الرسالة الثانية عشرة
من جون جراهام في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو إلى ابنه بييربون في ليتل ديلمونيكو، بمجمع برايري، في ولاية إنديانا. وقد انزعج السيد جراهام من قبول السيد بييربون لنَقدِه برُوح استسلام بلغت درجةً من الوداعة يستحقُّ عليها اللوم الشديد.
***
١٢
شيكاجو، ٢٥ أبريل …١٨٩
عزيزي بييربون، لا تكتب لي ثانيةً واحدةً من رسائل المُتألِّم اللطيفة الجميلة الحزينة تلك. إن ردَّ الفعل الطبيعي لأيِّ مُهر يُساق إلى عربة هو أن يَرفس قليلًا، ودائمًا ما يُداخِلني الشك في أي مخلوقٍ يقف ساكنًا أكثر من اللازم حين تَنهال السياط على ظهره. إذ أعرف أن ما عليَّ أن أُحاربه فيه ليس الخنوع، وإنما الوضاعة، ومن الصعب أن أُحدِّد أي الأمرَين أسوأ.
إن الحيوان الوحيد الذي وصفَه الكتاب المقدس بالصبر هو الحمار، وهذا أمرٌ يَرجع إلى الإيمان القويِّ والتاريخ الطبيعي القوي أيضًا. ذلك أنني اضطُرِرتُ إلى تأمُّل البغال في ميزوري حين كنتُ صبيًّا، واكتشفتُ أنها ليست صبورةً فعلًا، وإنما تدَّعي الصبر. يُمكنك أن تُنزِل بها كلَّ الشتائم التي تعرفها حتى يَنفد ما في جعبتك منها، ويُمكنك أن تضربها بالسياط حتى تتحوَّل إلى حمير مُخطَّطة كتلك المُستخدمة في السيرك، وإن كنت حريصًا ومُتحفظًا في حضرتها فسترتسِم على وجهها علامات الألَم والحزن والاستسلام. ولكنها طوال الوقت ستزداد لؤمًا على لؤمٍ، ووضاعةً على وضاعة في داخلها، وستُضيف عنادًا مركبًا إلى شخصيتِها كل ثلاثين يومًا، وتتدرَّب على الرفس في مربطها حين يجنُّ الليل.
وبالطبع لا يُوجَد شيء في هذا العالم خالص السوء، حتى البغال؛ ذلك لأنَّ نصفها حصان. غير أنني تعلمتُ بالملاحظة أن نصف الحصان فيها هو النصف الأمامي، وأن الطريقة الوحيدة الآمنة فعلًا لقيادتها هي من الخلف أولًا. أفترض أن بوسعك أن تُدرِّب واحدًا على السير بهذه الطريقة، ولكن الأمر لا يستحقُّ حيث إنك ستَجد مركبةً جيدة بسعرٍ زهيدٍ دائمًا.
هذا هو شعوري تجاه الشباب الذين يتكاسَلُون في العمل ولا يُفوِّتون فرصة للراحة إلا وانتهزوها، وكلما طلبت منهم النهوض والعمل بنشاط تبرَّموا وتمنعوا. وهؤلاء هم من يملئون الدنيا عويلًا عند ترقية زميلٍ لهم بأنه ترقَّى بفضل توسُّط أحدٍ له، وأن مُديرهم لا يسمح لهم بالترقِّي في العمل لأنه يغار منهم. لقد رأيتُ الكثير ممَّن لديهم واسطة في حياتي، ولكنَّني لم أرَ أحدًا منهم يملك واسطةً يُمكنها أن ترفعه إلى مرتبةٍ أعلى ممَّا يُمكن أن يصل إليه بجهده الشخصي، أو بقوة كافية ليُحصِّل في نهاية الأسبوع راتبًا أكثر مما يستحق.
وحين يتفاخَر رجلٌ بأن لديه واسطة، فإما أنه كاذب أو أنه يعمل لدى رجل مُغفَّل. وحين يملأ رجلٌ الدنيا عويلًا بأن مُديره يَمنعه عن الترقِّي إلى المناصب الأعلى، فالحقيقة، بوجهٍ عامٍّ، هي أن مُديره لا يجد ما يُرقيه لأجله. كل ما هنالك أنه اختار بقعةً دافئة وثيرة وتمدَّد عليها، ثم ملأ الدنيا صراخًا بأن رجلًا قاسيًا بلا قلب قد أوقعه وجلَسَ على صدره.
