الرسالة الثامنة
من جون جراهام في هوت سبرينجز بولاية أركنساس إلى ابنه بييربون في يونيون ستوك ياردز بشيكاجو. بعد ترقية السيد بييربون من قسم البريد إلى قسم الفواتير، وقد أدَّت هذه الترقية إلى أن يلين له قلب والده قليلًا.
***
٨
هوت سبرينجز، ١٥ يناير …١٨٩
عزيزي بييربون، لقد أدخَلُوني إلى الأحواض الساخنة هنا لدرجة أنني أظنُّ أن الحرارة قد انتزعت كل الشعر من جسدي تقريبًا، ولكن هذا قد تسبَّب في استرخاء مفاصلي فلم تَعُد تُحدث صريرًا حين أمشي؛ وربما يعود استرخاء مفاصلي إلى شيء آخر فعلوه هنا. أخبرني الطبيب أنهم سيُعالجونني من الروماتيزم في ظرف ثلاثين يومًا؛ وبذلك يُمكنك أن تتوقَّع عودتي إلى المنزل خلال أسبوعَين تقريبًا. ذلك لأن الطبيب الذي يُعالِجني من نوع الأطباء الذين يُنقصون أسبوعَين من علاج مرضاهم حين يكونون فقراء، ويَزيدون أسبوعين في علاجهم حين يكونون أغنياء. وهو يَنعت نفسه بأنه طبيب «اختصاصي»، وهو ما يعني أن أدفع عشرة دولارات في كل مرةٍ يَنظر فيها إلى لساني، مقارنة بدولارَين أدفعهما لطبيب العائلة نظير إرضاء فضوله بالنظر إليه. أظنُّ أن موضوع «اختصاصي» هذا هو المخرج الوحيد لتوظيف الفائض عن الحاجة من الأطباء الشباب.
يُذكرني هذا بالوقت الذي كنا نُنتج فيه اللحم المحفوظ المعلَّب بسرعة تفوَّقَت على سرعة الناس في أكله، وتصادَف هذا مع حدوث جفاف عظيم في تكساس مما جذَب عُمال التعليب إلى المصنع أسرع من قدرتنا على توظيفهم. حاول جيم درهام «تحفيز الاستهلاك» على حدِّ قوله، من خلال إصدار كُتيب لطيف بعنوان «مائة طبق شهي من عُلبة واحدة» يشرح طريقة إطعام الأسرة اللحم المعلَّب بأشكالٍ مختلفة؛ ولكن بعد أن جهز عشر توليفات مختلفة، تبيَّن أن التسعين الأخرى ليسَت إلا خليط لحمٍ معلبٍ ومفرومٍ مع الخضروات المقطَّعة. ومن ثمَّ لم تُجدِ هذه الطريقة نفعًا.
ولكنَّنا اجتمعنا ذات يوم وطبَعْنا شعارًا جميلًا وأنيقًا يَفتح الشهية، ولم نَقتصِد في الطلاء الذهبي، وقد كان الشعار عبارة عن ثورٍ سمين لدرجة أنه بدا وكأنه سيَكسِر أقدامه من فرط وزنه، لولا أن تداركَتْها الدعائم، مع شرائط زرقاء في قرونه. وأسمَينا المنتج «لحم الشريطة الزرقاء؛ للأسر الراقية»، وأضفْنا عشر سنتات على سعر دزينة العُلب التي وُضع عليها هذا الشعار الخاص. وهو ما أوجد لدى الناس بطبيعة الحال رغبة في شرائه.
لا شيء يُقنع بعض الناس بميزة شيء ما أكثر مِن وَضعِ القليل من اللون الذهبي على الشعار الخاص به. ويمكنك أن تُراهن بثقةٍ على أن الرجل الذي يحتاج إلى كلمة من ستة أو سبعة مقاطع ليصف وظيفته هو في الأرجح دجَّال. بل وستجد وظيفته في الجزء الخلفي من القاموس، حيث تُوضع الكلمات المشكوك في وجودها في اللغة أصلًا.
