الرسالة الخامسة عشرة
من جون جراهام في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو إلى ابنه بييربون في فندق سكراب أوكس بمنطقة سبرينج ليك بولاية ميشيجان. وذلك بعد أن حصل السيد بييربون على ترقية ثانية، فأرسل له والده نصيحةً بسيطة مع تعيينه.
***
١٥
شيكاجو، ١ سبتمبر …١٨٩
عزيزي بييربون، أفهم من خطابك الذي أرسلته إليَّ يوم التاسع والعشرين أنك لا بدَّ تُثير الرعب في سمك القاروس الأسود حيث تصطاد. لم أفهم أبدًا ما يَجذبكم جميعًا إلى الأسماك؛ لكن يبدو أن ثمَّة شيئًا بشأن السمك يجعل شمَّاسًا مُحترمًا يتصرَّف وكأنه ثمِل من فرط الإثارة. أظنُّ أن الأمر لا بدَّ يرجع إلى أنه في حين كانت حوَّاء لا تزال تتعلَّم المبادئ الأولى لصناعة الملابس من الحية، كان آدم مُنطلقًا لصيد أسماك القاروس وتعلَّم فن الرواية.
ومع ذلك لا أُريدك أن تُثقل كاهلك بحمل السنَّارة البالِغ وزنها أربعة أرطال؛ لأن الصِّبية قد عادوا من إجازاتهم بالكثير منها، لدرجة أننا بات لدَينا منها ما يكفي لنستخدِمَه في عطلة الجمعة لمدة عامٍ كامل. وإن كنتَ ستعود بواحدةٍ منها لتستخدمها أثناء جولاتك للبيع، فالأفضل لك أن تتخلَّى عن الفكرة لأننا قرَّرنا أنك لن تعود إلى وظيفة مندوبِ المبيعات حين ترجع من إجازتك، وإنما ستُصبح مساعد المدير في قسم شحوم الخنزير. وسيكون راتبُك خمسين دولارًا في الأسبوع، ومهمَّتك هي أن تُحسن عملك لدرجةٍ يعجز معها المدير عن إدارة القسم بدونك، وتقدر أنت على إدارته بدونه.
ولكي تفعل ذلك، عليك أن تعرف شحوم الخنزير حق المعرفة؛ وأن تعرف نفسك حق المعرفة؛ وتعرف من يعملون تحت رئاستك. شحوم الخنزير بالنسبة لبعض الناس مجرَّد دهون يحملها الخنزير، وليست كذلك دائمًا إن كانوا يُفضِّلون كسب دولار اليوم على خمسة دولارات غدًا. ولكن شحوم الخنزير كانت تعني أكثر من ذلك بكثيرٍ بالنسبة لجاك سومرز، الذي كان يشغل المنصب الممنوح لك، قبل أن نُرقِّيَه إلى قسم البضائع المعلَّبة.
كان جاك يعرف كل شيءٍ عن الشحوم منذ وجودها في الخنزير حتى وصولها إلى المِقلاة؛ وكان مُطَّلعًا على كل ما يخصُّ شحوم الخنزير في التاريخ والدين؛ وابتكر ما أَطلَق عليه نظرية «لحم فخذ الخنزير وأشياء أخرى»، التي تُثبت أن وصية موسى بتحريم أكل لحم الخنزير لا بدَّ أن المحاكم الدورية قد ألغتْها؛ لأنَّ نوح حمل في سفينته زوجًا من الخنازير الصغيرة وسمَّى أحد أبنائه «حام» (الاسم الذي يُطلَق على لحم فخذ الخنزير بالإنجليزية هو «هام» وهي كلمة قريبة في النُّطق من اسم ابن النبي نوح)، ربما بدافع الامتنان بعد أن تذوَّق شريحةً من لحم الخنزير المشوي لأول مرة؛ وحاجج جاك أن جميع الأمم العظيمة عاشت على الطعام المَقلي، وأن أمريكا كانت أعظمها جميعًا، بفضل الطاقة التي كانت تُولِّدها الفطائر المأدومة بقدرٍ كبير من شحوم الخنزير.
