في الكتاب الثالث، يُفصِّل أفلاطون القول في تربية الحراس، طبقة الجند التي ستدافع
عن
المدينة، وصفوة الحكَّام التي ستخرج من جوفها،
٢ أو طبقة الحكَّام ومساعديهم. فكيف نربي الحراس بحيث يكون عندنا «عظماء الرجال»؟
لا بد أن نضع نظامًا دقيقًا ومُحكَمًا، فيه الكثير من العناصر الإسبرطية التي أثبتَت
كفاءةً
عالية في المعارك التي أدَّت إلى هزيمة أثينا (عام ٤٠٤ق.م.).
٣ لكنْ، لا بد أيضًا أن نعالج أوجُه النقص والقصور في النظام الإسبرطي فنربي الجسم
والنفس معًا. وعلينا منذ البداية أن نحذر عدَّة أمور؛ حتى لا تفسد التربية:
الأمر الثالث
الذي ينبغي علينا أن ننتبه إليه جيدًا، هو أن أفلاطون وهو يضع المقدمات العامة لنظامه
في
التربية، يحذِّرنا، كما رأينا، من أن تُترك الحراس يتشبهون بالنساء، أو بأسلوب الأنثى،
وهو
أسلوبٌ كان يُنفر منه جدًّا، لكنه يقول أيضًا: «كذلك ينبغي ألَّا يحاكوا العبيد، ذكورًا
أو
إناثًا، في أحوال عبوديتهم …» ثم يُضيف: «ومُحال أن يحاكوا أشرار الناس وجبناءهم ولا
المجانين، لا في أفعالهم، ولا في أقوالهم …» (٣٩٦، ص٢٤٢). ونستطيع أن نلحظ بسهولة أن
أفلاطون يُصنِّف النساء دائمًا في أحاديثه مع العبيد، والأطفال والأشرار والمخبولين من
الرجال، أو مع الحيوانات والقطيع … إلخ.
٧ فهو لا يتحدث عن المرأة، كأنثى، بأيِّ قَدْر من التعاطف، وسوف نعود إلى هذا
الموضوع بعد قليل.
ويضع أفلاطون بعد هذه التحذيرات برنامجه التربوي الشهير لبناء الجسم من ناحية، وتهذيب
النفس من ناحيةٍ أخرى؛ فالتمرينات الرياضية ضروريةٌ لبناء الجسم، والموسيقى أساسيةٌ لتربية
النفس، وهي أكثر أهميةً؛ لأن الجسم مهما قوي بناؤه، لا يستطيع أن يجعل النفس خيِّرة.
أمَّا النفس
الخيِّرة، فتستطيع بقواها الكامنة أن تُضفي على الجسم ما فيه من كمال (٤٠٣ء، ص٢٥١). وإنْ
كان
للنفس وترانِ؛ الفلسفة والشجاعة، يكونان معًا انسجامًا وتوافقًا. أمَّا وتر الشجاعة،
فترخيه
الموسيقى وتشدُّه الرياضة البدنية؛ وأمَّا وتر الفلسفة، فتشدُّه الموسيقى وترخيه الرياضة
(٤١٢، مجلد ٢، ص٢٦٢). وعلاج النقص في التربية الإسبرطية، يعني الاهتمام بالوترَين معًا.
