الفصل الثاني

المرأة في محاورة القوانين

أولًا: عودة الملكية

لم يتخلَّ أفلاطون قَط عن إيمانه العميق بالمثل الأعلى للحياة الاجتماعية والسياسية، الذي عرضه في «الجمهورية»، فهذا «النموذج» هو الدولة الفاضلة على الأصالة، لكنه بعد أن عركَته السنون، وتجارب الحياة، وبعد أن أُصيب بإحباطٍ شديد من ذهابه إلى سراقوصة ثلاثَ مرات، تخلَّى عن إمكان تحقيق هذا المثل الأعلى على هذه الأرض؛ فها هو في محاورة «القوانين» التي كتبها في شيخوخته يُعبِّر مجددًا عن هذا الإيمان العميق، ويقول بحسرة وأسًى: «أعلى صورة للدولة وللحكومة وللقانون، هي تلك التي يسودها المثل القديم الذي يقول: «كل شيء مشاع بين الأصدقاء.» وسواء أكان من الممكن أن يتحقق ذلك هنا على هذه الأرض، وسواء أكان من الممكن، يومًا ما، أن توجد تلك الجماعة التي يسودها نظام الاشتراك في النساء والأطفال والملكية، بل وجميع الممتلكات أيًّا كان نوعها؛ بحيث تختفي من الحياة تمامًا فكرة الملكية الخاصة واللغة التي تُعبِّر عنها، فلا يكون هناك إلا دولة واحدة تتألف من جسمٍ واحد وعقل واحد، تنعم بلذةٍ واحدة وتشعر بألمٍ واحد، أقول سواء أكان من الممكن لهذا المثل الأعلى أن يتحقق الآن أو في المستقبل أو كان هذا التحقق مستحيلًا، فإن هناك شيئًا واحدًا لا شك فيه، وهو أن هذا المثل الأعلى يحقِّق الصالح العام أكثر مما يفعل غيره» (٧٣٩ﻫ، مجلد ٤، ص٣٠٨). ويعود أفلاطون فيفسر لنا الأسباب التي تجعل مدينته الفاضلة في الجمهورية مستحيلةَ التحقيق، يقول: «هذا المثل الأعلى لا يتناسب إلا مع الآلهة أو أبناء الآلهة.» وهكذا يعود أفلاطون فيبيح الملكية الخاصة: «دعهم يُقسِّمون الأرض والمنازل فيما بينهم، ولا تكون فِلاحة الأرض مشتركةً؛ لأن شيئًا كهذا لا يتاح لأناس وُلدوا في ظِل النظام الحالي، وتلقَّوا التدريب والتعليم بالطُّرق القائمة» (٧٤٠، مجلد ٤، ص٣٠٨).

وهكذا يتخذ أفلاطون أولَ قرارٍ خطير في دولة القوانين، الدولة الفاضلة الثانية التي يراها ممكنةَ التحقيق؛ لأنها أقرب إلى الواقع؛ «ففي محاورة القوانين المتأخرة يصف أفلاطون مجتمعًا أقلَّ يوتوبيةً ممَّا فعل في الجمهورية. وهذا المجتمع الجديد، جاء نتيجةً لتوفيقه بين مذهبه المثالي من ناحية (كما عرضه في الجمهورية) والحياة الأثينية الواقعية من ناحيةٍ أخرى.»١
وهكذا بدأ أفلاطون يحدِّد بدقةٍ موقعَ دولته الجديدة، التي يقترح أن تكون بعيدةً عن البحر؛ حتى لا ينغمس أهلها في الاستيراد والتصدير، إلخ. وهو يدرك بوضوحٍ أن النظرة إلى الملكية هي أساس كل تشريع، وهي سر الأمن والأمان للدولة (٧٣٦د)، وهو هنا يتفق مع ما سبَقَ أن ذَكَره في الجمهورية من أنَّ التدهور السياسي إنما يكمن مصدره في العوامل الاقتصادية؛ فقد كان أفلاطون واحدًا من أولئك الفلاسفة الذين يؤمنون بأنَّ الملكية هي المصدر الأول للنزاع والشقاق.٢

يتساءل أفلاطون: ما هي الطريقة المُثلى لتوزيع الأرض؟ ويُجيب لا بدَّ لنا أن نحدِّد أولًا عدد المواطنين في الدولة، ثم نُقسِّم الأرض والمساكن عليهم بالتساوي، والعدد المناسب في رأيه هو «أن يكون لنا خمسة آلاف وأربعون من ملَّاك الأرض قادرين على حمايتها، وسوف تقسَّم الأرض والمنازل بينهم بالتساوي؛ بحيث يحصل كلُّ رب أُسرة على حصةٍ واحدة» (٧٣٧د، مجلد ٤، ص٣٠٦). ولا بد أن يظلَّ العدد ثابتًا، فإذا ظهرَت زيادة في عدد السكان، فمن الواجب في هذه الحالة تحديد النسل، أو تنشأ مستعمرةٌ جديدة. أما إذا نقص العدد، فمن الواجب أن يمنح المتزوجون مكافآت، كما تُوقَّع على غير المتزوجين جزاءات.

أما بالنسبة للثروة فالمساواة فيها إنما تكون في توزيع قطع الأرض الأصلية فحسب، أي المساواة في ملكية الأرض وحدها، ثم هناك بعد ذلك تفاوُت في الممتلكات الشخصية، ويسمح أفلاطون لكل مواطن أن يستحوذ على ممتلكات أو مقتنيات تبلغ قيمتها أربعة أضعاف قيمة الأرض … وهكذا يوجد مدًى من الثروة يتراوح بين الرجُل الذي يملك قطعةً واحدة من الأرض، كحدٍّ أدنى من الممتلكات، وبين الرجل الذي يملك هذه القطعة مع ممتلكاتٍ أخرى.٣ ولقد كان من نتيجة هذا التفاوت في الثروة التي أباحها أفلاطون في «القوانين»، أنْ ظَهرَ نظامٌ لأربع طبقات يقوم على أساس الملكية.٤ وليس للمُواطن أيُّ مجالٍ آخَر للنشاط الاقتصادي؛ فهو لا يسمح له بأن يمارس أيَّ صناعة أو حِرفة، أو أن يستخدم وسائلَ غير نبيلة لجمع المال كالبيع والشراء … إلخ، يكون من شأنها أن تحوِّل طبيعته الحرة إلى طبيعة دنيئة، وهو كذلك لا يسمح للمواطن أن يقتني ذهبًا أو فضَّة.٥ لكنَّ أفلاطون لا يُلغي التجارة والصناعة من الدولة، ولكنه يُحرِّمها على المواطنين ويفسح لهما مكانًا، بشرط أن يكونا من اختصاص الأجانب المقيمين فيها؛ فهو يترك للمُواطن الفنَّ والسياسة والعمل على الارتفاع بجسمه وعقله إلى مستوى الامتياز، ويخصِّص للعبد زراعةَ الأرض، ويجعل التجارة والصناعة وقفًا على الأجانب. ولا يزال المبدأ الأساسي في «الجمهورية» قائمًا، وهو أنَّ كلَّ إنسان يجب أن يؤدي وظيفةً واحدة فحسب.٦

لكنْ، على المواطن أن يضع في ذهنه أنَّ الأرض، بمعنًى ما، تنتمي إلى الدولة (٧٤٠أ)، وأنَّ الأرض مُقدَّسة عند الآلهة؛ فلا بد أن تكون عزيزةً عليه كالطفل عند أمِّه، كذلك لا بدَّ للمالك أن يضع في ذهنه أنه لا بيعَ ولا شراء ولا تنازُل لحصته من الأرض كلِّها أو بعضها (٧٤١ب)، كما أنَّ الدولة لن تمسَّها، فإذا ما ارتكب المواطن خطأً، عُوقب بغرامةٍ تُدفع من ريع الأرض (٨٥٥أ-ب). أمَّا حصة الأرض نفسها، فينبغي أن تظلَّ إلى الأبد في حوزة المُواطن الذي خُصِّصَت له أولَ مرة، ثم لورثته من بعده، سواء أكانوا من صُلبه أو بالتبني؛ وفي استطاعة المالك أن يُورِّث حصته لمَن يشاء من أبنائه الذكور (٧٤٥ب–٩٢٣ب). فإذا لم يُنجب سوى الإناث، كان له أن يختار ابنًا من مُواطنٍ آخَر ليكون زوجًا لإحدى بناته؛ ومن ثَم وريثًا له يخلفه من بعده (٩٢٣د). فإذا كان عقيمًا لم يُنجب لا بنين ولا بنات، فإن من حقِّه أن يختار ابنًا من مُواطنٍ آخَر ليكون وريثه (٧٤٠ﺣ). وإذا ما عوقب رجُلٌ عقيم على جريمة ارتكبها بالنفي خارج المدينة، يلتقي أقاربه من الجانبَين ليتشاوروا مع الحرَّاس والكهنة لتحديد الوريث للحصة التي تركها بغير مالك (٨٧٧ﺣ). ولمَّا كان موضوع الميراث هامًّا لإبراز مكانة المرأة في نظر أفلاطون، فسوف نعود إليه بشيء من التفصيل بعد قليل.

