الحُب الأفلاطوني … والمرأة
أولًا: الجنسية المثلية
ثانيًا: أفلاطون … والجنسية المثلية
هاجم أفلاطون الجنسية المثلية واحتقرها، وحطَّ من شأنها، بل وحرَّمها في محاورة «القوانين». لكن الغريب حقًّا أنه لم يُدِن الجنسية المثلية بما هي كذلك، أعني أن هجومه على هذا الضرب الشاذ من ممارسة الجنس لم يكن لصالح «المرأة» أو لصالح الجنسية المغايرة — وكان ذلك هو المتوقع — لكن أفلاطون كره في الواقع جميع أنواع العلاقات الجنسية.
- (١) في محاورة خرميدس Charmides التي تدور حول العفَّة، نجد سقراط وقد عاد من الحرب، يسأل أصدقاءه عن «الشاب»، ومَن منهم قد أصبح الآن أروع جمالًا من غيره، فيقال له إنه الشاب الجميل «خرميدس». ومع أنَّ سقراط كما يقول عن نفسه كان يُؤمن بجَمال الشباب جميعًا: «الغالبية العظمى من الشباب الصغير، تبدو جميلة في عيني» (١٥٤ﺟ، مجلدًا، ص٨)؛ فإنه ينبهر عندما يرى خرميدس، ويقول: «أشهد أنني أُخِذتُ لجمال هذا الفتى ولقوامه.» كما افتتن به جميع الرفاق، ويروي أفلاطون أنَّ الشاب دخل القاعة وخلفه فريقٌ من العشاق، ويسأل شيرفون Chaerephon سقراطَ عن رأيه في مَلاحة الوجه: «ما رأيك يا سقراط في وجه هذا الشاب؟ أليس رائعًا؟» ويجيب سقراط: «أكثر من رائع!» فيقول شيرفون: «لكنك سوف تقول إنَّ وجهه لا شيء إذا ما رأيت جسده عاريًا، فهو كامل الأوصاف من كلِّ وجه.» ووافق الجميع على ذلك (١٥٤ﺟ، مجلد ١، ص٨). فأفلاطون في هذه المحاورة، لا يجد غضاضةً في عشق الغلمان؛ ويرى «جروب» أننا ما لم نفهم موقف سقراط من جمال الذكور — لا سيما الشباب منهم — على هذا النحو، فإننا لن نفهم سِحر لقاءاته وفتنتها.٨
- (٢) وفي محاورة «ليسس Lysis»، نجد هيبوثاليس Hippothales يدعو سقراط لزيارة حلبةٍ للمصارعة أُنشِئت حديثًا حيث الأصدقاء هناك. وعندما يسأله سقراط عمَّن «يُفضِّل» من هؤلاء الأصدقاء، «يحمرُّ وجهه وتتورد وجنتاه»؛ فيستنتج سقراط بحِنكته أن الشاب يحبُّ: «لستُ في حاجة إلى أن تقول لي إنك في حالة حُب؛ فاعترافك سيجيء متأخرًا، إذْ من الواضح أنك لستَ في حالة حُب فحسب، بل غارق في الحُب حتى الأذنَين … إنه على الرغم من أنني لا خبرة لي في مسائل أخرى، فقد وهبَتْني الآلهة تلك القدرةَ التي تمكِّنني أن أكتشف في الحال المحبَّ وحبيبه» (٢٠٤ﺟ، مجلد ١، ص٤٢). ويحمرُّ وجه الشاب ويتورد أكثر وأكثر، وعندما يعرف سقراط أن محبوبه هو «ليسس» يسعى للبحث عن ذلك الشاب. وعندما يراه يهنِّئ «هيبوثاليس» على ذوقه الرفيع. ثم يسأله إن كان يعرف ما الذي ينبغي على المحبوب أن يقوله في مثل هذه الحالات … ويُعطيه خلاصة تجاربه، «المحبُّ الحكيم لا يمتدح محبوبه قبل أن يظفر به … لأن الشاب الجميل عندما يمتدحه أحد المحبين قد يمتلئ غرورًا» (٢٠٦أ، مجلد ١، ص٤٤)، ويعِدُه