجزة عن كل فئة؛ حتى نفهم تركيبةَ المجتمع الأثيني ووَضْع المرأة فيه.
(١) المواطِنة الأثينية
(٢) المرأة الأجنبية
- الأُولى: أنَّ المجتمع الأثيني كان مجتمعًا أبويًّا؛ الرجُل فيه هو «السيد»، و«المالك» لجميع الحقوق المدَنية والسياسية، فهو المالك للأرض والعقارات؛ ومن ثَم هو المالك للأُسرة بما في ذلك الأبناء والزوجة … فمن حقه أن يرفض أيَّ طفل من ذريته عند ولادته. وهو يسنُّ من التشريعات ما يراه مناسبًا لدعم هذه الحقوق حتى ولوكان التشريع غريبًا كالقانون الذي يبيح الإجهاض إذا ما أراده الأب، لكن إذا ما أجهضَت المرأة نفسها بقرارٍ ذاتي عرَّضت نفسها للعقاب هي وكل مَن ساعدها. وهذه تفرقةٌ بالغة الدلالة؛ لأنَّ الإجهاض لا يُنظر إليه في هذه الحالة على أنه قتلٌ لكائن حي، بل هو انتهاك لسلطة الأب أو اعتداء على مِلكية المالك الشرعي!٢٢
- الملاحظة الثانية: إن المسألة مرتبطة بالملكية، مادية أو معنوية، وبالميراث. وهذه الملكية التي يريد الأب
أن
يرثها أبناءٌ من صُلبه هي التي جعلَته ينظر إلى المرأة نفسها على أنها «جزء» من ممتلكاته،
وسوف
نجد هذا التعبير نفسه عند أفلاطون عندما يتحدث عن «امتلاك النساء» أو «اقتناء زوجة» أو
حيازة امرأة خاصة … إلخ، يعني زوجة خاصة يكون من واجبها إنجاب أطفال من صُلب الرجُل يطمَئنُّ
إلى نقل ممتلكاته إليهم. أمَّا المرأة الأجنبية فهي عشيقةٌ مهمتها إمتاعه في أوقات فراغه،
دون
أن يكون لها حقُّ الزواج أو الإنجاب، حتى لا تتسلل «الدماء الغريبة» إلى المجتمع؛ وهكذا
تكون
المرأة في الحالتَين في خدمة «السيد» الذي يملك كلَّ شيء، أما هي فهي «أدنى» منه، لأنها
خُلقَت
من «طينةٍ» مختلفة كما حدَّثنا هزيود من قبل، وكما سيقول أفلاطون نفسه بعد ذلك!
لكنْ ألَا تقدِّم لنا إسبرطة نموذجًا اجتماعيًّا مختلفًا جعل للمرأة مكانةً عالية، أو حقوقًا مساوية للرجُل كما يقولون؟ ألم تؤثِّر صورة المرأة الإسبرطية في أذهان الكثيرين وأولهم أفلاطون نفسه؟ هذا ما سوف نناقشه الآن.
ثانيًا: المرأة في إسبرطة
- الأول: أن العقل الإغريقي كان يتصور أن المدينة هي أكبر تنظيم سياسي يتناسب مع وظيفة الدولة، كما ذكرنا من قبل، ومن ناحيةٍ أخرى فقد كان متأثرًا بقوة بفكرة فناء الفرد ودوام الجنس البشري، أعني دوام المدينة وبقائها من خلال تعاقُب الأجيال؛ ومن ثَم، فقد كانت الفكرة الأساسية، التي وجَّهَت جميع التشريعات عندهم، هي دوام المدينة واستمرار عبادة الآلهة دون الالتفات إلى رغبات الفرد؛ فوجوده هو أساسًا من أجل الدولة، وليس العكس، ولذا فلا بد من التضحية بجميع الاعتبارات الشخصية حتى تقوم هذه الدولة وتدوم، وكان لهذه الفكرة أهميةٌ خاصة في إسبرطة.
- الأمر الثاني: أنَّ هناك ظروفًا خاصة بالإسبرطيين أنفسهم؛ فقد اتسعت الدولة، واحتلَّت مساحات
شاسعة من الأرض. ووقع في أيديهم أعدادٌ كبيرة من العبيد، كان عليهم الاحتفاظ بهم ليقوموا
بتلبية الحاجات الضرورية للمُواطن. بل إن الإسبرطيين شنُّوا حروبًا أدَّت إلى استرقاق
شعوب
بأكملها، فضربوا الرقَّ على أهلها؛ كما فعلوا مع سكان «هليوس Helos» فأصبح شعبٌ كاملٌ — يبلغ
ستة أضعاف الإسبرطيين عددًا — عبيدًا باسم «الهليتوتين»، وأصبحت الكلمة نفسها مرادِفة
للرقيق.
