الفصل الثالث

الحُب الأفلاطوني … والمرأة

أولًا: الجنسية المثلية

حياة المرأة في المجتمع الأثيني كما رأينا حياة «سرية خاصة»، ينبغي أن تظلَّ طي الكتمان بحيث يُحبس اسم السيدة المصون في البيت، كما يُحبس فيه جسمها، كما يقول ثوكيديدز.١ أمَّا الرجل فمن العار أن يبقى في المنزل. إنَّ عليه أن يقضي حياته خارجه، كما يقول زينزفون، في الأسواق والحياة العامة والسياسة والندوات … إلخ.٢ وفي هذه الحياة، لا يصحبه فيها إلا أشباهه من الرجال الذين يرتبط بهم برباط الصداقة والمحبة، وهو رباط كثيرًا ما يتحول إلى علاقةٍ جنسية. وهكذا كان الارتباط وثيقًا في المجتمع الأثيني بين الجنسية المثلية، وعزلة المرأة في «ركنِ الحريم» … فهي أقلُّ من أن تكون رفيقةً أو صديقة؛ لأنها من حيث السن «طفلة»، كما أنها بغير اهتماماتٍ في الحياة السياسية أو الثقافية؛ ومن ثَم كانت أداة لإنجاب النسل فحسب؛ فهي «كمٌّ» مُهمَل لا قيمةَ له … ولا يتَّضح ذلك إلا على ضوء الجنسية المثلية، التي كانت شائعة عندهم؛ «فقد كان أكبرُ مَن ينافس العاهرات هُمْ غلمان أثينا، وكانت العاهرات … ينددنَ بما في عشق الذكور للذكور من فسادٍ أخلاقي شنيع».٣ وكان التجار يستوردون الغلمان الحسان؛ ليبيعوهم لمَن يدفع أغلى الأثمان. وكان هؤلاء يُستخدمون أولَ الأمر لقضاء شهواتهم، ثم يتخذونهم فيما بعد أرقَّاء … ولم يكن في أثينا مَن يعتقد أن ثمَّة عيبًا في أن يُثير الشبَّان شهوةَ شيوخ المدينة ويُشبعوا هذه الشهوة. ولم تكن تلك الممارسات الشاذة مقتصرةً على أثينا وحدها، وإنما امتدَّت إلى معظم المدن اليونانية؛ فقد كانت قائمة في إسبرطة، وذلك هو الجانب السيئ من الموائد المشتركة عندهم فيما يرى أفلاطون (القوانين، ٦٣٦ب)، ويبرِّر أرسطو شيوعَ هذه الظاهرة في كريت تبريرًا عجيبًا؛ «إن المشرع الكريتي، فصَلَ بين الرجال والنساء حتى يقلِّل من نسبة المواليد، كذلك أباح، لنفس السبب العلاقات الجنسية بين الذكور …»٤ وهكذا يعلِّل أرسطو انتشارَ ظاهرة الشذوذ الجنسي بالخوف من ازدحام البلاد بالسكان.
ومن العجيب حقًّا أنْ تجِد قائدًا مثلَ «زينوفون»، الذي اشتهر بأنه من أشدِّ رجال العالم صلابةً وعنادًا، يفاخر بأنه شغوف بحُب الفتى كليناس! كذلك كانت هناك شخصياتٌ يونانية كبيرة تُعبِّر عن احترامها لهذا النمط من العلاقات الجنسية، مثل يوربيدس وسولون.٥ غير أن انتشار هذه الظاهرة لا يرجع كما يقول أرسطو للحدِّ من «المواليد»، وإنما لغياب المرأة وانعزالها في ركنٍ مظلم من الدار؛ مما جعل المجتمع ذكوريًّا في جوهره، فلم يكن الرجل يعرف أي امرأة محترمة سوى زوجته وبناته، ولم تكن علاقته بهم مما يشبعه عاطفيًّا وروحيًّا؛ «فزينون» مثلًا يروي أن امرأته كانت في الخامسة عشرة عندما تزوجها.٦ وقد تجِد مَن يتزوج الفتاة في سن أقل، أي عندما تكون مجرد «طفلة» لم تنضج بعد؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يبحث الرجُل عن العلاقة العاطفية الناضجة التي تشبعه خارج المنزل، فضلًا عن الحياة العسكرية والحرمان الجنسي والافتنان بالجسد العاري في الألعاب والاستجابة لنداء الغريزة.٧

ثانيًا: أفلاطون … والجنسية المثلية

هاجم أفلاطون الجنسية المثلية واحتقرها، وحطَّ من شأنها، بل وحرَّمها في محاورة «القوانين». لكن الغريب حقًّا أنه لم يُدِن الجنسية المثلية بما هي كذلك، أعني أن هجومه على هذا الضرب الشاذ من ممارسة الجنس لم يكن لصالح «المرأة» أو لصالح الجنسية المغايرة — وكان ذلك هو المتوقع — لكن أفلاطون كره في الواقع جميع أنواع العلاقات الجنسية.