إذن كان
فيلسوفنا لا يزال متأثرًا بشدة بالتربية الإسبرطية، التي لمسَت وترًا حسَّاسًا في ميتافيزيقاه،
إذْ علينا أن نعوِّد أطفالنا «الحياة الخشِنة»، والتقشف فنعرِّضهم لأعمال مرهقة، ومعارك
شاقة،
ونلقي بهم في صغرهم وسْطَ أشياء مخيفة، ونعجم عُودهم باختبارٍ أقسى من ذلك الذي يَختبر
به المرءُ
الذهبَ بالنار (٤١٣، ص٢٦٣). وهذا الضرب من التربية، يتسق مع كراهية أفلاطون للبدن من
ناحية،
ويساير من ناحيةٍ أخرى ما كان سائدًا في المدن اليونانية كلها، وهو المبدأ الأساسي القائل
بأن على الفرد أن يضحي بمصالحه الخاصة «وحُبه لذاته» من أجل الدولة. بل إن أفلاطون يعتقد
أن
المشكلة الأساسية التي سوف تواجهنا في بناء مدينتنا الفاضلة هي «الإفراط في حُب الذات»
الذي
هو سبب البلايا في جميع الأحوال وهو خطأ فادح «بل هو أفدح الأخطاء جميعًا»، وهو خطأ مفطور
في النفس، ويحاول المرء أن يلتمس لنفسه العذر عن طريقه دون أن يصحِّحه، وهو الخطأ الذي
يعبِّر عنه
المبدأ القائل: «كل إنسان هو بطبيعته صديق نفسه، وينبغي عليه أن يكون كذلك …» (٧٣١ﻫ،
ص٣٠٠). تلك هي الأنانية المفرطة التي ينبغي علينا أن نُخلِّص حرَّاسنا منها، فنربيهم
على إسقاط
المصالح الشخصية من اعتبارهم؛ بحيث لا يكون ثمَّة سوى صالحِ الدولة.
انتهينا من تعليم الحراس؛ فأين يُقيم هؤلاء؟ «التفكير السليم يقضي بأن نختار لهم
من
المساكن والمقتنيات ما يضمن لهم أنهم لن يحيدوا عن الكمال بوصفهم حراسًا» (٤١٦ﻋ، مجلد
٢،
ص٢٦٧). ها هنا يبدأ أفلاطون لأول مرة — متسقًا مع مبادئه الميتافيزيقية والأخلاقية التي
تكره المادة وتحطُّ من شأنها — في تحريم الملكية الخاصة على «طبقة الحراس»؛ «إذْ من الواجب
ألَّا
يكون لأيٍّ منهم شيء يمتلكه وحده، ولا يكون لواحد منهم منزل أو مسكن لا يدخله غيره» (٤١٦ﻋ،
مجلد ٢، ص٢٦٧). ويظهر الأثر الإسبرطي واضحًا عندما يتحدث أفلاطون عن «المعسكر المفتوح
الأبواب»، الذي ينبغي أن يعيش فيه هؤلاء الحراس؛ «عليهم أن يتناولوا وجباتهم سويًّا،
ويعيشوا
حياة جماعية كالجنود في ساحة القتال …» كما يحرم عليهم، كما هي الحال في إسبرطة، اقتناء
الذهب والفضة — وهو تحريم سوف يستمر أيضًا في محاورة «القوانين» — أمَّا الذهب والفضة،
فسنؤكد
لهم أن لديهم في نفوسهم على الدوام ذهبًا وفضة وهبها لهم الله. وأنهم ليسوا بحاجة إلى
ذهب
الناس وفضتهم، وأن من العار أن يفسدوا ما يمتلكون من الذهب الإلهي بإضافة الذهب الأرضي
إليه؛ «إذ إنَّ ذلك الذهب الذي يتنافس عليه العامة كان مَبعثًا لشرور لا حصر لها، على
حين أن الذهب
الذي يكمن في نفوسهم من معدنٍ نقي، وأنهم هم وحدهم دون بقية المواطنين الذين ينبغي عليهم
ألَّا
يجمعوا مالًا أو يمسُّوا ذهبًا، أو أن يأويهم هم والذهب سقفٌ واحد … إلخ» (٤١٧أ-ب، مجلد
٢،
ص٢٦٨). إننا إذا أردنا أن نرتفع بالمواطنين إلى أعلى مستوًى ممكن من الفضيلة، فإن علينا
أن
نضع في اعتبارنا ثلاثة أمور يهتم بها الإنسان؛ أدناها وأحطُّها الجري وراء المال، ويليها
الاهتمام بالجسد الذي يقع في مرحلةٍ وسط، أما أعلاها فهو الاهتمام بالنَّفْس. ولن ينصلح
حال
مدينتنا إلا إذا وضعنا في اعتبارنا هذا الترتيب (القوانين ٧٤٣ﻫ، مجلد ٢، ص٣١٢)؛ ومن ثَم
فإذا أردنا تربية الحراس حقًّا، فإن علينا أن ننزع من نفوسهم الجري وراء المال والثروة،
وأن
نقلِّص اهتمامهم بالجسد إلى الحد الأدنى الذي تحتاجه المدينة فحسب، سواء ما تحتاج إليه
عندما
تدرِّب الجسد على القتال، أو كأداة لإنجاب الأطفال؛ فحياة هذه الطبقة ينبغي أن تكون حياة
عاقلة، والعقل يعني اللاأنانية؛ لأنه لا يهدف إلى إشباعٍ ذاتي بل يعمل من أجل رفاهية
الكل.
