الرسالة الرابعة
من جون جراهام، رئيس شركة جراهام وشركاه، في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو إلى ابنه بييربون جراهام في فندق والدورف-أستوريا، في نيويورك. كان السيد بييربون قد اقترح أن يأخُذ جولة طويلة في أوروبا لتكون النهاية المُلائمة لرحلة تعليمه.
***
٤
٢٥ يونيو …١٨٩
عزيزي بييربون، إنَّ رسالتك التي أرسلتها في السابع من الشهر الجاري تحوم حول المقصود، أشبه كثيرًا بجروٍ يُلاحق ذيلَه. ولكنَّني أفهم منها أنك ترغب في قضاء شهرَين في أوروبا، قبل أن تعود إلى هنا وتنزل إلى مُعترك الحياة. أنت ملك نفسك الآن، ولا بدَّ أنك تَقدر على أن تحكُم أكثر من أي شخصٍ آخَر على مِقدار الوقت الذي يُمكنك أن تُضيعه، ولكن ما يبدو لي، بوجهٍ عام، هو أن شابًّا في الثانية والعشرين من عمره، سليم الجسم والعقل، لا يَملك دولارًا ولم يكسب قرشًا أبدًا، لا يَملك رفاهية التباطؤ في الانضمام لأيِّ شركةٍ للعمل وكسب المال. وأنا في هذا الصدد أجد من المُنصف أن أُخبرك أنني وجَّهت المُحاسب بإيقاف مصروفك ابتداءً من الخامس عشر من يوليو. وهذا يَعني أن أمامك أسبوعَين تقضيهما كإجازة؛ وهي فترة كافية لتجعل السقيم صحيحًا والكسول أكثر كسلًا.
أسمع الكثير عن الرجال الذين لا يأخُذون إجازات، ويُهلكون أنفسهم بالإفراط في العمل، ولكنَّني أعرف أن ما يُهلكهم عادةً هو القلق أو الويسكي. فإن ما يفعله الرجل بعد ساعات عمله، وليس ما يفعله خلالها، هو ما يُدمر صحته. على الرجل وعمله أن يكونا أعزَّ صديقَين خلال ساعات العمل وألدَّ عدوَّين بعدها. والذِّهن الصافي هو الذهن الذي يخلو من العمل في تمام السادسة كل ليلة، ولا يَنشغل به ثانية إلا بعد فتح المصاريع في اليوم التالي.
بعض الرجال يُغادر مكان عمله ليلًا ليقضي ليلة صاخبة مع أصدقائه، وبعضُهم يعود إلى المنزل يُجالس مشاكله؛ وكِلا النوعَين لم يُحسن اختيار الرفيق. يشكو كلاهما دائمًا من الحاجة إلى إجازة، وحين يحصل عليها لا يخرج منها بأيِّ استفادة. إن ما يحتاجه كل رجلٍ فعلًا مرةً كلَّ عامٍ هو تغيير ما يفعله؛ بمعنى أنه إن كان قابعًا خلف مكتبٍ لخمسين أسبوعًا يَقتات على الطيور والنبيذ الفرنسي، فعليه أن يعمد إلى امتهان الصيد وتجربة تناول لحم الخنزير المُقدَّد والبيض، مع القليل من مياه الينابيع، على الغداء. غير أن القدوم من هارفارد إلى شركة اللحوم سيمنحك التغيير الكافي هذا العام لتظلَّ في صحةٍ جيدة حتى ولو لم تحظَ بإجازة لمدة أسبوعين للترويح عن نفسك.
ستجد الأفضل دائمًا أن تَقبل شيئًا بمجرد أن يُعرَض عليك، خصوصًا إن كان هذا الشيء وظيفة. فليس من السهل أبدًا أن تحصل على وظيفة إلا إذا كنتَ لا ترغب فيها؛ ولكن حين يكون لِزامًا عليك أن تحصل على عمل، فتعمد إلى تصيُّد الوظائف، ستجد من الصعب الإمساك به، كما يَصعب الإمساك بغُراب عجوز هيَّابٍ أفلتَ من نيران بنادق جميع مُزارعي القرية.
حين كنتُ شابًّا لم يجد مكانه المُناسب بعد، وضعتُ لنفسي قاعدةً دائمًا؛ وهي أن أقبل أول وظيفةٍ تُعرض عليَّ، وأستخدمها كطُعمٍ لأحصل على ما بَعدها. يُمكنك أن تصطاد سمكة نهرية صغيرة بدودة، وهذه السمكة الصغيرة ستكون طريقَك إلى سمكة قاروس. وسمكة القاروس السمينة الشهيَّة ستُغري بدورها ثعلب الماء، وحين تَحصُل على ثعلب الماء يُصبح لديك حيوان له فراء يستحقُّ السلخ والبيع. لست مُعرضًا بالطبع لخطر أن تضيع عليك وظيفتُك في الشركة — في الواقع لا مفرَّ أمامك من أن تعمل فيها — ولكنَّني لا أحب أن أراك تتهرَّب في كل مرة يُحاول فيها والدُك أن يُقيدَك بها.