ولكنني لم أكتب لك للحديث عن هذا الموضوع. وإنما كتبتُ لك لأخبرك أنَّني شعرتُ بسعادة غامرة حين عرفتُ من رسالتك أنك ترقَّيت لتنضمَّ إلى قسم الفواتير. وقد كنتُ أعلم دائمًا أنك إن تخلَّصت من بعض ما كان بك من الالتفات لسفاسف الأمور، ستجد في نفسك شيئًا من الفِطنة وحُسن تقدير الأمور، ويسرُّني أن أسمع أنَّ رئيسك في العمل يُوافقني الرأي. ثمَّة أمران لا تتوقع أن تجدهما في النفس البشرية بطبيعة الحال؛ أن يكون رأي الأرملة في زوجها الراحل مُعتدلًا، وهي تُحاول أن تقنع جيرانهم بأنه سيدخل الجنة وهم يعرفون طباعه جيدًا، وأن يكون رأي الأب في ابنه مُعتدلًا، حين يحاول أن يُوطِّئ له ليحصل على راتبٍ جيد.
كنتُ أعرف هذا الأمر وترسَّخ في ذهني أكثر حين عيَّنتُ ابن الأرملة قبل سنوات قليلة. كان اسمه كلارينس — كلارينس سانت كلير هيكس — كان والده يعمل كاتب حسابات لديَّ في الوقت الذي لا يُراهن فيه على الخيول في سباق واشنطن بارك، أو يحسب مُتوسط تسديدات اللاعبين في فريق شيكاجو للبيسبول. وقد كان من نوعية الموظَّفين المُتهوِّرين الذي يُسلِّمون دفاترهم قبل موعد الإغلاق بنِصف ساعة لثلاثة أسابيع في الشهر ويقضُون أمسيات الأسبوع الرابع في البحث عن السنتات الثمانية المفقودة في ميزان المراجَعة. وحين مات اكتشفَت زوجته أن بوليصة التأمين على حياته قد انتهَت في الشهر السابق لوفاته ولم يُجدِّدها، لذا فقد أحضرت كلارينس إلى مكتبي وطلبت منِّي توظيفه.
لم يكن كلارينس فتًى جذَّابًا بالمعنى الدقيق؛ في الواقع، بدا لي أنه علامة أخرى على حظِّ والده العاثر؛ ولكن بدت أمُّه تُعلِّق عليه آمالًا كبيرة. وقد عرفتُ أنه كان ليُحقِّق الفوز في مسابقة تلاوة آيات الكتاب المقدس في مدرسة الأحد، لولا أنَّ والدة أحد الفتية الآخرين قدَّمت رشوة للمُراقب ليُقدِّم ابنها عليه، وأن الأمر استلزم عقد مُؤامرة على نطاق واسع بين المُدرِّسين في مدرسته النهارية كي لا يفوز بوسام حسن السلوك.
كل ما قالته لم يكن يتَّفق بالنسبة لي مع ملامح وجه كلارينس، ولكنَّني قبلتُ توظيفه على أي حالٍ ومرَّرته إلى المشرف على السعاة في الشركة. بكَت والدتُه قليلًا وهي تراه يخرج من مكتبي ليستلمَ العمل، وطلبَت منِّي أن أتأكد من أنه يتلقَّى معاملة جيدة ولا يتعرَّض للتنمُّر على يد الصبية الذين يفوقونه في الحجم؛ وذلك لأنه قد «تربَّى على اللطف والتدليل».
شهدت الشركة عددًا من الأمور غير المألوفة في ذلك الصباح، ورأى مدير السعاة لدَينا أن كلارينس يمكن أن يُفسر بعضها، ولكن حُججه كانت حاضرةً في كل مرة؛ حتى حين وجد أحد كاتبي الحسابات أنَّ الخزنة مُمتلئة بدخان السجائر وكلارينس بداخلها يبحث عن شيء لا يُمكنه وصفه. ولأنه كان جديدًا في العمل، لم يرغب أحد في الضغط عليه؛ لذا اكتُفي بمُصادرة سجائره وإعادته إلى مكانه مع التحذير بأنه استنفد جميع مُبرراته.
ومع حلول الظهيرة حضر عميل كبير من بوسطن ومعه ابنه الصغير؛ كان الولد صغيرًا أنيقًا ممتلئ الجسم كدابَّةٍ معلوفة، يَرتدي بنطالًا مخمليًّا أسودَ وله شعرٌ أطول بقليل من الحد الآمن للدخول إلى حي سوق الماشية. وأثناء حديثنا في العمل، تجوَّل الصغير في الشركة حتى وصل إلى غرفة إيداع الملابس؛ حيث كان السعاة يَتناولون غداءهم، وبالطبع كان من المؤسِف أن يدخل فتًى ببنطالٍ مخملي إلى مكانٍ كهذا.