٨ (وقارن: الجمهورية، ٤٨٥ﺣ–ﻫ).
والحقُّ أن أفلاطون يشنُّ حملةً عنيفة على جمع المال وطلب الثروة؛ فشهوة التملُّك
الجامحة هي أصلُ
كل بلايا الدول والأفراد (٢٧٣، ص٢١٥)؛ حتى يكاد يقول لنا إنَّ الأغنياء لا يمكن أن يكونوا
فضلاء، فهما ضدَّان لا يلتقيان، أو كأنَّ الفضيلة والثروة على طرفَي نقيض، فكلما جدَّ
الإنسان في
طلب الثروة ورفع قَدْرها، ابتعد عن الفضيلة وقلَّ تقديره لها؛ «إذْ بين الفضيلة والثروة
ذلك
الفارق الذي يجعل إحداهما تنخفض كلما ارتفعَت الأخرى إذا وضعتا على كفتَي ميزان … فإذا
كُرِّمت الثروة والأثرياء في دولةٍ ما، قلَّ تكريم الفضيلة والفضلاء حتمًا …» (٥٥٠ﻋ،
٥٥١أ)، ولا شك أن هذه الكراهية للمال والثروة عمومًا تتفق مع ميتافيزيقيا أفلاطون، كما
قلنا، التي جعلَت من المادة عنصرًا للشر في الكون، وكرهَت الجسد حتى اعتبرته سجنًا
للنفس.
فما هو الحل الحاسم الذي يجنب الحراس الهبوط إلى مستوى جامعي المال؟ ماذا نفعل لكي
نقضي
على «حُب الذات الفطري»، والأنانية المفرطة والمفطورة في النفس البشرية؟ الحلُّ المنطقي
هو أن
نحرِّم عليهم أيَّ لون من ألوان الملكية الخاصة؛ فلا منازل، ولا عقارات، ولا أرض، ولا
ذهب أو
فضة، ولا ملكي أو ملكك. «أليس شرٌّ ما في الدولة هو ما يمزِّق وحدتها ويفرقها أشتاتًا،
وأفضل
خير فيها هو ما يجمع شملها ويوحِّدها؟ … إن ما يفرق وحدة الدولة هو الأنانية في الأفراح
والأحزان، عندما يمتلئ البعض فرحًا والبعض الآخر حزنًا … وهذه التفرقة بين الناس إنما
ترجع
إلى أنهم في المجتمع لا يستخدمون كلمات: «ملكي»، و«ليس ملكي»، ولغيري، و«ليس لغيري» بالنسبة
إلى أشياء واحدة» (٦٥٢د–ﺣ، مجلد ٢، ص٣١٨)؛ فإذا استطعنا القضاء على الملكية الخاصة، فإننا
نصِل إلى أفضل المجتمعات التي يصدُق عليها المثل الفيثاغوري القديم «ملكية الأشياء مشاعٌ
بين الأصدقاء».