ولهذا فقد كان على الإسبرطيين — كما يقول أرسطو — أن يكونوا على أهبة الاستعداد دائمًا؛
لأن
الهليوتين أعداء لهم، يتربصون بهم الدوائر.٢٩ وكانت معاملة الإسبرطيين لهذا النوع من الرقيق تتسم في الغالب بالقسوة — رغم
العقود التي كانوا يبرمونها معهم عند استسلامهم للرق! — وقد بلغَت بهم القسوة حدًّا جعلهم
يعمدون بين الحين والحين إلى إبادة قِسم منهم، يتمرن فيه الشباب الإسبرطي على القتال
من
ناحية، وحتى لا يتكاثر عددهم فيصبحوا خطرًا على الدولة من ناحية أخرى؛ فكانوا يبيحون
للشباب
شن هجوم على المَزارع — وكان العبيد يقومون بالزراعة — فيقتلون كلَّ مَن صادفهم. وهذا
يفسر لنا
لِمَ كان لا بدَّ أن تكون إسبرطة في حالة استنفارٍ دائم حتى تواجه أعداءها في الداخل
والخارج
معًا. ولذلك كانت الدولة أشبه بمعسكرٍ ضخم متأهِّب دائمًا للقتال فأخضعَت كلَّ النظم
التربوية
والاجتماعية والاقتصادية لمقتضيات الحرب. وكان مشرِّعهم الأكبر «ليكورجوس Lycurgus»، الذي
تلقَّى في معبد دلفي الأوامر التي جعلها أساسًا لتشريعاته، يقول إن حماية الدولة لا تكون
بإقامة أسوارٍ عالية حولها بل بإعداد سور من الرجال الأشداء. ويعتقد أفلاطون أن قوانين
إسبرطة التي سنَّها ليكورجوس جاءت وحيًا من أبوللو (القوانين، ٦٣٥–٦٩٦أ) … وهي قوانين
ظلَّت
أربعة قرون بلا تغيير، وكان هذا الاستقرار الطويل نفسه موضعَ إعجاب وتقدير من فيلسوفنا
ومعاصريه من ذوي النزعة المحافِظة.
ومن هنا، جاء اهتمام إسبرطة بالمرأة، فواجب الدولة الأول الاحتفاظ بهذا العدد الهائل من العبيد، والمحافظة على استمرار ملكيتهم ضد الغزاة، ولا يتأتى ذلك إلا بإعداد جنود بواسل وفرسان شجعان. ولمَّا كانت المرأة تشكِّل الأداة الرئيسية لإنتاج هؤلاء البواسل؛ فلا بد من العناية بها والاهتمام بشأنها، لكنه اهتمام في الواقع أقرب إلى اهتمام مربي الماشية بالأبقار، مثلًا، لتحسين نسلها. فلا هو إنصافٌ ولا مساواة ولا رفع لمكانتها، ولا حتى إعطاؤها أبسط الحقوق مثل حق اختيار الزوج؛ وإنما كل ما في الأمر أن الإسبرطيين يريدون رجالًا أشداء شجعانًا؛ ومن ثَم، فلا بد أن تكون الأمهات على هذا القدر من الشجاعة، الدولة تريد الشخصية الحازمة الجريئة الخشنة؛ فلا بد أن تحمل الأم هذه الصفات جميعًا لتورثها لأبنائها. إنهم يقدسون الجسد القوي مفتول العضلات الخالي من الأمراض، لا لجماله أو لاتساق بنيانه، وإنما لقدرته على التحمُّل ومواجهة الأعداء في المعارك؛ ومن ثَم فلا بد أن تكون المرأة على هذا النحو، وهكذا ظهرَت المرأة المسترجلة التي تتحلى بصفات الرجولة، وتخلو تمامًا من رقَّة الأنثى أو عاطفة المرأة ومشاعرها، وهي صورة المرأة على نحوِ ما سنجدها عند أفلاطون في محاورة الجمهورية.
ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسية في إعجاب أفلاطون بإسبرطة هو نظامها في التربية، حتى إن تفكيره اتجه منذ البداية إلى هذه السمة الأساسية في الحياة الإسبرطية.٣٠ ولقد وضع «ليكورجوس» نظامًا في إعداد المُقاتل، يشبه في كثير من ملامحه عادات المحاربين في القبائل البدائية، ويذهب أفلاطون وأرسطو إلى أن دستور إسبرطة استمد في ملامحه الأساسية عن كريت. لكنْ، أغلب الظن أن التشابه يرجع إلى أنهما من أصل بدائي واحد.٣١كانت التربية هي شغل الدولة الشاغل. وكان هذا الاهتمام غريبًا، بالنسبة لمعظم المدن اليونانية، في عصر أفلاطون؛ حيث كان الأب وحده المسئولَ عن التربية التي يتلقاها أولاده.٣٢ أمَّا في إسبرطة، فما إن يُولد الطفل حتى يُعرض على لجنةٍ من المراقبين، فإذا تبيَّنَت فيه ضعفًا، أو وجدَت فيه نقصًا، حكمَتْ بأن يُقذف به ليموت من ذروة الجبل! أمَّا إن كان سليمًا، أعيد إلى البيت ليقضي السنوات الثماني الأولى ثم تتولى الدولة تربيته، فينضم إلى «قطيع» — هكذا كانت التسمية الحَرفية٣٣ — تحت إشراف مدرب، ولم تكن الغاية من تدريب هؤلاء الصبية اكتساب الرشاقة أو المهارة في الحركة، كما هو عند الأثينيين، بل الشجاعة والصلابة والقدرة على القتال، حتى إن الكبار كانوا يثيرون منازعاتٍ بين الصبية، أفرادًا أو جماعات، ليشتبكوا في عراك؛ حتى يعتادوا القتال، وليزدادوا قوة؛ والصبي الذي تظهر عليه علائم الخوف يعاقَب بشدة. وفي سن الثالثة عشرة، ينتقل الصبي إلى مجموعة أخرى من «القطعان»، ويتلقى تدريبات بدنية وعسكرية، وهُمْ عراة الأجسام، ويُطلب منهم أن يتحملوا الألم والمشقة صامتين، ويعيشون عيشةً قاسية؛ فهم ينامون على أسِرَّة من سعف النخل أو أغصان الشجر يقطعونها بأنفسهم بلا سكين. ولا يرتدون سوى ثوبٍ واحد طوال العام. وينامون في الهواء الطلق صيفًا وشتاءً، ولا يتناولون إلا طعامًا بسيطًا، ولا يُسمح لهم بالاستحمام؛ لأنه يجعل الجسم رخوًا طريًّا، ومَن أراد فعليه أن يستحمَّ في نهر «يوروتس Eurotas» الذي يكون باردًا جدًّا في فصل الشتاء. وفي سن العشرين يلحقون بالقوات المسلَّحة العامة حتى سن الثلاثين فيسمح لهم بالزواج والانضمام إلى الجمعية العامة، ويتمتعون بكافة الحقوق المدنية،٣٤ لكنه يظل طوال عشر سنوات يعيش مع رفاقه «أعضاء الفريق» لا يرى زوجته ولا يزورها إلا خلسةً أثناء الليل وعن طريق التسلل، فليس ثمة واجبات منزلية مطلوبة منه. أو قل بدقةٍ أكثر ليست هناك أُسرة حقيقية. والغريب حقًّا أنه خلال التدريبات الكثيرة التي تبدأ من سن مبكرة، لم يكن هناك أدنى اهتمام بالقراءة أو الكتابة، ولا حتى الموسيقى بل الأغاني والأناشيد التي تمجِّد الماضي وتحثُّ على القتال، وهذه من بين النقاط التي عابها أفلاطون على النظام؛ فقد كان «ليكورجوس» يعتقد أنَّ على الأطفال أن يتعلموا القوانين والشرائع عن طريق السماع والحفظ لا عن طريق الكتابة والقراءة. كما كان يُسمح بممارسة الكثير من الأساليب البدائية لتعويض الوجبات الهزيلة كسرقة المخازن العامة، على أن يُعاقب بالجَلد كل مَن يُضبط متلبسًا؛ لا لأنه سرق، وإنما لأنه فشل وانكشف أمره. ومن ذلك أيضًا أنه كان يُسمح لهم كما ذكرنا بقتل «الهيلوتين». كما كانوا يُتركون في البراري ويطلب منهم إعاشة أنفسهم مدةً من الزمن أو يموتون جوعًا.