ووفقًا لرواية ويلي حين أفاق من تشنجاته، تعامل معه الفتية بتهذيبٍ شديد، وأصرُّوا على أن ينضمَّ إليهم في لعبة جديدة اخترعها كلارينس للتو، تُسمى «ملصق الخنزير». ولأنه أصبح صديقًا لهم، أخبره كلارينس أن بوسعه أن يكون الخنزير. لم يكن ويلي يعرف ما الذي يَعنيه أن يكون الخنزير في تلك اللعبة، ولكنه وكما أخبر والده أنه لم يَستبشر خيرًا بالأمر؛ وخشيَ أنه لن يُعجبه. وعلى ذلك حاول أن يتنازل عن هذا الشرف لشخص آخر، ولكن كلارينس أصرَّ على أن «لعب دور الخنزير أمرٌ مثير للغاية»، وقبل أن يَحظى ويلي بفرصة فهم ما كان يجري له، رُبط طرف حبل حول كاحله الأيسر ومُرر الطرف الآخر على قضيب عارض فوق النافذة، وبات ويلي يتدلَّى ورأسه في الهواء، وكلارينس يسلط سيفًا خشبيًّا على رقبته. وفي تلك اللحظة حانت منه الصرخة التي نهضتُ على إثرها أنا ووالده مهروِلين وتفرَّق بسببها الفتية فزعًا في أرجاء الحي.
ألغى والد ويلي عقد نقانق بولونيا الذي أبرمه معنا وخرج غاضبًا من الشركة وهو يُتمتِم بكلماتٍ عن «المكان الحاطِّ للكرامة الذي يتعامل بشراسة مع الصغار»؛ وكتبت لي والدة كلارينس تُخبرني أنني عجوز شرير لم أُعطِ ابنها فرصة للعمل بعد أن استنزفتُ والده أثناء حياته. وذلك لأنني بالطبع أخبرتُ الفتى المُدلَّل بعد هذه الواقعة أن الأفضل له أن يُوضَع في قفصٍ في معرض الحيوانات.
وأنا أذكر كلارينس هنا عَرَضًا كمثال على الأسباب التي تدفعني إلى التأنِّي في الثِّقة بحُكمي. فقد وجدت دائمًا أنني أينما بالغتُ في الثقة في شيءٍ مملوك لي، لم أجد ما يُضاهي معرفة رأي الآخرين فيه في صورة أرقام واضحة، والآخرون غالبًا مُتشائمون حين يكونون في موضع المشتري. إن المرأة المطبوعة على الدولار هي المرأة الوحيدة التي لا تحمل في تكوينها أي عواطف. وإن كنتَ ترغب في معرفة الحقائق الثابتة عن شيءٍ ما فعليك أن تتجرَّد من جميع العواطف أولًا.
لقد ألحقتُك بالعمل مع ميليجان لأنظر إليك بعينَيه. إذا كان يرى أنك بارع بما يكفي لتلتحقَ بقسم الحسابات، وتتقاضَى اثنَي عشر دولارًا في الأسبوع، فلا أظنُّ أن هناك شكٌّ في ذلك. ذلك لأنه من نوعية الرجال الذين لا يُبدون حماسًا إلا عند ذمِّ الآخرين.
وبالطبع أشعر بالغبطة الشديدة وأنا أرى لمحات القُدرات التجارية قد بدأت تبدو عليك؛ لأنه حين تحين ساعة رحيلي، سيكون الأمر أسهل عليَّ للغاية حين أعرف أن شخصًا يَحمل اسمي سيَفتح أبواب الشركة كل صباح.
