الرسالة السادسة
من جون جراهام، في طريقه إلى تكساس، إلى بييربون جراهام في مكتبِه في شركة يونيون ستوك ياردز، بشيكاجو. وذلك بعد تسبُّب السيد بييربون دون قصد في قليل من الخلط في رسائل البريد، وقد انتبه والده إلى ذلك أثناء العمل.
***
٦
سيارة خاصة من بارناسوس، ١٥ أغسطس …١٨٩
عزيزي بييربون، ربما من حُسن حظِّك أنني اضطُررت إلى الاستعجال ليلة أمس كي لا يَفوتني موعد القطار، وهكذا لم أجد وقتًا لأُخبرك ببعض الأمور التي تلِحُّ على ذهني بشدةٍ صباح اليوم.
لقد حضَر جيم دونيللي، من شركة دونيللي بروفيجن، إلى مكتبي ظهرًا وقد ارتسمَت على وجهِه السمين ابتسامة بلهاء ليُخبرني أنه رغم تقديره للرسالة التي تلقَّاها على أحد الأظرُف الخاصة بالشركة، والتي تبدأ بعبارة «عزيزتي» وتحتوي على دعوة للمسرح مساء الغد، فإنه لا يرى أيَّ رابط بين تلك الرسالة وبين الإخطار الذي أرسله لنا بشأن النقص في آخر حمولة لحم خنزير مُخلَّل في محلولٍ حلو اشتراها من شركتنا.
بطبيعة الحال، أرسلتُ إلى ميليجان ووبَّخته توبيخًا شديدًا؛ لأنه عيَّن موظَّفَ بريدٍ على درجةٍ من الإهمال سمحَت له بكتابة رسائل شخصية في ساعات العمل، وأحمق لدرجة أنه خلط بينها وبين مُراسلات الشركة الرسمية. تسمَّر ميليجان في مكانه كأيرلندي أبكم، وترَكني أُكمِل حديثي وأُكرر توبيخي لأُضيف إليه ما نسيتُ أن أقوله في المرة الأولى؛ وذلك قبل أن يقول لي إنك أنت المُوظَّف الذي تسبَّب في هذا الهراء. وبطبيعة الحال، شعرتُ أنني أحمقُ للغاية، وفي حين أنني حاولت أن أُبرِّر الأمر بأنك ما زلت جديدًا ولم تُتقن الصنعة بعدُ، كانت حُجتي واهية للغاية، وقد وضعتَ والدك في موقفٍ لا يُحسَد عليه.
وازداد الأمر سوءًا بالنسبة لي حين سمعتُ ردَّك على ميليجان حين سألك ماذا سيقول دونيللي عن شركتنا حين يتلقَّى خطابًا كهذا؛ إذ قلتَ له أن «يُفكر هو في مشاعر الفتاة التي استلمَت رفضنا القاسي على السماح بصرف بضع مئات من الكيلوجرامات من لحم الخنزير بدلًا من دعوة المسرح».
لا أجد في نفسي غضاضة من أن تُرسل إلى الفتيات رسائل تُخبرهنَّ فيها أنهنَّ بالنسبة لك المنتج الحقيقي المعالَج بالسكَّر؛ ذلك لأن هذه المبالغة تُثقل كاهلك أنت في نهاية المطاف، وأنت من ستُواجه المُطالبات في هذا السياق، ولكن إن كنتَ ولا بد ستكتب تلك الرسائل، فلتكتبْها قبل الثامنة صباحًا أو بعد السادسة مساءً. ذلك لأنني اشتريتُ منك وقتك كل يوم من الثامنة إلى السادسة. وقتُك له ثمن يُدفع من مالي، وحين تستقطع منه نصف ساعة لخدمة أغراضك الخاصة، فهذا شكلٌ حقير من أشكال الاختلاس.
يُخبرني ميليجان أنك سريع التعلُّم، وأن بوسعك أن تُنجز الكثير من العمل حين تُركِّز تفكيرك عليه؛ ولكنَّه يضيف أن الأوقات التي يكون فيها تركيزك منصبًّا على العمل أوقات نادرة للغاية. قد يكون تفكيرك مشغولًا بالرسائل التي تكتبها، أو ربما يكون عقلك في حالة غيبوبة مثلًا؛ لن يَعرف ميليجان بالتحديد حتى يتسلَّم مرتجعات الرسائل من مكتب الرسائل المردودة.