وأنشأ «ليكورجوس» أيضًا نظام الموائد المشتركة؛ بحيث يتناول الرجال الأطعمة في جماعاتٍ صغيرة تتألف من خمسة عشر شخصًا، وعلى كل مشترك أن يدفع إلى المخازن العامة حصةً عينية من الدقيق والنبيذ والجبن والتين. واشتراكًا نقديًّا لإعداد الموائد التي كان الهدف منها «ألَّا يُسمح لأحد أن يسمن خفيةً وحده في الظلام كما تفعل البهائم الجشِعة». وحتى الملوك أنفسهم، كانوا ملزَمين بذلك؛ فالملك أجيس Agis «عندما عاد منتصرًا من إحدى غزواته ضد الأثينيين لم يستطِع الحصول على إذن بتناوُل عشائه في منزله مع زوجته! وكل مواطن يتخلف عن الاشتراك أو الحضور يجرَّد من جنسيته ويفقد حقوقه؛ والموائد المشتركة تقتصر على الرجال دون النساء، وتلك نقطة أخرى عابها أفلاطون على هذا النظام».أما الفتاة فقد كانت تبقى في المنزل، لكنها تخضع أيضًا لرقابة الدولة وإشرافها؛ فقد كان على كل فتاة أن تشترك في الألعاب الرياضية العنيفة، كالجري والمصارعة، ورمي القرص وإطلاق السِّهام؛ حتى تصبح قويةَ البنية، صحيحةَ الجسم، كيما تُنجب الأطفال الأصحاء «كما كان على الفتاة أن تسير في مواكب الاحتفالات العامة، أو أثناء الرقص، عاريةً تمامًا، وعلى مرأًى من الشبَّان، حتى يحفزها ذلك على العناية بجسمها، فالكشف عن عيوبها يحْمِلها على الحرص على علاج هذه العيوب، ولم يكن عُري الفتاة يدعو، في رأيهم، إلى أي خجل، وهو كذلك للأسف عند أفلاطون، مع أنها سمةٌ أساسية للمجتمع البدائي القريب من الحيوان.٣٥ كما كانت الفتيات يُنشدن أثناء الرقص أناشيدَ تمجِّد الشجعان الذين يخوضون غمار المعارك، بينما تسخر من الجبناء الذين يفرون من ميدان القتال. ويرى بعض المؤرخين أنهنَّ كنَّ يشتركنَ مع الشبان في مسابقات ومنافسات. ولم يكن يُسمح للفتاة المريضة بالزواج؛ لأن النسل لا بد أن يأتي مكتمِل الصحة، وعلى الفتاة المريضة أن تُحجم هي نفسها عن الزواج.٣٦ وكانت الدولة تُصدر تحذيرًا عامًّا للرجال والنساء عند الزواج لمراعاة صحة مَن يريدون الاقتران به؛ بحيث لا يُسمح بزواجٍ فيه أيُّ قَدْر من الضَّعف أو المرض، ولهذا فقد حُكِم على الملك أرخيداموس Archidamus بغرامةٍ نقدية؛ لأنه تزوج من امرأةٍ قصيرة ضئيلة الجسم.٣٧كان سن الزواج كما حدَّدته الدولة، الثلاثين للرجال والعشرين للنساء (وهو قريب من سن الزواج في أثينا) لكنَّ العزوبة في إسبرطة كانت جريمةً يُحرَم أصحابها من حق الانتخاب ومشاهدة المواكب العامة التي يرقص فيها الفتيان والفتيات عرايا، وكان مَن يصرُّ على عدم الزواج عُرضةً لأنْ تهاجمه النساء في أيِّ وقت وتؤذيه أشدَّ الأذى. والحق أن الزواج في إسبرطة كان يحمل الكثير من خصائص الزواج في الجماعات البدائية، فالوالدان يرتِّبان الزواج، فإذا ما تمَّ الاتفاق كان على العريس أن «يخطف» عروسه أو ينزعها من بيت أبيها قوة واقتدارًا، كما كان يُنتظر منها أن تقاوِم هذا الانتزاع، وكان اللفظ الذي يعبِّر عن هذا الزواج هو «الاغتصاب»،٣٨ فإذا ما تُرك عددٌ من الكبار بلا زواج، جاز حشر عدد من الرجال في حجرة مظلمة ومعهم عدد مساوٍ لهم من البنات، ثم يترك هؤلاء وأولئك ليختار كلُّ رجُل شريكةَ حياته في الظلام.٣٩ وهو نظامٌ يذكِّرنا بنظام الاقتران بين حراس أفلاطون. ولم يكن للفتاة في جميع الأحوال رأيٌ خاص في اختيار زوج المستقبل.والحقُّ أن مركز المرأة في إسبرطة لم يكن أفضلَ منه في بقية المدن اليونانية، خلافًا لمَا يقوله بعض الباحثين الذين بهرَتهم التدريبات البدنية للفتيات وخروجهنَّ عرايا أمام الشبان وكأنَّ المجتمعات البدائية لم تكن تفعل ذلك، تمامًا مثلما ربط بعض المفكرين بين إلغاء الأُسرة وتحرير المرأة، فلمَّا لم تكن هناك أسرة بالمعنى الدقيق في إسبرطة، فقد ظنَّ البعض أنَّ ذلك يعني مركزًا مرموقًا للمرأة، وتلك نقطةٌ هامة علينا أن نتوقف عندها قليلًا؛ لأنها كانت سببًا في كثير من الخلط عند شرَّاح «جمهورية أفلاطون»؛ وللأسف، إن سيمون دي بوفوار كانت من هؤلاء؛ فهي تقول: «ما دام اضطهاد المرأة يرجع إلى الرغبة في تخليد الأُسرة، والمحافظة على الملكية الخاصة، فإنه بمقدار ما تتحرر المرأة من الأُسرة تتحرر من التبعية. فإذا حرَّم مجتمعٌ ما الملكية الخاصة، وبالتالي رفَضَ الأُسرة، فإن حظ المرأة يتحسن تحسنًا كبيرًا ملحوظًا، وعلى ذلك فإننا نجد في مدينة إسبرطة، التي خضعَت لنظام المشايعة (في ملكية الأرض)، أنها كانت المدينة الوحيدة في اليونان التي تعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وكانت الفتيات يرتدينَ كما يرتدي الأولاد، ولم ينحصر عمل المرأة مع أعمال زوجها المنزلية، فهو لم يكن يُسمح له بزيارتها إلا خلسة أثناء الليل، ولم تكن زوجته ملكيةً خاصة له؛ فقد كان يُسمح لرجُل آخَر أن يضاجعها لأسباب تتعلق بتحسين النسل؛ ومن ثَم اختفَت فكرة الزنا نفسها عندما اختفَت فكرة الميراث، فجميع الأطفال ينتمون إلى الدولة، ولم تعُد المرأة يستعبدها سيدٌ واحد بسبب الغيرة، أو قُل إن المواطن ما دام لم تعُدْ له ملكية خاصة ولا ذريَّة معينة، فإنه لم يعُد يملك المرأة؛ ومن ثَم، فقد كان على المرأة أن تتفرغ للأمومة كما يتفرغ الرجُل للحرب.»٤٠هذا نصٌّ بالِغ الغرابة تكتبه كاتبة ربما كانت أقدرَ مَن كتَبَ عن المرأة بعمقٍ نافذ، وأقول إنه غريبٌ لأنها هي نفسها التي سبَقَ أن أدركَت في الكتاب نفسه «أن التخلصَ من الأُسرة أو إلغاءها، لا يعني بالضرورة تحريرَ المرأة؛ فهناك نماذج مثل إسبرطة والنظام النازي تبرهن على أنها لم تكن أقلَّ اضطهادًا من الرجُل بسبب تبعيتها الكاملة للدولة».٤١والغريب أنها تدلِّل على المساواة بأن «الفتيات كنَّ يرتدينَ مثل الأولاد» … وكأن المساواة تعني أن توضع المرأة على سرير «بروكرست» فتقطع منها الزوائد والاختلافات التي تجعلها أنثى وتفرقها عن الرجُل. والحقُّ أن هذا ما حدَثَ في إسبرطة؛ فلم تكُن هناك سوى المرأة «المسترجلة» كما قال أرسطو وغيره؛٤٢ لأنَّ المرأة في إسبرطة كانت تعوزها الرقَّة والأنوثة ويغلب عليها طابع الرجال، «ولم يكن مسموحًا لها بإظهار أي شعور يعبِّر عن العطف أو الضعف أو الخوف عندما تفقد زوجها أو ابنها في الحرب».٤٣ كما يقول بلوتارك: «إن النساء الإسبرطيات كنَّ يمتزنَ بالجرأة والرجولة وبالتشامخ على أزواجهنَّ، وكنَّ يتحدثنَ بصراحة في جميع الأمور.»٤٤ ولستُ أعتقد أن المرأة الإسبرطية كانت تقوم بواجب الأمومة كما تقول سيمون دي بوفوار؛ فإذا كانت النظم الإسبرطية توجِب إعدام المولود الضعيف، فإنَّ الأم نفسها كانت تلجأ إلى وسائل مختلفة لتحقيق هذه الغاية وحدها، ودون أن تشعر بأيِّ قدْرٍ من حنان الأم أو عاطفتها تجاه وليدها؛ «فقد كانت تغمس المولود عقب ولادته في دنٍّ من النبيذ وتتركه مغموسًا لحظات، فإن عاش دلَّ على قوة بنيته واستحقَّ التربية. وإنْ مات تكُن الأمُّ قد أدَّت واجبها نحو المجتمع بأنْ خلَّصَته من كائنٍ ضعيف لا يستحقُّ الحياة …»٤٥ ثم يعرض الوليد بعد ذلك على لجنةِ المراقِبين، كما ذكرنا، فإن رأته صالحًا أعادته إلى أمِّه كي تُرضعه وتقوم على تربيته حتى سنِّ الثامنة، لكنْ ماذا تفعل الأم أثناء التربية؟«كان عليها أن تسير على نظامٍ نصحَت به الدولة في تربية الطفل؛ فكان عليها ألَّا تقيد نموه وحركاته بكثرة الأغطية واللفافات والأقمطة، كما كان عليها أن تقسو في معاملته، وأن تمنعه من البكاء، ولا تستجيب لمطالبه. وأن تتركه في الظلام حتى يشبَّ على الشجاعة والصبر والقدرة على الاحتمال …»٤٦ وفي جميع الحالات، فإننا لا نشعر أننا أمام «أمٍّ» بالمعنى الدقيق للكلمة. ولستُ أجِدُ في القصص التي تُروى عن «شجاعة الأم»، التي ذبحَت ابنها بيدَيها لأنه هارب من المعركة، أيَّ قدْرٍ من الأمومة، حتى ولو كان الهروب جبنًا يستحقُّ العقاب من الدولة. إنها أم متوحشة، تلك التي تلجأ إلى ذبح ابنها، حتى ولو كان السبب وطنيًّا؛ لأن شعورها وعاطفتها نحوه لا بد أن تجعلها تتردد ألفَ مرة … يقول روسو: «لقد فَقدَ المواطن الإسبرطي هُويته تمامًا، حتى إنه لم يعُد يعاني من أيِّ صراعٍ داخلي، وأصبحَت الفضيلة تأتيه على نحوٍ طبيعي.»