وعلينا أن نلاحظ أن مصادرة الدولة لأملاك الفرد ممنوعة (٨٥٥أ)؛ فقَدْ يتدخل المسئولون لمعرفة الوريث أو مَن يخلُف المالك (٨٥ﻫ)؛ لكنْ، ليس للدولة حقُّ التصرف في الملكية، بل يحدِّدها مجلس الأسرة.

وهكذا يقترب أفلاطون جدًّا من نظام الملكية الخاصة، وإن كانت هنا لربِّ الأُسرة الذي من وظائفه استمرار الأسرة واستمرار العبادة (٧٤٠ﺣ)، ويهمُّنا في النهاية أن نبرز أنَّ «الأب»، أو ربَّ الأُسرة، هو الذي يملك الأرض ثم يرثه الابن، أو مَن يشاء من الذكور، أو زوج البنت … إلخ، فالمهم أن يكون المالك رجُلًا؛ ذلك لأنَّ الزوجات والبنات، كبيرات أو صغيرات، لا يحقُّ لأيٍّ منهنَّ ملكية الأرض.٧

ثانيًا: الأُسرة … ومركز المرأة

(١) عودة الأُسرة

عادت الملكية الخاصة إلى المجتمع في محاورة «القوانين»، فكان لا بد أن تعود معها الأُسرة، ونظام الزواج التقليدي، وتظهر من جديد وظيفةُ المرأة «الطبيعية» كما يظهر سلطان الأب في الأسرة البطرياركية … إلخ، بل كان لا بد أن تعود المثيولوجيا اليونانية مرةً أخرى لتُضفي القداسة على الزواج؛ «إذ تظهر الإلهة هيرا في قوانين أفلاطون المتعلقة بالزواج؛ ذلك لأن وظيفتها الرئيسية في الديانة اليونانية هي حماية الزواج وحقوق الزوجية، ورغم خيانة «زيوس» المتكرِّرة، فقد كان يُنظر إليها كنماذج عليا مقدَّسة للزواج …»٨ وهكذا نجد أنه حتى السمات المثيولوجية تعود إلى الظهور من جديد في «القوانين»، على نحوِ ما كانت شائعةً في العادات والتقاليد والتراث اليوناني عمومًا (لا سِيَّما في أثينا وإسبرطة). ومن هنا، فقد راح أفلاطون يفرض غراماتٍ على كلِّ مَن يرفض الزواج ومَن يفشل فيه، كما كان يحدث في إسبرطة؛ «ويقوم حارس معبد الإلهة هيرا بجمع الغرامات المفروضة على مَن يفشل في الزواج، أو مَن لم يتزوج في السنِّ المحدَّدة، أو الغرامات التي تُفرض على أصحاب المهور الباهظة» (٧٧٤أ-ب، مجلد ٤، ص٣٤٢). ويُعيِّن أفلاطون نساءً عجائز مشرفاتٍ لمُراقَبة الزيجات الجديدة، ولمعرفة ما إذا كانت هذه الزيجات منذ البداية قد قامت بواجباتها تجاه الدولة (٧٨٤أ، ص٣٥٢). وهكذا انتهَتْ «شيوعية النساء» مع عودة الملكية الخاصة، بل أصبح الزواج الواحدي إجباريًّا!
ولم يكن الزواج عند أفلاطون إشباعًا لرغبة شخصية، لا في «الجمهورية» ولا في «القوانين»، وتلك هي فكرة الزواج عند اليونان بصفةٍ عامة؛ وإنما هو قيامٌ بواجبات معيَّنة نحو الأُسرة والدولة؛ ومن ثَم، فعندما يبحث شاب عن رفيقة لحياته (والفتى وحده هو الذي يبحث ولا يحقُّ للفتاة أن تفعل ذلك، كما أنَّ الغرامة تُفرض على الشاب الأعزب دون ذكر «للعانس») لا ينبغي أن يكون رومانتيكيًّا؛ فذلك ما يعتبره المجتمع اليوناني «أنانية»، وإنما عليه أن يكون مرشده وهاديه مصلحةَ الأُسرة ونفعَ الدولة. ومن هنا، كان من الطبيعي أن يعرض هذا الواجب في ضوء ديني قوي …٩ يقول أفلاطون في عبارةٍ تذكِّرنا بعبارةٍ مماثلة في المأدبة: «الزواج هو الطريق الذي يمارس فيه الجنس البشري الخلود … فلا بد للرجُل أن يؤكِّد الطبيعة الخالدة بأن يترك أطفالًا وأحفادًا ليخدموا الله من بعده» (٧٢١ب). وفضلًا عن ذلك، فإن الأسرة هي مصدر العادات الموروثة من الأسلاف والقوانين غير المكتوبة، والتي هي أقدم كثيرًا من أيِّ قانون مكتوب (٦٨٠أ). ويحدِّد أفلاطون سنَّ الزواج بالنسبة للفتى والفتاة بنفس التفاوت الذي كان قائمًا عند اليونان؛ فالشاب يتزوج فيما بين الثلاثين والخامسة والثلاثين (٧٢١، ص٢٩١)، بينما تتزوج الفتاة فيما بين السادسة عشرة والعشرين (٣٨٥ب، ص٣٥٣). فإذا رفض الشاب الزواجَ حتى هذه السن، عوقب بغرامةٍ معينة، وليس ثمَّةَ شيء عمَّا يحدُث إذا امتنعَت الفتاة عن الزواج، وكأنَّ ذلك غير وارد؛ فالفتاة لا بدَّ لها أن تتزوج، ولا يحقُّ لها أن ترفض؛١٠ فليس لها، في الأعمِّ الأغلب، رأي ولا مشورة. يقول أفلاطون: «ينبغي على الرجُل أن يتزوج فيما بين سنِّ الثلاثين والخامسة والثلاثين، فإذا لم يفعل وقَّعنا عليه غرامةً، أو حرمناه من هذا الامتياز أو ذلك، هذا هو قانون الزواج البسيط» (٧٢١ب). وهو يعتبر الزواج واجبًا مقدَّسًا يتحقق الخلود عن طريقه كما ذكرنا … «ومن ثَم، فمن الكفر أن يَحرِمَ الرجُل نفسه من هذه النعمة فلا يسعى، عامدًا، للبحث عن زوجةٍ أو ولد، فمَن أطاع القانون فلا لومَ عليه ولا تثريب، ومَن عصاه دفَعَ غرامةً قَدْرها كذا وكذا من المال؛ حتى لا يتخيل أن العزوبية سوف تجلب له النفع والراحة …» (٧٢١ﺣ).