لا يُمكن للمرء أن يذهب إلى العمل ورأسُه فارغ تمامًا أو محشوٌّ بسفاسف الأمور والترهات، ويتوقَّع أن يُتمَّ عملَه على أكمل وجه. ومهما بدا العمل الذي يقوم به تافهًا وصغيرًا، فإنه يظلُّ المُهمَّة الكبيرة والوحيدة التي كُلِّف بها. إن التجارة مثل الزيت، والزيت لا يختلط بأيِّ شيء سوى بالزيت.
يمكنك أن تُحلِّل كل شيءٍ في العالم، حتى ولو كان ثروةً عظيمة، إلى مقادير بالغة الصغر. ولا فرقَ بين المبادئ الأساسية التي تحكم التعامُل مع طوابع البريد وتلك التي تحكم التعامل مع الملايين. فهي القانون العرفي للتجارة، وتَرتكِز عليها ممارسة التجارة كلها. ومن فرط بساطتها لا يُمكن لشخصٍ غبيٍّ أن يتعلَّمها؛ ومن فرط صعوبتها لا يُمكن للكسول أن يتعلمها.
أتلقَّى باستمرار رسائل من الفتية يطلبون منِّي النصح عن طريقة تحقيق النجاح، وحين أُرسل إليهم ردِّي يقولون إنني لم أذكر سوى مُمارسات شائعة يعرفها الجميع. وهذا بالطبع ما أفعله، وهذا ما تدعو إليه وصفتي للنجاح، ولو أخذ كل فتًى هذه الممارسات الشائعة وعجن بها وظيفته اليومية، فستكون النتيجة كعكة طيبة المذاق.
وبمجرَّد أن يكتسب المرء الفضائل الأوَّلية للتجارة ويُثبت أركانها في شخصيته، يُصبح بوسعه أن يبني عليها. ولكن حين يجرُّ الموظَّف ساقَيه في طريقِه إلى المكتب صباحًا وكأنه كلب صيد مريض، وحين يأتي موعد الانصراف يهبُّ من كرسيه كالنمر، سأكون متوجسًا بالطبع من تحميله مسئولية أحد فروعنا؛ لأنه لن يكون موجودًا دائمًا عند حضور العملاء. وإنما سيكون من نوعية الموظَّفين الذين سيُؤخِّرون طلوع الشمس ساعةً كل صباح ويُقدِّمونه ساعتَين كل مساء لو وهبَهم الرب القدرات نفسها التي وهبها ليوشع. وقد لاحظتُ أنه نفس الشخص الذي يَعتبِر دائمًا ودون استثناء استخدام مُسجل ساعات العمل إهانة. ويُوجَد الكثير من هذه النوعية في أماكن العمل؛ وهم في الواقع يؤثرون سلبيًّا على أي بيئة عمل.
أذكر حين كنتُ صبيًّا، اعتدنا أن نُقيم اجتماع معسكرٍ ديني مُفعمًا بالحيوية كل صيف، وكان هوفر العجوز، الذي كان في نظرنا واعظًا عظيم التأثير، يُصارع الآثِمين والمُرتدِّين. وكان في البلدة رجلٌ اسمه بيل بدلونج، كان يفخر أيما فخر بكونه آثمًا ولعينًا وهو صادق في ذلك. كان بيل آخِر من يأتي إلى مقعد الآثِمين التائبين في اجتماع المعسكر الديني، وأول من يَنصرِف عنه بعد الانتهاء. وكان يتفاخَر بتمكُّن الشيطان منه، وبأنه يرتكب ذنوبًا من العيار الثقيل، مصافُّها بعد ذنب آدم مباشرة، محفوظة في أوعية مُغلقة ضاعت فتَّاحتها. وكان هوفر العجوز يجمع أبناء القرية معًا ليشدَّ بعضهم عضدَ البعض ثم يَعقد بعد ذلك اجتماعات إضافية ليومَين تقريبًا ليجرَّ بيل البائس إلى واحدٍ منها؛ لكنه في نهاية المطاف كان دائمًا ما يتوب عن ذنوبه ويعود إلى الدِّين وبقوة. ولشهرٍ أو اثنَين بعد ذلك، كان يُثير فزعنا نحن الصغار في اجتماعات الصلاة وهو يَحكي لنا كيف كان أحقر وأحطَّ رجلٍ على وجه الأرض قبل أن يتديَّن. ثم لا يَلبث أن يَنتكِس بعد أن تنتهي فترة عيد الميلاد وقبل أن يحلَّ شهر فبراير؛ ويُعاود السير في كل مكانٍ يتفاخر بأنه ارتكب من الآثام ما جعله يقف على حافة نار جهنَّم لدرجة أنه شمَّ لهيبها.
