الفصل الأول
الشيخ متولي وهدان هو الخولي وليس ناظر الزراعة لدائرة فؤاد باشا الجويني، وكانت هذه الزراعة التي هو خولي لها ألفًا وستمائة فدان وزيادة، ورثها الباشا عن أبيه الذي ورثها هو أيضًا عن أبيه الذي كان يملك خمسة آلاف فدان، وصلت إلى ابنه ألفًا وستمائة حين نال أخواه نصيبهما الشرعي، وكان ناظر الزراعة هو زكي النمر الذي كان الفلاحون يُطلقون عليه الأفندي، وكان هذا اللقب كافيًا للتعريف به دون أن يسبقه الاسم، ورغم كثرة الأفندية في القرية التي كان يُقيم بها ناظر الزراعة إلا أن لقب الأفندي مسبوقًا بألف ولام التعريف كان لا ينصرف إلا إلى ناظر الزراعة زكي النمر الذي يملك عشرة أفدنة في القرية، وكانت قرية الهدارة التي يقع بها سراي فؤاد باشا ومنزلا الشيح متولي والأفندي؛ قرية كبيرة مساحة الأرض المنزرعة فيها أكثر من ثلاثة آلاف فدان، ولم يكن الشيخ متولي يملك إلا فدانين، ولو كان يستطيع أن يزوِّر في الحسابات ويختلس مليمًا من أموال الدائرة لما امتنع عن ذلك؛ فلم يكن الشيخ متولي ذا ضمير يردعه عن السرقة، فهو تائب في غير عفة؛ لأن الأفندي كان رجلًا يجمع إلى النزاهة اليقظة التي تمكِّنه من مراقبة العاملين معه؛ فما كان واحد منهم يستطيع أن يختلس من أموال الدائرة شعرة سواء كانت هذه الشعرة مالًا أو كانت محصولًا؛ ولذلك لم يكن عجبًا أن يصبح الأفندي مكروهًا من كل الذين رماهم القدر أن يعملوا تحت سيطرته بدائرة فؤاد باشا، وكان يقابل هذه الكراهية من موظفي الدائرة حب واحترام وتقدير من الباشا نفسه ومن سائر الفلاحين؛ فقد كان الأفندي حريصًا أن يأخذ كل ذي حق حقه حرصه على ألَّا يغتال أحد حق الدائرة سواء أكان موظفًا فيها أو كان متعاملًا معها، وكذلك كان الشيخ متولي محبوبًا من الفلاحين؛ فقد استقرت نفسه أنه ما دام لا سبيل للسرقة فليجعل الأمانة أصلًا فيه وليس أمرًا مفروضًا عليه، وهكذا لم يكن حب الفلاحين له أمرًا مستغربًا. وكان موظفو الدائرة يخشون الأفندي والشيخ متولي كل الخشية ويوقروهما، ولم يكن الأفندي يتنازل عن مكانته؛ فجُمَله أوامر، وكان حريصًا ألا يتباسط مع العاملين معه وإن كان مع غيرهم بشوشًا طلق المحيا ودودًا في صلاته مع الناس، ولذلك كان شهاب ابن الشيخ متولي يكن الغيظ والحقد على زكي النمر لما يراه من ذلة أبيه أمامه، وكان حقده أشد من فؤاد باشا الجويني وقد تمكَّن شهاب من رؤية أبيه أمام الباشا مرات، وكان يحس أن أباه أمام الباشا وجود بلا وجود، مع أنه لم يكن في المرات التي شهدها شهاب يؤنِّب أباه أو يزجره بل لعله كان في حديثه معه أكثر رقة ويسرًا من زكي النمر، ولكن شهاب كان يحس أن أباه هزيل ضعيف أمام الأفندي، ويفتقد كيان أبيه أمام الباشا فيفقده؛ فكان أبوه يبدو أمامه هباءة هائمة في الهواء لا تكاد تُرى أو تحس، وفي مرة من المرات التي رأى فيها شهاب الباشا كان يرافق أباه وهو يُشرف على جمع القطن، وجاء الباشا فجأة ليتأكد من نظافة الجمع والقطن، وهرول إليه الشيخ متولي دون أن يلحظ أن ابنه شهاب يهرول خلفه، وسأل الباشا خولي زراعته: هيه كيف الحال يا شيخ متولي؟
وكان متولي حاصلًا على لقب شيخ قبل أن يعيِّنه الباشا عنده؛ فقد كان من حفظة القرآن الكريم، وقال الشيخ متولي في استجابة سريعة وحماس شديد: كل شيء تمام يا سعادة الباشا بنفَس سعادتك وبركتك.
– ومن هذا الذي يقف خلفك؟
واضطرب متولي فهو لم يكن تنبَّه بعد إلى وجود ابنه خلفه وقال: أين يا سعادة الباشا؟ من يا سعادة الباشا؟
وحينئذٍ انصرف الباشا عن متولي وأشار إلى شهاب قائلًا: تعالَ يا شاطر.
وامتقع وجه متولي بينما تقدم شهاب في خطوات ثابتة وقال للباشا: شهاب متولي.
والتفت الباشا إلى متولي: أهو ابنك يا شيخ متولي؟
وتلعثم متولي وهو يقول: نعم يا سعادة الباشا، ربنا يطيل عمرك وعمر أنجالك عمر بك وعلي بك وعائشة هانم.
وقال الباشا في أبوة: الله يحفظك. هل أدخلته المدرسة؟
– والله يا سعادة الباشا العين بصيرة واليد …
ولم يكمل الجملة بل قاطعه الباشا قائلًا في حسم: شهاب ابنك يتعلم على حساب الدايرة على شرط أن يكمل تعليمه في الجامعة مفهوم؟
وفي حركة مفاجئة هوى متولي على يد الباشا ليقبِّلها فإذا الباشا يختطف يده في تلقائية سريعة وهو يقول: أبلغ هذا الأمر إلى زكي أفندي.
– أطال الله عمرك ومتعك ومتع عائلتك كلها بالصحة والعافية.
وانصرف الباشا وترك الشيخ متولي مأخوذًا بالفضل السابغ الذي ساقته إليه السماء على يد الباشا، بينما ابنه شهاب لم تتحرك في نفسه خلجة من فرح وكأن ما وقع أمر طبيعي لا غرابة فيه، ونظر متولي إلى ابنه الجامد الوجه.
– ألست مبسوطًا! ما لك هكذا مبهوتًا وكأنك لا تدرك الخير العميم الذي تفضَّل به الباشا عليك وعلى أبيك وأمك.
وقال شهاب في غير مبالاة: أي خير؟
– ستتعلم وتدخل الجامعة على نفقة الباشا.
– وما له؟ إن عنده أموالًا لا يحصيها عد وماذا يضره أن يعلمني على نفقته.
وصاح به أبوه: خيبة الله عليك.
إلى هذا الحد أنت جاحد؟
ماذا أفعل بك؟ أخشى أن أدعو عليك ويستجيب الله دعائي.
حسبي الله ونعم الوكيل.