غير أن رأي أفلاطون في «الشذوذ الجنسي» لم يكن النفور والرفض منذ البداية؛ فهو في الأعم الأغلب لم يكن يجد في هذه العلاقة ما يشين، أو أنه على الأقل، كان ينظر إليها بقدر من التسامح وسوف نضرب ثلاثة أمثلة على ذلك:
  • (١)
    في محاورة خرميدس Charmides التي تدور حول العفَّة، نجد سقراط وقد عاد من الحرب، يسأل أصدقاءه عن «الشاب»، ومَن منهم قد أصبح الآن أروع جمالًا من غيره، فيقال له إنه الشاب الجميل «خرميدس». ومع أنَّ سقراط كما يقول عن نفسه كان يُؤمن بجَمال الشباب جميعًا: «الغالبية العظمى من الشباب الصغير، تبدو جميلة في عيني» (١٥٤ﺟ، مجلدًا، ص٨)؛ فإنه ينبهر عندما يرى خرميدس، ويقول: «أشهد أنني أُخِذتُ لجمال هذا الفتى ولقوامه.» كما افتتن به جميع الرفاق، ويروي أفلاطون أنَّ الشاب دخل القاعة وخلفه فريقٌ من العشاق، ويسأل شيرفون Chaerephon سقراطَ عن رأيه في مَلاحة الوجه: «ما رأيك يا سقراط في وجه هذا الشاب؟ أليس رائعًا؟» ويجيب سقراط: «أكثر من رائع!» فيقول شيرفون: «لكنك سوف تقول إنَّ وجهه لا شيء إذا ما رأيت جسده عاريًا، فهو كامل الأوصاف من كلِّ وجه.» ووافق الجميع على ذلك (١٥٤ﺟ، مجلد ١، ص٨). فأفلاطون في هذه المحاورة، لا يجد غضاضةً في عشق الغلمان؛ ويرى «جروب» أننا ما لم نفهم موقف سقراط من جمال الذكور — لا سيما الشباب منهم — على هذا النحو، فإننا لن نفهم سِحر لقاءاته وفتنتها.٨
  • (٢)
    وفي محاورة «ليسس Lysis»، نجد هيبوثاليس Hippothales يدعو سقراط لزيارة حلبةٍ للمصارعة أُنشِئت حديثًا حيث الأصدقاء هناك. وعندما يسأله سقراط عمَّن «يُفضِّل» من هؤلاء الأصدقاء، «يحمرُّ وجهه وتتورد وجنتاه»؛ فيستنتج سقراط بحِنكته أن الشاب يحبُّ: «لستُ في حاجة إلى أن تقول لي إنك في حالة حُب؛ فاعترافك سيجيء متأخرًا، إذْ من الواضح أنك لستَ في حالة حُب فحسب، بل غارق في الحُب حتى الأذنَين … إنه على الرغم من أنني لا خبرة لي في مسائل أخرى، فقد وهبَتْني الآلهة تلك القدرةَ التي تمكِّنني أن أكتشف في الحال المحبَّ وحبيبه» (٢٠٤ﺟ، مجلد ١، ص٤٢). ويحمرُّ وجه الشاب ويتورد أكثر وأكثر، وعندما يعرف سقراط أن محبوبه هو «ليسس» يسعى للبحث عن ذلك الشاب. وعندما يراه يهنِّئ «هيبوثاليس» على ذوقه الرفيع. ثم يسأله إن كان يعرف ما الذي ينبغي على المحبوب أن يقوله في مثل هذه الحالات … ويُعطيه خلاصة تجاربه، «المحبُّ الحكيم لا يمتدح محبوبه قبل أن يظفر به … لأن الشاب الجميل عندما يمتدحه أحد المحبين قد يمتلئ غرورًا» (٢٠٦أ، مجلد ١، ص٤٤)، ويعِدُه سقراط أن يعلمه الطريقة الصحيحة. لكنْ، إذا كان سقراط يُبدي قدرًا من التهكم على اعتبار أن الطريقة السقراطية في «اصطياد» الشبان تختلف بالطبع عن طريقة هيبوثاليس، فإن ذلك أولًا لا يتضح إلا في نهاية المحاورة، وما يهمنا هنا، ثانيًا أن نبين أن حُب الشباب بعضهم لبعض كان أمرًا طبيعيًّا طوال المحاورة، وليس فيه ما يستحق اللوم! فضلًا عن أن موضوع الحُب هنا هو الغلمان في سن المدرسة (٢٠٨ﺟ)، ممن لا يزيد سنُّهم عن ستة عشر عامًا.٩
  • (٣)
    ثم هناك بعد ذلك كله شخصية «القبيادس» الشهيرة — حارس بركليز، ومدلل أثينا — الذي كان يفاخر بكثرةِ مَن عشقه من الرجال! ويروي لنا أفلاطون في محاورة المأدُبة كيف بذل القبيادس جهودًا مُضنية بلغَت حدَّ البكاء لكي يظفر بسقراط: «فقد كان سقراط يؤثر فيَّ تأثيرًا يطول شرحه … وكلما استمعتُ إليه اشتدَّت ضربات قلبي ووجبتُ وجيبًا … كأني في غيبوبةٍ صوفية، وتنهمر الدموع من مآقيَّ، وألاحظ أنَّ غيري يحدُث له ما يحدثُ لي» (المأدبة، ٢١٥ﻫ، مجلد ١، ص٥٤٧). وكلما ظنَّ أنه على وشك أن يبلغ مراده — «لأني على ثقة من جاذبية شبابي»، وسقراط جاد في الإعجاب بشبابي وجمالي — «يصاب بخيبة أمل، فيعاود الكرة مرة أخرى … صرفتُ الوصيف لكي أخلو به … ظنًّا مني أنه لو خلا بي فسوف يخوض فيما يدور عادةً بين المحبِّ ومحبوبه، وغمرني السرور … لكنَّ سقراط لم يفعل» (٢١٧ب، مجلد ١، ص٥٤٩)؛ وفي المرة الثالثة «دعوتُه لتناوُل العشاء معي، وتصرفتُ كما يتصرف أيُّ مُحِب يدبِّر لمحبوبه أمرًا … واستبقيتُه حتى ساعةٍ متأخِّرة من الليل … وألححتُ عليه في المبيت بحجة أن الوقت متأخِّر؛ فقضى الليل راقدًا إلى جواري في الفراش، ولم يكن معنا أحد، وآليتُ على نفسي ألَّا أكون حذرًا هذه المرة، بل أصرِّح له بعواطفي، فلكزتُه بكتفي وأنا أقول أنائمٌ أنت يا سقراط؟ … إلخ» (المأدبة، ٢١٨د-ﺟ، مجلد ١، ص٥٥٠). ويقول جروب: «يحدِّثنا القبيادس في محاورة المأدبة أنه حاوَلَ غواية سقراط، لكنه فشل، وسوف تفقد القصة مضمونها الحقيقي إذا ما رفضنا التسليم بأن سقراط قد تمَّت غوايته، فما كان يمتدح في المحاورة هو قدرته على التحكُّم في نفسه، وليس رفضه أو عدم اكتراثه …»١٠

والحقُّ أننا في محاورة «بروتاجوراس» نشعر بهذه العلاقة واضحة بين سقراط والقبيادس، ويكفي أن نقتبس هذا الحوار:

«من أين أنت قادم يا سقراط؟ أنا أعلم أنك كنتَ تلاحق القبيادس الوسيم، لقد رأيتُه بالأمس وقد نبتَت لحيته مثل الرجال وهو رجُل بالفعل، وهو ما أودُّ أن أسرَّه إليك، ولكني أعتقد أنه ما زال جذَّابًا …» ويُجيب سقراط: «وماذا يهمُّ من لحيته؟ ألست مَن رأى هوميروس الذي يقول: إن الشاب يكون أكثر سحرًا حينما تنبتُ لحيته لأول مرة؟ فهذا أوان سِحر القبيادس» (بروتاجوارس، ٣٠٩أ-ب، مجلد ١، ص١٣٣).

غير أنَّ أفلاطون عَدلَ عن رأيه تدريجيًّا عندما تقدمَت به السنُّ، فدعا إلى الحدِّ من هذا الانحراف في محاورة «الجمهورية» وتبنَّى قاعدةَ على المحبِّ أن يُقبِّل محبوبه ويقترب منه ويلمسه وكأنه ولده مستهدِفًا غرضًا شريفًا … (٤٠٣ب، مجلد ٢، ص٢٥١). وإنْ كان يسمح في الكتاب الخامس للمقاتلين الشجعان — جزاء شجاعتهم — «بعشق رفاقهم من الشبان، الذين عليهم، بحُكم القانون، أنْ يتقبلوا هذه المغازلات طولَ الحرب … وكلُّ مَن معه ينبغي ألَّا يأبى عليه بقبلةٍ خلال المعركة إذا شاء. وبهذا نضمن إذا كان أحد المحاربين مفتونًا بشاب أو فتاة، فسوف يزداد حماسه لإحراز النصر …» (الجمهورية، ٤٦٨ﺟ، ص٣٢٧). وإنْ كان سقراط يحذِّرنا من أنَّ هذه المغازلات ينبغي ألَّا تذهب إلى ما وراء الحُب البسيط الطاهر مهما تكُن حدَّته!

