سهم السماء
تنتاب المرء مشاعر الخوف حين يعلم أن نحو مائة قصَّة بوليسية قد بدأتْ باكتشاف مقتل مليونير أمريكي؛ ذلك الحدث الذي نتعامل معه، لسببٍ أو لآخر، كنوع من الكارِثة. أما هذه القصَّة، فيُسعدني أن أقول إنها تبدأ بمليونير مقتول؛ في الواقع هي تبدأ بثلاثة مليونيرات مقتولين، ما قد يَعُده البعض ورطةً بالغة التعقيد، ولكن كانت هذه المصادفة أو استمرار السياسة الإجرامية هي في الأساس ما أخرجَ القضيةَ برُمَّتها عن المسار العادي للقضايا الجنائية، وحوَّلها إلى الشكل الاستثنائي الذي كانت عليه.
شاع القولُ إنهم سقطوا جميعًا ضحايا لثأرٍ أو لعنةٍ ذات صلة بحيازة أثَر ذي قيمة كبيرة سواءٌ في حدِّ ذاته أم من الناحية التاريخية؛ نوعٌ من الكئُوس المرصَّعة بالأحجار الكريمة، اشتُهر باسم الكأس القبطية. كان أصلُها غامضًا، ولكن كان من المفترض أن يكون استخدامُها دينيًّا؛ وأرجع البعض المصيرَ الذي آل إليه مالكُوها إلى تعصُّب بعض المسيحيين الشرقيين الذين روَّعهم أن تتناقلَها أيادي مثل هؤلاء الماديِّين، لكن القاتل الغامض، سواءٌ كان متعصبًا مِن هؤلاء أم لا، كان بالفعل شخصيةً مثيرةً للرُّعب والاهتمام في عالم الصحافة والنَّميمة، وقد أُطلق على ذلك الشخص غير معروف الاسم اسمٌ أو كُنية، ولكن قصة الضحية الثالثة فقط هي التي تَعنينا هنا؛ ففي هذه القضيَّة فقط جاءت الفرصة للأب براون، الذي هو محور قِصصنا هنا، كي يثبت حضوره ويكون له دور.
عندما نزلت قدَما الأب براون لأول مرةٍ من باخرةٍ آتية عبر المحيط الأطلسي على الأراضي الأمريكية، اكتشف مثل العديد من الإنجليز الآخرين أنه كان شخصًا أكثرَ أهميةً مما ظنَّ في يوم من الأيام؛ إذ كان يُمكنه، بجسمه القصير وقِصر نظره وملامحه العادية وملابسه الدينية السوداء الباهتة اللونِ بعض الشيءِ، أن يمر عبرَ أي حشْد من الحشود في بلده دون أن يُلاحَظ أن به أيَّ شيء غيرِ عاديٍّ؛ ربما باستثناء أنه غير ذي أهمية بشكلٍ غير معتاد. ولكن أمريكا لديها مهارةٌ في التشجيع على الشُّهرة، وكان ظهوره في قضية أو قضيتين من تلك القضايا الإجرامية المثيرة مع صُحبته الطويلة لفلامبو، المجرم السابق والمحقِّق، قد بنَى له سمعةً في أمريكا مما كان لا يزيد عن كونِه مجردَ شائعة في إنجلترا. خلا وجهُه المستدير من أيِّ تعبير، من المفاجأة، عندما وجد نفسَه محاصَرًا على الرصيف من مجموعة من الصحفيين، كما لو كانوا عصابةً من اللصوص، والذين سألوه حول جميع الموضوعات التي كان يصعُب عليه أن يرى نفسه فيها مرجعية، مثل تفاصيل ملابسِ النساء وإحصاءات الجريمة في البلاد التي كانت عيناه تريانها لأولِ مرة في هذه اللحظة. ربما كان التبايُن مع هذه المجموعة المحاصِرة له المرتدية لملابسَ سوداء هو ما جعل شخصًا آخرَ يقفُ بعيدًا عنهم يبدو أكثر وضوحًا، والذي كان يبدو بملابسه أسودَ على نحوٍ متساوٍ في مقابل ضوء النهار الأبيض الساطع لهذا المكان والموسم الرائعين، ولكنه كان يقف بمفردِه تمامًا؛ لقد كان رجلًا طويل القامة أصفرَ الوجه يرتدي نظَّارة واقية كبيرة، وقد أوقفَه بإيماءة عندما انتهى الصحفيُّون من أسئلتِهم، وقال: «معذرة، ولكنك ربما تبحثُ عن الكابتن وين.»
ربما يكون بعض الاعتذار مناسبًا للأب براون؛ لأنه هو نفسه كان كثير الاعتذار بصِدق. يجب أن نتذكَّر أنه لم يسبق له أن رأَى أمريكا من قبل، كما يجب أن نتذكَّر على وجهِ الخصوص أنه لم يسبق له أن رأَى هذا النوع من النظَّارات المستمدَّةِ ألوان إطارها من ألوان دِرع السلحفاة؛ فهذه الموضة لم تكن في هذا الوقت قد انتشرتْ في إنجلترا. كان شعورُه الأول هو أنه يَنظر إلى أحد وُحوش البحر الجاحظة العينين مع احتمالِ أن يكون مرتديًا لخُوذة الغوَّاصين. بخلاف ذلك، كان الرجل يرتدي ملابس رائعة؛ وبالنسبة لبراون، ببراءته، بدت النظارة أغربَ تشويهٍ لمظهر الرجل الأنيق. كان الأمر كما لو أن رجلًا أنيقًا يرتدي ساقًا خشبية كي يُضفي على مظهره لمسةً من الأناقة. أحرجه كذلك الكلام الذي قالَه له الرجل. في الواقع كان طيارٌ أمريكيٌّ يُدعى وين، وهو صديق لبعض أصدقائه في فرنسا، أحدَ الأشخاص في قائمةٍ طويلة من الأشخاص الذين كان لديه بعضُ الأمل في رؤيتِهم خلال زيارتِه لأمريكا؛ لكنه لم يتوقَّعْ قط أن يسمعَ عنه بهذه السرعة.
قال في شك: «أستميحك عذرًا، هل أنتَ الكابتن وين؟ هل … هل تعرفه؟»
قال الرجل ذو النظَّارة الواقية بصرامة: «حسنًا، أنا واثق تمامًا من أنني لست الكابتن وين، وقد كنتُ واضحًا للغاية بشأن ذلك عندما رأيتُه في انتظارِك هناك في السيارة، لكن السؤال الآخر هو الأصعبُ قليلًا. أعتقد أنني أعرف وين وعمَّه والرجل العجوز ميرتون أيضًا. أعرف الرجلَ العجوز ميرتون، لكن الرجل العجوز ميرتون لا يعرفُني، وهو يعتقد أنه أفضلُ مني، وأعتقد أنني أفضلُ منه. هل تفهمني؟»
لم يكن الأب براون قد فهم شيئًا بعدُ. نظر بعينين طارِفَتين إلى المناظر البحرية الرائعة والمباني العالية في المدينة، ثم إلى الرجُل ذي النظارة الواقية. لم يكن إخفاءُ الرجل لعينيه فقط هو ما خلقَ انطباعًا بشيءٍ غير مفهوم؛ فقد كان ثمة شيء في وجهه الأصفر آسيويٌّ بعض الشيء، وبالتحديد صينيٌّ، وبدت محادثته طبقاتٍ متراصَّةً من السخرية. كان من النوع الذي يُمكنك أن تقابله في كلِّ مكانٍ في ذلك المجتمع الودود والاجتماعي؛ فقد كان الأمريكيَّ الغامض.
قال: «اسمي دريدج، نورمان دريدج، وأنا مواطن أمريكي، وهذا يشرح كلَّ شيء. أتصور على الأقل أن صديقك وين سَيودُّ أن يشرح لك بقيةَ الأمر؛ لذلك سنؤجل الاحتفال بعيد الاستقلال إلى يومٍ آخر.»
