الفصل الثاني
وهكذا بدأ شهاب رحلته الدراسية في غير إقبال ولا جنوح، وكان ترتيبه في الدراسة متوسطًا لا هو متقدم ولا هو الأخير، ولكن المؤكد أنه لم يحس بفضل الباشا عليه مهما تقدمت به السن؛ فقد كان كلما مرت عليه السنون يزداد حقدًا على الباشا وجحودًا ونكرانًا، ولم يكن يطلع عما يختلج بنفسه إلا تفيدة ياسين أمه حابسًا ما تفهق به جوانحه من كراهية للباشا عن أبيه مخافة أن يقسو في عقابه، وإن كان أيضًا أمام أبيه لا يحاول أن يكون رطب اللسان على الباشا، وكان أبوه يضيق بهذا منه غاية الضيق. كان شهاب يقول لأمه: ماذا فعل حتى يصبح على هذا الغنى الفاحش؟
وكانت تفيدة قد حفظت القرآن في كتَّاب القرية فهي لم تكن جاهلة كل الجهل، وكانت تجيبه دائمًا بالآيات الكريمة.
– يا بني ألا تعرف أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
فيرد شهاب في كفران: لماذا؟
وتنتفض أمه قائلة: أستغفرُ الله العظيم، إذا لم يكن للباشا هذه الأرض أين كان أبوك يعمل ومن أين يجد قوته؟ فيقول شهاب في إصرار: ولماذا لم يكن الباشا مكان أبي ويكون أبي مكان الباشا؟!
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حينئذٍ كان أولاد الباشا سيقولون هذا الكفر الذي تقول، أتريد أن تعدِّل حكمة ربك؟!
– أنا فقط أسأل، لا عليكِ، ماذا؟ هل تنوين أن تحرميني من العشاء؟
وهكذا أراد أن ينهي الحديث لا عن اقتناع ولكن خشية أن تُبلغ به أباه الشيخ فتكون العواقب وخيمة عليه وعلى أمه في وقت معًا.
ولكن أمه ترفض أن تنهي الحديث: يا بني، رسول اللهِ ﷺ قال: «مَن أصبح منكم آمنًا في سربه مُعافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا.» أو كما قال، فالسعادة ليست بالغنى، دائمًا بالرضى، هل تعرف إن كان الباشا سعيدًا أم غير سعيد؟ لا يعرف النفوس إلا خالقها يا شهاب يا بني.
– كلام نردده لنحتمل الذل الذي نعيش فيه، أين العشاء؟
– والله ما دمت كذلك فلن يبارك الله لك ولا في اللقمة التي تأكلها، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.
ولم يكن شهاب على استعداد لمناقشة حقده على جميع من هم أكثر من أبيه ثروة أو مكانة؛ فقد ترسب الحقد في كيانه كله منذ هو طفل صغير حتى يومه هذا، وهو يوشك أن يتخرج في كلية الزراعة التي اختارها له أبوه، ولما كان غير متعلق بكلية أخرى فقد رضي اختيار أبيه بعد نقاش هيِّن حين قال له أبوه: والآن أي كلية تريد أن تدخلها؟
– والله يا أبي لا أفكر في كلية بذاتها؛ فكل الكليات تحتاج إلى مذاكرة ووجع قلب، وإن كان عليِّ أنا فأنا أريد أن اكتفي بالتوجيهية وأرجو الباشا أن يعيِّنني بإحدى مصالح الحكومة.
– لاحول ولا قوة إلا بالله، إنه لا يرفض النعمة إلا لئيم، الباشا ينفق عليك ولا يكلفنا تعليمك قرشًا واحدًا، ومع ذلك تريد ألا تكمل دراستك؟!
– والله إن الباشا لم يفعل هذا إلا ليتظاهر بالكرم.
– لعنة الله عليك، وهل كان أحد سيقول عنه إنه بخيل إذا لم يقدم هذه المكرمة لابن الخولي الذي يعمل في أرضه، إن الذي لا يشكر المعروف جاحد لا يستحق ما يقدمه إليه الآخرون من أفضال.
– دعك من هذا، ويكفي الباشا شكرك أنت له، هل تريد أن تختار لي كلية بعينها؟
– ألا تفكر أنت في أي كلية؟
– ليس هناك كلية في ذهني.
– إذن تتوكل على الله وتدخل كلية الزراعة.
– لماذا الزراعة؟
– أنت فلاح ابن فلاح وستجد العلوم سهلة، ثم إنك عندما تتخرج سيكون من السهل تعيينك، فإذا لم تعيَّن في الحكومة فغالبًا يعينك الباشا للإشراف على الموالح في أرضه.
– ألا نتخلص من الباشا أبدًا؟
– لا حول ولا قوة إلا بالله، ألا نأكل لقمتنا من يده؟
– الأمر لله زراعة زراعة.
وهكذا دخل شهاب كلية الزراعة، وظل يتنقل بين سنواتها بدرجة مقبول حتى وصل السنة النهائية.