فإذا ما انتقلنا إلى المرحلة الأخيرة، وجدنا أفلاطون يشنُّ حملةً عنيفة في محاورة القوانين على الجنسية المثلية، ويصفها بأنها «الحُب غير الطبيعي»؛ «وأعني به الحُب بين الشباب من جنس واحد: حُب الرجُل للرجُل، أو المرأة للمرأة … إنَّ نتيجة هذا الحُب بالغةُ الخطورة على الأفراد والمدن …» (القوانين، ٨٣٦، مجلد ٤، ص٤٠٢). ويبحث عن طريقةٍ تجنبنا هذا الخطر الداهم، «ويرى أنه لا أملَ في كريت وإسبرطة في علاج هذا الموقف؛ لأنهما معًا يُبيحان هذه العلاقة. وهو يرى أننا لا بدَّ أن نُعيد القانون الذي كان قائمًا قبل عصر لايوس Laius،١١ والذي يقرر أنه من الخطأ أن يشبع الذَّكر شهوتَه مع ذَكرٍ آخَر، على نحو ما يشبعها مع الأنثى … إنَّ علينا أن نتخذ لنا شاهدًا من غريزة الحيوان، حيث تشير إلى أن الذَّكر لا يقرب الذكر أبدًا؛ لأن مثل هذا السلوك ضد الطبيعة … فمَن منا لن يلوم ذلك المخنث الذي استسلم لشهواته وعجز عن السيطرة عليها، «ألنْ يلوم الناس جميعًا ذلك السلوك الأنثوي (الطرَف الذي يقوم بدور الأنثى) لأنه يحاكي المرأة …» (القوانين، ٨٣٦أ، مجلد ٤، ص٤٠٢-٤٠٣). وهو في محاورة «فايدروس» يصف مَن يمارس الجنسية المثلية بأنه «يندفع بفعل اللذة، فيسلك سلوك البهيم، فلا يعود يخشى أو يخجل من الإفراط في إشباع لذة مضادة للطبيعة …» (فايدروس ٢٥١أ – مجلد ٣ ص١٥٧).

ثالثًا: الحُب الأفلاطوني … والمرأة

قُلنا إن هجوم أفلاطون على الجنسية المثلية واعتبارها انحرافًا «ضد الطبيعة»، لا يعني بالضرورة أنه يعود بالعلاقة الجنسية إلى وضعها «الطبيعي» بين الرجُل والمرأة، بل المُلاحَظ أن أفلاطون لا يتحدث عن العلاقة الجنسية، أيًّا كانت، إلا بقدرٍ غير قليل من الاحتقار، فحتى هذا الوضع الطبيعي «بين الرجل والمرأة» ينبغي أن يكون في أضيق الحدود وبقصد الإنجاب فقط! وذلك يتَّسق مع موقفه الميتافيزيقي العام الذي يحتقر الجسد ولذَّاته وشهواته … إلخ، ولقد كنا نتمنى أن يكون الحُب الأفلاطوني «الذي طبَّقَت شهرته الآفاق»، كما يذهب بعض الباحثين، «عنوانًا» على ضربٍ خاص من الحُب بين الرجل والمرأة، يتجردان فيه عن علاقة الجسد ويسموان إلى الصِّلة الروحية المجردة؛ «فيكون» هو الحُب العنيف أو الهوى العذري أو التسامي … إلخ إلخ.١٢ إلى آخِر هذه الأوصاف الجميلة؛ أقول، كنا نتمنى أن يكون الحُب الأفلاطوني على هذا النحو السامي من العلاقات بين الرجُل والمرأة، حتى بغضِّ النظر عن العلاقة الجنسية بينهما، لكنه للأسف كان تساميًا «للجنسية المثلية … وإعلاءً للواط». يقول جورج ساتون: «عندما نفكر في الحُب الأفلاطوني، تخطر لنا الصداقة الروحية التي تقوم بين رجُل وامرأة، إلا أن أفلاطون كان يفكر في قيام صداقة روحية بين رجُل وصبي، وكان الحُب الأفلاطوني عنده إعلاءً للواط، والحُب الصادق كما يقول في المأدُبة هو الطريقة الصحيحة لمحبَّة غلام …»١٣ ومن الغريب حقًّا أن نجده طوال المحاورتَين المخصَّصتَين للحُب، وهما «المأدبة» و«فايدروس»، يذهب إلى أن حُب النساء أمرٌ مستنكر كريه! ولا أحد يعترض — بما في ذلك سقراط — على تفسيرات الحُب التي يقدِّمها بوزانياس Pausanias وأرستوفان، وهما معًا يحملان بشدَّة على الجنسية المغايرة، أو الوضع الطبيعي للعلاقة الجنسية بين الرجُل والمرأة! فبوزانياس يُقسِّم الحُب نوعَين، ما دامت هناك آلهتان تحملان اسم «أفروديت»؛ فهناك الحُب المخصَّص لأفردويت السماوية بنت أورانس (السماء)، ولا أم لها، وهي الأخت الكبرى. ثم هناك أفروديت الصغرى ابنة ديون Dione من زيوس، وهي أفروديت العامية، «ولا شك في خِسة ودناءة الحُب الذي يُنسب إلى أفروديت العامية … وهو الحُب الذي يُعمر قلوب السفلة والعامة، ومن سماته أنه يتَّجه إلى النساء والغلمان، إنه يتجه إلى الجسد لا الرُّوح؛ فهو حُب حسي لا رُوحي، ونجده أيضًا يُؤْثِر أن يكون محبوبه أضعف عقلًا؛ لأنه يسعى إلى إشباع شهواته البهيمية ولا يعنيه كيف يشبعها» (المأدبة، ١٨١أ، مجلد ١، ص٥١٢). وعلينا أن نلاحظ أنَّ أفلاطون في هذا النص يوحِّد بين الاتصال الجنسي بالمرأة — وكان المفروض أن يكون هو الأمر الطبيعي — وبين إتيان الذكور، وهو وضعٌ وصفه من قبل بأنه «مضاد للطبيعة»، لكنه هنا لا يستهدف مهاجمة الشذوذ الجنسي، بل يحمل على ممارسة الجنس أيًّا كان نوعها!

ومن الملاحَظ أيضًا أن أفروديت العامية — راعية هذا الضرب من الحُب — أصغرُ من أفروديت السماوية؛ ولهذا فإننا نلمس رعونة الشباب ونزقه، «وهي جاءت إلى الوجود عن طريق اتصال الذَّكر بالأنثى اتصالًا جنسيًّا محضًا … أمَّا أفروديت السماوية التي يُنسب إليها النوع الممتاز من الحُب فلا أثر فيها للأنثى، وإنما جاءت من الذَّكر وحده كما أنها الأكبر سنًّا، أعني أنها بريئة من نزق الشباب وطيشه. فمَن يعمر قلبه الحُبُّ السماوي، يميل إلى الذكور دون الإناث؛ فالذكر بالطبيعة أقوى وأذكى» (المأدبة، ١٨١ﺟ، مجلد ١، ص٥١٣).