أُخذ الأب براون، وقد انتابه شيءٌ من الحَيرة، نحو سيارة على مسافة قصيرة يجلس فيها شابٌّ ذو أكوام غير مهذَّبة من الشعر الأصفر، وتظهر عليه أمارات الضيق والإنهاك بعض الشيء، وقد حيَّاه من بعيد وقدَّم نفسه على أنه بيتر وين. وقبل أن يعرف أين هو، دُفع إلى داخل السيارة التي تحرَّكت مسرعةً عبر المدينة وهي تتجه إلى خارجها. لم يكن معتادًا على مثل هذه الممارسات العمَليَّة الطائشة للأمريكان، وقد كان مذهولًا ذهولَ مَن تحمله عرَبة تجرُّها التنانين إلى عالم الخَيال. وفي ظل هذه الظروف المُربِكة سمع لأوَّل مرة، في المونولوجات الطويلة لوين والجمل القصيرة لدريدج، عن قصة الكأس القبطية والجريمتَين المرتبطتين بها بالفعل.
يبدو أن وين كان لديه عمٌّ يُدعى كريك، الذي كان له شريك يُدعى ميرتون، وهو الرجل الثالث في سلسلةِ رجال الأعمال الأثرياء الذين امتلكوا الكأس. أوَّلهم، تيتوس بي ترانت، ملك النحاس، تلقَّى خطاب تهديد من شخص وقد وقَّع عليه باسم دانيال دوم. وعلى ما يبدو كان الاسمُ مستعارًا، لكنه أصبح يمثل شخصيةً عامة، بل يتمتع أيضًا بشهرة كبيرة؛ فقد نال شهرة كل من روبن هود وجاك السفاح معًا. إذ سرعان ما أصبح واضحًا أن كاتبَ خطاب التهديد لم يقتصِرْ على التهديد. على أي حال، خلاصة الأمر أنه عُثر على العجوز ترانت في صباح أحدِ الأيام ورأسُه في بركة الزَّنْبق في منزله، ولم يكن ثمة ما يدلُّ على الفاعل. لحسن الحظ، كانت الكأس محفوظةً في البنك؛ وانتقلت ملكيتُها مع بقية ممتلكات ترانت إلى قريبِه براين هوردير، الذي كان كذلك رجلًا ذا ثروةٍ كبيرة، والذي هدَّده العدو المجهول أيضًا. وقد عُثر على براين هوردير ميتًا وانتُشل جثمانُه من سفح جرفٍ خارج منزله المطلِّ على البحر، الذي تعرَّض لسطوٍ كان على نطاقٍ واسعٍ هذه المرة. وعلى الرغم من نجاةِ الكأسِ على ما يبدو مرةً أخرى، فقد سُرق ما يكفِي من السندات والأوراق المالية؛ ما أربَكَ الحالةَ المالية لهوردير.
شرح وين الأمر قائلًا: «اضطرتْ أرملة براين هوردير إلى بيع معظم ممتلكاتِه الثمينة، وأعتقد أن براندر ميرتون قد اشترى الكأسَ في ذلك الوقت؛ إذ كان يملكها بالفعل عندما قابلتُه أول مرة. ولكن يمكنك أن تخمِّن بنفسك أنها ليست بالشيء المريح اقتناؤُه على الإطلاق.»
سأل الأب براون بعد فترةِ توقُّف قائلًا: «هل تلقَّى السيد ميرتون أي خطابِ تهديدٍ من النوع الذي تلقَّاه سابقوه؟»
قال السيد دريدج: «أعتقد ذلك.» وشيءٌ في صوته جعل القَسَّ ينظر إليه مستغربًا حتى أدرك أنَّ الرجل ذا النظارة الواقية كان يضحكُ في صمتٍ بطريقة جعلت الوافدَ الجديد يستعيد شيئًا من هدوئه.
قال بيتر وين عابسًا: «أنا واثق تمامًا من ذلك. أنا لم أرَ الخطابات؛ فلا يرى أحدٌ خطاباتِه سوى سكرتيرِه؛ فهو متحفِّظ للغاية بشأن أعماله، كما يجب أن يكون رجالُ الأعمال الكبار، لكنني رأيتُه مضطربًا ومنزعجًا جدًّا من بعض الخطابات، وعرَفتُ أنه مزَّق خطاباتٍ حتى قبل أن يراها سكرتيرُه. كان السكرتير نفسه يشعر بالتوتُّر ويقول إنه متأكِّد من أن شخصًا يرتِّب شيئًا للرجل العجوز؛ وكل ما يُمكن قوله أننا سنكون ممتَنِّين للغاية للحُصول منك على بعضِ المشورة في هذا الشأن. الجميع يعرفُ سمعتَك الطيِّبة، أيها الأب براون، وقد طلب مني السكرتيرُ أن أرى ما إذا كان بإمكانِك الذهابُ مباشرة إلى منزلِ ميرتون على الفور.»
قال الأب براون الذي بدأ يفهَمُ أخيرًا معنى هذه العمليةِ التي بدَتْ في البداية اختطافًا: «أوه، فهِمت. لكن، في الواقع، لا أعتقدُ أنه بإمكاني أن أفعل أكثرَ مما يمكنُكم فعلُه. أنتم في مسرح الأحداث، ولا بدَّ أن لديكم المئاتِ من المعلومات التي يمكنكم من خلالها الوصولُ إلى استنتاج منطقيٍّ أفضلَ من زائرٍ أتى للبلاد بالصُّدفة.»
قال السيد دريدج ببرود: «نعم، إن استنتاجاتِنا منطقيةٌ بشدة بحيث لا يمكن أن تكونَ صحيحة. وأرجِّح أنه إذا طال أيُّ شيءٍ رجلًا مثل تيتوس بي ترانت؛ فإن هذا الشيءَ قد طاله دون سابقِ إنذارٍ ودون انتظار لأيِّ تفسير منطقي، أي، كسهمٍ من السماء.»
صاح وين قائلًا: «لا يمكن أن يكون ما تعنيه هو أنَّ الأمر كان خارقًا للطبيعة!»
ولكن لم يكن من السهل بأي حال، وفي أي وقت، اكتشافُ ما قد يَعنيه دريدج، إلا إذا قال إن أحد الأشخاص ذكيٌّ حقًّا، فهو على الأرجح في هذه الحالة يعني أنه أحمَق. حافظ السيد دريدج على جُموده الشرقي حتى توقَّفت السيارة بعد فترةٍ وجيزة، حيث كان من الواضح أنهم قد وصلوا إلى وجهتِهم. كان مكانًا غريبًا بعضَ الشيء. مرُّوا بالسَّيارة عبر بلد مليءٍ بالأشجار الرفيعة التي تؤدِّي إلى سهل واسع، وأمامَهم مباشرةً كان ثمةَ مبنًى يتكوَّن من جدارٍ واحد أو سياج طويل للغاية، والذي كان مستديرًا مثل المعسكَر الروماني، ويُشبه الميناءَ الجوي. لم يكن الحاجز يبدو أنه من الأخشابِ أو الحجارة، وبمزيد من التَّدقيق اتَّضح أنه من المعدن.
نزلوا جميعًا من السيارة، وفُتح بابٌ صغير في الجدار بحذَر شديد، بعد خطوات تشبه تلك الخطواتِ المتبعة في فتح الخزائن، ولكن ما كان مفاجأةً حقًّا للأب براون أن الرجلَ الذي يُدعى نورمان دريدج لم يُبدِ أيَّ رغبة في الدخول، وتركَهما بابتهاج ينمُّ عن شر.