٩ وقد يصعُب تطبيق مثل هذا المبدأ على الطبقة الدنيا التي يسيطر عليها عنصر
الشهوة والْتصاقها بالحسِّ وقُربها من المادة؛ ومن ثَم اهتمامها بالجسد وحاجاته والغرائز
وإشباعها … إلخ. وفي هذه الحالة قد يكون من الأفضل أن نتركها تملك الأرض والعقارات
والزوجات … إلخ، وإن كان ذلك ينبغي أن يتمَّ تحت رقابة صارمة من الدولة.
١٠ أما الطبقة التي تقود المجتمع وترشده إلى الفضيلة، وهي التي تهمُّنا قبل غيرها
(طبقة الحكَّام ومساعديهم)، فإنه إذا ما أريدَ لأعضائها أن يكرسوا أنفسهم لأداء الواجبات
الخاصة، وجَبَ عليهم التخلي عن عنصر الشهوة الذي لا يتمثل فيهم، بل في الطبقة الدنيا،
طبقة
العمال والفلَّاحين والمنتجين بصفة عامة؛ ولهذا يتحتم عليهم نبذ الجانب الاقتصادي من
الحياة،
وهو الذي يتمثل فيه عنصر الشهوة.
١١ وما دامت الفضيلة والثروة لا تجتمعان؛ فإنه ينبغي عليهم ألَّا يجمعوا بين الجانب
الاقتصادي والجانب الماسي، بل يجب أن ننزع من نفوس الحراس ذلك الشعور البغيض بأن هذا
ملكي،
و«ذاك ملكك»، وهو الشعور الذي يولِّد الفرقة والبغضاء بين الناس؛ فنجعل كل ما يمكن امتلاكه
مشاعًا بين أفراد هذه الطبقة المختارة؛ «ذلك لأنهم لو تملكوا كالآخرين بيوتًا وأموالًا
لتحولوا من حراس إلى تجار وزراع، ومن حماة للمدينة إلى طغاة وأعداء لها (٤١٧د، ص٢٦٨).
وهكذا ذهب أفلاطون إلى ضرورة القضاء على المصالح «الذاتية الأنانية» للطبقة التي ستجمع
في
يدها شئون — الحرب والسلم — الدفاع والسياسة، فجعل أفرادها يعيشون حياةً خشنة متقشِّفة،
فيها
الكثير من العناصر الإسبرطية، بالإضافة إلى تهذيب النفس، على أن تقوم الطبقة الدنيا
بالإنفاق عليهم …»
ويعود أفلاطون في الكتاب الرابع إلى مناقشة موضوع الملكية وتحريمها على طبقة الحراس،
لا
سيما ما سوف يترتب على هذا التحريم من نتائج؛ ذلك لأن واحدًا من المستمعين لسقراط —
أديمانتوس — «يعترض بأنَّ تحريم الملكية على الحراس سيؤدي إلى نتائج سيئة، منها أنه سيجعلهم
تعساء؛ لأنهم لن ينالوا من المجتمع، الذي يكرسون حياتهم لخدمته، أيَّ نفع؛ لن يتمتعوا
كما
يتمتع غيرهم من حكام الدول بالقصور الشامخة والأثاث الفاخر … إلخ. ويجيب سقراط بأننا
لا
نستهدف من بناء الدولة سعادةَ فئة معينة من المواطنين، بل أن نكفل أكبر قدر ممكن من السعادة
للمجتمع بأَسره. وإنْ كانت السعادة كلمةً غامضة، فهي لا تعني ما نعنيه بها الآن، وإنما
هي
كالعدالة تعني الحالة التي تنتج عن انسجام المواطنين،
١٢ عندما يؤدي كلٌّ منهم عمله الوحيد الذي يناسبه، دون أن يتعدى على عمل الآخر، فها
هنا يتحقق «الخير الأقصى» الذي هو فكرةٌ محورية عند أفلاطون؛ ومن ثَم تكون السعادة، كما
يراها، هي الارتفاع بالمواطنين عن طريق التربية إلى أعلى مستوًى ممكن من الفضيلة والحكمة.