إن الفتية يشبهون إلى حدٍّ بعيد الجراء التي تُباع في جنبات الشوارع — لا تجد حقيقتَها دائمًا كما عُرضت عليك. فيُمكِن أن تشتري جروًا ليكون كلب صيد، ثم حين تُربِّيه يكبر ليكون كلبًا مُرقطًا يحرس العربات، والابن الواعد لتاجرِ لحومٍ أمينٍ يمكن أن يكبر ليكون شاعرًا أو بروفيسورًا. وأريد أن أنوِّهَ هنا إلى أنَّني لا أحمل في قلبي أي تحامُل على الشعراء، ولكنَّني أومن أنك إن كنت ستُصبح شاعرًا كبيرًا مثل ميلتون، فالأفضل أن تكون مثلَه ولكن في صمتٍ ودون شهرة، كما قال لي يومًا شخصٌ ناقم على الشعر. وبطبيعة الحال، فإن تاجر اللحوم الذي يفهم شيئًا عن تعدُّد استخدامات زيت بذور القطن غير مُلزَم برفض طلبات شحوم الخنزير، لأن الطلب على الخنازير ضعيف، والأب الذي يفهم الطبيعة البشرية يمكن أن يجعل من ابنه كاهنًا زائفًا وهو الذي أراد له الربُّ أن ينضمَّ إلى مجلس التجارة. ولكنَّ الأفضل بشكلٍ عام هو أن تُعطي زيت بذور القُطن الخاص بك اسمًا لاتينيًّا وأن تُسوِّق له بناءً على مزاياه، وأن تسمح لِفتاك أن يتبع ميوله حتى وإن أوصلَته إلى بورصة القمح. ومَن لدَيه مَلَكة الشِّعر في داخله سيَخرج شعره إن عاجلًا أو آجلًا في الصُّحف أو على عربات المواصلات؛ وكلَّما طال كبتُك لهذه المَلَكة، زادت غزارتها في خروجها. ما من طريقةٍ لِمعالجة الغباء أسهل من أن تسمح للغبي أن يكون غبيًّا. والطريقة الوحيدة لتُبيِّن لرجلٍ أنه قد اختار المجال الخاطئ هو أن تسمح له أن يُجرِّبه. فلو كان هو المجال الخاطئ فعلًا، لن تُضطَرَّ إلى إطالة الجدل معه ليتخلَّى عنه؛ وإن لم يكن، فلا يحقُّ لك أن تَطلُب منه أن يتركه.
والحديث عن الجِراء الضخمة التي تَكبر لتُصبح كلابًا من فصيلة الترْيَر الصغيرة النحيلة يستدعي إلى الأذهان حالة ابن صديقي القديم جيريمايا سيمبكينس. لا يُوجَد في تجارة الجلود في بوسطن رجلٌ برصانة جيريمايا، ولا يُوجَد فيها أيضًا محتالٌ لا يمكن للقانون أن يَطاله أكبر من ابنه عزرا. لا يحمل عزرا بداخله ولو ذرة واحدة من الدناءة؛ كل ما هنالك أنه مارقٌ بطبيعته ودون أن يتعمَّد. حين تخرَّج من الجامعة رأى والده أنه يُمكن أن يكتسب خبرةً جيدة بالعمل في قسم جلود الحيوانات بشركة جراهام وشركاه، قبل أن يخوض تجربةَ تجارة الجلود. لذا كتبتُ إليه ليُرسِلَه للعمل معي، مفترضًا بطبيعة الحال أنني سأحظى بشبلٍ من سلالة سيمبكينس العريقة الجديرة بالثقة.
شعرتُ بشيءٍ من عدم الارتياح حين حضر عزرا للعمل؛ إذ لم يبدُ لي أنه قد قُدِّر له العمل في مجال الجلود. كان فارع الطول هزيلًا كما هو حال جميع أبناء نيو إنجلاند، وله جبهة مُكعبرة وكأنها دُفعت لتبرز إلى الأمام بسبب ازدحام مخِّه بالأفكار أو بسبب غلظ جمجمته، كِلا التفسيرَين صالح حسب إعجابك بالرجل أو عدم إعجابك به. وعلى نفس المنوال يُمكنك أن تصف سلوكه بأنه هادئ أو رتيب. وقد أخبرني منذ البداية أنه لا يعرف بالضبط ماذا يُريد، ولكنه واثقٌ من أنه لا يريد العمل في تجارة الجلود. والواضح أنه ذكر الأمر نفسه لوالده، وأن الأخير ردَّ عليه بتأفُّف — «صهٍ، صهٍ» — وأخبره أن يصرف الأمر عن ذهنه وأن يتعلَّم تجارة الجلود.