قال: «لن أدخل، أعتقد أن الأمر سيكون مثيرًا وممتعًا للغاية لميرتون العَجوز؛ فهو يُحب رؤيتي للغاية لدرجةٍ ستجعله يموت من الفرَح عندما يراني.»
سار بعيدًا، بينما سُمح للأب براون، بذهولٍ متزايد، بالدخول عبر الباب الفولاذيِّ الذي أُغلق على الفَور بعد دخوله. في الداخل، كانت هناك حديقة كبيرةٌ ومتقنةُ التنسيقِ بألوان مزدهرةٍ ومتنوعة، ولكنها تخلو بالكامل من أي أشجار أو شجيرات طويلة أو زُهور. وفي وسَطها، كان ثمة منزلٌ ذو معمار جميل، بل مذهل، ولكنه كان مرتفعًا وضيِّقًا للغاية لدرجة جعلتْه يشبه البرج بعض الشيء. وكان ضوءُ الشمس المتوهج يُومض على السَّقف الزجاجي هنا وهناك في الأعلى، ولكن يبدو أنه لم تكُن هناك أيُّ نوافذ على الإطلاق في الجزء السفليِّ منه. وفي كل شيء تجد تلك النظافةَ الناصعة واللامعة التي بدت من السِّمات المميزة للأجواء الأمريكية الصافية. عندما دخَلا من الباب، وقَفَا وسط الرخام والمعادن اللامعة والطلاء ذي الألوان الرائعة، ولكن لم يكُنْ في المكان دَرَج؛ فقد كان كلُّ ما هناك عمودًا واحدًا لمصعد عالقٍ في منتصف المسافة بين الجدران الصُّلبة، وكان الطريق إليه يحرسُه رجال ضخام الجسم أقوياء البنية مثل رجال شرطة في ملابس مدنيَّة.
قال وين: «حماية مُحكَمة للغاية، على ما أعتقد! ربما تبتسم قليلًا أيها الأب براون عندما تجد أن ميرتون مضطرٌّ للعيش في حِصن مثل هذا حتى بلا شجرة واحدة في الحديقة، يمكن لأحد أن يختبئ خلفها، لكنك لا تعرفُ ما نواجهه في هذا البلد، وربما لا تعرفُ ما الذي يَعنيه اسم براندر ميرتون. إنه رجلٌ هادئ الطباع تمامًا، ويمكن لأي شخص أن يقابلَه في الشارع؛ على الرغم من أن فرصةَ حدوثِ ذلك ليستْ كبيرة هذه الأيام؛ إذ لا يمكنه الخروج إلا بين الحين والآخَر في سيارة مغلقة، ولكن إذا حدث أي شيء لبراندر ميرتون، فسيزلزلُ ذلك البلاد من ألاسكا إلى جزر كانيبال. أعتقد أنه لم يكنْ لملك أو إمبراطور قطُّ مثل هذه السلطة التي لدَيْه على البلاد. على كل حال، أفترض أنه إذا طُلب منك زيارةُ القيصر أو ملك إنجلترا، فسيكون لديك الفضول للذَّهاب. قد لا تهتم كثيرًا بالقياصرة أو أصحابِ الملايين؛ ولكن ذلك يعني أن مثل هذه السلطة دائمًا ما تكون مثيرةً للاهتمام. وآمل ألَّا يتعارض مع مبادئك أن تزورَ إمبراطورًا من نوع جديدٍ مثل ميرتون.»
قال الأب براون بهدوء: «على الإطلاق؛ فمن واجبي زيارةُ السجناء وجميع الرجال البائسين في الأَسْر.»
ساد الصمت، وعبس الشابُّ بنظرةٍ غريبة بها نوع من المكْر على وجهه النَّحيل، ثم قال فجأة:
«حسنًا، عليك أن تتذكَّر أنَّ من يواجهونه ليسوا المحتالين العاديين أو تنظيم اليد السوداء؛ فدانيال دوم هذا يُشبه الشيطانَ بشدَّة. انظر كيف قضَى على ترانت في حديقته وعلى هوردير خارج منزله، وفرَّ بفعلتِه.»
يتكون الطابق العلويُّ من القصر، داخل الجُدران السميكة للغاية، من غرفتين؛ غرفة خارجية وهي التي دَخَلاها، وغرفة داخلية كانت الملاذَ الخاصَّ للمليونير الكبير. دخَلا الغرفة الخارجية في الوقت نفسِه الذي كان فيه زائران آخران يخرجان من الغُرفة الداخلية. أحدهما حيَّاه بيتر وين مناديًا إياه بالعم، كان رجلًا صغيرَ البِنْية ولكنه قويٌّ ونشيط، برأسٍ حليق يبدو أصلع، ووجه مسمَّر يدل لونُه البُنِّي الشديد على أنه لم يكن أبيَض يومًا. كان هذا الرجل هو كريك العجوز، ويُطلق عليه عادةً هيكوري كريك تيمُّنًا بهيكوري الكبير الأكثر شهرة؛ وذلك بسببِ شهرته في الحروب الأخيرة مع الهنود الحمر. أما صاحبه، فقد كان على العكس منه تمامًا؛ فهو رجلٌ أنيق للغاية ذو شعر داكن مثلَ الورنيش الأسود ونظَّارة لعينٍ واحدة بشريطٍ أسود عريض، وكان يُدعى بارنارد بليك، الذي كان محاميَ العجوز ميرتون، وكان يناقش مع الشريكين عملَ الشركة. التقى الرجالُ الأربعة في منتصف الغرفة الخارجية وتوقَّفوا قليلًا ليشاركوا في محادثةٍ مهذَّبة قصيرة تخللَتْها عمليات خروج وعودة. وخلال هذا، جلس شخصٌ آخر في الجزء الخلفي من الغرفة بالقُرب من الباب الداخلي، والذي كان ضَخمًا وساكنًا بلا حَراك ومُضاءً نِصفُه بالضوء القادم من النافذة الداخلية؛ وكان الرجلُ ذا وجهٍ زنجي وكتِفين ضَخْمتَين. كان هذا ما يسمِّيه النقد الذاتي المضحك في أمريكا هَزلًا بالرَّجُل الشقي، الذي قد يصفُه أصدقاؤه بالحارس الشَّخصي ويصفه أعداؤه بالقاتل المستأجَر.
هذا الرجل لم يتحرَّك أو يهتم قط لتحية أيِّ أحد، لكن رؤيته في الغرفة الخارجية بدا أنه استفز بيتر وين لطَرح سؤاله الغاضب الأول.
قال: «هل مِن أحدٍ مع الزعيم؟»
ضحك عمه ضحكةً خافتة، وقال: «لا تنزعج يا بيتر، ويلتون السكرتير معه، وآمل أن يكون ذلك كافيًا لأيِّ أحد؛ فأنا أعتقد أن ويلتون لا يغفل أبدًا عن حراسة ميرتون. إنه أفضلُ من عشرين حارسًا شخصيًّا، وهو سريع وهادئ كالهنود.»
قال ابن أخيه ضاحكًا: «حسنًا، لا بد أنك تعرفُ ذلك. أتذكر حيل الهنود الحمر التي كنت تعلِّمني إياها عندما كنت صبيًّا وأحب قراءة قصص الهنود الحمر، ولكن في قصص الهنود الحُمر التي أعرفها، بدا الهنود الحمر الأكثر معاناةً دائمًا.»
قال الرجل الذي كان يعيش في منطقة حدودية بتجهُّم: «لم يكونوا كذلك في الواقع.»
سأل السيد بليك الودود متحقِّقًا: «حقًّا؟ أظن أنه لم يكن بإمكانهم إلَّا فعل النَّزْر اليسير في مواجهة أسلحتِنا النارية.»
قال كريك: «لقد رأيت هنديًّا يقف صامدًا وسط مائة مسدس ليس معه سوى سكين صغير للسَّلخ، وقد قتل رجلًا أبيض يقفُ على قمَّة أحد الحُصون.»