أريدك أن تتعلَّم من البداية ألا تعبَث بالمِلعقة قبل أن تتجرَّع بها الدواء. وأن تعرف أن تأجيل أمرٍ سهل يجعله صعبًا، وتأجيل أمر صعب يجعله مُستحيلًا. والمُماطلة داء عضال، لذا عليك أن تلتزِم بأداء ما عليك من عملٍ وواجبات في الأوقات المناسبة.
كان ديك ستوفر العجوز؛ واحد من أصحاب الأعمال الذين عملتُ لدَيهم في إنديانا، أسوأ رجلٍ رأيتُه ابتُلي بالتسويف والمُماطلة. كان شديد الشراهة في تناول الطعام، ولم يكن هناك من يُحب تناول الطعام أكثر منه، وقد اعتاد أن يتقلَّب في فراشه كلَّ صباح أملًا في أن يَحصل على غفوةٍ إضافية ويتحاشى النهوض، حتى قرَّرت زوجتُه في نهاية المطاف أن تجمع له وجبتَي الإفطار والغداء، وبات يأكُل وجبتَين فقط كل يوم. وكان رجلًا شديد التديُّن أيضًا، غير أنه اعتاد أن يُؤجِّل صلواته إلى ما بعد أن يأوي إلى فراشه، ثم يؤجِّلها ثانيةً حتى يصفوَ ذهنه من الأمور الدنيوية؛ ومن ثمَّ كان يَنتهي به الحال أن يغلبه النوم دون أن يتلو صلواته على الإطلاق. وفجأةً وجد ديك نفسه مطرودًا من الكنيسة بسبب تكرار تفويتِه لقدَّاس الأحد الصباحي، وبسبب أن أحدًا لم يرَه أبدًا جاثمًا على ركبتَيه يتلو صلواته. وحين قابلتُه أول مرةٍ كان عمله مُزدهرًا للغاية، ولكنه اعتاد تأجيل طردِ موظَّفيه غير الأكْفاء حتى يهرُبوا هم خفيةً من العمل بعد أن يَسرقُوا مبالغ من المال؛ كما اعتادَ تأجيل زيادة رواتب موظَّفيه الأكْفاء حتى يتمكَّن مُنافسُوه من استقطابهم. كما اعتاد ألا يُسدِّد الفواتير المستحَقة عليه، حتى حين كانت ظروفه المالية تسمَح بسدادها؛ وحين يأتي موعد السداد، كان يُرسل إشعارات لإرجاء الدفع لفترة أطول. إن إدارة الشركات بهذه الطريقة تُساوي بالطبع كتابةَ وصيةٍ بمالِك لصالح الحكومة ثم الانتحار حتى تتمكَّن من وراثتك. كانت آخر مرة سمعتُ فيها عن ديك حين كان عجوزًا في الثالثة والتسعين من العمر على مشارف الموت. كان هذا قبل عشر سنوات، وأُراهن أنه لا يزال حيًّا. وأنا أكتفي بذكر ديك هنا عَرَضًا كمثالٍ على الطريقة التي تتحكَّم فيها العادات بحياة الإنسان.
يوجد دائمًا عذرٌ واحد لكل خطأ يُمكن أن يقع فيه الإنسان، ولكنه عذرٌ واحدٌ فقط. وحين يقع الشخص في نفس الخطأ مرتَين، عليه أن يتوقَّف عن التعلُّل ويَعترف بإهماله أو بإصراره على الخطأ. كنتُ أعرف بالطبع حين أرسلتُك للدراسة في الجامعة أنك كثيرًا ما ستجعل من نفسك أُضحوكة، ولم يَخِب ظنِّي في ذلك. ولكنَّني توقعت منك أن تُقلل عددَ تشكيلاتِ حدوث ذلك بأن تُحوِّل نفسك إلى أضحوكة بطريقة مُختلفة كل مرة. وهذا هو ما يهم، ما لم يكن خيال المرء خصبًا أكثر من اللازم أو معدومًا تمامًا. ستُجرب بلا شك هذه الحماقة الأوروبية إن عاجلًا أو آجلًا، ولكن لو انتظرت بضع سنوات، فستدخل عليها بروحٍ مختلفة تمامًا؛ وستعود وفي نفسك احترامٌ جمٌّ للأشخاص الذين يَملكون من الفِطنة ما يكفي ليُقرِّروا البقاء في بلدانهم.
ما أستنتِجه من رسالتك أنك تتوقَّع أن بضعة أشهر تقضيها على الجانب الآخر من العالَم سوف تصقل شخصيتك ومهاراتك. لا أريد أن أبدو مُتشائمًا، ولكنَّني رأيتُ مئات الفتية يتخرَّجون من الجامعة ونفس الفكرة تُداعب خيالهم، ولم يعودوا بالكثير عدا بضع حقائب لملابس بقياسٍ غير ملائم. ذلك لأن رؤية العالم تُشبه الصدقة؛ من جهة أنها تكفر العديد من الخطايا، ومن جهة أن الأقربين أولى بها أيضًا.