واضحٌ في هذا النص كراهية أفلاطون لأيِّ اتصالٍ جنسي؛ ومن ثَم لم تكن حملته السابقة على الجنسية المثلية لذاتها، وإنما هي حملة ضد العلاقات الجنسية بصفةٍ عامة … «فالرجل الفاسد هو الذي يتَّجه إلى الحُب العامي، أعني عشق الجسد لا الروح، سواء أكان هذا الجسد لامرأةٍ أو لغلام؛ فهو ليس مخلصًا في حُبه، ولا بثابتٍ على عهده؛ لأنَّ ما يعشقه ليس بثابت. فعندما يذبل جَمال الجسد، ينصرف بحُبه إلى جسدٍ سواه، وتتبخر وُعوده وعهوده وكأنها أحلام. أما المحبُّ النبيل، فهو يبقى على حُبه ما بقي على قيد الحياة؛ لأن ما يهواه باقٍ ما بقيَت الحياة» (المأدبة، ١٨٣ﻫ–ط، ص٥١٥).

ولو سِرنا قليلًا في المحاورة لوجدنا «أرستوفان» يعرض هذه الفكرة نفسها بطريقةٍ أخرى؛ فالآلهة خلقَت الإنسان في البداية كائنًا واحدًا كان فيه من القوة ما جعله مُخيفًا، حتى إنه هاجَمَ الآلهة (١٩٠ﺟ)؛ فشَطرَ زيوس كلَّ مخلوق شطرَين، فأخذ كلُّ شطرٍ يبحث عن شطره الآخَر، فإذا الْتقى به تعانقا بقوةٍ، لكأنهما يريدان أن يعودا كائنًا واحدًا (١٩١ب–ط، ص٥٢٢)، ثم جعل لهما زيوس أعضاء التناسل من أمام؛ ليحفظ النسل باتصال الذكر بالأنثى، «فالذكور الذين انشطروا عن الخنثى (الكائن المشترك) يعشقون النساء، ويهيمون بهنَّ، والزناة من هؤلاء، وكذلك النساء اللائي يعشقنَ الرجال ويتهالكنَ عليهم. أمَّا النساء اللواتي انشطرنَ عن أنثى يعشقنَ بنات جنسهنَّ ولا يأبهنَ بالرجال. أما انشطار الذكور — وهم أنصاف الذكور — فيميلون إلى الذكور دون سواهم، ويسرُّهم القرب منهم والاتصال بهم. وهؤلاء خيرٌ من لداتهم؛ منذ حداثتهم تتوافر فيهم خصال الرجولة أكثر من غيرهم، ويرميهم البعض بالوقاحة والصفاقة، ولكنهم جِد مخطئين؛ فليست الصفاقة هي التي تدفعهم إلى أعمالهم، ولكنها الفتوة ورُوح الرجولة العالية القوية؛ فهي التي تدفعهم إلى مصادقة أندادهم وأشباههم … ولا يبحثون وراء صداقاتهم مغنمًا ولا مكسبًا، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنَّ اللغة الجنسية وحدها هي التي تحقِّق لهم السعادة …» (١٩٢ﺟ، مجلد ١، ص٥٢٣). إن المحب يريد أن يتحد مع محبوبه فيصير المحبُّ والمحبوب شخصًا واحدًا … (١٩٢ﻫ، مجلد ١، ص٥٢٤).

غير أنَّ سقراط الذي تحدَّث بعد هؤلاء جميعًا، يعرض نظرية أفلاطون في الحُب، وهي تتفق في ملامحها العامة مع الآراء السابقة، فيروي أن امرأةً اسمها «ديموتيما Diotima» قصَّت عليه كيف ولد الحُب فحملَت فيه أمه في مولد أفروديت، فتولد فيه شوق عارم إلى الجَمال، ولمَّا كانت الحكمة شيئًا جميلًا، كان الحُب أيضًا هو حُب الحكمة؛ لأنه وسطٌ بين الحكمة والجهل، فأبوه حكيمٌ حاذق وأمُّه جاهلة عاجزة، وهو إجمالًا الرغبة في الامتلاك الدائم للخير؛ ولهذا، فهو يرغب في الخلود رغبته في الخير، ويلزم عن ذلك أن يكون الحُب هو حب الخلود كما هو حُب الخير (٢٠٦أ و٢٠٧، مجلد ١، ص٢٣٧-٢٣٨). والصورة الدنيا لحُب الخلود، وهي ما نجده عند الحيوان في حفظ النسل وامتداد الجنس؛ «ذلك لأنَّ طبيعة الغاني أن ينشد البقاء والخلود، ووسيلته إلى ذلك الولادة والتناسل؛ فالولادة هي التي تحِلُّ فردًا مولودًا محلَّ الفرد الميت (٢٠٧ج)، لكنْ إذا كانت هذه هي الصورة الدنيا لحبِّ الخلود، إنجاب الأطفال، فهناك صورة أسمى تنجب فيها أطفالًا أسمى من البشر؛ لأنهم خالدون، ويفوقون في جَمالهم جمالَ أطفال البشر، ولا شكَّ أن الناس يفضِّلون هؤلاء الأطفال»، فمنْ لا يغبط هوميروس وهزيود وغيرهما من فحول الشعراء على ما خلَّفوه لنا من أطفال؟ خذْ مثلًا ليكورجوس المشرع وما خلَّفه من أطفال لإسبرطة، لا لصالح إسبرطة وحدها بل لصالح اليونان كلها. وأنتم معشرَ الأثينيين تُكرمون سولون، أليس من أجل القوانين التي خلفها؟ وهذا شأن هؤلاء في اليونان، وفي غير اليونان وهم الذين خلَّفوا آثارًا جليلة … وظفروا بعبادة البشر؛ لمَا تركوه من أطفال رُوحيين، وهذا ما لم يحدُث قَط لإنسان بسبب أطفالٍ من لحمه ودمه …» (٢٠٩ﺟ–ﻫ، ص٥٤١).