لقد كاد قلبُه يَنفطِر حين قرَّرنا تصنيع مُنتجنا الجديد من زيت بذور القطن، «السيدويلين». ولكنه بعد أن أمعن النظر في الأمر رأى أنه منَحَه للتوِّ فرصةً إضافية للوصول إلى العملاء الذين لم يتمكَّن من تحويلهم إلى تناول شحوم الخنزير، وانطلق مباشرةً للعملاء من النباتيِّين واليهود. كان جاك يتمتَّع بالحماس، والحماس أفضل إدام للوظيفة؛ ذلك لأنه يجعل المهام الثقيلة مُستساغة.
يحسد الكثير من الموظَّفين الشباب مُديرهم؛ لأنهم يظنُّون أنه يضع القواعد ويفعل ما يحلو له. والحق أن المدير هو الشخص الوحيد في المكان الذي لا يُمكنه فعل ذلك. فمثله كمثل رجلٍ يسير على حبلٍ مشدود؛ سيرى في الأسفل حشدًا كبيرًا ومن حوله مساحة شاسعة، غير أن عليه أن يُبقي قدمَيه على الحبل طوال الوقت ويستمر في التقدُّم إلى الأمام.
فالموظف لدَيه رئيس واحد، وهو مُديره. أما المدير فرؤساؤه بعدد مرءوسيه. كما يُمكنه أن يضع القواعد، ولكنه الرجل الوحيد الذي لا يستطيع أن يخرقها بين الحين والآخر. والرجل يتولَّى منصبًا قياديًّا لأنه أفضل من مرءوسيه، وأن تكون أفضل من الشخص التالي هو أمرٌ تصحبُه دائمًا مسئولياتٌ جمَّة.
لا يمكن لرجلٍ أن يَطلب أكثر مما يعطي. والرجل الذي لا يُمكنه أن يتلقَّى الأوامر لا يُمكنه أن يُصدِرها. وإذا كانت قواعده أكثر صرامةً من أن يتبعها هو نفسه، فإنها بلا شك لا تُحتمَل بالنسبة للموظفين المشتغِلين تحت إمرته والذين لا يتقاضَون نصف ما يتقاضاه لمراعاتها. ولا مُنبِّهَ لرجلٍ كسول أفضل من مديرٍ يستيقظ مبكرًا؛ ولا شيء يُعزز العمل الجاد في أيِّ مكتب مثل مدير نشيط.
وتقديم قُدوة صالحة بالطبع ليس إلَّا جزءًا صغيرًا من واجبات المدير. ولا يكفي أن تُثبِّت أقدامك بقوة على كرسي القيادة — فعليك أن تُهيِّئ بجديةٍ كلَّ موظَّف تحت إمرتك أيضًا. لا يُمكنك أن تحكم على الأفراد بقواعد عامة. فكل رجلٍ له حالة خاصة وله دواؤه الخاص.
حين تُعِدُّ عُشًّا صغيرًا مُريحًا لدجاجةٍ من سلالة بلايموث روك وتُشجعها باستخدام بيضةٍ جميلة من البورسلين ولكن الدجاجة لا تبيض على الفور، فلا يعني هذا دائمًا أنك يجب أن تذبحها وتطهوها. فأحيانًا تستجيب الدجاجة وتبيض حين تضع قليلًا من الفلفل الأحمر في طعامها.
لا أقصد بهذا أن تتعمَّد تعسيف موظَّفيك؛ لأن الضربة تترك أسوأ أثر لها مُستترًا تحت الجلد. فالكثير من الرجال يتسامحون مع صفعةٍ على وجوههم أكثر من قُدرتهم على التسامُح مع ضربة لتقديرهم لذواتهم. قل لرجلٍ حقيقتَه في وجهه ووجِّه له الإهانات إن أردت، لكن لا تُهِن الرجل الذي تُحاول الوصول إلى قلبه؛ لأنه لن يُصدِّقك. إنما إن كان بوسعك أن تضع قدمَيه على أول الطريق الذي سيُوصِّله إلى الحقيقة، فستجد أن لدَيه قُدرةً هائلة على إصلاح نفسه قبل أن يَكتشف أيُّ شخصٍ آخر عيوبه.
فكِّر جيدًا قبل أن تُوجِّه كلمةً قاسية لأيِّ رجل، ولا تُفوت فرصة لقول كلمة طيبة. فالثناء الممنوح بحكمةٍ يُعد مالًا مستثمرًا.