٤٧ فالأم الإسبرطية التي كان لها خمسةُ أبناء في الجيش، خرجَت تستطلع أنباء المعارك؛ عندما الْتقَت بعبدٍ سألته — وهي ترتجف — عن الأخبار، فأجابها: «أبناؤكِ الخمسة قُتلوا.» … لكنها ردَّت عليه بحنقٍ: «وهل سألتك عن ذلك أيها العبد الحقير؟» فعاد يقول: «إنْ كنتِ تسألين عن الحرب، فقد انتصرنا.» عندئذٍ أسرعَت الأم إلى المعبد لتقدِّم الشكرَ إلى الآلهة.٤٨ وتقول الأم وهي تدفن ولدها: «إنه لمصيرٌ عظيم حقًّا … ألستُ أدفنه لأنه مات من أجل إسبرطة؟»٤٩أهذه هي الأمومة الحقَّة؟ الحقُّ أننا لا نجِدُ هنا سوى قسوةٍ وبدائية لا يعادلها إلا قسوة الرجُل الإسبرطي ووحشيته. أمَّا بالنسبة للزواج، فنحن لا نعرف في الواقع أكان هذا الزواج واحديًّا أم جماعيًّا، ولقد حاوَلَ «إنجلز» أن يفسِّره فقال: «كان في إسبرطة نوعٌ من الزواج الفردي، عدَّلته الدولة حتى يتماشى مع الأداء السائد، وهو زواج يحمل الكثيرَ من خواص الزواج الجماعي.»٥٠ فقد كان الكثير من الأزواج يقبلون أن يشترك معهم غيرهم، وخاصة إخوتهم في زوجاتهم.٥١ وكان «ليكورجوس» يسخر من الغيرة ومن احتكار الأزواج، ويقول: «إنَّ من أسخف الأشياء أن يُعنى الناس بكِلابهم وخيلهم، فيبذلوا جهدهم، ومالهم ليحصلوا منها على سُلالات جيدة، ثم تراهم مع ذلك يُبقون زوجاتهم في معزلٍ ليختصُّوا بهنَّ في إنجاب الأبناء.»٥٢ ولقد امتثل الإسبرطيون لنصيحة مُشرِّعهم «فكان يمكن لعدة إخوة أن يتَّخذوا زوجةً مشتركة لهم، وكان الشخص الواحد يستطيع مشاركة صديقه في زوجته إنْ كانت له رغبةٌ فيها. وهناك فقرة في بلوتارك يروى فيها أن المرأة الإسبرطية كانت ترسل الحبيب الذي يلاحقها بملاطفاته ومغازلاته كي يتباحث مع زوجها في هذا الشأن …»٥٣ والعجيب أن إنجلز يقول بعد ذلك «أنه لم يكُن هناك الزنا بمعناه الحقيقي، أي خيانة الزوجة لزوجها دون علمه …» ثم يستنتج: «لكل هذه الظروف، تمتعَت المرأة في إسبرطة بمركزٍ محترم بين كلِّ نساء الإغريق الأخريات.»٥٤ ويروي جيمس دونالدسون أنَّ رجلًا حاوَلَ استمالة امرأةٍ إسبرطية ليقضي منها وطرًا، فقالت: «عندما كنتُ فتاةً تعلمتُ أن أطيع والدي، ولقد أطعتُه، وعندما أصبحتُ زوجةً أطعتُ زوجي. وبالتالي إذا أردتَ مني شيئًا كهذا، فعليك أن تستأذنه أولًا …»٥٥ إن الذين يتحدثون عن انعدام الزنا في إسبرطة، ويعتقدون أن المرأة حظيَت لهذا السبب ﺑ «مركزٍ محترم»، ينسون أن الزوجة كانت في وضعٍ أشد سوءًا وانحطاطًا من حالة الزنا؛ فهي تمارس العلاقات الجنسية مع مَن يوافق عليهم الزوج أو مَن يرسله لها من الأصدقاء لمَا يجده فيه من «فحولةٍ وشباب وقدرة على إنجاب أطفالٍ أقوياء»، وها هنا تُعامَل المرأة كما تُعامَل الماشية التي يرغب مربِّيها في تحسين نسلها. وكانت الزوجة تستسلم راضيةً لهذا الوضع المتدهور. وفضلًا عن ذلك، فإن علينا أن نضع في اعتبارنا أنَّ المواقف التي يقدِّم فيها الزوجُ زوجته لصديقه أو ضيفه، شاعت كلها في المجتمعات البدائية، لا سِيَّما مجتمعات الصيد ثم الرعي، كذلك فإنَّ نكاح الاستبضاع شاع عند العرب في الجاهلية.