١٣
وما يهمنا هنا أن أفلاطون وهو يناقش النتائج المحتملة المترتبة على إلغاء الملكية
(في
الكتاب الرابع) يلقي بقنبلة تمثل إحدى الموجات الثورية الثلاث التي تصدم مشاعر المجتمع
الأثيني؛ وأعني بها «إلغاء الأُسرة». لكنه لا يقف طويلًا لمناقشة الفكرة، بل يكتفي بأن
يقول
بسرعة: «إن التربية الصالحة لو أنارت نفوس مواطنينا، لأمكنهم أن يحلُّوا بسهولة كل المشاكل
التي تركناها مؤقتًا، وكذلك غيرها من المشاكل، كمشكلة اقتناء النساء والزواج وإنجاب الأطفال،
بحيث نتبع في هذا الأمور القاعدة القائلة بأن كلَّ شيء مشاع بين الأصدقاء …» (٤٢٣ﻋ–٤٢٤أ،
مجلد ع، ص٢٧٤).
علينا أن ننتبه جيدًا إلى أن أفلاطون يناقش هنا النتائج المترتبة على إلغاء الملكية.
فإذا
قُلنا لا أحد من الحراس يملك شيئًا كانت النتيجة المنطقية ألَّا تكون هناك «أُسرة» بحيث
يصبح
كلُّ شيء مما يجوز امتلاكه مشاعًا بين الأصدقاء. يقول باركر: «الأسرة تتطلب الملكية حتى
تحتفظ
بكيانها … ومن هنا فإن إلغاء الحياة العائلية بين الحكام هو نتيجة تترتب على نبذ الملكية
الخاصة، بل قل إنه نتيجةٌ حتمية لها … إذ يعتقد أفلاطون أن الملكية والأسرة شيئان يعتمد
كلٌّ
منهما على الآخَر …»
١٤ وما يدل على أن الارتباط كان قائمًا في ذهن أفلاطون أمران؛ الأول: أنه أباح
الملكية الخاصة للطبقة المنتجة كما أجاز لها في الوقت ذاته تكوين الأسرة، وكأنه يعتقد
أن
وضع المرأة داخل الأسرة كربَّة منزل إنما جاء نتيجة لوجود الملكية الخاصة في المجتمع،
فإذا ما
تمَّ إلغاء هذه الملكية وجب إلغاء الأسرة وأصبحت «الأشياء» مشاعًا بين الأصدقاء؛ ومن
ثَم
تصبح الزوجات مشاعًا بين الحراس.
أما الأمر الثاني، فهو أن أفلاطون نفسه عندما يعيد الملكية الخاصة في محاورة متأخرة
— هي
محاورة القوانين — سوف يُعيد في الوقت ذاته تكوينَ الأُسرة، وسوف تعود المرأة مرةً أخرى
«ربَّة
منزل»، وسيدة لبيتها ومربية لأطفالها تدافع عنهم كما تدافع الدجاجة، وكما تدافع الطيور
عمومًا عن صغارها. ومن نافلةِ القول أن نذكُر أنَّ هذا الارتباط بين الملكية الخاصة والأُسرة،
كان
قائمًا أيضًا في إسبرطة؛ فلما كانت الملكية «شِبه جماعية»، كان الزواج شِبه جماعي أيضًا
…
وأصبحت «الزوجة» شِبه جماعية كذلك. وأصبح من الجائز أن يضاجعها، مَن ترى الدولة، أو يعتقد
الزوج نفسه أنه «فحل» يستطيع أن يُنجب أبناء أشداء للمجتمع.