سأل الآخر: «عجبًا، ماذا فعل به؟»
رد كريك: «ألقى به؛ رماه بسرعة البرق قبل أن تُطلق رصاصة. لا أعلم أين تعلَّم تلك الحيلة.»
قال ابن أخيه ضاحكًا: «حسنًا، آمل ألَّا تكون قد تعلمْتَها.»
قال الأب براون مفكِّرًا: «يبدو لي أن القصةَ قد تحمل مغزًى.»
وبينما كانوا يتحدَّثون، كان السيد ويلتون، السكرتير، قد خرجَ من الغرفة الداخلية ووقف منتظرًا؛ وقد كان رجلًا ذا وجهٍ شاحب وشعر أشقر وذقن مربَّع وعينين ثابتتين بنظرةٍ تشبه نظرة الكلاب، ولم يكن من الصَّعبِ التصديق بأن له صفاتِ كلاب الحراسة.
ولم يقل سوى الآتي: «يمكن للسيد ميرتون رؤيتُكم خلال عشر دقائق تقريبًا.» ولكن كان ذلك بمنزلة إشارةٍ من أجل إنهاء حديثِ المجموعة. قال العجوز كريك إنه لا بد أن يخرج، وقد خرج معه ابنُ أخيه وصاحبه المحامي تاركين الأب براون في هذه اللحظة بمُفرده مع سكرتيره؛ لأن ذلك العملاق الشبيه بالزنوج في الطرَف الآخر من الغرفة بالكاد يمكن النظرُ إليه كإنسان أو كائن حي؛ إذ كان يجلسُ بلا حراكٍ وظهره العريض لهما يحدِّق في اتجاه الغرفة الداخلية.
قال السكرتير: «أعتذر عن كون التدابير مشدَّدةً جدًّا هنا. ربما سمعت بكل هذه الأمور التي ارتكبها دانيال دوم هذا، وبالسبب الذي يجعلُ من غير الآمن تركَ الزعيم بمفرده تمامًا.»
قال الأب براون: «ولكنَّه بمُفرده الآن، أليس كذلك؟»
نظر إليه السكرتير بعينين رماديَّتين وقورتَين، وقال: «لمدة خمس عشرة دقيقة، لمدة خمس عشرة دقيقة من أربعٍ وعشرين ساعة. هذا هو وقتُ العُزلة التامَّة الوحيد الذي يحصُل عليه، ويصرُّ عليه لسببٍ عجيبٍ بعضَ الشيء.»
سأل الزائر: «وما هذا السبب؟» استمرَّ السكرتير ويلتون في النظر بثبات، لكن فمَه، الذي كان جادًّا للغاية، أصبحَ متجهمًا.
وقال: «الكأس القبطية. ربما نسيت الكأس القبطية، لكنه لم ينسَ ذلك أو أيَّ شيء آخر. إنه لا يثق في أيٍّ منا عندما يتعلَّق الأمر بالكأس القبطية؛ فهي محفوظة في مكان ما وبطريقة ما في تلك الغرفة حتى لا يتأتَّى لأحدٍ غيره العثور عليها، ولن يخرجها إلا عندما نبتعدُ جميعًا عنه؛ لذا علينا المخاطرة في ربع الساعة هذا أثناءَ جلوسه وتقديسه لها؛ وأعتقدُ أنها العبادةُ الوحيدة التي يؤدِّيها. هذا لا يعني أن هناك أيَّ خطر حقيقي؛ لأنني حوَّلت هذا المكان بالكامل إلى فخٍّ لا أعتقد أن الشيطان نفسه يمكنه أن يدخل إليه، أو بأي حال، أن يخرج منه. إذا زارنا هذا اللعين دانيال دوم، فسيبقى إلى وقتِ العَشاء وإلى ما بعده بوقتٍ كبير، يا إلهي! أجلسُ هنا على أحرَّ من الجمر لمدة خمس عشرة دقيقة، وفي اللحظة التي أسمع فيها طلقة أو صوتَ صراع سأضغط على هذا الزرِّ وسيعمل تيار كهربائي في حلقةٍ دائرية حول جدار الحديقة؛ ومن ثم يموتُ من يعبره أو يتسلَّقُه. بالطبع لا يمكن أن تسمع طلقاتِ نار هنا؛ لأن هذا هو السبيل الوحيد للدُّخول، والنافذة الوحيدة التي يجلس بالقرب منها تقع بعيدًا أعلى البرج الذي يصعُب تسلُّقه كالأعمدة الزَّلقة، ولكن، على أي حال، نحن جميعًا مسلَّحون هنا بالطبع؛ وإذا دخل دوم إلى تلك الغرفة فسيموت قبل أن يخرجَ منها.»
كان الأب براون ينظر بعينين طارِفتين إلى السَّجادة بنوع من التأمل العميق، ثم قال فجأة بشيءٍ من الرجفة: «آمل ألَّا تمانعَ في ذكري لذلك، ولكن واتَتْني فكرةٌ في هذه اللحظة للتو، وهي عنك.»
قال ويلتون: «حقًّا! وماذا عني؟»
قال الأب براون: «أعتقد أنك رجل لديك هدفٌ واحد، واسمح لي أن أقول إن هدفَك هو الإمساك بدانيال دوم أكثر من كونِه الدفاعَ عن براندر ميرتون.»
جفل ويلتون قليلًا واستمرَّ في التحديق إلى صاحبه، ثم ببُطء شديد ظهرت على فمِه المتجهم ابتسامةٌ غريبة نوعًا ما. وسأله: «كيف … ما الذي جعلك تعتقد ذلك؟»
أجاب القَس: «لقد قلتَ إنك إذا سمعت صوتَ طلقة، يمكنك على الفور صعقُ العدو الهارب بالكهرباء، وأظن أنه قد تبادر إلى ذهنِك أن الطلقة قد تقتل صاحب عملك قبل أن تقتلَ الصدمة الكهربائية عدوَّه. لا أعنى أنك لن تحميَ السيد ميرتون إذا استطعتَ، ولكن يبدو أن الأمر يأتي في المرتبة الثانية عندك. التدابير مُحكمة للغاية، كما تقول، ويبدو أنك قد أحكمتَها، ولكن يبدو أنها مصمَّمة أكثر بغرض القَبض على القاتل منها بغرَض إنقاذ أحدِ الرجال.»
قال السكرتير الذي استعاد نبرةَ صوته الهادئة: «أيها الأب براون، أنت ذكيٌّ جدًّا، ولكن لديك ما هو أكثر من الذكاء؛ فأنت بطريقةٍ ما من النوع الذي يريد المرء أن يقول له الحقيقة؛ إضافةً إلى أنك ستستمع إليه على الأرجح، على أي حال؛ لأنه أمر طريف عني نوعًا ما. يقولون جميعًا إنني مَهووس بمطاردتي لهذا المحتالِ الكبير، وربما أنا كذلك، لكني سأخبرك بشيءٍ لا يعرفه أحد. اسمي الكامل هو جون ويلتون هوردير.» أومأ الأب براون كما لو كان قد استوعب الأمر جيِّدًا، لكن الآخر تابع حديثه.
فقال: «هذا الرجل الذي يُطلق على نفسه اسم دوم قد قتَل والدي وعمي ودمَّر والدتي. عندما أراد ميرتون سكرتيرًا، تولَّيت المنصب؛ لأنني اعتقدتُ أنه حيثما كانت الكأس فسيأتي المجرمُ عاجلًا أم آجلًا، لكن لم أكن أعرفُ المجرم ولا يسعني إلا أن أنتظرَه، وأردت أن أخدمَ ميرتون بإخلاص.»