الرجل الشجاع يرتدُّ على قدمَيه كما يرتدُّ قِطٌّ يَهرب من فتًى وكلبِ صيد يُطاردانه. وحين يُلقى به من نافذة الطابق الثاني إلى الكلب، يُعدِّل وضع جسده وهو في الهواء لينزل بطريقةٍ صحيحة على الأرض، وحين يقفز الكلب إلى المكان الذي هبط فيه، يكون قد انطلق منه وأصبح أعلى الشجرة الموجودة على الجانب الآخر من الطريق. وهذا القطُّ يُشبه إلى حدٍّ كبير الفتى ذا الشعر الأحمر الذي رأينا في مباراة كرة القدم التي صحبتَني إليها. إذ في كل مرةٍ كانت الجموع تندفع، كانت تبدأ بالدوس عليه وتمزيقه وإسالة دمِه. وفي لحظة تكون كلها فوقه، وفي اللحظة التالية كنا نراه يفرُّ من بينهم ويُخرِج من فمه بقايا شعرهم وقِطَعًا من ستراتهم الجلدية، أو يقف على الجانب هادئًا كما يقف خنزير على لوح ثَلج، يُشاهد خيوط الفوضى وهي تتفكَّك والمُصابين والإسعاف يرفعهم من الملعب.
لم أفهم كرة القدم، ولكنَّني فهمتُ هذا الفتى القصير النحيل. وبدا لي أنه يفهم طبيعة اللعب ويعرف ما سيقوم به. وحين يكون المرء على علمٍ بطبيعة عمله، فلا يلزم عليه أن يشرح للناس ما يفعل. فالمرء لا يتفاخر بما يَعرف فعلًا، وإنما بما يظنُّ أنه يعرف. والكلام الكبير مُرادف لضحالة المعرفة.
ثمَّة فارقٌ كبير بين معرفة الكثير من الحقائق المتنوعة التي تَسبح هائمة في رأسك وتَختلط ببعضها البعض، وبين أن تعرف نفس القدْر المُتنوع منها، ولكن مع تصنيفه كما ينبغي وتخزينه للاستخدام الأمثل في الوقت المناسب. لا يكون لحم الخنزير ثقيلًا في الميزان إلَّا حين يكون نصفَ مُقدَّد. أما حين يتشرب أقصى ما يمكن من محلول التخليل، سيتعيَّن أن يُخرِج بعضًا منه في معمل التدخين قبل أن يُصبح صالحًا للاستخدام؛ وحين تستوعب أنت كلَّ ما تقدر عليه من معلومات، سيكون عليك أن تنسى نصفها قبل أن تُصبح ذا نفعٍ حقيقي للشركة. ولو كان ثمة شيء أسوأ من التفريط في المعرفة فسيكون الإفراط فيها. إن التعليم يُوسِّع الأُفق الضيق، ولكن الأفق الأوسع من اللازم لا علاج له. وأقصى ما يُمكنك أن تأمُل فيه هو أن يَنتفِخ حتى ينفجر؛ وحينها بالطبع لن يبقى به شيء. الفقر لا يفسد الرجل الصالح أبدًا، أما السَّعة فكثيرًا ما تفعل. وتحمُّل أيام العُسر سهل؛ لأنه الاختيار الوحيد، ولكن مقاومة الحماقة في أوقات اليُسر أصعب.
وأنا أكتفي بذكر هذه الأمور بشكلٍ عامٍّ. والكثير منها لا يَنطبق عليك بلا شك، ولكن لا ضَير من التأكد من ذلك. معظم الرجال يتحيَّرون حين يُقيِّمون أنفسهم ويرَون شخصًا ملائكيًّا غير الذي يُحاولون النظر إليه. لا شيء يُخبر المرأة بحقيقتها أو يكذب على الرجل بشأن حقيقته أكثر من المرآة.
وما أنا واثق منه هو أنك سريع الغضب والوجوم. وقد يكون لهذا ما يُبرِّره إن كنت تعرف كل ما عليك تعلُّمه قبل أن تُصبح تاجرًا كبيرًا ذا ثِقل.