سقراط أن يعلمه الطريقة الصحيحة. لكنْ، إذا كان سقراط يُبدي قدرًا من التهكم على اعتبار أن الطريقة السقراطية في «اصطياد» الشبان تختلف بالطبع عن طريقة هيبوثاليس، فإن ذلك أولًا لا يتضح إلا في نهاية المحاورة، وما يهمنا هنا، ثانيًا أن نبين أن حُب الشباب بعضهم لبعض كان أمرًا طبيعيًّا طوال المحاورة، وليس فيه ما يستحق اللوم! فضلًا عن أن موضوع الحُب هنا هو الغلمان في سن المدرسة (٢٠٨ﺟ)، ممن لا يزيد سنُّهم عن ستة عشر عامًا.٩
- (٣) ثم هناك بعد ذلك كله شخصية «القبيادس» الشهيرة — حارس بركليز، ومدلل أثينا — الذي كان يفاخر بكثرةِ مَن عشقه من الرجال! ويروي لنا أفلاطون في محاورة المأدُبة كيف بذل القبيادس جهودًا مُضنية بلغَت حدَّ البكاء لكي يظفر بسقراط: «فقد كان سقراط يؤثر فيَّ تأثيرًا يطول شرحه … وكلما استمعتُ إليه اشتدَّت ضربات قلبي ووجبتُ وجيبًا … كأني في غيبوبةٍ صوفية، وتنهمر الدموع من مآقيَّ، وألاحظ أنَّ غيري يحدُث له ما يحدثُ لي» (المأدبة، ٢١٥ﻫ، مجلد ١، ص٥٤٧). وكلما ظنَّ أنه على وشك أن يبلغ مراده — «لأني على ثقة من جاذبية شبابي»، وسقراط جاد في الإعجاب بشبابي وجمالي — «يصاب بخيبة أمل، فيعاود الكرة مرة أخرى … صرفتُ الوصيف لكي أخلو به … ظنًّا مني أنه لو خلا بي فسوف يخوض فيما يدور عادةً بين المحبِّ ومحبوبه، وغمرني السرور … لكنَّ سقراط لم يفعل» (٢١٧ب، مجلد ١، ص٥٤٩)؛ وفي المرة الثالثة «دعوتُه لتناوُل العشاء معي، وتصرفتُ كما يتصرف أيُّ مُحِب يدبِّر لمحبوبه أمرًا … واستبقيتُه حتى ساعةٍ متأخِّرة من الليل … وألححتُ عليه في المبيت بحجة أن الوقت متأخِّر؛ فقضى الليل راقدًا إلى جواري في الفراش، ولم يكن معنا أحد، وآليتُ على نفسي ألَّا أكون حذرًا هذه المرة، بل أصرِّح له بعواطفي، فلكزتُه بكتفي وأنا أقول أنائمٌ أنت يا سقراط؟ … إلخ» (المأدبة، ٢١٨د-ﺟ، مجلد ١، ص٥٥٠). ويقول جروب: «يحدِّثنا القبيادس في محاورة المأدبة أنه حاوَلَ غواية سقراط، لكنه فشل، وسوف تفقد القصة مضمونها الحقيقي إذا ما رفضنا التسليم بأن سقراط قد تمَّت غوايته، فما كان يمتدح في المحاورة هو قدرته على التحكُّم في نفسه، وليس رفضه أو عدم اكتراثه …»١٠
والحقُّ أننا في محاورة «بروتاجوراس» نشعر بهذه العلاقة واضحة بين سقراط والقبيادس، ويكفي أن نقتبس هذا الحوار:
«من أين أنت قادم يا سقراط؟ أنا أعلم أنك كنتَ تلاحق القبيادس الوسيم، لقد رأيتُه بالأمس وقد نبتَت لحيته مثل الرجال وهو رجُل بالفعل، وهو ما أودُّ أن أسرَّه إليك، ولكني أعتقد أنه ما زال جذَّابًا …» ويُجيب سقراط: «وماذا يهمُّ من لحيته؟ ألست مَن رأى هوميروس الذي يقول: إن الشاب يكون أكثر سحرًا حينما تنبتُ لحيته لأول مرة؟ فهذا أوان سِحر القبيادس» (بروتاجوارس، ٣٠٩أ-ب، مجلد ١، ص١٣٣).