قال الأب براون بلطف: «فهمت، وعلى أيِّ حال، ألم يحِنِ الوقت كي نطمئنَّ عليه؟»
أجاب ويلتون: «عجبًا! بلى.» جافلًا قليلًا مرة أخرى من سكينته بحيث اعتقد القَس أن جنونَه الانتقاميَّ قد شغل بالَه للحظةٍ ثانية. وأضاف: «تفضل بالتأكيد.»
دخل الأب براون مباشرة إلى الغُرفة الداخلية. لم يتبع ذلك صوتُ تحية، ولكن فقط صمتٌ مميت؛ وبعد لحظة ظهر القسُّ مرة أخرى عند المدخل.
في اللحظة نفسها، تحرَّك فجأةً الحارسُ الشخصي الصامت الجالس بالقرب من الباب، وبدا كما لو أنَّ قطعة أثاث ضخمة قد نُفخت فيها الروح. بدا شيءٌ في تصرُّف القس كما لو أنه إشارة؛ إذ كان رأسُه في مواجهة الضوء الصادِر من النافذة الداخلية وكان وجهه في الظل.
وقال بشيء من التنهد: «أظن أنك ستضغطُ على هذا الزِّر.»
بدا ويلتون وكأنه يستيقظ من حُلمه الهمجي قافزًا، ووثب وكأن في حلقه شيئًا.
وصاح: «لم تكن هناك طلقة.»
قال الأب براون: «حسنًا، يعتمد الأمر على ما تَعنيه بالطلقة.»
اندفع ويلتون إلى الأمام، وأسرَعا بالدخول إلى الغرفة الداخلية معًا. كانت غرفة صغيرة نسبيًّا، ولكنها كانت ذات فَرش أنيق لكنه بَسيط، وكانت أمامهما نافذةٌ واسعةٌ ومفتوحة تُطلُّ على الحديقة والسهل ذي الأشجار. وكان قرب النافذة يوجد كرسيٌّ وطاولة صغيرة، كما لو أنَّ الأسير كان يرغب في أكبر كمٍّ ممكن من الهواء والضوء خلال فترة ترَفِه القصيرة أثناء عزلته.
على الطاولة الصغيرة تحت النافذة كانت هناك الكأسُ القبطية؛ إذ من الواضح أن مالكَها كان ينظر إليها في أفضل بُقعة من الضَّوء. كان الأمر يستحق المشاهدة؛ فقد حوَّل ضوءُ النهار الأبيض اللامع أحجارَها الكريمة إلى ألسنةِ لهبٍ متعددة الألوان لتُصبح نموذجًا محاكيًا للكأسِ المقدسة. كان الأمر يستحقُّ النظر إليه، لكن براندر ميرتون لم يكن يَنظر إليها؛ وهذا لأنَّ رأسه قد سقط للخلف من فوق كرسيِّه، وتدلَّى شعره الطويل الأبيض إلى الأرض، وانتصبتْ رأس لحيتِه الرمادية باتجاه السقف، وبرز من حلقه سهمٌ طويل مطليٌّ باللون البني وبه رِيشٌ أحمر في طرفه الآخر.
قال الأب براون بصوتٍ خفيض: «طلقة صامتة، كنت أفكِّر للتوِّ في تلك الاختراعات الجديدة لإخماد أصواتِ الأسلحة النارية، لكن هذا اختراعٌ قديم للغاية وصامت تمامًا.»
ثم أضاف بعد لحظةٍ قائلًا: «مع الأسف لقد ماتَ. ماذا ستفعل؟»
وقف السكرتير الشاحبُ اللون بعزمٍ مفاجئ، ثم قال: «سأضغط على ذلك الزرِّ بالتأكيد، وإن لم يقضِ ذلك على دانيال دوم، فسوف أطاردُه في جميع أنحاء العالم حتى أجدَه.»
قال الأب براون: «انتبه ألَّا يقضيَ ذلك على أيٍّ من أصدقائنا، فبالكاد يمكنهم أن يكونوا قد ابتَعدوا؛ من الأفضل أن نستدعِيَهم.»
رد ويلتون: «هؤلاء القوم يعلمون كلَّ شيء عن الجدار؛ فلن يحاول أيٌّ منهم تسلُّقَه، إلا إذا كان أحدهم … في عجلةٍ من أمره.»
ذهب الأب براون إلى النافذة التي من الواضح أن السهمَ دخل منها، ونظر إليها. الحديقة، بأحواض أزهارها المسطحة، تقع بعيدًا بالأسفل كخريطةٍ ملونة بدقَّةٍ للعالم. بدا المشهد بأكمله شاسِعًا وفارغًا للغاية، وبدا البرجُ عاليًا حتى السماء لدرجة أنه عندما حدَّق فيه عادت إلى ذاكرتِه عبارةٌ غريبة.
قال: «سهمٌ من السماء، ماذا كان مِن أمر مَن أخبر بسهمٍ من السماء وموت قادم من الأعلى؟ انظر كيف يبدو كلُّ شيء بعيدًا؛ يبدو من غير العادي أن يأتي سهمٌ من تلك المسافة البعيدة، إلا إذا كان سهمًا من السماء.»
عاد ويلتون، لكنه لم يرد، واستمر القسُّ في حديثه، وكأنه في مناجاةٍ للنفس قائلًا: «ربما أُلقي من طائرة. علينا أن نسألَ الشابَّ وين … في شأن الطائرات.»
قال السكرتير: «هناك العديد منها حولَنا هنا.»
قال الأب براون: «في حالة الأسلحة القديمة جدًّا أو الجديدة جدًّا، فلا بد أن بعضَها سيكون مألوفًا إلى حدٍّ كبير لعمِّه العجوز، على ما أظن؛ لذا ينبغي علينا أن نسأله عن أمر السهام. هذا يبدو أقربَ لأحد سهام الهُنود الحمر. لا أعرف من أين أطلَقَه هذا الهنديُّ الأحمر، ولكنك تتذكر القصَّة التي أخبرنا بها الرجلُ العجوز. لقد قلتُ إنَّ لها مغزًى.»
قال ويلتون بلطف: «إن كان لها مغزًى، فما هو إلا أن هنديًّا أحمرَ حقيقيًّا قد يصيب شيئًا أبعد مما تتخيَّل. من غير المنطقي أن تقترح شيئًا مماثلًا.»
قال الأب براون: «لا أعتقد أنك قد فهمتَ المغزى جيدًا.»
على الرغم من أن الكاهنَ القصير بدا كأنه قد ذاب بين الملايين من أبناء نيويورك في اليوم التالي له دون أيِّ محاولة واضحة، ليكون أيَّ شيء سوى رقم في شارع مرقَّم، فقد كان في الواقع مشغولًا على نحوٍ غير لافتٍ مدة الأسبوعين التاليين بالمهمة التي كُلِّف بها؛ إذ كان يغمره الخوفُ الشديد من احتمال الفشل في تحقيق العدالة. وجد أنه من السَّهل أن يتحدَّث مع الرجلين أو الرجال الثلاثة الذين كانوا طرَفًا في القضية مؤخَّرًا، ولكن دون أن يظهر عليه أي شيء محدَّد يدل على أنه يستبعدهم من دائرة الاتِّهام من ضمن معارفه الجُدد الآخرين، وقد خاض مع العجوز هيكوري كريك خاصَّةً محادثةً غريبة ومثيرة للاهتمام. كان ذلك على أحدِ مقاعد متنزَّه سنترال بارك، حيث جلس المحارب القديم بيديه النحيلتين ووجهِه الرفيع الحاد مستندًا على عصا المَشْي ذات الرأس الغريب الشكل والمصنوعةِ من الخشب الأحمر الداكن، التي ربما صُمِّمت على شكل فأسِ الهنود الحمر.