حين تطلع نفسك على العمل بالشكل السليم فستكون قد أخذت خطوةً في الاتجاه الصحيح — ستُصبح قادرًا على الاستحواذ على انتباه المُشترين. وجميع الخطوات الأخرى هي الخطوات التي تفضي بك إلى كسب ثقتهم.
حينها ستَجد نفسك في موقف الشابِّ الذي تزوَّج حبيبة عمره ثم أسكنها مع أمِّه في نفس المنزل. ووجد أن الطريقة الوحيدة التي يُمكنه أن يُسعِد بها إحداهما هي أن يُغضب الأخرى، وأنه حين حاول أن يُسعدهما معًا لم ينجَح إلا في إغضابهما معًا. وبطبيعة الحال، انتهى به الأمر بأن طلبت زوجته الطلاق منه، وحرمَتْه أمُّه من الميراث وأوصَت بأموالها لدار أيتام، وتركت له ملاحَظةً في ذيل الوصية بأنها فعلت ذلك لأنَّ «الأيتام على الأقل لا يُمكنهم أن يجحدوا فضل آبائهم.» ولكن لو كان لدى الشابِّ شيءٌ من الفِطنة لأسكن كلَّ واحدة منهما في منزل وحدها، وأقنعها أنه يَنصرها على الأخرى دون أن يفعل ذلك فعلًا.
الكياسة هي القُدرة على الصمت في الوقت المناسب؛ على أن تكون أنت نفسك شخصًا لطيفًا لدرجةٍ يَعجز معها أيُّ شخصٍ عن أن يكون غير لطيفٍ معك؛ وهي القدرة على جعل من هم دونك يشعرون أنهم مُساوون لك. والرجل الكيِّس هو من يقدِر على توجيه الملحوظات اللاذعة لأحدهم دون أن يُثير حفيظتَه.
بعض الرجال كِلالٌ يَتعاملون بالحقائق فيَنعتون الكاذب بصفته. يسقط هؤلاء صرعى نتيجة ما قدَّموا. وبعضُهم يُفضِّل اللجوء إلى التحايُل، فيقول إنَّ والد الكاذب كان رجلًا يتحرَّى الكذب حتى كُتب عند الناس كذابًا، وإن اسم أمِّه قبل زواجها كان «سفيرة» (على اسم السيدة المذكورة في الكتاب المقدس التي عاقبها الرب لكذبها) وأن كل مَن يؤمن بنظرية داروين عليه أن يُشفِق على ابنهما لا أن يلومَه. هؤلاء يُصبحون محلَّ كراهية الناس. أما الكيِّسون فيقولون إن أحدًا مثل مَضرِب المثل هنا مُترعٌ بهذا الكم من ذكريات الفتوَّة لم يظهر منذ زمن البارون مانشاوزن؛ وحين يَصل هذا إلى الرجل نفسه يكاد يغشى عليه من الضحك؛ لأنه لا يعرف أن النقد الأكبر قد طال سمعة البارون. هذا النوع من الرجال الكيِّسين يُحقق المُبتغى.
ثمة نوعان من المعلومات؛ نوعٌ يحقُّ للمرء معرفته، وذلك يُدرَّس في المدارس؛ وواحدٌ لا يحقُّ لأحد غيرك معرفته وهو رأيك في الكاذب مثلًا. بالطبع حين تَشعر أن رجلًا ما ليس صادقًا، فستُسلح نفسك لمُنازلته، ولكن ليس على أرضه أبدًا. عليك أن تُقنعه أن يكون صادقًا مثلك إن استطعت، ولكن لا تسمح له أبدًا أن يجعلك كاذبًا مثله.
حين تَرتكب خطأً، لا تُلحِقه بخطأٍ آخر بأن تحتفظ به لنفسك. بل تحمَّل مسئوليته واعترف به. فالوقت المُناسب للتخلُّص من البيض الفاسد هو حين يكون في العُش. وكلَّما أخفيتَه وأطلتَ مدة بقائه حولك، أصبح الانطباع الذي يتركه أسوأ حين يعرفُه من حولك. والخطأ يتحوَّل إلى كذبةٍ حين تتستَّر عليه. والكذبة تنبت ما يكفي من التخوين لإتلاف أي محصول ثقةٍ زرعَه المرء طوال حياته.