غير أنَّ أفلاطون عَدلَ عن رأيه تدريجيًّا عندما تقدمَت به السنُّ، فدعا إلى الحدِّ من هذا الانحراف في محاورة «الجمهورية» وتبنَّى قاعدةَ على المحبِّ أن يُقبِّل محبوبه ويقترب منه ويلمسه وكأنه ولده مستهدِفًا غرضًا شريفًا … (٤٠٣ب، مجلد ٢، ص٢٥١). وإنْ كان يسمح في الكتاب الخامس للمقاتلين الشجعان — جزاء شجاعتهم — «بعشق رفاقهم من الشبان، الذين عليهم، بحُكم القانون، أنْ يتقبلوا هذه المغازلات طولَ الحرب … وكلُّ مَن معه ينبغي ألَّا يأبى عليه بقبلةٍ خلال المعركة إذا شاء. وبهذا نضمن إذا كان أحد المحاربين مفتونًا بشاب أو فتاة، فسوف يزداد حماسه لإحراز النصر …» (الجمهورية، ٤٦٨ﺟ، ص٣٢٧). وإنْ كان سقراط يحذِّرنا من أنَّ هذه المغازلات ينبغي ألَّا تذهب إلى ما وراء الحُب البسيط الطاهر مهما تكُن حدَّته!
ثالثًا: الحُب الأفلاطوني … والمرأة
ومن الملاحَظ أيضًا أن أفروديت العامية — راعية هذا الضرب من الحُب — أصغرُ من أفروديت السماوية؛ ولهذا فإننا نلمس رعونة الشباب ونزقه، «وهي جاءت إلى الوجود عن طريق اتصال الذَّكر بالأنثى اتصالًا جنسيًّا محضًا … أمَّا أفروديت السماوية التي يُنسب إليها النوع الممتاز من الحُب فلا أثر فيها للأنثى، وإنما جاءت من الذَّكر وحده كما أنها الأكبر سنًّا، أعني أنها بريئة من نزق الشباب وطيشه. فمَن يعمر قلبه الحُبُّ السماوي، يميل إلى الذكور دون الإناث؛ فالذكر بالطبيعة أقوى وأذكى» (المأدبة، ١٨١ﺟ، مجلد ١، ص٥١٣).
واضحٌ في هذا النص كراهية أفلاطون لأيِّ اتصالٍ جنسي؛ ومن ثَم لم تكن حملته السابقة على الجنسية المثلية لذاتها، وإنما هي حملة ضد العلاقات الجنسية بصفةٍ عامة … «فالرجل الفاسد هو الذي يتَّجه إلى الحُب العامي، أعني عشق الجسد لا الروح، سواء أكان هذا الجسد لامرأةٍ أو لغلام؛ فهو ليس مخلصًا في حُبه، ولا بثابتٍ على عهده؛ لأنَّ ما يعشقه ليس بثابت. فعندما يذبل جَمال الجسد، ينصرف بحُبه إلى جسدٍ سواه، وتتبخر وُعوده وعهوده وكأنها أحلام. أما المحبُّ النبيل، فهو يبقى على حُبه ما بقي على قيد الحياة؛ لأن ما يهواه باقٍ ما بقيَت الحياة» (المأدبة، ١٨٣ﻫ–ط، ص٥١٥).