لكن افرض أنني أودُّ أن أتعلَّم هذا الحُب الأفلاطوني المثالي — حُب الجَمال — فكيف يمكن يا تُرى أن أصعد هذا الطريق الخالد؟ … «إنك إنْ أردتَ أن تتعلم كيف تصعد هذا الطريق الخالد، فإنك تستطيع في شبابك أن تبدأ بالجمال المادي، جمال الجسد، ثم ترقى إلى مرحلة أعلى تُقدر فيها جَمال الرُّوح عن جَمال الجسد. ثم تتأمل الجَمال الذي يتبدى في الأعمال والنظم المختلفة، فتظهر لك عندئذٍ حقارة الجمال المادي وضآلة شأنه إذا قورن بالجمال الروحي …» عرفتُ إذن الطريقة! أن أبدأ من جَمال الجسد، ثم أصعد خطوةً خطوة حتى أصِل إلى جَمال أزلي لا يعرف كونًا ولا فسادًا ولا موتًا أو ميلادًا، لكنْ جسد مَن يا تُرى هذا الذي أبدأ به؟ أهو جسد المرأة؟ قد يكون هذا هو الوضع الطبيعي، لكنَّ أفلاطون له رأيٌ مخالِف … «عندما يُدرك المرء هذا الجَمال الاسمي مبتدئًا من العالم الحسي مستعينًا بحُب الغلمان، يكون قريبًا من غايته، وهذا هو الطريق الصحيح للاقتراب من أسرار الحُب» (المأدبة، ٢١١). فمَن يريد أن يتبع الطريق القويم، في رأي سقراط، عليه أن يأخذ نفسه من الصغر بتأمل «الجَمال الإنساني» … «وإذا ما أحسَنَ مرشد إرشاده أحبَّ أولًا فتًى جميلًا (٢١٠) … لكنْ حين يصعد من الأمور الأرضية لن يهتمَّ بعد ذلك بذهبٍ أو ثيابٍ فاخرة أو بجَمالِ الغلمان والشبَّان …» (٢١١ﺟ، مجلد ٢، ص٥٤٣). إن الملاحظة التي تستوقف النظر حقًّا في «الحُب الأفلاطوني» أنه يبدأ من «الجنسية المثلية» باعتبارها مثلًا للحب الحسي الجسدي الذي ينبغي التخلص منه؛ لأنها عملية «مضادة للطبيعة» وهي انحطاط لإنسانية الإنسان … وتهبط بالرجل إلى مستوى المرأة» … إلخ … إلخ، لكنه لا ينتقل من هذه الممارسات الشاذة غير الطبيعية إلى الممارسة الطبيعية، أعني الجنسية المغايرة أو العلاقة بين الرجُل والمرأة. وإنما ينتقل منها إلى الحُب الحقيقي الذي هو «حُب الذكر للذكر»، لكنْ بالروح لا بالجسد. وهو حبٌّ يثمر «أطفالًا» رُوحيين لا ماديين … وهذا هو الخلود الحقيقي؛ لأن إنتاج الأطفال من البشر هو نفسه إنتاج مادي يقلُّ في قيمته كثيرًا عن إنتاج الرُّوح.

فما ينبغي أن ننتبه إليه جيدًا هو أن التسامي بالجنس والإعلاء … إلخ، ليس إلا تساميًا بالجنسية المثلية. «إننا إذا ما وضعنا الجنسية المثلية عند أفلاطون جنبًا إلى جنب مع إيمانه بأن المعاشرة الجنسية من الشرج مضادة للطبيعة، وأنها انحطاط لا لإنسانية الإنسان فحسب بل لحيوانيته أيضًا، فإننا نفسِّر كثيرًا من أصل الفكرة التي تقول إنَّ الجانب الجسدي في الحُب ينبغي قهره وتجاوزه؛ حتى نستطيع أن نصل إلى الموضوع الحقيقي للحُب، ألَا وهو فكرة الجَمال نفسها، وهكذا يمكن أن نفهم النظرية الأفلاطونية في الحُب بسهولة؛ فهي في جانبٍ كبير منها إعلاء للدوافع غير المرغوبة.»١٤ أعني إعلاءً للجنسية المِثلية، وليست الجنسية المغايرة طريقًا طبيعيًّا بديلًا، يقول سقراط: «إنَّ أولئك الذين تتَّجه غريزتهم الخلَّاقة اتجاهًا جنسيًّا، يجعلون همَّهم النساء، ويكون حُبهم جنسيًّا محضًا، وتراهم يحسبون أنهم يضمنون لأنفسهم الخلودَ بإنجاب الأطفال، لكن هناك غيرهم تكون ميولهم الخلَّاقة رُوحية، ويحملون بالروح لا بالجسد، ويخلقون ذريةً رُوحية، هي الحكمة والفضيلة …» (المأدبة، ٢٠٩، مجلد ١، ص٥٤٠)، «فالحمل الروحي» عند الرجُل أرفع من الحمل الجسدي عند المرأة؛ ولهذا يفاخر سقراط في «تتياتوس» أنه «يولد الرجال»، يقول: «إنني أولد الرجال لا النساء؛ فأنا أتولى النفوس لا الأجسام. والخاصة المميزة للفن الذي أمارسه هو أنه قادر على إثبات نوع التفكير الناتج من الشباب، هل هو شبحٌ وهمي أم هو ثمرة الحياة الحقيقية» (١٥٠، مجلد ٣، ص٢٤٤). وسقراط هنا يفاخر بأنه أسمَى من القابلات اللائي لا يستطعنَ أحيانًا، التمييز بين الحمل الحقيقي والحمل الكاذب! وهكذا يتضح لنا أن نظرية أفلاطون في الحُب تستبعد المرأة تمامًا، فلا هي البداية التي يبدأ منها مَن يعشق الجسد، ولا هي طرَف في النهاية التي ينتهي إليها مَن يعشق الروح. وإنما يُشكِّل «الغلام» البدايةَ الحسية و«الرجل» النهايةَ الروحية. ويذهب المفسرون مذاهبَ شتَّى في تفسيرهم لهذا الموقف الأفلاطوني العجيب، لعل أهمَّها ما يقوله جورج فلاستوس G. Vlastos الذي يرى أنَّ أفلاطون كان يمارس الجنسية المِثلية، وأن حملته ضدها، واعتبارها «مضادة للطبيعة»، أو أنها انحطاط لإنسانية الرجل … إلخ، إنما هو ضربٌ من عقدة الذنب التراجعية.١٥ بينما يرى جورج سارتون أنه «لا يستلزم من ذلك أنَّ أفلاطون كان ممَّن يزاولون اللواط بالمعنى الفعلي. لكنْ، يكاد يكون مؤكدًا أنه كان مصابًا بشذوذ جنسي؛ إنه لم يتزوج أبدًا، وإذا كان يتحدث أحيانًا عن العلاقات الجنسية التي تقوم بين الرجال والنساء، فحديثه مجردٌ من كل عاطفة. لكنه يدخر مشاعره الرقيقة للعلاقات الشاذة مع بَني جنسه. لقد كان ممَّن يبغضون المرأة، وهذا يبدو كثيرًا في ثنايا كتاباته …»١٦ ويرى آخرون أنَّ أفلاطون لم يتزوج، إذْ تدل كتاباته على أنه لم يكن لديه ميل جنسي نحو النساء.١٧