قال وهو يهز رأسه: «حسنًا، قد تكون طلقة من مكان بعيد، ولكني لا أنصحك أن تعتقدَ قُدرة سهام الهنود الحمر على الوصول لمسافاتٍ بعيدة. لقد شاهدت بعضَ سهام الأقواس التي بدَتْ أكثر استقامة من أيِّ رصاصة، وكانت مذهلة للغاية في إصابتِها للهدف، مع أخذ المسافة الطويلة التي قطعتها في الاعتبار. بالطبع إنك لا تسمع الآن تقريبًا عن أحد من الهنود الحمر بأقواس وسهام، ناهيك عن وجود أيٍّ من هؤلاء في المكان هنا، ولكن إن كان هناك على أيِّ حال أحدُ رماة الهنود القدامى هؤلاء معه قوسٌ من الأقواس الهندية القديمة، ويختبئ بين تلك الأشجار على بُعد مئاتِ الياردات عن الجدار الخارجي لمنزل ميرتون … فلم أكن لأعجب من قدرة الهمجي النبيل على إطلاق سهمٍ ليعبر الجدار ويصل إلى النافذة العليا لمنزل ميرتون؛ لا، بل إلى ميرتون أيضًا. لقد رأيت الكثيرَ من مثل هذه الأشياء المُذهلة في الأيام الخوالي.»
قال القَس: «لا شك أنك لم تكتفِ برؤية الأشياء المذهلة، بل فعلتَها أيضًا.»
ضحك العجوز كريك ضحكةً خافتة، ثم قال بصوت أجش: «أوه، هذا كلُّه تاريخ قديم.»
قال القَس: «بعض الناس دأبوا على دراسةِ التاريخ القديم. أظن أنه يبدو لنا عدمُ وجود شيء في تاريخِك القديم يجعل الناس يتحدثُون بشيء من السوء عن هذا الأمر.»
سأله كريك وعيناه تتحركان بحدةٍ للمرة الأولى، وبوجهه الأحمر المتخشب الذي يشبه إلى حدٍّ كبير رأسَ فأس الهنود الحمر، قائلًا: «ماذا تعني؟»
استهل الأب براون حديثَه ببطءٍ قائلًا: «حسنًا، حيث إنك على درايةٍ جيدة بجميع فنون أصحاب البَشرة الحمراء وصَنْعتهم …»
كان كريك ذا هيئة محدَّبة وتقريبًا منكمشة عندما كان يجلس وذقنه مُسند على عكَّازه الغريب الشكل، لكنه في اللحظة التالية وقف منتصبًا كقاتلٍ مستأجَر مستعدٍّ للقتال قابضًا على عكَّازه كالنبوت.
وصاح فيما يشبه صرخة ذعرٍ صاخبة: «ماذا؟ ما هذا الذي تقول؟! أتقف أمامي كي تقولَ لي إنني قد قتلتُ نسيبي؟»
بين عشرات المقاعد المنتشرة على الطريق، نظر الناس إلى المتنازعَيْن وهما يقفان كلٌّ منهما في مواجهة الآخر في منتصف الطريق، والرجل القصير النشط الأصلعُ الرأس يلوح بعصاه الغريبة كالهراوة، بينما القسُّ القصير البدين الأسمر ينظر إليه دون أن يحرِّك ساكنًا باستثناء جفنَيه. بدا الأمر للحظةٍ كما لو أن الرجل القصير البدين الأسمر سيُضرَب على رأسه ويُقتل جرَّاء تأهُّب هندي أحمر حقيقي وإجهازه عليه؛ وكان يُلاحظ وجود رجلِ شرطة أيرلندي كبير البنية على مسافةٍ منهما يلهث متَّجهًا نحوهما، لكن قال القَس بهدوء شديد كشخصٍ يجيب عن سؤال عادي:
«لقد خلصت إلى بعض الاستنتاجات حولَ الأمر، لكنني لا أعتقد أنني سأذكرُها حتى أعدَّ تقريري.»
سواء بسبب خُطَا رجل الشرطة أو عينَي القس، دس العجوز هيكوري عصاه تحت ذراعه ووضع قبعتَه على رأسه مرة أخرى، وأخذ ينخِر. تمنَّى له القَس صباحًا سعيدًا وهادئًا، وخرج بتأنٍّ من المتنزَّه، وشقَّ طريقه إلى ردهة الفندق حيث كان يعلم أنه سيعثُر على الشابِّ وين. وثب إليه الشاب محيِّيًا؛ وكان يبدو أكثر إنهاكًا وضيقًا من ذي قبل، كما لو أن قلَقًا من شيءٍ ما كان ينخَر في عِظامه؛ وكان القس يساوره الشكُّ في أن صديقه الشابَّ قد تورَّط مؤخرًا، بنجاح شديد الوضوح، في التحايُل على التعديل الأخير للدستور الأمريكي. ولكنه عندما تحدَّث عن هوايته أو علمه المفضل كان يقِظًا وشديد التركيز بما فيه الكفاية؛ وذلك لأن الأب براون سألَ، بطريقةٍ ودودة وفي إطار المحادثة، عمَّا إذا كانت هناك طائرات كثيرة تَطير في تلك المنطقة، وأخبره كيف رأى في البدايةِ الجدارَ الدائريَّ لمنزل السيد ميرتون كما لو كان ميناءً جويًّا.
أجاب الكابتن وين: «من العجيب أنك لم ترَ أيًّا منها في أثناء وجودنا هناك. في بعض الأحيان تكون أفواجًا كالذُّباب؛ فهذا السهلُ المفتوح مكانٌ رائع لها، ولا يجبُ أن أتعجَّب إذا كان مكان التكاثر الرئيسي، إن جاز التعبير، لطيوري في المستقبل. لقد قُدتُ العديد من الطائرات بنفسي هناك بالطَّبع، وأعرف معظم الزملاء الموجودين هنا الذين قادُوا طائرات في الحَرب؛ ولكن ثمة الكثير ممَّن يقودون الطائرات هناك الآن الذين لم أسمَعْ بهم قط في حياتي. أظنُّ أن الأمر سيصبح كقيادة السيارات قريبًا، وسيكون لكلِّ إنسان في الولايات المتحدة طائرة.»
قال الأب براون مبتسمًا: «هذا نظرًا لأنَّ خالقه بنعمةٍ منه أعطاه الحق في الحياة والحرية والسعي وراءَ قيادة السيارات، فضلًا عن الطائرات؛ لذا أظن أنه — فيما يبدو — إذا كانت ثمة طائرةٌ غريبة تمرُّ فوق ذلك المنزل، في أوقات معينة، فلن تلفت الانتباه على أغلب الظن.»
رد الشاب: «لا، لا أعتقد ذلك.»
تابع الآخر قائلًا: «أو حتى إذا كان الرجل معروفًا، فأظنُّ أنه قد يقود طائرةً يصعب معرفة أنها طائرته. إذا كنت، على سبيل المثال، تطير بالطريقة العادية، فيمكن للسيد ميرتون وأصدقائِه التعرُّف على ملابسك، ربما، ولكن قد تمر على مقربة شديدة من تلك النافذة بطائرة ذات طِراز مختلف، أو أيًّا كان ما تطلقون عليه؛ وتكون قريبًا للغاية في واقع الأمر.»
استهل الشاب كلامه بطريقة شبهِ تلقائية قائلًا: «حسنًا! أجل.» ثم توقف وظل يُحدِّق في القَس بفم مفتوح وعينين جاحظتَيْن في وجهه.
وقال بصوت خفيض: «يا إلهي! يا إلهي!»
ثم قام من فوق مقعد ردهة الفندق، شاحبَ الوجه يرتعشُ من رأسه إلى أخمص قدميه ولا يزال يحدِّق في القس.