لا تُصدِّق عن موظفيك شيئًا إلا إذا عرفته من خلالهم أنفسهم. والمدير الكفء لا يحتاج إلى مُحقِّقين، والشخص العاجز عن فهم طبيعة البشر لا يُمكنه أن يُديرها. ستجد حكاية كلِّ شخصيةٍ مُسطَّرةً على وجه صاحبها، وأيام المرء تكشف أسرار لياليه.
تأنَّ في تعيين المُوظَّف، ولكن لا تتباطأ في رفده. الوقت المُناسِب لاكتشاف انعدام التوافُق بين الرجل والمرأة هو قبل إتمام مراسم الزواج. ولكنَّك إن اكتشفت أنك قد عيَّنت رجلًا غير مناسب، فإن أوان فصله لا يفُوت أبدًا. ادفع له راتب شهرٍ نظير فصله، ولكن لا تسمَح له أن يمكث في العمل يومًا آخر. ذلك لأن وجود موظَّفٍ مفصول من الشركة يُشبه وجود شظية في الإبهام، تكون دائمًا مصدر ألَمٍ وإزعاج. ولا تُوجَد استثناءات في هذه القاعدة؛ ذلك أنه ما مِن استثناءات للطبيعة البشرية.
ولا تُلوِّح بالتهديدات أبدًا؛ لأن التهديد وعدٌ عليك الوفاء به، وهو أمر لا يكون مُلائمًا على الدوام، وإن لم تستطع الوفاء به سيضرُّ مصداقيتك وسُمعتك لدى الناس. لذا أمسك لسانك عن التهديد حتى تكون مُستعدًّا لتنفيذه، وحينها لن تكون بحاجة إليه. وتذكَّر في جميع تعامُلاتك أن اليوم هو فرصتك، وغدًا فرصة رجل آخر.
عليك أن تظلَّ قريبًا من رجالك. فالرجل حين يجلس على قمة الجبل يكون في وضعٍ شريف ومُرتفع، ولكنه إن أطال التحديق في السحاب، سيفوته الكثير من الأمور المهمة والمُثيرة التي تجري على الأرض. حافظ على وقارك بلا شك، ولكن أَحِطه بكل ما تستطيع من حدود لا يتخطَّاها أحد، واجعل حرَمه آمنًا. فمن السهل على الرئيس أن يُثير الرهبة في نفوس مرءوسيه، ولكن الرجل الذي يخافه الناس في وجهه يكون محلَّ كراهيتهم وراء ظهره. والرئيس الكفء يُمكنه أن يتجوَّل بين مرءوسيه دون أن يضطر إلى رسم خطٍّ وهميٍّ يَفصل بينه وبينهم؛ لأنهم سيرون الخط الحقيقي إن كان موجودًا.
وبالإضافة إلى التواصُل مع موظفيك في المكتب، عليك أن تُبقي حلقة التواصُل قائمة بينك وبين مندوبي المبيعات طوال الوقت. أرسل لكل واحدٍ منهم خطابًا كلَّ يومٍ حتى لا ينسى أننا نَصنع بضائع نحتاج إلى طلبيات منه لبيعها؛ وصمِّم على أن يُرسِل كل واحدٍ منهم برقية لك كل يوم، سواء كان لدَيه ما يقوله أم لا. فالمرء حين يُضطر إلى إرسال رسائل ستَّ مراتٍ في الأسبوع إلى الشركة، يستنفد بسرعةٍ كل أعذاره، ويَميل إلى التحرُّك سريعًا في إتمام صفقاته لكي يجعل خطابَه السابع مثيرًا للاهتمام.
وهنا أود أن أُكرِّر أنك أثناء متابعة الآخرين ومتابعة أخطائهم من المُهم جدًّا ألا تسهو عن أخطائك أنت. إن السلطة تبتلِع بعض الرجال أحيانًا، حتى إنها تحُول دون رؤيتهم مواطن النقص لدَيهم؛ والرجل الحكيم يُحاول أن يُعالِج مَواطن قصوره بينما يتذكَّر دائمًا ألا يُسيء إلى الآخرين بسبب قصورهم.