١٥
أمَّا في أثينا، حيث أباح المجتمع الأبوي الملكية الخاصة، فقد كان الأب يملك من بين
ما يملك
زوجةً «خاصة» … يُحرم على الناس رؤيتها كما يمنع خروجها من المنزل أو السير في الشارع
اللهم
إلا إذا وضَعَت على وجهها خمارًا تُعلن فيها للملأ أنها ملكيةٌ خاصة لا يجوز المساس بها،
على
خلاف العاهرات أو الجواري اللائي كنَّ ملكية عامة؛ ومن ثَم كنَّ معفيات من هذا الشرط.
وهكذا
تستطيع أن تقول إنه حيثما توجد الملكية الخاصة توجد الأسرة؛ «ولهذا احتفظَت الطبقات المنتجة
بالمنزل والأسرة، كما احتفظَت بالملكية الخاصة؛ والأسباب التي من أجلها تقتصر شيوعية
الملكية
على الحكام، هي نفسها الأسباب التي من أجلها تقتصر شيوعية الزوجات على هذه الطبقة؛ لأنها
نتيجةٌ تترتب على شيوعية الملكية».
١٦
لقد أصبح كثيرٌ من الفلاسفة يُسلِّمون اليوم بهذا الارتباط الوثيق. يقول رَسل: «هناك
عاملان
أساسيان في تحديد خصائص المجتمع، أي مجتمع: النظام الاقتصادي، ونظام الأُسرة … فإذا ما
أخذنا
الأطفال من الوالدين، وقامت الدولة بتربيتهم كما هي الحال في جمهورية أفلاطون، فسوف يكون
على الدولة أن تقوم بدور الأب، وسوف تصبح الدولة في الحال هي الرأسمالي الوحيد … وإذا
أصبحَت الدولة هي الرأسمالي الوحيد، فلا يمكن للأسرة على نحوِ ما نعرفها أن تبقى؛ ولو
امتدَّت
هذه الفكرة حتى نهايتها، فسوف يكون من المستحيل علينا أن نُنكر وجودَ رابطةٍ قوية بين
الملكية
الخاصة والأُسرة. وهي رابطةٌ متبادلة، حتى إننا لا نستطيع أن نقول إن إحداهما هي السبب
والأخرى
هي النتيجة …»
١٧ وهكذا يربط رَسل بدوره بين الملكية الخاصة والأُسرة برباط وثيق. ولقد فعَلَ
أفلاطون الشيءَ نفسه قبل رَسل بأربع وعشرين قرنًا؛ بل وعلى نحوٍ أكثر صرامة، عندما وسَّع
مفهوم
الملكية الخاصة على نحو ما كان سائدًا في المجتمع الأثيني وجعله يمتدُّ إلى ملكية المرأة.
١٨ فتلك كانت حقوق الأب في أثينا الذي يملك «أفراد الأسرة». ومن الواضح أن أفلاطون
لا يفرِّق كثيرًا بين ملكية الأشياء وملكية الأشخاص؛ إذْ من الواضح أنه يُصنف النساء
والأطفال
من بين الممتلكات.