(٢) وظيفة المرأة

على الدولة أن تقوم باختيار مجموعةٍ من النساء العجائز للإشراف على الزواج (وهي مهمةٌ قريبة الشبه بما كانت تفعله عجائز أثينا بالفعل، وإن كانت هنا أكثرَ دقة وتنظيمًا)، وعلى هذه المجموعة أن تجتمع يوميًّا في معبد الإلهة أثينا للتباحث في أمور الزواج، وتقديم تقرير عن أيِّ شخص، ذكرًا أو أنثى، من الذين هُم في سنِّ الزواج، وترى إحدى العضوات أنه مهتم بشيءٍ آخَر غير تنفيذ الوصايا التي قِيلَت أثناء تقديم القوانين، وإتمام مراسم الزواج. وسوف تستمرُّ فترة الإنجاب، ومدَّة الإشراف على الزوجَين لمدة عشر سنوات لا أكثر عندما يكون الزواج مثمرًا ويُنجب أطفالًا. لكنْ، إذا استمر الزواج خلال هذه المدة بغير إنجاب، فسوف ينصحهما الأقارب والنساء المشرفات بضرورة الطلاق لمصلحتهما معًا (٧٨٤)، أيْ أن رقابة الدولة مستمرة في الإشراف على الزواج، لكنَّ قبضتها الآن أخفُّ كثيرًا مما كانت عليه في «الجمهورية»؛ فهي هنا يعنيها النسل وعدد السكان، «وسوف تدخل النساء والمشرفات بيوت المتزوجين من الشباب، وتعمل على وقف حماقاتهم وأخطائهم مرةً بالتهديد وأخرى بالترغيب، فإذا فشلنَ ذهبنَ بتقريرهنَّ إلى حرَّاس القانون، وسوف يمنع الحرَّاس هذه الحماقات …» (٧٨٤ﺣ، مجلد ٤، ص٣٥٢).

وإذا كان هناك تفاوتٌ بين الجنسَين في سن الزواج، فهناك تفاوت كذلك في سن التعيين؛ فسوف يكون التعيين في الوظائف الرسمية هو سن الأربعين للمرأة والثلاثين للرجُل، كذلك بالنسبة للخدمة العسكرية يستمر التفاوت أيضًا، فسوف تكون مدة الخدمة العسكرية للرجُل بين العشرين والستين؛ وللمرأة، لو أظهرت الرغبة في الخدمة العسكرية، فلتكن الخدمة لها بعد أن تُنجب الطفل الرابع، أيْ فوق الخمسين سنة، وهذا هو الممكن والمناسب لها (٧٨٥ب، مجلد ٤، ص٣٧٣).

وعلينا الآن أن نتوقف قليلًا عند عبارة أفلاطون: «سيكون التعيين في الوظائف الرسمية هو سن الأربعين للمرأة والثلاثين للرجُل.» فنقول: إنه بغضِّ النظر عن فارق السن بين الجنسَين عند التعيين في الوظائف الرسمية، وهو فارق لا يفسِّره، إلا أن أفلاطون يرى أنَّ النضج العقلي للمرأة لا يكون إلا متأخرًا، أو أنها أقل في نضجها من الرجُل … إلخ؛ أقول إنه بغضِّ النظر عن هذه الملاحظة، فإن علينا أن نتساءل: ما هي يا تُرى هذه «الوظائف الرسمية» التي تُعيَّن فيها المرأة؟ لقد عرفنا أننا سنختار مجموعةً من العجائز للإشراف على الزواج — على عادة أهل أثينا في ذلك الوقت — لكنْ، ما هي الوظائف الجديدة الأخرى المتاحة أمام المرأة؟ يُجيب إرنست باركر عن هذا السؤال بقوله: «مع اعتراف أفلاطون بما تؤديه النساء من خدمات للدولة، فإنه لا يذكر في «القوانين» شيئًا عن إسناد الوظائف الحكومية إليهنَّ، أو عن تصويتهنَّ في الجمعية. صحيح أن بعض النساء يعملنَ كموظفات في الدولة، إلا أنَّ عملهنَّ هذا يقتصر على ما يتصل بنواحي الزواج. ولم يَرِد في القوانين شيءٌ يشبه ما جاء في الجمهورية عن وجود حرَّاس من النساء.»١١ ويَعجب مورو من هذا القَدْر الضيِّق الذي سمح به أفلاطون لإسهام المرأة في المجتمع؛ فهو لا يُشركها في إدارة شئون الدولة، ولا في الحُكم، ولا في الحياة السياسية، ولا شيء من التصويت … إلخ، كما كان يقول في «الجمهورية»، فها هنا لم تعُد طبيعة الرجُل والمرأة واحدةً، أنقول مع باركر «إنَّ أفلاطون قد نسي هذا الجانب من الموضوع، أو أنه لم يَبقَ في ذاكرته منه إلا ذلك القَدْر الذي جعله يقول: «يجب أن ينال النساء من المديح مثلما ينال الرجال، إذا أظهرنَ فضيلةً ممتازة» (٨٠٢أ) … أو من الجائز أنَّ تفكيره قد انصرف إلى أنَّ حياة الأُسرة التي استبعدها في «الجمهورية»، ولكنه أبقاها غيرَ منقوصة في «القوانين»، لا تتفق مع أي نشاط سياسي تقوم به المرأة»؟١٢ وتلك مسألة في غاية الأهمية؛ لأنها تثبت ما سبق أن قُلناه من قبل عن المساواة بين الجنسَين في محاورة الجمهورية، فقد اختفَت الملكية والأُسرة؛ فاختفي دور المرأة التقليدي وتحولت إلى رجُل؛ ثم إذا ما عادت الملكية والأُسرة، عاد دور المرأة كما كان من قبل، واختفت النساء من ميدان الحياة السياسية، والاشتراك في الحكم، وإدارة شئون الدولة.
لكنَّ باركر مع ذلك يعتقد أنَّ أفلاطون قدَّم الكثير لصالح المرأة رغم إعفائها من النشاط السياسي وإدارة الدولة؛ فهو — أيْ أفلاطون — «ما زال يعتقد أن النساء يجب أن يتعلمنَ نفس تعليم الرجال … وما زال يعتقد أنَّ النساء يجب أن يدخلنَ الحياة العامة عن طريق نظام الموائد المشتركة، وما زال يؤمن أنَّ الزواج يجب أن يكون خاضعًا للرقابة في سبيل المصلحة العامة …»١٣ وفي ظني أن الموضوع الأخير — الزواج — لا علاقة له بصالح المرأة، بل سنرى فيما بعد أن أفلاطون ظلَّ ينظر إليها على أنها قاصر وتحتاج إلى وصي عليها. لكن المهم أن «باركر» نفسه يقول إنَّ الهدف من الزواج كان لصالح الدولة؛ ومن ثَم، يبقى «التعليم» و«الموائد المشتركة»، ونحن بحاجة إلى أن نسوق كلمةً سريعة عن كلٍّ منهما.

(٣) التربية والتعليم

لا بد لنا أن نقول منذ البداية إن موضوع تعليم المرأة كان مطروحًا على الساحة الثقافية اليونانية في ذلك العصر، وناقشه كثيرٌ من الأدباء — «يوربيدس»، و«أرستوفان»، وغيرهما — في كثير من المسرحيات.١٤

أمَّا أنَّ التعليم الذي يقدَّم للمرأة كان هو نفسه تعليمَ الرجال في رأي أفلاطون الذي عرضه في القوانين، فهذا ما نشكُّ فيه كثيرًا … إن التراث اليوناني عمومًا كان يقسِّم التعليم قسمَين كبيرَين: قسمًا يتعلق بالجسد، وهو التمرينات الرياضية بأنواعها، وقسمًا يتعلق بالرُّوح، وهو يشمل الموسيقى والأدب والفنون، ثم أُدخلت الرياضيات فيما بعد؛ وسوف نرى ما يقوله أفلاطون بالنسبة لتعليم المرأة والرجُل وتنمية الجسد والرُّوح عندها.