والثقافة ليست أمرًا يُكتسب بتغيير الجو. ذلك لأنك ستَسمع عن الشاعر الإنجليزي روبرت براونينج على ضفاف المسيسيبي أكثر مما ستَسمع عنه في إنجلترا. والحديث عن الفن أمام بحيرة ميشيجان لا يقلُّ كثافة عن الحديث عنه في الحيِّ اللاتيني في باريس. قد يختلف قليلًا في طبيعته، ولكنه موجود.
لقد سبق لي أنا نفسي أن ذهبت إلى أوروبا. كنتُ لا أزال غِرًّا عديم الخبرة حين غادرتُ شيكاجو، وعدتُ إليها وأنا أشعر بالكدَر. كنت أشعر بالإعياء طوال فترة رحلتي. ذلك لأنَّني في لندن، وللمرة الأولى في حياتي، عُوملتُ باستهانة. ففي كل مرة كنتُ أدخل فيها إلى أي متجَر كانت الأسعار فيه ترتفع. فقد كان الباعة فيه يَتركون ما بأيديهم ويشرعون في زيادة الأسعار.
كان يُقال لي إنه لا يُوجَد مُخادعون أو غشَّاشون هناك. وكنتُ أصدقهم في ذلك. كانوا يُتاجرون في اللوحات؛ لوحات رسمها «الفنانون الكبار» كما يُسمُّونهم. وقد اشترَيت اثنتَين، أنت تعرفهما؛ إنهما اللوحتان المعلَّقتان في حظائر الماشية، وحين عدتُ اكتشفتُ أنهما من رسم شابٍّ تافهٍ ذهَب إلى باريس لدراسة الفن، بعد أن اكتشف بيل هاريس أنه لا يَصلُح كموظَّف تسوية. وأنا أحتفظ بهما ليكونا تذكرةً لي بأنه لا يُوجد في العالم من هو أكثر حماقةً من أمريكي عجوز يكاد يُصاب بشللٍ نصفي كلَّما نظر إلى هاتَين اللوحتَين.
أما الرجل الذي حاول أن يَبيعني شعارًا فلم يَتمكَّن من استغفالي بنفس السهولة. ذلك لأنني اخترتُ لنفسي شعاري في بداية دخولي إلى عالم الأعمال؛ وكان شعارًا على شكل ثورٍ في وضع الهجوم؛ وهو مُسجلٌ في واشنطن. هو علامتي التجارية بطبيعة الحال، وهو الشعار الوحيد الذي يُهِمُّ أيَّ تاجر أمريكي. وقد انتشر في كل ركنٍ من أركان الكرة الأرضية خلال السنوات العشرين الماضية، وحملَه كل جنديٍّ في العالم في حقيبة عتاده.
وأنا أفخر به كما يفخر أي رجل بشعارٍ ورثَه من أجداده، ولا يجد مكانًا يضعه فيه إلا على باب عربته وترويسة رسائله، إلا أنه يدرُّ الربح أكثر بكثيرٍ في حالتي. وقد حقَّق لي ذلك لدرجة أن كل مَن يشتغل بمِهنتي يَعرف أنه رمز للجودة العالية، والجودة العالية هي أجلُّ ما يُمكن لأيِّ شعارٍ من شعارات الإنجليز أن يرمز إليه. بالطبع لا يُمكن لشعار رجلٍ أمريكي أن يرمز لما هو أكبر من ذلك؛ إذ يُنظر عادةً إلى شعار الأمريكي على أنه شعار الغطرسة والتكبُّر الموسوم على جلده.
وأنا أنظر إلى ما آلت إليه أحوال سلالة هولنديو نيويورك القدامى المُشتغلة بالزراعة وحال عُمَّال المتاجر الإنجليز، أحيانًا أشعُر بعدم الارتياح بشأن ما سيئول إليه حال أحفاد أحفادي، ولكن دعنا نُركز الآن على العلامة التجارية ونُحاول أن نرتقيَ إلى ما يلائم سمعتها الطيبة وأنا ما زلتُ حيًّا وأمسك بزمام الأمور.
لقد اكتفيتُ بالإشارة إلى تلك الأمور عَرَضًا. وأنا لا أخشى على ما سيكون عليه حالك بعد أن تُواصل العمل لبضع سنوات، وتكون قد حقَّقتَ مقاربة بين العمل والدراسة في هارفارد؛ حينها إن كنتَ ترغب في أن تَنطلق نحو مساحةٍ أوسع من التعليم، فهذا لا يَضيرك. ولكنك ستجد نفسك في الوقت الحالي مشغولًا للغاية في محاولة الوصول إلى طبقة النخبة الفائزة.
جون جراهام