واستمر على هذه الحال لمدة عشر سنوات تقريبًا، بل وازداد انحلالًا في صفاته المعهودة، حتى حان الصيف ذات عام، وانتهى العجوز هوفر مِن وعظ كل المُذنبين المُحتمَلين، وأعلن أن الاجتماعات قد انتهت لهذا العام.
وحين عرف بيل أنه لن يُقام لأجله اجتماعٌ آخر، بدا عليه الامتقاع الشديد. ونهض وقال إنه ظنَّ أن اجتماعًا آخر يُمكن أن يُصلِح من شأنه؛ وإنه شعر أن قبضة الشيطان عليه بدأت تلين؛ غير أن العجوز هوفر كان حاسمًا. ثم توسَّل بيل ليُخصِّص له شماسًا يعِظه، ولكن هوفر لم يمنحه ذلك. وقال إنه ضيع عليه خلال السنوات العشر الماضية وقتًا يَكفي لهداية مقاطعة بأكملها، وأنه قرَّر أن يتركه يُجرِّب حظه بنفسه؛ وأن ما يحتاجه أكثر من الدِّين هو الفطنة والاقتناع بأن الوقت في هذا العالم أثمَن من أن يضيع هباءً. وأنه لو اقتنع بذلك، فإن هوفر يرى أنه لن يجرؤ على المغامرة بالعذاب الأبدي؛ وأنه لو لم يستوعب هذه الفكرة، فإن الدين لن يقدِّم له ما يسعفه.
كثيرًا ما يجد أيُّ تاجر كبير نفسه في مكان العجوز هوفر. فعدد من يقعون في الأخطاء في شركته أكثر من أن يُخصِّص وقتًا طويلًا لكلِّ مَن على شاكلة بيل منهم. قلَّةٌ هم مَن يستحقُّون أن تضيع معهم وقتًا أبعد من نقطة بعينها، وتلك النقطة يتم الوصول لها بسرعةٍ مع أي رجلٍ لا يُبدي أي علامة على أنه يريد المساعدة. والرجل عديم الخبرة عادةً ما يأتي إلى الشركة مُستعدًّا للسمع والطاعة. ويمكنك أن تعرف الكثير عن المرء بتقييمك له بعد عامٍ من العمل، فتعرف ما إذا كان بوسعك أن تُوكِل إليه المزيد من المسئوليات في السنة التالية.
والربح الزهيد الذي ستُضيفه إلى الشركة حين تتعلَّم أصول التجارة لا يُهم، بقدْر ما يُهمُّ تأثير ذلك على صقل شخصيتك وشخصية من حولك، وخصوصًا تأثيره على حكم رئيسك في العمل عليك حين يَبحث في الشركة عن الشخص الذي سيشغل منصب رئيسك المباشر في العمل. والشخص الذي يقع عليه الاختيار في هذه الحالة هو الذي يحتفظ بدفاتر العمل مُنفصلة عن دفاتر التسلية والترفيه، ويستوفي للشركة حقَّها، وغالبًا لا يقع الاختيار على الشخص الذي يكون متأخرًا حين ينبغي أن يكون مبكرًا؛ ويكون مبكرًا حين ينبغي أن يكون متأخرًا.
وإني لأذكر هذه الأمور عَرَضًا، ولكنَّني بصراحة أخشى أنك تحمل بداخلك لمحةً من بيل؛ ولا يمكن أن تكون موظفًا جيدًا، ناهيك عن أن تكون شريكًا، حتى تتخلَّص منها. أحاول ألا أكون محدود التفكير عند تقييم شابٍّ صغير، وأن أمنحه مساحة للتعلُّم والخطأ، وأن أُحسِن الظن به؛ ولكنَّني لا أتعامل مع رجلٍ يتعمد أن يُثقل كاهلي بأخطائه.
أمرُّ الآن في رحلتي بالقطار ببلدةٍ راقية للغاية، ومن المؤسِف أنها لم تَعُد تُربي الخنازير. يبدو أن المُزارع لا يتعلَّم، إلا بعد زمنٍ طويل، أن أفضل طريقةٍ لبيع محصوله من الذُّرة هو أن يَبيعه في صورة المواشي.
جون جراهام