  • (أ)

    ذهب أفلاطون إلى وجوب تدريب الفتاة على التمرينات الرياضية، لكنه تراجع كثيرًا عن أنواع التدريب التي كانت قائمة في «الجمهورية»؛ فها هنا، مثلًا، يمكن للطفلة أن تقوم بتدريباتها وهي عاريةٌ قبل مرحلة البلوغ. لكنْ، ما إن تصل إلى هذه المرحلة حتى يوجِب عليها أفلاطون ارتداء الملابس المناسبة؛ «فالبنات اللائي بلغنَ السنة الثالثة عشرة وما زِلنَ ينتظرنَ الزواج … يجب عليهنَّ أن يتدثرنَ بالزي المناسب عندما يشتركنَ في هذه المباريات» (٨٣٣ﺣ، ص٤٠٠).

    كذلك فإن النظام المختلَط في التعليم يستمر في مرحلة الطفولة وحدها حتى سنِّ السادسة، «بعد سنِّ السادسة يكون قد آن الأوان لفصل الجنسَين؛ ليعيش الأولاد مع الأولاد، والبنات مع البنات بنفس الطريقة، ولا بد لهم الآن أن يتعلموا: الأولاد يذهبون إلى مدرِّبين لركوب الخيل والرماية واستعمال النبال والمقلاع، ويمكن للبنات إذا وافقن، ولم يكن لهنَّ اعتراض، المشاركة أيضًا» (٧٩٤ب-ﺟ، مجلد ٤، ص٣٦٠-٣٦١).

    ويعيب أفلاطون على المُشرع الإسبرطي أنه أهمل العناية بتدريب النساء عسكريًّا؛ «فسوف يكون عارًا مخزيًا على الدولة إذا لم تدرب نساءها، أو دربتهنَّ تدريبًا سيئًا؛ بحيث لا يكون لديهنَّ حتى شجاعة الدجاجة أو الطيور التي تدافع عن صغارها، أمام خطر الوحوش أو أي خطر آخَر؛ إنَّ النساء في أوقات الخطر، إذا ما اندفعنَ نحو المعابد وتحلقنَ حول المذابح والأضرحة، فإنهنَّ يجلبنَ الخزي والعار للجنس البشري بكونهنَّ أشدَّ المخلوقات الحية جُبنًا …» (٨١٤ب، ص٣٨٢). وهو يريد من المرأة، لا أن تدافع عن الدولة فتلك مهمة الرجال، بل أن يكون لديها الاستعداد للدفاع عن صغارها كأيِّ أمٍّ؛ فتفعل ما تفعله الطيور في الدفاع عن فراخها. ومع ذلك، فهو لا يجعل ذلك شرطًا إجباريًّا أو عامًّا، لكنه اقتراح، مجرد اقتراح يعرضه على مَن تشاء من النساء في حالة الطوارئ؛ يقول بوضوح: «لا يمكن إرغام النساء على المشاركة في هذه التدريبات بقوانين ومراسيم. لكنْ، إذا كان تدريبهنَّ المبكر قد أدَّى إلى نمو هذه العادة وأصبح لديهنَّ القدرة الكافة لمشاركة الرجال، فليسمح لهنَّ دون لومٍ أو تثريب …» (٨٣٤ﺣ، مجلد ٤، ص٤٠١). ومعنى ذلك أن أفلاطون، فيما تقول سوزان أوكن، يستثني النساء تمامًا، تقريبًا، من الخدمة العسكرية، اللهم إلَّا إذا وافقت عليها، في الوقت الذي تكون فيه إلزامية للشباب من الرجال. ويقول «مورو» معلقًا على هذه التدريبات الجسدية، رياضية أو عسكرية: «إنه لمن الغريب حقًّا أن تكون هذه هي نظرة أفلاطون إلى المرأة، على الرغم من أنه يعلم أن هناك مجالات أوسع بكثير يمكن للمرأة أن تُسهم فيها وفي حياة المجتمع. فمن العجيب أن تراه يركِّز على ميدانٍ يبدو أقلَّ المجالات ملاءمةً للمرأة بما لها من ضعفٍ بدني ورقَّة، ثم يقول بعد ذلك إنَّ هذا هو إسهامها الطبيعي. وأنا أقول إنَّ أفلاطون يركِّز على هذا الميدان؛ لأنه لم يكن بغافلٍ عن المجالات الأخرى التي يمكن أن تُسهم فيها المرأة؛ فالنساء يمكن أن يشاركنَ الرجال إلى أقصى حدٍّ ممكن، وفي جميع أنشطة الدولة وواجباتها، كما يشير هو نفسه (٨٠٥ﺣ، وأيضًا ٨٠٦). كلَّا، ولم يكن بغافل عن الفروق النوعية في الطبيعة البدنية بين النساء والرجال.»١٥١٦ ومعنى ذلك أنَّ أفلاطون يرى أنَّ الإسهام الطبيعي للمرأة هو «المنزل» بالدرجة الأُولى، أمَّا إذا أرادَت أن تشارك الرجُلَ فإنَّ عليها أن تكون رجلًا، أو أن تكون على الأقل «مسترجلة». ومع ذلك كله، فالمسألة «اختياريةٌ»، وليست إجباريةً كما ذكرنا منذ قليل، لمَن أرادت أن تكون مسترجلةً من النساء، «وهي لا تتمُّ إلا بعد أن تُنجب طفلها الرابع؛ وبحيث تتجاوز المرأة سنَّ الخمسين» (٧٨٥ب، ص٣٥٣).
  • (ب)
    أما بالنسبة للجانب الآخَر من التربية وهو الموسيقى، فها هنا أيضًا لا نجد التعليم واحدًا، بل نجد أن الجنسَين متمايزان أيضًا؛ يقول: «ينبغي علينا أن نميِّز، وأن نحدِّد، بناءً على بعض المبادئ العامة، ما هي الأغاني التي تناسب النساء، وما هي الأغاني التي تناسب الرجال؛ ثم نحدِّد بعد ذلك الأنغام والإيقاعات المناسبة لكلِّ نوع منها …» (٨٠٣، ص٣٧٠). ثم يعود فيعرفنا بالموسيقى التي تناسب كلَّ جنس، فيقول: «أمَّا الألحان التي تخصُّ النساء، فهي تشير إلى التفرقة الطبيعية بين الجنسَين … ومن ثَم، فمن الإنصاف أن نقول إنَّ الألحان التي تتَّجه نحو ما هو جليل، وتحث على الشجاعة والبسالة، هي ألحان خاصة بالرجُل؛ بينما ستكون الألحان التي تتَّجه نحو الاعتدال، وضبط النفس، والأنغام الهادئة، ألحانًا خاصة بالمرأة. فذلك ما يقضي به القانون وما يقول به العُرف؛ وما سوف يكون عليه النظام العام الذي يتعين علينا أن نتبعه (٨٠٣، ص٣٧٠). وهذه الفروق التي يشير إليها أفلاطون، تحمل مضمونًا أخلاقيًّا هامًّا؛ ذلك لأنَّ هذه هي خصائص الأنثى بالضبط التي وصفها في فقرةٍ مبكرة من محاورة القوانين (٦٢٨ وما بعدها)، وقال إنَّ الدولة بحاجة إليها، ثم عاب على المثل الأعلى الإسبرطي للمحارب أنه قد أهملها.١٧ ففي محاورة «القوانين»، كما تقول سارة بومبروي بحقٍّ، يعيد أفلاطون الأدوار التقليدية للجنسين؛ فيجعل الإناث مطيعات متواضعات مهذبات، كما يجعل من الذكور مغامرين مناضلين جسورين.١٨

(٤) الموائد المشتركة

أما بالنسبة للموائد المشتركة، فقد كان أفلاطون مغرمًا بها إلى أقصى حد؛ ربما تأثرًا بإسبرطة، أو تأثرًا بعلية القوم في أثينا؛ «إنني أقول مُلحًّا: إن على رجالنا المتزوجين حديثًا أن يترددوا على الموائد العامة، تمامًا على نحو ما كانوا يفعلون قبل الزواج لا أكثر ولا أقل» (٧٨٠، ص٣٤٨). غير أنَّ أفلاطون في محاورة «القوانين» — على لسان الأثيني — يمدُّ الفكرة إلى النساء أيضًا؛ فهو يعيب على الإسبرطيين أنهم قصروا الموائد المشتركة على الرجال. «والحقُّ أنَّ نظام الموائد العامة على الرجال، هو نظامٌ رائع، وهو هِبة من السماء. ولكنَّ الخطأ أنْ يترك النساء دون تنظيم يحدِّده القانون؛ فليس لهنَّ نظام مماثل للموائد المشتركة التي توجد في وضَحِ النهار.»