ولو سِرنا قليلًا في المحاورة لوجدنا «أرستوفان» يعرض هذه الفكرة نفسها بطريقةٍ أخرى؛ فالآلهة خلقَت الإنسان في البداية كائنًا واحدًا كان فيه من القوة ما جعله مُخيفًا، حتى إنه هاجَمَ الآلهة (١٩٠ﺟ)؛ فشَطرَ زيوس كلَّ مخلوق شطرَين، فأخذ كلُّ شطرٍ يبحث عن شطره الآخَر، فإذا الْتقى به تعانقا بقوةٍ، لكأنهما يريدان أن يعودا كائنًا واحدًا (١٩١ب–ط، ص٥٢٢)، ثم جعل لهما زيوس أعضاء التناسل من أمام؛ ليحفظ النسل باتصال الذكر بالأنثى، «فالذكور الذين انشطروا عن الخنثى (الكائن المشترك) يعشقون النساء، ويهيمون بهنَّ، والزناة من هؤلاء، وكذلك النساء اللائي يعشقنَ الرجال ويتهالكنَ عليهم. أمَّا النساء اللواتي انشطرنَ عن أنثى يعشقنَ بنات جنسهنَّ ولا يأبهنَ بالرجال. أما انشطار الذكور — وهم أنصاف الذكور — فيميلون إلى الذكور دون سواهم، ويسرُّهم القرب منهم والاتصال بهم. وهؤلاء خيرٌ من لداتهم؛ منذ حداثتهم تتوافر فيهم خصال الرجولة أكثر من غيرهم، ويرميهم البعض بالوقاحة والصفاقة، ولكنهم جِد مخطئين؛ فليست الصفاقة هي التي تدفعهم إلى أعمالهم، ولكنها الفتوة ورُوح الرجولة العالية القوية؛ فهي التي تدفعهم إلى مصادقة أندادهم وأشباههم … ولا يبحثون وراء صداقاتهم مغنمًا ولا مكسبًا، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنَّ اللغة الجنسية وحدها هي التي تحقِّق لهم السعادة …» (١٩٢ﺟ، مجلد ١، ص٥٢٣). إن المحب يريد أن يتحد مع محبوبه فيصير المحبُّ والمحبوب شخصًا واحدًا … (١٩٢ﻫ، مجلد ١، ص٥٢٤).
لكن افرض أنني أودُّ أن أتعلَّم هذا الحُب الأفلاطوني المثالي — حُب الجَمال — فكيف يمكن يا تُرى أن أصعد هذا الطريق الخالد؟ … «إنك إنْ أردتَ أن تتعلم كيف تصعد هذا الطريق الخالد، فإنك تستطيع في شبابك أن تبدأ بالجمال المادي، جمال الجسد، ثم ترقى إلى مرحلة أعلى تُقدر فيها جَمال الرُّوح عن جَمال الجسد. ثم تتأمل الجَمال الذي يتبدى في الأعمال والنظم المختلفة، فتظهر لك عندئذٍ حقارة الجمال المادي وضآلة شأنه إذا قورن بالجمال الروحي …» عرفتُ إذن الطريقة! أن أبدأ من جَمال الجسد، ثم أصعد خطوةً خطوة حتى أصِل إلى جَمال أزلي لا يعرف كونًا ولا فسادًا ولا موتًا أو ميلادًا، لكنْ جسد مَن يا تُرى هذا الذي أبدأ به؟ أهو جسد المرأة؟ قد يكون هذا هو الوضع الطبيعي، لكنَّ أفلاطون له رأيٌ مخالِف … «عندما يُدرك المرء هذا الجَمال الاسمي مبتدئًا من العالم الحسي مستعينًا بحُب الغلمان، يكون قريبًا من غايته، وهذا هو الطريق الصحيح للاقتراب من أسرار الحُب» (المأدبة، ٢١١). فمَن يريد أن يتبع الطريق القويم، في رأي سقراط، عليه أن يأخذ نفسه من الصغر بتأمل «الجَمال الإنساني» … «وإذا ما أحسَنَ مرشد إرشاده أحبَّ أولًا فتًى جميلًا (٢١٠) … لكنْ حين يصعد من الأمور الأرضية لن يهتمَّ بعد ذلك بذهبٍ أو ثيابٍ فاخرة أو بجَمالِ الغلمان والشبَّان …» (٢١١ﺟ، مجلد ٢، ص٥٤٣). إن الملاحظة التي تستوقف النظر حقًّا في «الحُب الأفلاطوني» أنه يبدأ من «الجنسية المثلية» باعتبارها مثلًا للحب الحسي الجسدي الذي ينبغي التخلص منه؛ لأنها عملية «مضادة للطبيعة» وهي انحطاط لإنسانية الإنسان … وتهبط بالرجل إلى مستوى المرأة» … إلخ … إلخ، لكنه لا ينتقل من هذه الممارسات الشاذة غير الطبيعية إلى الممارسة الطبيعية، أعني الجنسية المغايرة أو العلاقة بين الرجُل والمرأة. وإنما ينتقل منها إلى الحُب الحقيقي الذي هو «حُب الذكر للذكر»، لكنْ بالروح لا بالجسد. وهو حبٌّ يثمر «أطفالًا» رُوحيين لا ماديين … وهذا هو الخلود الحقيقي؛ لأن إنتاج الأطفال من البشر هو نفسه إنتاج مادي يقلُّ في قيمته كثيرًا عن إنتاج الرُّوح.