تعلَّم عزرا كل ما كان يرغب في تعلُّمه عن مجال تَعبئة اللحوم في ظرف ثلاثين يومًا، وعرفتُ أنا كلَّ ما أردتُ معرفته عنه في نفس الفترة. وبدَت تجارة لحوم الخنزير الأمر الوحيد الذي لم يستهوِه. وقد قدَّم لي استقالته ذات يوم قبل خمس دقائق فقط من أن أُقدِّم له أنا قرار الفصل الذي كنتُ قد جهزته له؛ ومن ثمَّ سأكون مُنصفًا وأقول لك إن عزرا لم يكن بطيئًا بأيِّ حالٍ من الأحوال. وقد حدث شقاقٌ مؤقَّت بينه وبين والده بسبب هذا الأمر؛ وخسرتُ أنا بسببه تجارة الأب وصداقته. وأودُّ أن ألفت نظرك هنا إلى أن أَسهَل الطرق لاكتساب الأعداء هي توظيف الأصدقاء.
لم أسمع عن عزرا لمدة، إلى أن حضر ذات صباح إلى مكتبي ودودًا ولطيفًا كالمعتاد. أخبرَني أنه يعمل صحفيًّا وأنه يُريد أن يعقد معي مقابلةً عن صفقة ديسمبر للقمح. لم أكن لأتحدَّث في أمر كهذا بالطبع، ولكنِّي أعطيتُه نصيحة أبوية: أخبرتُه أنه سيقضي حياته كلها مُشردًا في بيوتٍ مشتركة إن لم يُقلع عن حماقته ويعود إلى والده، ولم أكن على أيِّ حالٍ مُقتنعًا أنه سيأخذ بنصيحتي. شكَرني ومضى إلى حال سبيله وكتب مقالًا ذكر فيه أمورًا لم أَقُلها عن صفقة ديسمبر، وبطريقةٍ ما جعل الأمر يبدو وكأنني أنا مَن قاله.
كانت المرة التالية التي سمعتُ فيها عن عزرا حين انتشر خبر موتِه. فقد أعلنت وكالة «أسوشيتيد بريس» الخبر، وأكَّده المجلس العسكري الكوبي، وأخيرًا سرد مَقالًا طويلًا، كتبه سيمبكينس نفسه، عن الظروف التي أدَّت إلى «هذا العمل الفظيع» وفقًا لوصف عناوين الجريدة التي كان يعمل بها.
تلقيت برقية طويلة من والد عزرا يَطلب منِّي فيها أن ألتقي مُدير التحرير لأعرف منه حقيقة الأمر. بدا لي أن سيمبكينس كان ذا شأنٍ كبير في الجريدة، وأنها أرسلتْه إلى كوبا ليكون مُراسلًا لها هناك، وأنه كان يعمل وسط صفوف جيش المُتمرِّدين. لم يكن سيمبكينس في كوبا مُختلفًا عن ذاك الذي عرفناه في شيكاجو. إذ حين كان يَصِل إلى أي خبر، كان يبعث به للجريدة، وحين لم يكن هناك أيُّ خبر، كان يصنع أخبارًا ويُرسِلها.
ورَد خبر وفاته أول ما ورد في رسالة كتبها هو نفسه، وقد وصلت الرسالة في سفينة قرصنة وأُبرِق بها من جاكسونفيل. وذكر مضمون الرسالة، مع تركيزٍ شديد على التفاصيل — وهو أمرٌ كان قد تعلمه منذ ترك العمل معي — كيف أنه ضل طريقه بعيدًا عن كتيبة المُتمرِّدين الصغيرة التي خرج للاستطلاع معها، واتَّجَهَ خطأً إلى الخطوط الإسبانية. وعلى الفور وقَع في الأسر، ورغم الأوراق التي أثبتَت أنه مُواطن أمريكي، ورغم طبيعة عمله، والصليب الأحمر المرسوم على كُم سترته، خضع لمحاكمة عسكرية عاجلة وحُكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص مع طلوع الفجر. ابتدع هو كل هذا، ثم سرَح بخياله ليتخيَّل عملية إعدامه ليَحبك القصة. كُتب الجزء الخاص بعملية الإعدام بلغة إنجليزية ركيكة، يُمكن أن تُسمِّيها إنجليزية إسبانية، وتمَّت صياغتها ليبدو الأمر وكأنه عمل شاهد العيان الذي استحفَظَه سيمبكينس خطابه. كان شاهد العيان هذا مُكلفًا بحراسة سيمبكينس في سجنه، ونظير رشوة صغيرة قبضها منه ووعدٍ برشوة أكبر من الجريدة، تغافل عن سيمبكينس وهو يَكتب القصة، وبعد ذلك خرج من معسكر الإسبان وحمل الرسالة إلى الخطوط الكوبية.