لكنْ، إذا كانت هناك عوامل شخصية في حياة أفلاطون قد جعلته في البداية يتسامح مع «الجنسية المثلية»، فقد تغلبَت ميتافيزيقاه في النهاية، تلك التي تقوم على «الرُّوح» وتجعل الحقيقة كامنةً في عالَم منفصِل عن ذلك العالَم الحسي المتغيِّر، لا نصعد إليه إلا بالرُّوح؛ فالروح وحدها هي التي تعرف الرُّوح، على ما يقول هيجل. فإذا صعدنا وجدنا عالمًا عقليًّا خالصًا أزليًّا ثابتًا لا يعرف الكون والفساد … هذه الميتافيزيقيا هي التي تغلبَت في النهاية، ومكَّنَت لنفسها، فجعلَته يشنُّ هجومًا عنيفًا على الجنسية المِثلية ويصفها بأنها «انحطاطٌ»، ويقصر العلاقة الجنسية بين الرجُل والمرأة في أضيق الحدود، وبقصد الإنجاب فحسب حتى يبقى النوع البشري، لكنْ قد يقال إذا كان أفلاطون قد كره جميع أنواع العلاقة الجنسية، وأنه لهذا السبب حرم الجنسية المثلية، فلِمَ لم يمتد هذا التحريم إلى علاقة الجنس بين الرجُل والمرأة؟ وللإجابة عن هذا السؤال قد نضطر إلى العودة قليلًا إلى فكرة أفلاطون العامة عن المادة فلا شك أنه كره المادة. ووصفها بأنها عنصر الشر في العالم (السياسي، ٢٧٣ب، مجلد ٣، ص٤٨٤)، وأنها عامل الاضطراب في الكون (طيماوس، ٣٠ب، مجلد ٣، ص٧١٧). وكان لا بد أن تمتدَّ كراهيته هذه إلى الجسد، وهكذا أصبح الجسد عند أفلاطون شرًّا مزدوجًا؛ فهو من ناحيةٍ وسيلة لتشويه الحقيقة، وهو من ناحيةٍ أخرى مصدر للشهوات. ولا شك أن الفيلسوف الحق يزدري البدن وكلَّ ما يزيد عن حاجته الطبيعية، إنه يودُّ أن يتخلص من البدن ليعود إلى الرُّوح (فيدون، ٦٤). وفي استطاعتنا أن نسوق نصوصًا لا نهاية لها لكراهية أفلاطون للجسد واعتباره قبرًا، ومحاورة فيدون زاخرة بأمثال هذه النصوص. لكنْ مع ذلك كلِّه، يحرِّم أفلاطون على الفيلسوف الانتحار؛ «فرغم أن الإنسان سجين الجسد، فليس له الحق في أن يفتح باب سجنه ليفرَّ هاربًا» (فيدون، ٦٢ب)؛ ذلك لأن الإنسان لم يهب نفسه هذا الجسد بحيث يحق له أن يطرحه عنه، وإنما خلقه الله، فلا يحقُّ له تدميره؛ «فنحن من ممتلكات الآلهة» (٦٢ﺣ)، لا بدَّ إذن للفيلسوف أن يأكل ويشرب ليبقى، لكنه يأكل ويشرب الحد الأدنى الضروري الذي يجعل الجسم يبقى، وإلا لكان ينتحر، وما يقال على الفرد يقال أيضًا على النوع. إن الامتناع عن الجنس تمامًا ضربٌ من الانتحار للنوع؛ لا بد للنوع أن يبقى، فإذا كان الجسد يتغذى ليبقى الفرد، فإن على الإنسان أن يمارس الجنس ليبقى النوع مشاركًا في الخلود عن طريق التوالد (القوانين، ٧٢١، مجلد ٤، ص٢٩١). وهذا ما يفعله الحيوان نفسه عن طريق «الحُب الجنسي» الذي يؤدي إلى التناسل؛ فيحل مولودٌ جديد محلَّ الفرد الميت، وهكذا يبقى النوع عند الحيوان والإنسان معًا (المأدبة، ٢٠٧)؛ ولهذا، فإن علينا ألَّا نعجب عندما يتحدث أفلاطون عن العملية الجنسية بين الرجُل والمرأة حديثًا مجردًا من كلِّ عاطفة؛ لأنهما في نظره عمليةٌ آلية تستهدف الإنجاب لحفظ النوع فحسب!

خاتمة

نخلص من ذلك كلِّه إلى أنَّ أفلاطون لم يخرُج عن إطار التراث اليوناني الذي كان يحمل في أعماقه عداءً، إنْ لم نقُل كراهية، للمرأة؛ ومن ثَم، فليس صحيحًا ما يقال إنه كان أولَ مَن نادى ﺑ «تحرير المرأة»، أو أنه أول مَن دعا إلى المساواة بين الجنسَين، وأنه كان رسولًا لحقوقها في العالَم القديم، لقد سبق أنْ رأينَا أنَّ عبارات المساواة في محاورة الجمهورية كانت «خدَّاعة»؛ فهي لم تكن مقصودةً لذاتها، وإنما جاءت نتيجةً لإلغاء وجود المرأة، الذي جاء هو نفسه نتيجةً لإلغاء الملكية واختفاء الأُسرة؛ ومن ثَم اختفاء الدور التقليدي للمرأة كربَّة منزل؛ لأنه لم يعُد ثمَّة منزل، فلم يعُد أمام أفلاطون سوى أن يحيلها إلى رجُل؛ ليكون متَّسقًا مع مبادئه التربوية التي تفرض وظيفةً لكلِّ فرد.

لكنْ، إذا وجد المنزل حتى في محاورة الجمهورية نفسها، عند الطبقة الدنيا، فقد أبقاها كما هي ربَّة لهذا المنزل. ولو كانت المسألة تحريرًا للمرأة، ما سكَتَ أفلاطون عن المرأة في الطبقات الدنيا لا سِيَّما إذا عرفنا، كما يقول سارتون، بحقٍّ أنَّ هذه الطبقة تُشكِّل على أقلِّ تقدير ثمانين في المائة من مجموع السكان.

والدليل على صحة الفكرة التي نسوقها، أنه عندما عادت الملكية في القوانين عادت معها الأُسرة، واختفى دور المرأة في الحياة السياسية، فلا هي عضو في «حرَّاس القانون»، ولا في إدارة شئون الدولة، ولا في أيِّ مجلس نيابي، وإنما يكتفى بدورها في لجنة الإشراف على الزواج المؤلفة من عجائز أثينا! وهكذا تعود التفرقة بين الجنسَين إلى الظهور في التربية البدنية والعسكرية التي هي اختيارية لمَن تجاوزَت سنَّ الخمسين. كذلك تنقسم الموسيقى إلى نوعَين: «رجولي»، و«أنثوي». وتصل قمة التفرقة إذا ما وصلنا إلى الزواج الواحدي الذي هو أساس تكوين الأسرة؛ فها هنا سلطات الأب بلا حدود، فلا رأي لها في الزواج، ولا حقَّ لها في الميراث، ويبحث أفلاطون عن «وصي» أو زوج حتى أحفاد الأحفاد، أي من خارج المدينة ليتزوج الفتاة ويرث. المهم أن يكون رجلًا! وكذلك المشرف العام على التربية والتعليم!