ولمَّا كان هذا الجزء من الجنس البشري، الذي هو بطبيعته أميل إلى السريَّة والتسلُّل، نظرًا لضعفه — وأقصد به جنس الأنثى — قد تركه المُشرع (الإسبرطي) وحيدًا بغير تنظيم؛ فإنه بذلك قد ارتكب خطأ. ونتيجةً لذلك، نَمَت أمورٌ كثيرة عندكم رخوة، وكان يمكن أن تكون أفضل لو أنها نُظِّمَت بواسطة القانون؛ لأنَّ إهمال تنظيم جنس الأنثى، ليس إهمالًا لنصف المجتمع فحسب، «وإنما نظرًا لأنَّ طبيعة المرأة أدنى من طبيعة الرجُل في قدرتها على الوصول إلى الفضيلة؛ فإن نتيجة هذا الإهمال تكون مضاعفة» (٧٨١-أب، مجلد ٤، ص٣٤٩). هذا هو النص الشهير في محاورة القوانين، الذي يراه «باركر» دعوةً لأنْ تُشارك المرأة في الحياة العامة؛ ويراه غيره «تحريرًا لنصف المجتمع» من سجن المنزل، مع أن أرسطو، مثلًا، ذكَرَ أيضًا أنَّ المرأة هي نصف المجتمع، وأن الرجُل والمرأة يؤلفان معًا الأُسرة، وهما معًا نصفا الدولة.١٩ ودعا هو الآخَر إلى الاهتمام بالموائد المشتركة لجميع المواطنين.٢٠ ولم يقُل أحد إن أرسطو دعا إلى تحرير المرأة أو مساواتها بالرجُل … صحيح أن أفلاطون كان له الفضل في مد هذه الموائد إلى النساء، كما يعترف أرسطو نفسه٢١ (وإنْ كان الأصح أن نقول إنه مدَّها إلى الأُسرة) «لكنَّ النقطة الهامة هي أنه كان يعتقد أن الوجبات المشتركة وسائلُ هامة في التربية والنظام، والمشرِّع الذي لا يمدُّها للنساء كالرجال، يهمل نصف عمله وربما أكثر من النصف، ما دامت طبيعة النساء أدنى من طبيعة الرجُل في قابليتها للفضيلة» (٧٨١أ). وبالتالي يكون فساد النساء مضاعفًا، ويؤكِّد الأثيني في نهاية هذه النقوة أن امتياز هذا الاقتراح سيظهر عند صياغة القوانين الخاصة بالموائد المشتركة (٧٨٣ب). ولسوء الطالع، فإن الوعد الذي قطعه أفلاطون على نفسه لم يتحقَّق قَط.
على أننا لا بد أن نضع في ذهننا أن الموائد المشتركة أنواعٌ كثيرة وليست نوعًا واحدًا. فهناك موائد مشتركة عامة للقضاة يتناولون فيها طعامهم أثناء العمل، «ولا ينبغي أن يتغيب أحد يومًا واحدًا إلا بعذرٍ قاهر» (٨٦٢ﻫ)، ووجبات مشتركة لأعضاء المجلس النيابي (٧٥٨ﺣ)، على نحو ما كان يحدُث في أثينا، ووجبات أخرى مشتركة للموظفين الرسميين؛ وهناك بيوت أشبه بالنوادي لتناول الطعام، على نحو ما كان في إسبرطة. هذه الموائد هي التي تشمل الرجال وأُسرهم، أعني الفتيات والأمهات، شريطة أن يجلسنَ على موائد منفصلة، لكنها ليست بعيدةً عن ربِّ الأُسرة (٨٠٦ﻫ، ص٣٧٤). ومن هنا نتبيَّن أن الفتيات يمكن أن يشتركنَ في هذه الوجبات العامة مع أمهاتهنَّ، وكذلك الأولاد — لا سِيَّما الصغار منهم — يتناولون هذه الوجبات أيضًا مع الأمهات. لكنْ، ابتداء من سنِّ ست سنوات فأكثر، ينبغي أن ينفصل البنين عن البنات على نحوِ ما حدث في دروس التربية. إذْ ينبغي على الفتيان أن يتناولوا الطعام مع آبائهم. ويبدو أن أفلاطون لم يكن ينظر إلى هذه البيوت على أنها أكثر من أماكن لتناول الطعام، ويعود الأعضاء إلى منازلهم بعد تناوُل وجبة المساء.٢٢ فالموائد المشتركة، على هذا النحو، لا دخلَ لها بالحياة العامة في المدينة، إنها أقرب إلى القول بأنَّ الأُسرة تتناول وجبةً في مطعم؛ فليست المسألة أكثرَ من أنَّ أفلاطون يوجِب على ربِّ الأُسرة أن يأخذ أُسرته لتناوُل الطعام معًا، وعلى موائدَ منفصلة (الحريم وحدهنَّ مع الصغار)، بل إنَّ أفلاطون يتوقع مقاومةً من المرأة؛ «مما قد يضطرنا إلى إرغامها على تناوُل الشراب واللحم وسط الجمهور …» وماذا ننتظر من جنسٍ اعتاد الحياة في ركن مظلِم من الحياة؟ حاول أن ترغم امرأةً على الخروج إلى ضوء النهار، وسوف تجدها تقاوم مقاومةً بالغة الشدة (٧٨١ﻫ).
ليست هذه وظيفة للمرأة، ولا هي مشاركة منها في الحياة العامة. والحقُّ أن الوظيفة الوحيدة (ولا بد أن يكون لكلِّ فرد وظيفةٌ وحيدة فقط، كما هي الحال في الجمهورية) التي يمكن أن نستنتجها من محاورة القوانين، هي أن تكون المرأة «زوجةً وأمًّا» تربي صغارها وتدافع عنهم كما تدافع الطيور عن فراخها. الوظيفة المتبقية بعد ظهور الأُسرة واختفاء المرأة من حقل السياسة، هي وظيفة «ربَّة الدار» … والحياة في ذلك الركن المظلِم من الحياة؛ ركن الحريم … مع محاولة الترويح عنهنَّ بين الفينة والفينة بالخروج لتناول الطعام في الخارج؛ «فالنساء في محاورة القوانين محدوداتٌ أكثر بوظيفتهنَّ البيولوجية، عندما أصبح الزواج الواحدي إجباريًّا …»٢٣ فإذا ما وصلَت المرأة إلى «سنِّ التقاعد»، أيْ جاوزَت الخمسين، جاز لها أن تشترك في الخدمة العسكرية بمحضِ اختيارها بعد الطفل الرابع، أو أن نختارها في لجنة الإشراف على الزواج، وهي لجنةٌ تقوم بما كانت تقوم به عجائز أثينا كما سبق أن ذكرنا. ومن العجيب حقًّا أن يحرِّم أفلاطون على المرأة حتى أن تكون مُشرِفة على التربية؛٢٤ إذ يشترط لمَن يشغل هذا المنصب أن يكون رجلًا، ولا يقل عمره عن الخمسين، وأن يكون أبًا لأسرة، ويفضَّل مَن كان له أبناء من الجنسَين …» (٧٦٥ﻫ، مجلد ٤، ص٣٣٣).

ثالثًا: سلطات الرجُل

الرجل في محاورة «القوانين» هو الذي يقاتل دفاعًا عن الدولة، ولا تقاتل المرأة إلا دفاعًا عن صغارها وبمحض اختيارٍ «أي متطوِّعة»؛ أمَّا الرجل فهو مُلزَم بالدفاع عنها، وعن المجتمع كله، ثم هو الذي يسنُّ القوانين، وهو الذي يدير دفَّة الحُكم، ويمارس الحياة السياسية البالغة الأهمية عند اليونان، ثم هو بعد هذا وذاك مالكُ الأرض وربُّ الأسرة.