انتهت الحكاية كما يلي: «ثم حين أُعطيَ الملازم أمرًا بإطلاق النار، رفع السينيور سيمبكينس بصرَه إلى السماء وصاح: «أعترض باسم جنسيتي الأمريكية!» ثم في نهاية الرسالة، كُتبت بخطٍّ مخربش عبارة لم تُخصَّص للنشر: «هذا سبق صحفي هائل لكم يا رفاق، ولكن تبعاته صعبة جدًّا عليَّ. الوداع. سيمبكينس.»
مسح مدير التحرير دمعةً فرَّت من عينه وهو يقرأ ذلك عليَّ وازدرد ريقه وهو يقول: «لا أستطيع أن أحبس دموعي؛ لقد كان فتى لطيفًا للغاية. ومن فرط اهتمامه بالآخرين، لم ينسَ أن يُرفق أوصافًا لنضعها على الصور!»
احتلَّت القصة الأخيرة لسيمبكينس الصفحة الأولى كلها وثلاثة أعمدة من الصفحة الثانية، وبطبيعة الحال حقَّقت الجريدة مبيعاتٍ هائلة يوم نشر القصة. طالب رئيس التحرير وزارة الخارجية بالتدخُّل في الأمر، رغم أن الإسبان أنكروا إعدام أيِّ شخصٍ يَحمل اسم السيد سيمبكينس أو أي معرفة مُسبقة به. وقد شغل هذا الخبر أيضًا صفحةً أخرى في الجريدة بطبيعة الحال، ثم أقاموا له حفلَ تأبينٍ كُتبت عنه ثلاثة أعمدة. تمكَّن واحدٌ ممَّن يُمكنك العثور عليهم في كل مكتب — ممَّن يدورون ويطلبون من الموظَّفين الاستغناء عن ثمن غدائهم لشراء زهور؛ لأن خالة زوجة مدير قسمٍ ما من المُديرين الأدنى شأنًا قد تُوفيت — من جمع عشرين دولارًا من موظَّفينا، وأرسلوا باقة من الزهور على شكل دفتر كُتِبَ على غلافه بأزهار دم المسيح الزرقاء عبارة «شهيد الصحافة»، لتكون تعبيرًا عن تقديرهم.
ارتديتُ قبَّعةً عالية وحضرتُ التأبين احترامًا لوالده. ولكن بمجرَّد أن عُدت إلى مكتبي تلقيتُ برقية من جامايكا تقول: «أرسِل مراسلاتك على هذا العنوان. أخبر والدي أنَّني على خير ما يرام؛ ولا تُخبر الآخرين بالأمر. سيمبكينس.»
لم أُخبر أحدًا بالأمر، وعاد عزرا إلى الحياة بسلاسة على مراحل، وبطريقةٍ لم تَلفِت إليه أي انتباهٍ خاص. فقد نجح في ترك انطباع لدى الآخَرين أنه قد أفلت من بين فكَّي الموت بأعجوبةٍ في اللحظة الأخيرة بفضل فريق إنقاذ. وكان آخر ما سمعتُه عنه أنه في نيويورك يجني عشرة آلاف دولار في السنة، وهو أكثر بكثيرٍ مما كان يُمكن أن يَجنيه من تجارة الجلود في قرن.
قبل خمسين أو مائة عام، حين كان الشعر يُدرُّ مالًا وفيرًا، كان من المُمكن لفتًى بخيال سيمبكينس أن يُصبح بسهولة من «الشعراء الفطاحل»، كما أظنُّ أنهم يُسمُّون كبار الشعراء؛ وبمُجرَّد أن تُرك له زمام حياته، تمكَّن بفطرته من أن يشتَمَّ العمل الذي يُمكنه أن يستخدِم فيه قليلًا من الحرية الشعرية ويُحقق نجاحًا كبيرًا.
لا جدوى من أن تطلُب من جروٍ وُلِد ليصطاد الطيور أن يتدرب على صيد الثعالب. كنتُ مُتشككًا قليلًا فيك، ولكن أظنُّ أن الربَّ قد قدَّر لك أن تنضمَّ لزُمرتنا، وأن تكون لاعبًا أساسيًّا في الفريق. استمتع باللعب إذن ولا تنشغل بالنتيجة. فالمتعة في الرحلة وليست في الوصول إلى الوجهة.
جون جراهام