ومن السهل بالطبع أن تفوز بثِقة الشركة، أو ثِقة المُشتري، ولكن عليك أن تحظى بكلَيهما. فالشركة تدفع لك راتبك، والمُشتري يُساعدك في كسبه واستحقاقه. وإذا خسرتَ المشتري فستَخسر تجارتك؛ وإذا عبثتَ مع الشركة فستخسر وظيفتك. فكل ما عليك إذن هو أن تسير بتوازن على الحد الفاصل بين الطرفين؛ ولو ملتَ إلى أحدهما فستسقط وتهوي على رأسك.
وحتى حين تتمكَّن من الاستحواذ على انتباه المشتري وثقته، سيكون عليك أن تظلَّ على أهبة الاستعداد طوال الوقت لتُحافظ على نصيبك، ويَتجافى جنبك عن فراشك طوال الليل لتَستحوِذ على بعض نصيب غيرك. وحين تكون التجارة في حالة رواج، يكون هذا هو وقت دفعها للتقدُّم؛ ذلك لأنَّ التقدم سيحدث حينها بسهولة؛ وحين تكون التجارة كاسدة، يكون الوقت مناسبًا أيضًا لدفعها للتقدُّم؛ لأننا حينها سنكون في أمسِّ الحاجة إلى طلبيات.
والحديث عن ممارسة التجارة يَستدعي إلى ذهني بطبيعة الحال أحد معارفي القُدامى، وهو السيد الدكتور باراسيلسوس فون مونستربرج، الذي حضَر إلى بلدتنا حين كنتُ صبيًّا بعد أن «حقق انتصاراتٍ في مجال الطب في قصور أوروبا»، كما ذكر في نشرة الإعلانات التي وزَّعها، وأنه «ليس بهدف كسب المال، وإنما للإنعام على البشرية المُعذَّبة بنعمة الصحة التي لا تُقدَّر بثمن؛ ولعلاج المريض وجعل السليم أكثر صحة.»
لم يكن مونستربرج يُشبه رجال قريتنا الأجلاف الذين يَنعقون في كل وادٍ. وإنما كان رجلًا أنيقًا وراقيًا. له شعر أسود طويل مُجعَّد، ولم يكن يفوته أن يدهنه بشحوم الدببة. وكان يَرتدي قبعةً من الحرير ومعطفًا طويلًا وأنيقًا طوال الوقت، باستثناء الأوقات التي كان يخطب فيها؛ إذ كان يخلع معطفه ليتمكن من تحريك ذراعَيه بحرية. وعند الحديث، كان يَحرص بطبيعة الحال على استخدام اللغة بأسلوب سلس بليغ راق.
وبالطبع وضع تلك «النعمة التي لا تُقدَّر بثمن» في زجاجات، وأسماها «معجزة مونستربرج الطبية»، ولكي يُقدمها للناس كان مُستعدًّا لبيع الزجاجة الصغيرة بخمسين سنتًا والزجاجة الكبيرة بدولار. وبالإضافة إلى حُبِّه لعمل الخير، كان الطبيب بارعًا في تنفيذ الحيل بورق اللعب، وكان يَعزف آلة البانجو الوترية، ويغني أغاني الزنوج ويُقلِّد تقليدًا بارعًا صوت المنشار وهو يشقُّ لوحًا من الخشب. كل هذه الإنجازات، وقصة علاجه لأخت إمبراطور النمسا بزجاجةٍ واحدة، جعلت جمعًا من الناس يلتفُّ حوله، ولكنه لم يَبِع ولو قطرةً من «الاكتشاف». فلم يكن أحدٌ في البلدة مريضًا فعليًّا، ومن ظنَّ نفسه مريضًا، كان قد خزَّن من الأسبوع السابق زجاجةً من «علاج كواكينبوس السريع المُعَد من الكينين»، من رجل لم يتورَّع عن إطلاق وعود ضخمة كتلك التي قدَّمها مونستربرج، وكان يبيع الزجاجة الكبيرة بخمسين سنتًا، إضافة إلى نسخةٍ مُقلَّدة من لوحةٍ لأحد الفنانين المشهورين لتزيين الردهة.