(١) مركز الأب

عندما عادت الملكية الخاصة، عادت معها الأُسرة، وعاد الزواج الواحدي، ومن ثَم فكرة الميراث، والمحافظة على الوريث، والعقوبات ضد الزنا … إلخ. كما ظهرَت سلطاتٌ واسعة للأب حتى داخل الأُسرة، فضلًا عن سلطاته خارجها في الحياة العامة بوصفه المُشرِّع والحاكم … إلخ، وهكذا تضاءلَت مكانة المرأة، وأصبح الأب واجبَ الاحترام «المُسِنُّون، بوجهٍ عام أرفع مقامًا من الشباب، والآباء أرفع منزلة من أبنائهم، والرجال أرفع منزلة من النساء٢٥ والأطفال، والحكَّام أرفع منزلة من رعيتهم … وهذا الاحترام واجبٌ أيضًا لكل مَن هم في مركز السلطة …» (٩١٧أ، ص٤٨٧)، وكل مَن في السلطة فهو من الرجال.

والحقُّ أنَّ سلطان الأبِ في محاورة القوانين لم يفترق كثيرًا عن السلطة الأبوية التي كان يتمتع بها الرجُل الأثيني؛ فنحن مثلًا نجد أفلاطون في المحاورة يسلب الابنَ حقَّ الدفاع عن نفسه ضدَّ والده (٨٧٩ﺣ). أمَّا إذا تجرأ أحد الأبناء ووضع والده في موقفٍ محرج، فإن قرار العقاب سوف يُترك لمجموعة من القضاة يزيد سنُّهم عن الستين، ولديهم أبناء من صُلبهم لا بالتبنِّي؛ فإذا ما أُدين الابن، وجَبَ أن يحكم عليه بالموت أو بعقوبةٍ أشد ألمًا من الموت. وينبغي في جميع الأحوال ألَّا تقل كثيرًا عن ذلك (٨٧٨ﻫ، مجلد ٤، ص٤٤٧)، بل إنَّ أفلاطون يُعطي للأب الحقَّ في أن يَهبَ أحدَ أبنائه إلى مُواطن آخَر يقبل أن يتبنَّاه (٩٣٣ﺣ).

(٢) المرأة القاصر

تحتاج المرأة طوالَ حياتها إلى «وصي» عليها؛ فهي في منزل والدها تحت وصاية، فالأب هو وحده المخوَّل لتزويج الفتاة. «مَن له الحقُّ في ممارسة إجراءات خطبة الفتاة، وعَقْد قرانها هو الأب بالدرجة الأُولى. فإذا لم يكُنِ الأبُ موجودًا، فالجد بالدرجة الثانية؛ فإن غاب الاثنانِ، فيكون حقُّ القيام بإجراءات الخطبة وعَقْد القران للأخوة من الأب …» (٧٧٥، مجلد ٤، ص٣٤٣). وهكذا نلاحظ أن القانون الأثيني الذي كان يعتبر المرأة قاصرًا، يطلُّ برأسه من جديد. «فقد كان هذا القانون ينظر إلى المرأة على أنها قاصر، وينبغي أن تظلَّ قاصرًا طوال حياتها؛ فهي قاصر وهي فتاة، وهي في هذه الحالة تحت وصاية والدها، ومع الزواج تنتقل من وصاية أبيها إلى وصاية زوجها، فإلى وصاية ابنها إذا ترملت …»٢٦ وهذا بالضبط ما فعله أفلاطون في «محاورة القوانين»؛ فهو لا يُعطيها أبدًا الحقَّ في ممارسة حياتها كإنسانةٍ راشدة عاقلة. ليس لها رأيٌ في الخطبة أو الزواج، ولا شخصية في مواجهة الرجُل (الزوج، الأب، الحاكم … إلخ)؛ ولا حقَّ لها في الدفاع عن نفسها أمام المحاكم. استمع إليه يقول: «ستكون المرأة الحرَّة مؤهلةً للإدلاء بشهادتها أمام المحكمة دون الدفاع إذا تجاوزَت سنَّ الأربعين؛ وإذا لم يكن لها زوج، فإنها ستكون مؤهلةً لرفع قضية؛ أمَّا إذا كان لها زوج، فستدلي بشهادتها فقط. وسيكون العبد من الجنسين أو الطفل مؤهلًا للإدلاء بشهادته أيضًا» (٩٧٣أ). لاحِظ أنه هنا لا يعطي المرأةَ الحقَّ في الذهاب إلى المحكمة إلا لتُدلي بالشهادة فقط، وهي لا ترفع قضيةً إلا إذا كانت بغير زوجٍ أو وصي. أو هي في البداية تحت وصاية الأب ثم الجد أو العم أو أحد الرجال الأقارب؛ فإذا ما انتقلَتْ إلى بيت زوجها، صار الزوج هو الوصيَّ عليها؛ يعني أنها لا بدَّ أن تكون قاصرًا في جميع الحالات. ومحاولة البعض الدفاع عن الوضع المزري الذي وضع فيه القانون الأثيني — ومعه القانون الأفلاطوني — المرأةَ، والقول بأنَّ «المُشرِّع لم يقصد بإخضاعها لوصاية الأب أو الزوج أو أقرب الأقارب إلا حمايتها»،٢٧ قولٌ بالغ الضَّعف؛ لأن مَن يحتاج إلى الحماية هو ببساطة شخص «قاصر» لم ينضج بعد، ولم يبلغ سنَّ الرشد، بحيث يكون قادرًا على التصرف بمفرده أو تحمُّل تبِعةِ تصرفاته؛ إنه يقول باختصار إنَّ على المرأة أن تبقى قاصرًا طوالَ حياتها محتاجةً إلى وصي عليها، وهو ما يقوله أفلاطون.

(٣) المهور

كان موضوع «المهور» — أو دوطة الزوجة الأثينية هامًّا — إذْ كانت تنقله معها إلى بيت الزوجية سواء في شكل «جهاز» أو ثروة عقارية؛ وهي، أو أهلها، مَن يدفعه؛ وتأخذه إلى زوجها، لكنْ لا يصبح مِلكًا للزوج، وإنما سندًا يدعم موقف الزوجة. وكان للزوج أن يتولى إدارة أملاك الزوجة أو الانتفاع بعقارها أو استغلال أموالها طوال حياتها معه، فإن ماتت قبله ظلَّ يتولى إدارة هذه الأملاك والانتفاع بها إلى أن يتوفى (إن كانت زوجته قد تركت منه أولادًا)، أو إلى أن يتزوج ثانية. أما في حالة وفاته أو إذا طلقها أو تزوج ثانية، فقد كانت أملاك الزوجة أو دوطتها تئُول إلى أبنائها، فإذا لم يكن لها أبناء رُدَّت أملاكها إلى الوصي عليها. وبالتالي لم يكن يحقُّ للزوج أن يبيع أو يرهن منها شيئًا؛ وكان عليه، في بعض الأحيان، أن يُقدِّم عنها كشف حساب.٢٨
ولقد انتقد الأدباء فكرةَ المهور الباهظة، فكانت «ميديا» مثلًا في مسرحية يوربيدس تشكو من الدوطة الباهظة التي تدفعها: «نحن معشر النساء أسوأ المخلوقات حظًّا، فأولًا يُطلب منا أن نشتري زوجًا بثروةٍ ضخمة، ونتخذه سيدًا لأجسامنا؛ لأنه من أسوأ الأمور ألَّا يكون لنا زوج.»٢٩ لكنَّ هذه المهور كانت تستهدف أساسًا حمايةَ الزوجة من نزوات الأزواج؛ إذ كان من الممكن للزوج أن يطلِّق زوجته أو يطردها بغير سبب؛ فإذا ما كانت لها «دوطة» يستفيد منها، فإنه يتردد طويلًا في ذلك؛ لأنَّ الدوطة في هذه الحالة لا بد أن تعود معها إلى بيتِ أبيها أو الوصي عليها.