ثم قال: «أمجنون أنت؟ هل تهذي؟»
ساد الصمت ثم تحدَّث مرة أخرى بصوت هامس سريع، قائلًا: «بالتأكيد لقد جئتَ إلى هنا لتدَّعي …»
قال الأب براون وهو يقوم من مكانه: «لا، بل لأجمع المعلومات فحسب. ربما أكون قد توصَّلت الآن لبعضِ الاستنتاجات، لكن من الأفضل أن أحتفظ بها في الوقت الحالي.»
ثم حيَّا الآخر بالكياسة الشديدة نفسِها، وخرج من الفندق لمواصلة جولاته التي يقودُه فيها الفُضول.
بحلول غسَق ذلك اليوم، قادَتْه تلك الجولات إلى الشوارعِ والدرجات القَذِرة المنتشرة والمحطَّمة باتجاه النهر في الجزء الأقدم والأكثر تشوُّهًا في المدينة. ومباشرةً أسفل المصباح الملون المميِّز لمدخل مطعم صينيٍّ حقير بعضَ الشيء قابل شخصًا سبق أن رآه، ولكنه لم يكنْ بالمظهر نفسِه الذي رآه عليه من قبل.
لا يزال السيد نورمان دريدج يواجه العالمَ بصرامةٍ من خلف نظَّارته الواقية الكبيرة، التي بدت بشكلٍ أو بآخر تُغطِّي وجهه مثل قناع داكن من الزجاج، ولكن باستثناء النظَّارة الواقية، كان شكله قد تغيَّر تغيُّرًا غريبًا في الشهر الذي انقضَى منذ واقعة القتل. إذ كان، كما لاحظ الأب براون، يرتدي ملابسَ أنيقة حتى ذلك الحين، في الواقع، حيث بدأ التعرُّف على الفَرْق الدقيق بين الرجل الأنيق ودُمَى عرض الملابس خارج مَتاجر الخيَّاطين، ولكن تغيَّرت الآن كل هذه المظاهر تغيُّرًا غامضًا للأسوأ، كما لو أن دمية الخياط قد تحولت إلى فزَّاعة. كان لا يزال يرتدي قبعته العالية، لكنها كانت بالية ورثَّة، وكانت ملابسه مهلهلة، واختفتْ سلسلةُ ساعته وحليُّه الصغيرة، ولكن الأب براون خاطبَه كما لو كانا قد التقَيَا بالأمس، ولم يتردَّد في الجلوس معه على مقعد في المطعم الرخيص الذي كان متَّجهًا إليه، غير أنه لم يكن هو مَن بدأ المحادثة.
قال دريدج متبرِّمًا: «هل كل شيء على ما يرام؟ وهل نجحتْ في الانتقام للمليونير التقيِّ الورع؟ نحن نعلمُ أن جميع المليونيرات من أصحاب التقوى والورع؛ يمكنُك أن تجد ذلك كلَّه في الصحف في اليوم التالي: كيف كانوا يعيشون في ضوء تعاليم إنجيل العائلةِ الذي قرءوه وهم صغارٌ جالسون على أرجل أمَّهاتهم. يا رجل! إن كانوا قد قرءوا فقط ولو نزرًا قليلًا مما في إنجيل العائلة، لصُعقت أمهاتهم، وكذلك المليونير على ما أظنُّ؛ فهذا الكتاب العتيق مليء بالكثير من المفاهيم القديمة العَنيفة التي لا يتربَّون عليها في هذه الأيام، من أمثال الحكمة المنتمية إلى العصر الحجري والمدفونة تحتَ الأهرامات. لنفترض أن شخصًا قد ألقَى الرجل العجوز ميرتون من أعلى برجِ منزله، وتركه لتأكلَه الكلابُ في الأسفل، فلن يكون الأمر أسوأَ مما حدث لإيزابل. ألم يُقطَّع أجاج إلى قطعٍ صغيرة لأنه مشَى فَرِحًا؟ مشى ميرتون فَرِحًا طوال حياته، اللعنة عليه، حتى أصبحَ ضعيفًا للغاية فلم يَعُد يَقدر على السير على الإطلاق، لكن سهم الرب قد أدرَكَه، كما كان يمكن أن يحدثَ في الإنجيل، وقضى عليه على قمَّة بُرجه ليكون عبرةً للناس.»
قال صاحبه: «كان سهمًا حقيقيًّا على الأرجح.»
ابتسم الرجل ذو النظارة الواقية ابتسامة عريضة قائلًا: «الأهرامات عمل حقيقي وماديٌّ جبار وتحوي في باطنها الملوكَ الموتى بأفضل حال. أعتقدُ أن هناك الكثير ليُقال عن هذه الديانات الماديَّة القديمة. هناك منحوتات قديمة عاشت لآلاف السنين تُظهر آلهتها وأباطرتها بأقواسٍ منحنية وأيادٍ تبدو كما لو أن بإمكانها أن تحني أقواسًا من الحِجارة. ربما تكون أمورًا حقيقية ومادية، ولكن من أي المواد هي؟ ألا تقف في بعض الأحيان تحدِّق في تلك الأنماط والأشياء الشرقية القديمة، حتى تشعر أن الإله الرب القديم لا يزال عاتيًا كما لو كان أبولو أسود يطلق أشعةَ الموت السوداء؟»
رد الأب براون: «إذا كان كذلك، فقد أطلق عليه اسمًا آخر، ولكن أشك في أن ميرتون قد ماتَ بشعاع أسود أو حتى بسهمٍ حجري.»
قال دريدج مستهزئًا: «أظن أنك تعتقد أنه القديس سيباستيان الذي قُتل بالسهم، أو تود القول إن المليونير مات شهيدًا. كيف تعرف أنه لم يستحقَّ ذلك؟ أنت لا تعرف الكثير عن هذا المليونير، على ما أعتقد. حسنًا، دعني أخبرك أنه يستحقُّ أكثر من ذلك مائة مرة.»
سأل الأب براون بلطف: «حسنًا، لمَ لمْ تقتله بنفسك؟»
قال الآخر محدِّقًا: «أتريد أن تعلم لمَ لمْ أفعل؟ عجبًا، إنك لقسٌّ لطيف.»
قال الآخر كما لو كان يرفض المجاملة: «بتاتًا.»
زمجر دريدج قائلًا: «أظن أنها طريقتك لتقول إنني قد فعلتُها. حسنًا، أثبِت ذلك، هذا كل ما في الأمر. أما هو، فأعتقدُ أن موتَه لم يكن خسارة.»
قال الأب براون بحدة: «بل كان كذلك. كان خسارةً لك؛ ولهذا لم تقتله.»
وخرج من الغرفة تاركًا الرجل الذي يرتدي النظارة الواقية فاغرًا فاه.
بعد ما يقرب من شهر، عاد الأب براون للمنزل الذي أدرك فيه المليونير الثالث انتقامَ دانيال دوم. وعقد الأشخاص الأكثر اهتمامًا بالأمر مجلسًا من نوعٍ ما. جلس العجوز كريك على رأس الطاولة مع ابن أخيه على يمينه، وجلس المحامي على يَساره؛ أما الرجل الضخم ذو الملامح الإفريقية، الذي اتَّضح أن اسمه هاريس، فقد كان حاضرًا على مضَضٍ فقط بصفته شاهدًا أساسيًّا؛ وكان هناك شخصٌ ذو شعر أحمر وأنف حادٍّ يدعونه ديكسون اتَّضح أنه ممثل لوكالة بينكرتون أو وكالة خاصة من هذا القبيل؛ وكان الأب براون جالسًا على مقعد فارغٍ بجانبه، ومتواريًا عن الأنظار.