فإذا وصلنا إلى الحُب الأفلاطوني الشهير، وجدنا أنه لا علاقة له بالمرأة، فهو يبدأ بالعشق الجسدي للغلمان، وينتهي بالحُب الروحي بين الرجال، لكنك لا تجد الحُب الروحي بين الرجال والمرأة! وهو إنْ كان قد شنَّ حملة على الجنسية المثلية، «فلم يكن ذلك لصالح الجنسية المغايرة؛ فقد كره كل أنواع العلاقات الجنسية، ولم يبقَ منها إلا الحد الأدنى الذي يحافظ على النوع!»

هذه صورة المرأة عند أفلاطون في محاوراته السياسية الكبرى «الجمهورية والقوانين»، ثم في محاورتَي الحُب «المأدبة» و«فايدروس»، لكنها في الواقع هي الصورة المنتشرة في جميع محاوراته؛ فإنك واجد هنا وهناك عبارات ذات دلالات خاصة تؤكِّد الفكرة السابقة، وهي عدم خروج أفلاطون عن التراث اليوناني المعادي للمرأة. فهو مثلًا يروي لنا في نهاية حياته في محاورة طيماوس «كيف خلقَت المرأة»؛ يقول: «الطبيعة البشرية نوعانِ: الجنس الأسمى، وسوف نسميه من الآن فصاعدًا باسم «الرجل» (طيماوس، ٤٢أ)؛ فمن أين جاءت المرأة أو «الجنس الآخَر»، على حدِّ تعبير سيمون دي بوفوار الجميل؟ من «الرجُل»، لكنْ ليس من أيِّ رجُل؛ فمَن قَهَر شهواته من الرجال، وعاش فاضلًا على الأرض، سوف يعود إلى أعلى، حيث يسكن نجمه الأصلي … لكنْ، مَن فشل منهم واستعبدَته شهواته وعاش شريرًا رذلًا … فإنه سيتحوَّل في ميلاده الثاني إلى امرأة … فإذا لم ينصلح حاله بعد ذلك، تحوَّل إلى صورةِ حيوانٍ يشابه طبيعة الشرِّ الذي أتى منه …» (طيماوس، ٤٢ﺟ، مجلد ٣، ص٧٢٨). وعلى هذا النحو خُلقَت المرأة عند أفلاطون؛ كان الرجُل في البداية، ثم من الأشرار من الرجال جاءت المرأة! فهو لم يكتفِ كما فعَلَ الكتاب المقدَّس بأن تُخلق المرأة من ضلعٍ من أضلُع الرجُل وهو نائم (تكوين، إصحاح ٢١-٢٢)، لكنَّه اشترط أن يكون هذا الرجُل شريرًا فاسدًا، لم ينصلح حاله في هذه الدنيا، فيكون تحوُّله إلى امرأة عقابًا يستحقُّه!

ثم يعود أفلاطون في المحاورة نفسها فيؤكد الفكرة ذاتها عن أصل الأنثى، يقول: «أمَّا الرجال الذين ظهروا على هذه الأرض، فإنَّ الجبناء منهم، أو مَن عاشوا حياةً فاسدة، فربما كان من المعقول أن نفترض أنهم سوف يتحوَّلون إلى طبيعة النساء في الولادة الثانية، وهذا هو السبب في أنَّ الآلهة، في ذلك الوقت بالذات، قد خلقَت فينا المعاشرة الجنسية» (طيماوس، ٩١أ، مجلد ٣، ص٧٧٨).