وفي محاورة القوانين يُحرِّم أفلاطون — في الكتاب الخامس — المهور ويجعلها من بين المحرَّمات التي لا يجوز وجودها في دولته الفاضلة الثانية؛ فهي مثلها مثل الإقراض بالربا الفاحش، أو إيداع مالٍ عند مَن ليس أهلًا للثقة، يقول: «ينبغي ألَّا يُعطى إنسان أو يتسلم مهرًا على الإطلاق عند إتمام مراسم الزواج …» (٧٤٢، مجلد ٤، ص٣١١). ثم يعود في الكتاب السادس من المحاورة ذاتها إلى هذا الموضوع، فيقول إنه سبق أن تحدَّث عن «دوطة» الزواج وحرَّمها، ويفسر أسباب التحريم: «ذلك لأنَّ دولتنا قد زودَت مواطنيها بضرورات الحياة؛ ومن ثَم، فمن المحتمَل جدًّا أن تكون الزوجات أقلَّ غطرسةً ووقاحة، وأن يكون الأزواج أقلَّ وضاعةً وعبودية لهنَّ؛ بسبب الممتلكات الخاصة.» (٧٧٤ﺣ–د، مجلد ٤، ص٣٤٢٢). وهكذا يتضح لنا أن تحريم أفلاطون للمهور لم يكن تخفيفًا عن المرأة أو عن عبء «الوصي» عليها، وإنما لأنه يعتبر انتقال الدوطة إلى بيت الزوجية إذلالًا للرجل؛ لأنه يعمل في «مال الزوجة» من ناحية، وهو من ناحيةٍ أخرى يصبح مكبلًا بهذا المال فلا بد أن يبقيها معه؛ ولهذا تشعر الزوجة بالغطرسة، وتكون وقِحةً في معاملتها لزوجها.

(٤) الميراث

لم يكن للابنة في القانون اليوناني الحقُّ في أن ترث والدها، وإنما يرثه فقط ابنٌ ذَكر. وكان الأبُ يختار واحدًا من أبنائه الذكور إن كانوا كثيرين؛ لكنْ، ماذا يكون الوضع في حالة الابنة اليتيمة؟ تقول مونيك بيتر Monique Piettre: «هناك حالةٌ خاصة في القانون اليوناني، هي حالة اليتيمة التي لا شقيق لها ليرث والدهما؛ فلما كانت لا تستطيع هي شخصيًّا أن ترث، فقد كانت تجد نفسها مضطرةً للزواج من أحد أقربائها لأبيها، كي يبقى الورث داخل الأسرة؛ فإذا كان هذا القريب متزوجًا، حقَّ له أن يطلِّق زوجته، بشرط أن يُؤمِّن لها زوجًا آخَر. ونستطيع إذن أن نقدِّر إلى أي حد كانت المرأة تعتبر شيئًا أو وسيلة …»٣٠
هذا الوضع المُزري للمرأة في القانون اليوناني، حافظ عليه أفلاطون في «قوانينه»؛ فهو في صفحات طويلة يحدِّد بالتفصيل طُرقَ الميراث التي لا تخرُج في مجموعها عن تحيُّزه الواضح للرجُل، محافِظة على الملكية، ونظرته الدونية إلى المرأة؛ فهو يبدأ بالقول بأنَّ الوارث هو الشخص الذي يحدده الأب وفقَ مشيئته: «إنَّ ربَّ الأُسرة يضع رغبته في وصيةٍ يحدِّد فيها أولًا وقبل كلِّ شيء وريثه، أعني أيَّ ابنٍ من أبنائه أصلح من غيره لأنْ يرثه» (٩٢٣ب–ﺣ، مجلد ٤، ص٤٩٤). وهنا نلاحظ أن أفلاطون يواصل الحديث عن سلطات الأب اللامحدودة؛ فهو المالك للأرض، وهو الذي يحدد مَن يخلفه، ومَن يرثه على أن يكتب ذلك في وصيةٍ واجبة النفاذ، على أن يكون الوارث أحد أبنائه الذكور. لكنْ، ماذا يحدث إذا مات الأب دون أن يُنجب ذكورًا؟ «إذا لم يترك الموصي ذكورًا، وإنما ترك إناثًا فقط، فإن عليه أن يختار رجلًا يزوِّجه مَن يشاء من بناته، ويجعله ابنًا له، ومن ثَم وريثًا شرعيًّا …» (٩٤٢، ص٤٩٥)، لكنْ «إذا مات الرجُل دون أن يكتب وصية على الإطلاق، وترك أبناء ذكورًا يحتاجون إلى رعاية الحرَّاس، فسوف تحميهم هذه القوانين نفسها. فإنْ مات إثرَ حادثٍ تاركًا بناتٍ خلفه، فإنَّ على المُشرِّع أن يدبِّر أمرَ زواج بناته مراعيًا شرطَين من ثلاثة: قرابة الدم، وحماية الميراث، وإذا ما أغفل المُشرِّع الشرط الثالث — وهو أن يختار ابنًا من بين المواطنين أو زوجًا لابنته — فإن الأب سيغفر له … على أن يقوم أخوه الشقيق أو غير الشقيق بزواج البنت، فينال بذلك حصَّة الرجُل المتوفَّى؛ فإذا لم يكن للمتوفى أخ، وإنما ابن أخ، فسوف يحدث الشيء نفسه، على شريطة أن يكونا (هو والفتاة) في السنِّ المناسبة للزواج؛ فإذا لم يكن هناك ابنُ أخ وإنما ابن أخت، فلْيفعل الشيءَ نفسه، وهكذا حتى الدرجة الرابعة من القرابة إذا كان أخ الأب أو حتى الدرجة الخامسة لابنِ الأخ أو السادسة لابن الأخت …» (٩٢٥ب، مجلد ٤، ص٤٩٦). وهكذا يبحث أفلاطون ويجدُّ في السعي حتى الدرجة الخامسة والسادسة، ليعثر على رجُلٍ يزوِّجه الفتاة، حتى لا يحق لها أن ترث مال أبيها. فأين هي يا تُرى أفكار أفلاطون عن المساواة بين الرجل والمرأة؟ وأين ذهبت عباراته التي يقول فيها إنَّ «طبيعة المرأة لا تختلف في شيء عن طبيعة الرجُل سوى أنها أضعف منه بدنيًّا»؟ أمْ أنه «نسي هذا الجانب من الموضوع» على حدِّ تعبير باركر؟ الحقُّ أن المسألة ليست نسيانًا أو تذكُّرًا. إنما هي كما سَبَق أن ذكرنا أكثرَ من مرة، تسلسُل منطقي ترتَّب على إلغاء الملكية الخاصة، واختفاء الأُسرة من المجتمع، أمَّا إذا عادت الملكية، وعادت معها الأُسرة، فهذا هو موقف أفلاطون الحقيقي من الرجُل والمرأة. المرأة ليس لها الحقُّ في اختيار الزوج، وإنما يقوم الوصيُّ عليها بذلك، الأب أو الجد أو مَن ينوب عنهما، وليس لها الحقُّ في الميراث إلا إذا تزوجَت رجلًا. لكنْ هناك حالةٌ واحدة يكون للفتاة فيها الحقُّ في اختيار الزوج، وذلك إذا مات الأب … وفشلنا في إيجاد قريب من العائلة حتى أحفاد الأخ، وأحفاد الأحفاد، فإن الفتاة يمكن أن تكون حرةً في أن تختار مَن تشاء من المواطنين زوجًا لها بعد موافقة حرَّاسها.٣١ وبشرط أن يرغبها وترغبه، وسوف يكون هو وارث المتوفى وزوج ابنته، إنْ وافق هو على ذلك (٩٢٥ﺣ، ص٤٩٦).