٥٦ كل ذلك دليلٌ على تخلُّف المجتمع الإسبرطي من ناحية، وعلى الوضع السيِّئ للمرأة من ناحيةٍ أخرى. إننا على العكس نعتقد أنَّ حالات الخيانة التي عُرفَت في أثينا مثلًا — ولو أنها كانت حالات قليلة — تدلُّ على وضعٍ للمرأة أكثر تطورًا وإيجابية؛ فها هنا ضَربٌ من التمرد ضدَّ طغيان الزوج، أو ظُلمه، أو إهماله، أو اعتباره إياها مجرد متاع في المنزل: «إنَّ قرارها أنْ تخون زوجها يرجع في الأعمِّ الأغلب إلى استيائها.» ويؤكد أدلر Adler أن خيانة المرأة لزوجها هي باستمرار ضربٌ من الانتقام أو الثأر … فكما لو كانت تتحدى زوجها بقولها إنه ليس الرجُل الوحيد في العالَم، وإنها تستطيع أن تجد آخرين يقدِّرون ما لها من سِحر وجاذبية. كما لو كانت تقول أنا لستُ جاريةً لك … إنك تظنُّ نفسك ذكيًّا، لكني أستطيع أن أجعلك مغفلًا …»٥٧ أما المرأة الإسبرطية، فقد تحولَت إلى حيوان، وربما حيوان برِّي، يختصُّ بالإنجاب وتحسين السلالة فحسب؛ إذْ يمكن أن يضاجعها القوي بعلم زوجها ورضاه ليُنجب أطفالًا أقوياء، وهي برِّية «بمعنى أنها فَقدَت ما للأنثى» من صفات، ولقد كان «ليكورجوس» ينصح صراحةً أن تتخلص الفتيات من كل صفات الأنوثة المكتسَبة كالحياء والخجل، وذلك حتى يتمكَّنَّ من الرقص عاريات أمام الرجال.٥٨ كما أنها فَقدَت حنان الأم، كما سبق أن ذَكَرنا، وماذا نقول في امرأةٍ لا تتورع عن ضرب الرجال العزَّاب «لتؤذيهم أشدَّ الأذى» كما يقول ديورانت.٥٩ والحقُّ أن المرء لا يملك أن يمنع نفسه من الدهشة عندما يقول أحد علماء التربية: «وقد اشتهرَت الأم الإسبرطية بمهارتها في رعاية أطفالها، وفي منعهم من البكاء والتعبير عن أنفسهم بالغضب أو الخوف، وكانت تقوم بتعويدهم منذ الصغر على تحمُّل الجوع والألم بدون شكوى أو تذمُّر …»٦٠ أهذه مهارة ورعاية في التربية أم بدائية وتوحُّش؟ … ألسنا نجِدُ هنا ضربًا من القسوة البدائية التي لا تليق بمشاعر الأم؟ذلك كله يؤكِّد ما سبق أن ذكرناه من أن النظام في إسبرطة كان أقرب إلى المجتمعات البدائية، فلا اهتمام بالثقافة أو التعليم أو الأدب، وهو قصور عابه أفلاطون على النظام، بل لم تكن الموسيقى التي اعتبرها أساسيةً لتهذيب الروح، تُدرس إلا لتمجيد الأبطال أو الحثِّ على القتال، باختصار «كانت الشرائع الإسبرطية تُخرج جنودًا بواسل ولا شيء غير ذلك، إلا أنها جعلَت قوة الجسم وحشيةً مرذولة؛ لأنها أماتت الكفايات العقلية كلها تقريبًا …»٦١ ولهذا قال عنهم إيزوقراط Isocrates، بحقٍّ، إنهم كانوا أشدَّ تخلفًا من البرابرة!أمَّا وضْعُ المرأة فهو — كما قُلنا — يتأثر، بغير شكٍّ، بوضع الملكية في المجتمع، وهذا ما نجده طوال التاريخ؛ فالمراحل الأُولى للإنسان التي لم تظهر فيها الملكية الفردية (كالجمع والالتقاط)، لم يكن الرجُل يهتمُّ بأن يستأثر بزوجةٍ معينة.٦٢ فلمَّا ظهرَت الثروة واستجدَّ معها نظام الإرث، اهتمَّ الرجل بإخلاص الزوجة حتى تُعطيه أبناء من صُلبه ينقل إليهم ثروته، فإذا كانت الملكية جماعيةً كان الزواج أقربَ إلى الجماعة أيضًا، وانحلَّت الأُسرة بمعناها التقليدي؛ وتلك كانت الحال في إسبرطة، فمشرِّعها الأكبر «ليكورجوس» قام في القرن التاسع بإلغاء نظام الملكية الفردية للأرض، وأعاد تقسيم أرض لاكونيا إلى ثلاثين ألف قطعةٍ متساوية القيمة بعدد الأُسر الإسبرطية في ذلك الوقت، وأعطى لكل أسرة قطعةَ أرض تقوم باستغلالها عن طريق العبيد، وجعل للدولة نفسها نصيبًا كبيرًا من غلَّة الأرض ودَخْل الناس، وذلك في مقابل ما تأخذه على عاتقها من إنفاقٍ على جميع الشئون التربوية وأعمال الحرب … ومن ثَم، فلم تكن هناك ملكية فردية ولا أُسرة بالمعنى الدقيق الذي يكون فيه الأب مسئولًا مسئوليةً كاملة، يقول زينوفون: «لقد عارض «ليكورجوس» ما هو شائع في المدن الأخرى