قد يعترض معترِض بأنَّ «طيماوس» قد تمثَّل صورة شعرية تأثَّر فيها الفيلسوف بما قاله «هزيود» في الأعمال والأيام عن خلق المرأة، لكنَّا نُجيب بأن أفلاطون في كثيرٍ من محاوراته يصوِّر المرأة على أنها بطبيعتها أدنى من الرجُل؛ فهو مثلًا، في نهاية «القوانين»، يتحدث عن الرجال الجبناء الذين يهربون من ميدان القتال طارحين أسلحتهم … تُرى ماذا يكون عقابهم؟ استمع إليه يقول: «ما هي العقوبة المناسبة التي نوقعها على مَن يُلقي بسلاحه الذي ينبغي أن يكون دفاعه الأول؟ يروي تراثنا أنَّ الفتاة «كاينوس Caeneus» من أهل تساليا، حوَّلها الإله من امرأةٍ إلى رجُل.١٨ لكنَّا لا نستطيع الآن أن نعكس هذه المعجزة؛ إذْ لو كانت العملية المضادة ممكنة، وأعني بها عملية تحوُّل الرجُل إلى امرأة، فلن يكون هناك ما هو أنسب منها عقابًا للرجُل الذي يطرح عنه دِرعه. لكنَّ ذلك مستحيلٌ؛ ولهذا، فإنَّ علينا أن نشرع قانونًا يجعلنا نقترب من هذا الحلِّ بقدر المستطاع؛ فمَن أحبَّ حياته حبًّا جمًّا على هذا النحو، فلن نعرِّضه للخطر بقيةَ حياته، بل سنجعله يعيش إلى الأبد حياةَ الفضيحة والعار» (القوانين، ٩٤٤ﻫ، مجلد ٤، ص٥١٥-٥١٦).
«وأخيرًا، فإن أولئك الذين يزعمون أنَّ أفلاطون كان نصيرًا للمرأة، لا يستطيعون أن يُنكروا أنه كان يضعها باستمرار مع الأطفال والحيوانات والمخبولين … إلخ» (تيتاتوس، ١٧١ﺣ)، وإنه كان يتحدث عمَّا هو «نسائي»، و«الأسلوب النسائي»، و«الطريقة الأنثوية»، وارتداء ملابس النساء … إلخ، بكثيرٍ من الاحتقار! بل إنَّ احتقاره للجنسية المثلية ينصبُّ على الوضع «السلبي النسائي»، من العملية. وفضلًا عن ذلك كله، فإنك لا تجِد شخصيةً نسائية واحدة في جميع محاوراته … بما في ذلك المحاورات التي تتحدث عن الحُب. ويسوق جورج سارتون منظرًا لا إنسانيًّا، يصوِّر فيه أفلاطون زوجةَ سقراط إكزانثيب وهي تحمل أصغرَ أطفالها في آخِر أيامه، حيث يتَّجه سقراط نحو أقريطون غير مبالٍ بمشاعرها ليقول: «ليُعدْها أحدٌ إلى المنزل …» ويعلِّق «سارتون» بقوله: «إذا ما قارنت ذلك القول المهذَّب الذي ذكره «زينوفان» في ذكرياته بالعبارة القبيحة التي قالها عنها أفلاطون، لوجدت أنه يصف المنظر وصفًا كارهًا للنساء!»١٩
لكنْ، ألَا يمكن أن نجد أيَّ قدر من التعاطف مع المرأة عند أفلاطون؟ صحيحٌ أنه لم يتزوج، ولم يُعرف لديه أيُّ ميلٍ نحو النساء، ولم نسمع عن امرأةٍ في حياته … إلخ. لكنْ، ألمْ يمتدح الشاعرة «سافو Sappho»؟ … لقد كان سقراط يسميها «الجميلة» (فايدروس، ٢٣٥ﺟ، مجلد ٣، ص١٤١)، كما أنَّ أفلاطون كتَبَ فيها شعرًا حماسيًّا … «يقولون إنَّ ربات الفنون تسع، ألَا ما أكثر غباءهم! فليعلموا أنَّ سافو اللسبوسية هي العاشرة»! وليس لي من تعليقٍ وأنا أختم هذا البحث سوى أن أقول إنَّ سافو يصدق عليها ما ذكرناه في البداية عن «المرأة الأجنبية». وربما كان الأهم من ذلك أنها كانت امرأةً «مسترجلة» باعتراف كلِّ مَن كتب عنها؛ «فعلى الرغم من أنها تزوجَت، فليس فيما بقي لدينا من شِعرها بيتٌ واحد توجِّهه إلى زوجها».٢٠ مع أنها كتبَت قصائدَ غزلٍ كثيرة عن «الفتيات الرفيقات»؛ فقَدْ كوَّنَت جماعة من الفتيات لتُقيم معهنَّ علاقةَ حُب وطيدة، وكانت تَعجب لمَ تكون هذه العلاقات مقتصرةً على الرجال وحدهم؟ وهكذا اتجهَت إلى تكوين علاقة من الحُب الوثيق بين بنات جنسها وعبَّرَت بأشعارها عن هذه الأحاسيس، حتى إنها كانت ترتعد عندما تنظر إلى أعين فتياتها المحبوبات! تقول لإحداهنَّ: «لقد أحببتكِ يا أثيس من زمنٍ بعيد، حين كانت أنوثتي كلُّها أزهارًا!»
وفضلًا عن ذلك كله، يبدو أنَّ «سافو» لم تكن جميلةً، وأن وصف سقراط لم يكن في الأعمِّ الأغلب سوى تعبيرٍ عن عبقريتها الشعرية، فقد عُثِر على مزهرية من القرن الرابع عليها صورة «سافو» والشاعر المعاصر لها «ألكايوس Alcaeus»، كانت أطول منه قليلًا، مسترجلة، حتى إنَّ المرء ليتردد كثيرًا قبل أن يصدِّق أن هذا الوجه هو وجهُ امرأة.٢١ وللقارئ أن يستنتج من ذلك ما يشاء!٢٢
١  Quoted by S. G. Bell in “Women” p. 8.
٢  J. K. Anderson: “Xenophon” p. 177, Duckworth 1974.
٣  ول ديورانت، قصة الحضارة، مجلد ٧، ص١٠٨.
٤  Aristotle: Politics, Book II, ch. 10 (Penguin p. 92).
٥  د. فؤاد زكريا، الدراسة، ص١٠٢. وهو يحيل القارئ إلى كتاب لفستون، دفاع عن أفلاطون، ص١١٦.
٦  Anderson: Xenophon, p. 173.
٧  هذا الارتباط بين الرجُل والرجُل موجود في الإلياذة بين أخيل وبتروكلوس، حتى إنه غضب غضبًا شديدًا لمصرعه، وكان ذلك السببَ في عودته للقتال لينتقم من هكتور قاتل صديقه! وهو موجود أيضًا في ملحمة جلجامش البابلية التي يرى البعض وجودَ سمات مشتركة بينها وبين مأدُبة أفلاطون (انظر: الثقافة العالمية، عدد ٤٥، ص٧). كذلك في الكتاب المقدَّس بين داود ويوناثان «الذي فاق حبُّه حبَّ جميع النساء» (صموئيل الثاني، ١: ٢٦؛ راجع: ج. وست، «الجنسية المثلية»، ص٢٤).
٨  M. Grube: Plato’s Thought, p. 89.
٩  جروب في كتابه السابق، ص٩٢.
١٠  M. Grube: Plato’s Thought, pp. 89-90.
١١  كان لايوس Laius — والد أوديب — ملك طِيبة قد ارتكب جريمةً في شبابه، فقد اضطرَّته الظروف إلى الفرار من بلده والالتجاء إلى بلوبس Pelops الملك الكريم الذي آواه وأكرم وِفادته؛ فجازاه لايوس على كرمه بجزاء سنمَّار! فقد انتهز فرصة المباريات في المدينة وخطف خريسبوس Chrysippus ابنَ بلوبس، وكان طفلًا بارعَ الجَمال حَسنَ التقاطيع، واتخذه عشيقًا، وكان والده يحبُّه ويضع فيه كلَّ آماله. فجاء عقاب الآلهة عندما استشارها لايوس في أمرِ عُقم زوجته «جوكستا»؛ «ستمنحك الآلهة ولدًا، ولكنَّ القدَرَ صمَّم أن يكون حتفك على يدَي ذلك الابن. هكذا شاء زيوس بن كرونوس الذي استجاب إلى لعنة بليوس الذي سلبته يومًا ما ابنَه العزيز وأمَلَه الوحيد في الحياة». وهكذا بررت بعض الأساطير وجود الشذوذ الجنسي عند اليونان من ناحية، وقتل أوديب لوالده من ناحيةٍ أخرى.
١٢  د. أحمد فؤاد الأهواني، أفلاطون، ص٥٣، العدد ٥ من سلسلة نوابغ الفكر الغربي، ١٩٦٥م.
١٣  جورج سارتون، تاريخ العلم، المجلد الثالث، ص٦٣.
١٤  Susan M. Okin: Women… p. 73.
١٥  G. Vlastos: Platonic Studies, p. 25.
١٦  جورج سارتون، تاريخ العلم، مجلد ٣، ص٦٣.
١٧  الموسوعة الفلسفية المختصرة، (مادة: أفلاطون)، ص٥٤.
١٨  كانت كاينوس عذراء جميلة اغتصبها الإله بوزيدون Poseidon ثم أراد أن يحقِّق أمنيةً تتمناها، فطلبَت منه أن يحوِّلها إلى رجُلٍ حتى لا يكون من الممكن اغتصابها مرةً أخرى، فجعلها الإله رجلًا محاربًا لا يُقهر!
١٩  جورج سارتون، تاريخ العلم، المجلد الثالث، ص٦٣. وانظر أيضًا: د. فؤاد زكريا في دراسة لجمهورية أفلاطون، ص١٠٣.
٢٠  د. عبد الغفار مكاوي، سافو: شاعرة الحُب والجمال عند اليونان، ص١٣.
٢١  J. Donaldson: Women, p. 67.
٢٢  ما زالت كلمةُ السحاق في اللغات الأجنبية مشتقَّة من اسمها Sapphism وكلمة Lesbianism نسبةً إلى الجزيرة التي عاشت فيها وهي ليسبوس Lesbos.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