لكنْ، إذا كانت هناك عوامل شخصية في حياة أفلاطون قد جعلته في البداية يتسامح مع «الجنسية المثلية»، فقد تغلبَت ميتافيزيقاه في النهاية، تلك التي تقوم على «الرُّوح» وتجعل الحقيقة كامنةً في عالَم منفصِل عن ذلك العالَم الحسي المتغيِّر، لا نصعد إليه إلا بالرُّوح؛ فالروح وحدها هي التي تعرف الرُّوح، على ما يقول هيجل. فإذا صعدنا وجدنا عالمًا عقليًّا خالصًا أزليًّا ثابتًا لا يعرف الكون والفساد … هذه الميتافيزيقيا هي التي تغلبَت في النهاية، ومكَّنَت لنفسها، فجعلَته يشنُّ هجومًا عنيفًا على الجنسية المِثلية ويصفها بأنها «انحطاطٌ»، ويقصر العلاقة الجنسية بين الرجُل والمرأة في أضيق الحدود، وبقصد الإنجاب فحسب حتى يبقى النوع البشري، لكنْ قد يقال إذا كان أفلاطون قد كره جميع أنواع العلاقة الجنسية، وأنه لهذا السبب حرم الجنسية المثلية، فلِمَ لم يمتد هذا التحريم إلى علاقة الجنس بين الرجُل والمرأة؟ وللإجابة عن هذا السؤال قد نضطر إلى العودة قليلًا إلى فكرة أفلاطون العامة عن المادة فلا شك أنه كره المادة. ووصفها بأنها عنصر الشر في العالم (السياسي، ٢٧٣ب، مجلد ٣، ص٤٨٤)، وأنها عامل الاضطراب في الكون (طيماوس، ٣٠ب، مجلد ٣، ص٧١٧). وكان لا بد أن تمتدَّ كراهيته هذه إلى الجسد، وهكذا أصبح الجسد عند أفلاطون شرًّا مزدوجًا؛ فهو من ناحيةٍ وسيلة لتشويه الحقيقة، وهو من ناحيةٍ أخرى مصدر للشهوات. ولا شك أن الفيلسوف الحق يزدري البدن وكلَّ ما يزيد عن حاجته الطبيعية، إنه يودُّ أن يتخلص من البدن ليعود إلى الرُّوح (فيدون، ٦٤). وفي استطاعتنا أن نسوق نصوصًا لا نهاية لها لكراهية أفلاطون للجسد واعتباره قبرًا، ومحاورة فيدون زاخرة بأمثال هذه النصوص. لكنْ مع ذلك كلِّه، يحرِّم أفلاطون على الفيلسوف الانتحار؛ «فرغم أن الإنسان سجين الجسد، فليس له الحق في أن يفتح باب سجنه ليفرَّ هاربًا» (فيدون، ٦٢ب)؛ ذلك لأن الإنسان لم يهب نفسه هذا الجسد بحيث يحق له أن يطرحه عنه، وإنما خلقه الله، فلا يحقُّ له تدميره؛ «فنحن من ممتلكات الآلهة» (٦٢ﺣ)، لا بدَّ إذن للفيلسوف أن يأكل ويشرب ليبقى، لكنه يأكل ويشرب الحد الأدنى الضروري الذي يجعل الجسم يبقى، وإلا لكان ينتحر، وما يقال على الفرد يقال أيضًا على النوع. إن الامتناع عن الجنس تمامًا ضربٌ من الانتحار للنوع؛ لا بد للنوع أن يبقى، فإذا كان الجسد يتغذى ليبقى الفرد، فإن على الإنسان أن يمارس الجنس ليبقى النوع مشاركًا في الخلود عن طريق التوالد (القوانين، ٧٢١، مجلد ٤، ص٢٩١). وهذا