رجلٌ في مكانه كان من المُمكن أن يسبَّ ويلعن قليلًا ويَرحل ليُجرِّب حظَّه في القرية التالية، غير أن مونستربرج ألقى خطابًا مُميزًا وامتدح فيه المناخ وقال إنه بشخصه المتواضع حظِيَ بامتياز رؤية القوة والجمال في العديد من البلدان، ولكنَّه لم يدخل أبدًا إلى أي مكانٍ رأى فيه القوة في أقوى صورها والجمال في أجمل صوره من المكان الذي هو فيه، هنا في هوسكينز كورنرز. وصلَّى من أعماق قلبه طالبًا من الربِّ آمالًا بدت مستحيلةَ التحقُّق بألَّا تصاب هذه الجنة بالكوليرا التي تَستعر في كنتاكي، وأن ترتدَّ الحُمَّى الصفراء التي تُدمِّر تينيسي على أعقابها قبل أن تصل إلى حصن الصحة المنيع هذا، وإن كان قد وجَد نفسه مُضطرًّا إلى أن يُذكرنا أنها مرض خطير ولا يُشفى بسرعة؛ وأن يَتخطانا الجدري الذي كان يزحف إلينا من جهة الشمال من كندا، فيُصيب القرية التالية لقريتنا، رغم أنه سلَّم بأن الجُدري لا يُحابي أحدًا على أحد؛ وأن يظلَّ الدفتريا والحمَّى القرمزية — اللذان كانا يَغزوان نيو إنجلاند ويَملآن المقابر بالجثث — على الجانب الآخر من هدسون، رغم أنهما يُحسنان قطع المسافات، والأفضل أن نتجهَّز للأسوأ؛ وأن تَمنع عنا العناية الإلهية جميعًا البرد والصداع وآلام الظهر وأمراض الجهاز الهضمي والأرق وأي شعورٍ مُؤلم، لكن كانت تلك أمنية تكاد تخرج عن حدود المعقول، حتى ولو كان ذلك في مناخٍ مميز كمناخ بلدتنا. وتوسَّل إلينا في كل مناسبةٍ بأن نَحذَرَ من أدوية الدجالين والمُقلدين؛ وأنه يشعر بحزنٍ شديد مِن أننا اليوم هنا على ظهر الأرض وغدًا قد نكون في باطنها؛ لأنَّنا لم نشترِ زجاجةً صغيرة من العلاج الذي يُعدُّ أعظم ما قدَّمه الطب للبشرية.
وقد رأيتُ أن حديثه هذا أثَّر في كثيرٍ من النساء وجعلهنَّ يشعرن بحالة عدم ارتياح كبيرة، وسمعت الأرملة جودكينز تقول إنها تخشى أن «الشتاء القادم سيحمل معه الكثير من الأمراض» وإنها ترى ألَّا ضير في تخزين بعض من هذا الدواء في منزلها. غير أن الطبيب لم يعرض «النِّعمة التي لا تُقدَّر بثمن» للبيع مرة أخرى. فقد انتقل من خطابه إلى محاكاة كلبٍ رُبِطَت في ذيله علبة من الصفيح وكان يركض على طول شارع «ماين» ويَزحف أسفل متجر «سي هوبر» عند أقصى نهاية الشارع — وقد أخبرنا أن تلك مُحاكاة كان السلطان مولعًا بها ولعًا شديدًا، «كان رجلًا قاسيًا يجد لذةً في تعذيب الكلاب التي ليسَت سوى حيوانات عجماء مسكينة منَحها الرب لنا لنُحبَّها ونُكْرِمها ونحتفي بها.»
وواصَل على هذا المنوال، إلى أن رأى أن موعد نومِنا قد حان، ثم شكرَنا «فُرادى وجماعةً على حسن انتباهنا»، وأخبرنا أن مهمَّته في الحياة هي تسليتنا وعلاجنا في نفس الوقت، وأنه سيظلُّ موجودًا حتى عصر اليوم التالي، ويُقدِّم حفلًا مميزًا للصغار الذين أحبَّهم لأنهم يُذكِّرونه بابنه ويلي ذي الشعر الذهبي، في وطنِه على نهر الراين.
وبالطبع حضرت النساء والأطفال خلال اليوم التالي، في وقتٍ اضطرَّ فيه الرجال إلى الذهاب إلى أعمالِهم في الحقول والمتاجر، وطلب منَّا الطبيب أن نَصيح ونُجعجِع لمدة نصف ساعة. ثم وأثناء تأدية الطبيب أغنية هزلية غير شائعة، انطلقَت صرخة من جوني ابن السيدة براون.