وفي هذا الصدد تحضرني قصة لمويل هوستيتر، صاحب البقالة الرئيسية في بلدتي القديمة. ربما كان لمويل أوضعَ رجل أبيض في ولاية ميزوري، ولم يَكنِ التنافُس على هذا اللقب بالأمر الهيِّن في تلك الأيام. إذ لم يجد معظم أصحاب البقالات غضاضةً في غش القهوة بحبوب البازلاء المطحونة، أما لمويل فقد بلغت به الوضاعة مبلغًا جعله يغشُّ حبوب البازلاء نفسها قبل أن يغشَّ بها القهوة. وكان يشتري لحم الخنزير به ندوب، وادَّعى أن تلك الندوب هي العلامة التجارية التي تُميِّزه، مطبوعة على جلد الخنزير لتُبيِّن أنه من النوع الفاخر، المصنَّع خصيصى لتجارة عائلته المميَّزة. ووضَع أمام متجره مَورِد مياه غازية به مشروبات مصنوعة منزليًّا تأكُل بطانة أمعاء الأطفال، وفي الغرفة الخلفية للمتجر أسَّس حانة غير قانونية وباع فيها خمورًا بها نسبة عالية من الكحول لدرجة تَحرق أجواف الكبار. إجمالًا، كانت شخصية لمويل تفوح برائحة مثل الرائحة المنبعثة من متجره، وتلك لم تكن بالطبع رائحة زكية كزنابق الوادي.
من آنٍ لآخر كان بعض الرجال يَجتمعون في متجر لمويل لقضاء الأمسية، لعدم وجود أيِّ مكانٍ آخر يُمكنهم الذهاب إليه وتبادُل الأكاذيب عن المحاصيل وعن مَن تصادَفَ غيابه عن الجلسة من الجيران. ولأن لمويل كان حاضرًا في جميع الأمسيات، لم يَغتبه أحد أو يذكر مساوئه فيها. وهو ما دفعه بطبيعة الحال إلى أن يُصدِّق أنه الرجل الأبيض المُهذَّب الوحيد في المقاطعة. وكان يهزُّ رأسه وهو يُفكر أن العفن قد أكل قلب البلدة. ويقول إن ما يجري يبعث على التشاؤم. ويتساءل عن إمكانية إثارة الرأي العام في البلدة لنشر الأدب والأخلاق الحميدة.
معظم الناس يَحصلون على المعلومات حين يطلبونها، والمعلومات التي وصلت للمويل عن نفسه كانت تقول إنه شخص جيد. وذات ليلة داهم القائمون على الفرع المَحلِّي لمنظمة الاعتدال المسيحي جميع متاجر الكحول غير القانونية في البلدة وحطَّموا تمامًا الجزء الخلفي من متجرِه، وكان الويسكي في المتجر رديئًا لدرجة أن الأرض نفسها لم تمتصَّه. خرج الرجال من بيوتهم على صوت الضوضاء، ودخلوا بصورة أو بأخرى في أجواء المناسبة السعيدة. وحين انتهت أعمال الإجهاز على المتجر، كانت بضاعة لمويل وأثاث متجره في حالةٍ يُرثى لها، ووضعوا لمويل على متن قطار مُتَّجه إلى حدود المقاطعة.
لا أذكر أنني رأيتُ في حياتي رجلًا مندهشًا كاندهاش لمويل في ذلك اليوم. لقد كان مندهشًا لدرجةٍ عجز معها حتى عن السبِّ واللعن. ولأنه لم يَرجِع أبدًا ليطلُب تفسيرًا، أظنُّ أنه قد فهم الأمر على أنهم أرادوا التخلُّص منه لأنه كان أفضل من أن يمكث في البلدة.
وقد أتيتُ على ذكر لمويل هنا عَرَضًا كمثال على أنه يَجدر بك وأنت تُصدر أحكامك على الآخرين، أن تخطو خطوةً للخلف لتَنظر إلى نفسك نظرة صادقة. ثم تُضيف خمسين بالمائة إلى تقييمك لجارك مقابل فضائله التي لا تستطيع رؤيتها، وتخصم خمسين بالمائة من رصيدك مقابل عيوبك التي عجزتَ عن رؤيتها في نفسك، حينها ستصل إلى نتيجة دقيقة للغاية.
جون جراهام