ما يفعله الحيوان نفسه عن طريق «الحُب الجنسي» الذي يؤدي إلى التناسل؛ فيحل مولودٌ جديد محلَّ الفرد الميت، وهكذا يبقى النوع عند الحيوان والإنسان معًا (المأدبة، ٢٠٧)؛ ولهذا، فإن علينا ألَّا نعجب عندما يتحدث أفلاطون عن العملية الجنسية بين الرجُل والمرأة حديثًا مجردًا من كلِّ عاطفة؛ لأنهما في نظره عمليةٌ آلية تستهدف الإنجاب لحفظ النوع فحسب!
خاتمة
نخلص من ذلك كلِّه إلى أنَّ أفلاطون لم يخرُج عن إطار التراث اليوناني الذي كان يحمل في أعماقه عداءً، إنْ لم نقُل كراهية، للمرأة؛ ومن ثَم، فليس صحيحًا ما يقال إنه كان أولَ مَن نادى ﺑ «تحرير المرأة»، أو أنه أول مَن دعا إلى المساواة بين الجنسَين، وأنه كان رسولًا لحقوقها في العالَم القديم، لقد سبق أنْ رأينَا أنَّ عبارات المساواة في محاورة الجمهورية كانت «خدَّاعة»؛ فهي لم تكن مقصودةً لذاتها، وإنما جاءت نتيجةً لإلغاء وجود المرأة، الذي جاء هو نفسه نتيجةً لإلغاء الملكية واختفاء الأُسرة؛ ومن ثَم اختفاء الدور التقليدي للمرأة كربَّة منزل؛ لأنه لم يعُد ثمَّة منزل، فلم يعُد أمام أفلاطون سوى أن يحيلها إلى رجُل؛ ليكون متَّسقًا مع مبادئه التربوية التي تفرض وظيفةً لكلِّ فرد.
لكنْ، إذا وجد المنزل حتى في محاورة الجمهورية نفسها، عند الطبقة الدنيا، فقد أبقاها كما هي ربَّة لهذا المنزل. ولو كانت المسألة تحريرًا للمرأة، ما سكَتَ أفلاطون عن المرأة في الطبقات الدنيا لا سِيَّما إذا عرفنا، كما يقول سارتون، بحقٍّ أنَّ هذه الطبقة تُشكِّل على أقلِّ تقدير ثمانين في المائة من مجموع السكان.
والدليل على صحة الفكرة التي نسوقها، أنه عندما عادت الملكية في القوانين عادت معها الأُسرة، واختفى دور المرأة في الحياة السياسية، فلا هي عضو في «حرَّاس القانون»، ولا في إدارة شئون الدولة، ولا في أيِّ مجلس نيابي، وإنما يكتفى بدورها في لجنة الإشراف على الزواج المؤلفة من عجائز أثينا! وهكذا تعود التفرقة بين الجنسَين إلى الظهور في التربية البدنية والعسكرية التي هي اختيارية لمَن تجاوزَت سنَّ الخمسين. كذلك تنقسم الموسيقى إلى نوعَين: «رجولي»، و«أنثوي». وتصل قمة التفرقة إذا ما وصلنا إلى الزواج الواحدي الذي هو أساس تكوين الأسرة؛ فها هنا سلطات الأب بلا حدود، فلا رأي لها في الزواج، ولا حقَّ لها في الميراث، ويبحث أفلاطون عن «وصي» أو زوج حتى أحفاد الأحفاد، أي من خارج المدينة ليتزوج الفتاة ويرث. المهم أن يكون رجلًا! وكذلك المشرف العام على التربية والتعليم!