قطع الطبيب غناءه، وقال: «أحضري هذا المسكين الصغير هنا يا سيدتي، ودعيني أرى إن كان بوسعي أن أُخفِّف مُعاناته.»
شعرت السيدة براون بإحراجٍ شديد وفزعٍ أشد، ولكنَّها دفعت جوني الذي كان يصرُخ طوال الوقت إلى الطبيب، الذي بدأ يُربِّت على ظهره وينظر في حلقه. وهو بالطبع ما زاد من صراخ جوني، وبدأت أمُّه تُفسِّر الأمر بأنها «لا بد قد داسَت على إصبع قدمِه المتورِّم دون قصد»، وفي تلك اللحظة خبط الطبيب جبهتَه وصرخ: «فهمت القصة!» ثم أخرج زجاجة من «النِّعمة التي لا تقدر بثمن»، ومنح الفتى قسرًا ملء ملعقة منها؛ ثم ضرب الفتى ثلاث ضربات على ظهره وطرق ثلاث طرقاتٍ على بطنه، ومرَّر إحدى يدَيه على قصبته الهوائية، وأخرج باليد الأخرى مُزرِّرَة (أداة لتسهيل إغلاق الأزرار) من فم الصغير.
وحين رأى جوني ذلك، أطلق صرخة جعلت جميع محاولاته السابقة للصراخ تبدو وكأنها مجرَّد مزحة، ثم أفلت من يد الرجل وقفل يركض عائدًا إلى منزله. ثم دسَّ الطبيب يده أسفل صدريتِه، ولوَّح بالمُزرِّرَة الموجودة في اليد الأخرى، وهتف: «أيتها السيدة، لقد شُفيَ ابنك! ووجدت المُزرِّرَة!»
ثم واصل حديثه ليشرح أنه حين يَبتلع الطفل الدبابيس أو العملات المعدنية الصغيرة أو أشواك السمك أو المُزرِّرَات أو أيًّا من الأدوات المنزلية الصغيرة، كل ما عليكَ هو أن تُعطيَه ملء ملعقة من «النعمة التي لا تُقدر بثمن» وتَطرُقي بطنه وظهره برفق، وتضعي يدك أسفل فمه، ثم سينزلق الشيء الصغير الذي ابتلعه كما تنزلق قطعة الشيكولاتة من ماكينة الشراء بالعملة.
اختلطَت أصوات همهمات الحاضرين، ولم يكن لدى أحدٍ وقتٌ ليسمع ما كانت السيدة براون تحاول قوله. وهو ما دفعها إلى أن تغضب غضبًا شديدًا وتتبع جوني إلى المنزل. وبعد نصف ساعة خرج الطبيب من كورنرز وقد وزَّع كل ما كان في جعبته من دواء — نظير المبلغ المعتاد — على جميع الأمهات في البلدة.
وحتى صباح اليوم التالي لم تحظَ السيدة براون بفرصة لتشرح للجميع أنه في حين يمكن أن يكون الدواء فعالًا وبه كل المواصَفات التي ذكرها الطبيب، فإنها لم تملك أبدًا في منزلها مُزرِّرَة؛ لأن زوجها اعتاد أن يرتدي حذاءً عسكريًّا طويلًا ليس به أزرار، وهي ترتدي حذاء قصيرًا إلى الكاحل بجوانب مرنة، والصغير جوني يسير حافيًا.
وقد أتيت على ذكر الطبيب هنا عَرَضًا، ليس كنموذج للأخلاق وإنما للطُّرق المُتبعة لتحقيق الهدف. ذلك لأن بعض مندوبي المبيعات يظنُّون أن البيع كالأكل، يُشبع شهية موجودة فعلًا؛ غير أن مندوب المبيعات الفَطِن يُشبه الطاهي المحترف؛ يمكنه أن يخلق شهيةً حين لا يكون المشتري جائعًا.
لا يُهمني مدى براعة الطرق القديمة، فالطرق الجديدة أفضل، ولو بقَدرٍ يسير. فتكرار نفس الأمر بنفس الطريقة عامًّا بعد عام يُشبه تناول طائر سمَّان كلَّ يوم لمدة ثلاثين يومًا. حين تَصل إلى نصف الشهر يبدأ من يتناوله يشعر برغبته في تناول ديكٍ مشوي أو قطعة من كعك الشيكولاتة.
جون جراهام