١٩ يقول في محاورة «القوانين» —وهو يشعر بأسًى لفشل مشروعه في الجمهورية — وبعد
أن عاد إلى السماح بالملكية والأسرة معًا … «طالما كان لكلٍّ منا نساء وأطفال ومنازل
وغير ذلك
من الأشياء التي يمتلكها الأفراد ملكيةً خاصة … فإننا لن نحقِّق مشروعنا كما خططناه»
(القوانين ٨٠٧، مجلد ٤، ص٣٧٤). وفي استطاعتنا أن نلاحظ في سهولةٍ ويُسر أنَّ أفلاطون
ما زال
يصنِّف النساء على نحوِ ما كُنَّ في المجتمع الأثيني، الذي عاش فيه بوصفهنَّ ضربًا من
الملكية
الخاصة. وهو لا يجد غضاضةً في أن يتحدث عن «القانون الذي ينظِّم امتلاك النساء والأطفال
وتعليمهما» (٤٥٣ﻫ، مجلد ٢، ص٣٠٧). وتعبير «شيوع النساء والأطفال» الذي يستخدمه أفلاطون
بكثرة ليصف به نظامه المقترَح في الزواج المؤقَّت، فيه إشارة أبعد ما دامت الظاهرة يمكن
أن توصف
وصفًا أكثر دقةً بأنها «شيوع الرجال»؛ ويرى «جروب» أنَّ «من الخطأ أن تسمَّى شيوعية الزوجات
والأطفال؛ لأن الزوج والزوجة يقفان على أساسٍ واحد، وسرعان ما تنحلُّ الشركة بينهما …»
٢٠ فلماذا يستخدم أفلاطون «شيوع النساء دون الرجال»؟ لم يتحدث أفلاطون قَط عن
شيوعية الرجال — وهي شيوعية كان لا بد أن تكون قائمةً في اللحظة نفسها التي يُلغى فيها
الزواج
الواحدي — لأنَّ شيوعية الزوجات هي الوجه الآخَر لاستبعاد الملكية الخاصة بكلِّ أنواعها؛
فالواقع
أن الزوجات يشار إليهنَّ بلفظٍ قانوني آخَر هو شيوع الملكية.
٢١
وعلى الرغم من أن «جروب» كان قد وصف أفلاطون بأنه رسول المساواة بين الرجل والمرأة؛
فإنه
يعود فيقول إن «أفلاطون تحدَّث عن المساواة، لكنه لم يحاول قَط أن يرفع من قدر العلاقة
بين
الرجل والمرأة أكثر مما كانت عليه بين معاصريه»
٢٢ … ويستطرد موضِّحًا فكرته: «صحيحٌ أن أفلاطون أكَّد المساواة بين الجنسين، لكنه
فشل في أن يرى أن مثل هذه المساواة، يترتب عليها إعطاء المرأة وزنًا أكثر مما هو قائم
بين
النساء من حوله؛ ومن ثَم يترتب عليها إنشاء علاقات جديدة ومختلفة بين الجنسين، تشبع
المتطلبات العليا التي كان اليونانيون يتطلعون إلى إشباعها في حُبهم للرجال.»
٢٣
أفلاطون، إذن، ينظر إلى كلِّ ضروب الملكية الخاصة على أنها تعمل على تدمير وحدة المجتمع
(لا
سيما الصفوة الحاكمة) وذلك يصدُق أيضًا على المرأة أو «الزوجة الخاصة»؛ فالتنافس على
الزوجات
يغذي الشعور السيئ بين الرجال، ويسبب الشقاق والدمار بالطريقة ذاتها؛ لأنه لون خاص من
الملكية.
٢٤ إذْ يحاول كلٌّ على حدة أن يغتصب ما يستطيع أن يحصل عليه؛ ليضعه في بيت خاص به يضمُّ
امرأته وأطفاله الذين يشكِّلون مصدرَ الأفراح والأتراح عنده؛ فهم لا ينتسبون إلا إليه
(٤٦٤ﺣ،
مجلد ٢، ص٣٢١). لكنْ، عندما لا يعود لأيِّ واحد من الممتلكات الشخصية، ويصبح كل ما عدا
ذلك
مشاعًا بين الجميع؛ ألن تختفي القضايا والاتهامات المتبادلة بدورها، ويتلخصوا من كل
الخلافات التي تنجم عن المال وعن الروابط العائلية؟ (٤٦٤، مجلد ٢، ص٣٢١).
٢٥
لكن، كيف يمكن أن تنعكس هذه الفكرة على ما ذكره أفلاطون عن المساواة بين الرجُل والمرأة؟
ألمْ يقُل أن طبيعتهما واحدة؟ ألسنا أمام فيلسوف يرفع من شأن المرأة ويجلُّها عندما تشارك
الرجُلَ جميعَ مهام الدولة؟ … هذا ما سنحاول تفسيره الآن.