التي كان الأب فيها يسيطر على أطفاله وخدَمه وممتلكاته. ذلك لأنه كان يهدف إلى تأمين سلامة المواطنين جميعًا؛ ومن ثَم، فقَدْ ذهب إلى أن كل مواطن ينبغي أن تكون له السيطرة الكاملة على أبناء جيرانه مثل أبنائه تمامًا … ولو أنَّ صبيًّا ذهب يشكو إلى أبيه من أن شخصًا آخَر في مكانة والده قد جلَدَه بالسوط، فإن الأب يُخطئ كثيرًا إنْ لم يعاود جلْدَ الصبي، كذلك أباح لهم استخدام خدَم الجيران، كما طبق هذه الشيوعية على كلاب الصيد والخيل وغيرها …»٦٣ فالملكية جماعية والتربية جماعية، والزواج جماعي أيضًا. والملاحَظ أن الأزواج كانوا يرحِّبون بأن تتصل زوجاتهم بغيرهم؛ لأن ذلك «يُكثر» من عدد الأبناء، وكل مَن أنجب ثلاثة يستبعد من الخدمة العسكرية، ومَن أنجب أربعة يُعفى منها نهائيًّا. ثم لا ضررَ هناك لأنَّ الابن الذي تلده الزوجة من شخصٍ آخر لا يرث شيئًا من مال الأُسرة أو أرضها، فضلًا عن أن هذه الأرض كان لا يجوز بيعها أو تقسيمها أو التنازل عنها.ولهذا كله، فإننا لا نجد مركزًا مرموقًا للمرأة في المجتمع الإسبرطي، الذي أسقط عنها كل مظاهر الأنثى فعلَّمها الخشونة والقسوة، والفظاظة حتى مع أبنائها وزوجها بحيث لا يبقى فيها شيء من المرأة سوى مهمَّة الإنجاب وتحسين النسل! ثم لم يستطِع هذا المجتمع أن يسير من هذه المقدمات إلى نتيجتها المنطقية كما فعل أفلاطون فيما بعد، فإذا ما تحولَت المرأة إلى رجُل على هذا النحو فما الذي يمنع من اشتراكها في التنظيمات السياسية؟ ولمَ لا يكون لها موائد مشترَكة للعشاء أو تُشارك الرجال موائدهم؟ عيوب أخرى يأخذها فيلسوفنا على النظام الإسبرطي، وسوف يحرص على علاجها في «الجمهورية» أولًا، ثم في القوانين بعد ذلك. ومما يلفتُ النظر حقًّا أنه لم تكن هناك امرأةٌ واحدة في مجلس الشيوخ «جيروزيا Gerousia»، الذي يتألف من الملكَين (وكانت إسبرطة يحكمها ملكان) بحُكم وظيفتهما، ومن ٢٨ عضوًا من الذكور ممَّن بلغوا الستين من العمر وامتازوا بالفضيلة.٦٤بل لم يُعرف أنه كانت هناك امرأة واحدة في الجمعية العامة Appela التي تتألف من جميع المواطنين الإسبرطيين من الرجال الذين بلغوا الثلاثين من العمر، واجتازوا مراحل التدريب التي يفرضها القانون؛ ولا امرأة واحدة بين المراقبين الخمسة Ephors، الذين تنتخبهم الجمعية العامة كلَّ عام لرعاية مصالح الشعب والإشراف على معسكرات التدريب.بقي أن نقول أخيرًا إنَّ البنت لا ترث إلا بموافقة الأب، فالميراث أصلًا للأبناء، فإذا لم يكن هناك أبناءٌ فمن حقِّ الأب أن يتبنَّى أبناءً بموافقة الملكَين، من شخص آخَر أو أن يورث الابنة ويقوم بتزويجها لأيِّ شخص يشاء، أو يوصي بذلك — أن يزوجها حتى بعد الوفاة — فإذا مات دون أن يترك وصيةً، جاز للوصي أن يزوِّجها لمَن يشاء أو يتزوجها هو نفسه،٦٥ ويمكن للأب أن يتبنى كما قُلنا أو يترك التركة إلى صديق، وما يقوله أرسطو من أن «خُمس الأراضي في إسبرطة كانت في أيامه مملوكةً للنساء؛ لأن عددًا كبيرًا منهنَّ كنَّ الوارثات الوحيدات»،٦٦ فإن «جونز» يرى أن أرسطو كان يقصد نساءَ إسبرطة الأرامل اللاتي يحصلنَ في النهاية على مهورهنَّ.٦٧ وكانت المهور يدفعها أهل الفتاة، وتبقى في حوزة الزوج يستخدمها دون أن ينفقها أو يبيعها، ما بقيَت معه الزوجة، فإنْ طلقها عادت إلى بيت أبيها أو الوصي مع بائنتها. ولهذا كانت المهور كبيرةً … وهذا هو السبب الذي جعل أفلاطون يطالب بإلغائها في القوانين كما سنرى، كما جعل أرسطو يقول: «من الأفضل ألَّا تكون هناك مهور على الإطلاق، أو أن تكون مبالغَ ضئيلة أو معتدلة.»٦٨
Sarah B. Pomeroy: Women in Classical Antiquity, pp. 37-8.