وعلى الرغم من أن أفلاطون كان على وعي كامل بالمشكلات المترتبة على قَصْر الميراث على الذكور، فإنه يحاول حلَّ هذه المشكلات بشتَّى الطرق دون أن يلجأ أبدًا إلى توريث المرأة. يقول: «لمَّا كانت الحياة مليئةً بالأحداث، فمن المحتمَل أن تكون مسألةُ العثور على وريثٍ يرث تركةَ المتوفى أمرًا بالغ الصعوبة؛ ولذلك فإذا لم تجد الفتاة زوجًا داخل حدود المدينة، فإنه يمكن لها أن تبحث خارجها، فإنْ وجدَت شخصًا كان قد أُرسل إلى إحدى المستعمرات، وكان أحد أقربائها، فإنَّ عليه أن يتقدَّم ليحصل على الميراث طبقًا لتنظيم القانون، فإذا لم يكُنْ من أقربائها، وإذا لم يكن لها أقارب داخل المدينة، واختارَته ابنةُ المتوفى ووافق الحرَّاس على هذا الزواج، فإن على هذا الشخص أن يعود إلى المدينة ليخلف المتوفى، الذي مات دون أن يترك وصية» (٩٢٥، مجلد ٤، ص٤٩٦).

وأخيرًا، ماذا يرى أفلاطون في زواج مَن ترمَّل من الرجال أو النساء؟ نلاحظ أيضًا أنه يفرِّق في النظر إليهما؛ «إذا ماتت زوجةٌ تاركةً وراءها أطفالًا، ذكورًا أو إناثًا، فإن القانون سوف ينصح زوجها — دون أن يرغمه — على تربية أطفاله حتى لا يدخل إلى المنزل زوجةُ أب … أمَّا إذا لم يكن هناك أطفال، فإن القانون يرغمه على أن يتزوج ثانية، حتى ينجب العدد الكافي من الأبناء لأُسرته وللدولة»، هذا بالنسبة للرجل … «أما إذا مات الزوج تاركًا من بعده عددًا كافيًا من الأبناء، فسوف تبقى الأم كربَّة منزل لتربية أطفالها؛ لكنْ، إذا «رؤي» أنها أصغر جدًّا من أن تعيش «فاضلة» بغير زواج، فعلى أقاربها الاتصال بالنسوة المشرفات على الزواج، وليجتمعوا معًا — الأقارب والمشرفات — ليقرِّروا ما يعتقدون أنه أفضلُ لها في مثل هذه الحالة؛ وإذا كان هناك نقصٌ في عدد الأطفال، فليضعوا ذلك في اعتبارهم …» (٩٣٠ﺣ، مجلد ٤).

بقي أن نقول إنَّ ما يراه البعض اختلافًا مُذهلًا بين دَوري المرأة في «الجمهورية» و«القوانين»، لا يرجع إلى أنَّ أفلاطون غيَّر آراءه أو عدَّل موقفه من طبيعة المرأة وقدراتها، وإنما جاء الاختلاف من وضع الملكية الخاصة في المدينتَين الفاضلتين: في المدينة الأُولى اختفَت الملكية فاختفَت الأُسرة، أمَّا المدينة الثانية في «القوانين» فقد عادت الملكية والأُسرة؛ فعاد الدور التقليدي للمرأة. وفي الحالتَين، كان تصور أفلاطون للمرأة واحدًا؛ إنها «ملكية خاصة» للرجُل، إذا تم إلغاؤها تحررَت من الامتلاك وتحولَت إلى رجُل؛ لأنها بغير دورٍ ولا وظيفة. أمَّا إذا عادت الملكية، عاد الرجل إلى امتلاكها من جديد. «وهكذا تصوَّر أفلاطون أنَّ المرأة ملكيةٌ خاصة تلحق بممتلكات الرجُل، وعندما تتحدَّد الأُسرة، تظهر وظيفتها؛ فلم يستطع أفلاطون بسبب البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الجديد أن يتابع دورَ «المرأة الثوري» الذي يبدو أنه ينتج منطقيًّا من مثل هذه المعتقدات. ففي مثل هذا المجتمع الجديد، لا بدَّ أن تختلف طبيعةُ المرأة عن طبيعة الرجُل؛ فهي لا بدَّ أن تكون طاهرةً نقية محترَمة مهذَّبة؛ حتى تليق بأن تكون زوجةً خاصة تصون شرعيةَ الوارث الذي سوف يرث هذه الملكية. أمَّا الرجل فكان عليه أن يستعيد صفات النُّبل والشهامة التي كانت أبعدَ ما تكون عن صفات الحارس من النوع المثالي».٣٢
١  Sarah B. Pomeroy: “Women in classical Antiquity” p. 118.
٢  Glenn R. Morrow: op. cit. p. 101.
٣  إرنست باركر، النظرية السياسية عند اليونان، مجلد ٢، ص٢٥٦.
٤  وهو نفسه التقسيم السائد في أثينا؛ فقد قَسَّم سولون المجتمع الأثيني أربعَ طبقات وفقًا لدخل كل فرد في السنة مقدَّرًا بمعايير من الحبوب، والزيت، والنبيذ. وأُولى هذه الطبقات: مَن كان دخله في السنة خمسمائة معيار، وتسمَّى «طبقة أصحاب الخمسمائة»؛ والثانية: طبقة الفرسان، لا يقلُّ دخل أفرادها عن ثلاثمائة معيار؛ والثالثة: طبقة «النير»، دخلها مائتا معيار؛ وفي أسفل السُّلَّم: «طبقة الأجراء أو العمَّال اليدويين». (د. لطفي عبد الوهاب، اليونان، ص١٢٦-١٢٧).
٥  إرنست باركر، المرجع السابق، ص٢٥٨.
٦  المرجع نفسه، ص٢٦٢-٢٦٣.
٧  G. Morrow: op. cit. p. 113.
٨  G. R. Morrow: op. cit. p. 439.
٩  G. R. Morrow: op. cit. p. 439.
١٠  قارن ما يقوله يوربيدس على لسان ميديا: «ليس ثمَّة مَهْرب أمام المرأة؛ فهي لا تستطيع أن تقول «لا» في زواجها» (أبيات ٢٤٥).
١١  إرنست باركر، النظرية السياسية عند اليونان، مجلد ٢، ص٢٦٨-٢٦٩ (والتشديد من عندنا).
١٢  المرجع السابق، ص٢٦٨-٢٦٩.
١٣  المرجع السابق، ص٢٦٧.
١٤  قارن مثلًا مسرحيات: «ميديا» و«ألكستس» ليوربيدس، و«نساء الجمعية الشعبية» أو «نساء البرلمان» لأرستوفان … إلخ.
١٥  Susan Okin: op. cit. p. 48.
١٦  G. Morrow: op. cit. p. 331.
١٧  مورو، المرجع السابق.
١٨  النساء في العصر الكلاسيكي القديم، ص١١٨.
١٩  Aristotle: Politics, Book II 1296 (Everyman’s Library, p. 52).
٢٠  Ibid. 12746 (p. 65).
٢١  Ibid.
٢٢  G. Morrow: op. cit. pp. 394-5.
٢٣  Sarah Pomeroy: op. cit. p. 118.
٢٤  ترى سوزان أوكن: «أنَّ هذه هي أخطر وظيفة في الدولة (وهي تعادل وزير التربية أو المُشرِف العام على التعليم)؛ ولهذا اشترط أفلاطون أن يشغلها رجُل» (انظر كتابها ص٤٨).
٢٥  التشديد في جميع نصوص أفلاطون من عندنا.
٢٦  مونيك بنتر في كتابها «المرأة عبر التاريخ»، ص٦١.
٢٧  د. عبد اللطيف أحمد علي، تاريخ اليونان، المجلد الأول، ص٦٤.
٢٨  Sarah Pomeroy: op. cit. p. 69.
٢٩  مسرحية «ميديا» ليوربيدس، أبيات ٢٣٥–٢٤٥.
٣٠  مونيك بيتر، المرأة عبر التاريخ، ص٦٢.
٣١  التشديد في جميع نصوص أفلاطون من عندنا.
٣٢  S. Okin: “Women in Western Political Thought” p. 70.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