فإذا وصلنا إلى الحُب الأفلاطوني الشهير، وجدنا أنه لا علاقة له بالمرأة، فهو يبدأ بالعشق الجسدي للغلمان، وينتهي بالحُب الروحي بين الرجال، لكنك لا تجد الحُب الروحي بين الرجال والمرأة! وهو إنْ كان قد شنَّ حملة على الجنسية المثلية، «فلم يكن ذلك لصالح الجنسية المغايرة؛ فقد كره كل أنواع العلاقات الجنسية، ولم يبقَ منها إلا الحد الأدنى الذي يحافظ على النوع!»
هذه صورة المرأة عند أفلاطون في محاوراته السياسية الكبرى «الجمهورية والقوانين»، ثم في محاورتَي الحُب «المأدبة» و«فايدروس»، لكنها في الواقع هي الصورة المنتشرة في جميع محاوراته؛ فإنك واجد هنا وهناك عبارات ذات دلالات خاصة تؤكِّد الفكرة السابقة، وهي عدم خروج أفلاطون عن التراث اليوناني المعادي للمرأة. فهو مثلًا يروي لنا في نهاية حياته في محاورة طيماوس «كيف خلقَت المرأة»؛ يقول: «الطبيعة البشرية نوعانِ: الجنس الأسمى، وسوف نسميه من الآن فصاعدًا باسم «الرجل» (طيماوس، ٤٢أ)؛ فمن أين جاءت المرأة أو «الجنس الآخَر»، على حدِّ تعبير سيمون دي بوفوار الجميل؟ من «الرجُل»، لكنْ ليس من أيِّ رجُل؛ فمَن قَهَر شهواته من الرجال، وعاش فاضلًا على الأرض، سوف يعود إلى أعلى، حيث يسكن نجمه الأصلي … لكنْ، مَن فشل منهم واستعبدَته شهواته وعاش شريرًا رذلًا … فإنه سيتحوَّل في ميلاده الثاني إلى امرأة … فإذا لم ينصلح حاله بعد ذلك، تحوَّل إلى صورةِ حيوانٍ يشابه طبيعة الشرِّ الذي أتى منه …» (طيماوس، ٤٢ﺟ، مجلد ٣، ص٧٢٨). وعلى هذا النحو خُلقَت المرأة عند أفلاطون؛ كان الرجُل في البداية، ثم من الأشرار من الرجال جاءت المرأة! فهو لم يكتفِ كما فعَلَ الكتاب المقدَّس بأن تُخلق المرأة من ضلعٍ من أضلُع الرجُل وهو نائم (تكوين، إصحاح ٢١-٢٢)، لكنَّه اشترط أن يكون هذا الرجُل شريرًا فاسدًا، لم ينصلح حاله في هذه الدنيا، فيكون تحوُّله إلى امرأة عقابًا يستحقُّه!
ثم يعود أفلاطون في المحاورة نفسها فيؤكد الفكرة ذاتها عن أصل الأنثى، يقول: «أمَّا الرجال الذين ظهروا على هذه الأرض، فإنَّ الجبناء منهم، أو مَن عاشوا حياةً فاسدة، فربما كان من المعقول أن نفترض أنهم سوف يتحوَّلون إلى طبيعة النساء في الولادة الثانية، وهذا هو السبب في أنَّ الآلهة، في ذلك الوقت بالذات، قد خلقَت فينا المعاشرة الجنسية» (طيماوس، ٩١أ، مجلد ٣، ص٧٧٨).