انتشرت في كل صحف العالم أخبارُ كارثة عملاق الأموال، المدبِّر الكبير للأعمال التجارية الكبرى التي تُهيمن على العالم الحديث، ولكن من المجموعة الصغيرة التي كانت الأقرب إليه في لحظةِ وفاته لا يمكن معرفة الكثير. أعلن العم وابن أخيه والمحامي الحاضر للمجلس أنهم كانوا جميعًا خارج الجدار الخارجيِّ قبل أن تحدث الفاجعة، وجاءت إجابات الحراس الرسميين الواقفين على كلتا جهتَي الجدار على الاستجوابات مشوَّشةً إلى حد ما ولكنها كانت تؤكد الكلام السابق. بدا تعقيد واحد فقط يدعو للنظر؛ إذ بدا أنه في وقت الوفاة تقريبًا، قبلها أو بعدها، كان شخصٌ غريب يحوم بشكلٍ غامض حول المدخل، ويطلب رؤية السيد ميرتون. واجه الخدم بعضَ الصعوبة في فهم مقصوده؛ لأن كلامه كان غامضًا للغاية، ولكن بعد ذلك اعتُبر الأمر مثيرًا للشكوك إلى حدٍّ كبير؛ إذ قال شيئًا عن رجلٍ خبيث تدمِّره كلمة آتية من السماء.
انحنى بيتر وين للأمام بعينَين لامعتَين ووجهٍ بدت عليه الشراسة، وقال:
«أراهن على ذلك بأي شيء. إنه نورمان دريدج.»
سأل عمه: «ومن يكون نورمان دريدج هذا؟»
رد الشاب: «ذلك ما أردتُ معرفتَه. وقد سألته بالفعل، ولكنه كانت لديه قدرة خداعٍ رهيبة على جعل أي سؤال مباشر ملتويًا؛ ليصبح الأمر أشبه بالقفز مُباغتةً في المبارزات. سحَرني ببعض التلميحات عن سفينةٍ طائرة في المستقبل، ولكني لم أكن أثق فيه قط.»
سأل كريك: «ولكن أي نوعٍ من الرجال هو؟»
قال الأب براون بسرعة وبساطة: «إنه عالمٌ روحاني. هناك الكثير منهم في كل مكانٍ حولنا؛ إنهم هؤلاء الرجال الذين تقابلهم في مقاهي باريس ونواديها الليلية، ويلمِّحون لك بأنهم قد تكشَّف لهم العديد من الأسرار الغامضة أو أنهم يعرفون سرَّ أغرب الآثار في التاريخ. ومن المؤكد في مثل هذه الحالات أن يكون لديهم بعض التفسيرات الغامضة.»
كان رأس المحامي بارنارد بليك ذو الشَّعر الناعم الداكن يميل بأدَب نحو المتحدث، لكن ابتسامته كانت تتَّسم بالعداء بعض الشيء.
قال: «لا أعتقد يا سيدي أن لديك أيَّ عداء مع التفسيرات الروحانية.»
رد الأب براون طارفًا بعينيه بلطف قائلًا: «على العكس، فلذلك السبب بالتحديد يمكن ألَّا أتفق مع تلك التفسيرات. بإمكان أي محامٍ زائف أن يخدعني، لكنه لا يستطيع أن يخدعَك؛ لأنك محامٍ مثله. يمكن لأي أحمق أن يرتدي زي الهنود الحمر، وقد أصدق بسذاجة أنه الوحيد المتبقِّي من سكان هياواثا الأصليين؛ لكن السيد كريك سيكشف أمره على الفور. ويمكن لمحتالٍ أن يدعيَ لي أنه يعرف كل شيءٍ عن الطائرات، ولكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك مع الكابتن وين. والأمر نفسه ينطبق مع ذلك الرجُل، هل أصبح الأمر واضحًا؟ ولأنني اكتسبت بعض المعرفة بأسرار العالم الروحاني فأنا لا أُطيق رجاله؛ فالعالمون الحقيقيون بالأسرار لا يخفونها، بل يكشفونها. ويعرضون الأمور في وضَح النهار، وعندما تراها لا تزال سرًّا بالنسبة لك. أما مدَّعو العلم بالروحانيات، فيدسُّون الأشياء في الظلام ويتكتَّمون عليها؛ وعندما تصل إليها، لا تجد سوى أشياء تافهة، ولكن في حالة دريدج، أعترف أنه كان لديه أيضًا فكرة أخرى وأكثر عملية في حديثه عن نار أو سهم من السماء.»
سأل وين: «وما كانت فكرته؟ أعتقد أنها تستحقُّ التأمل أيًّا كانت.»
رد القس ببطء: «حسنًا، أرادنا أن نعتقد أنَّ جرائم القتل كانت معجزات لأن … حسنًا، لأنه يعلم أنها لم تكن كذلك.»
قال وين بصوت هامس: «آه، كنت أنتظر ذلك. بوضوح، إنه المجرم.»
رد الأب براون بهدوء: «بوضوح، إنه المجرم الذي لم يرتكب الجريمة.»
سأل بليك بلطف: «هل هذا مفهومك للوُضوح؟»
قال الأب براون بارتباكٍ بعض الشيء، ولكن بابتسامة عريضة: «ستقول إنني عالم الروحانيات الآن، ولكن الأمر كان حقًّا مصادفة بحتة. دريدج لم يرتكب الجريمة، أعني هذه الجريمة؛ فجريمتُه الوحيدة كانت ابتزاز أحد الأشخاص، وقد كان يتسكَّع هنا لارتكابها؛ ولكن من غير المحتمل أنه كان يرغبُ في كشف السر للعامة أو أن ينتهي الأمر كلُّه بسرعة عن طريق الموت. يمكننا التحدث عنه فيما بعد. أما في الوقت الحالي، فلا أريد سوى أن يبتعد عن الطَّريق.»
سأل الآخر: «عن أي طريق يبتعد؟»
رد القس وهو ينظر إليه بهدوء وبجفنين ساكنين: «يبتعد عن طريق الحقيقة.»
قال الآخر متلعثمًا: «هل تعني أنك تعلم الحقيقة؟»
قال الأب براون بتواضع: «أظنُّ ذلك.»
ساد صمت مفاجئ، صاح كريك بعده فجأة، وبصوت خشن في غيرِ محله:
«عجبًا! أين ذلك السكرتير؟ ويلتون! كان ينبغي أن يكون هُنا.»
قال الأب براون برزانة: «أنا على اتصال بالسيد ويلتون، وفي الحقيقة، لقد طلبتُ منه أن يتصل بي بعد بضع دقائق من الآن. يمكنني القول إننا اكتشفنا الأمر معًا، إن جاز القول.»
قال كريك متذمِّرًا: «إذا كنتما قد بحثتما الأمر معًا، فأظن أنَّ كل شيء على ما يرام. أعلم أنه كان دائمًا أشبه بالكلاب البوليسية في تَقفِّيه لأثر المحتالين المختفين؛ لذلك ربما كان من الجيد أن تبحث معه عن المجرم، ولكن إذا كنت تعرفُ حقيقة هذا الأمر، فمن أين عرفتَها بحق الجحيم؟»
أجاب القس بهدوء: «عرفتها منك.» واستمرَّ في التحديق قليلًا في ذلك المحارب القديم الغاضب. وأضاف قائلًا: «أعني أنني قمت بتخميني الأول من تلميحٍ في قصة لك عن هنديٍّ ألقى بسكين وأصاب رجلًا على قمة حصن.»
قال وين بنوع من الحيرة: «لقد قلت ذلك عدة مرات، لكن لا يمكنني أن أرى أيَّ استنتاج باستثناء أن هذا القاتل قد ألقى سهمًا وأصاب رجلًا على قمة منزل يشبه الحصن. ولكن بالطبع لم يُرمَ السهم بل أُطلق، وكان ليصل إلى أبعد من ذلك بكثير. من المؤكد أنه ذهب بعيدًا على غير المألوف، ولكني لا أفهم كيف يوصلنا هذا إلى أبعد من ذلك.»
قال الأب براون: «مع الأسف، لقد أغفلت المغزى من القصة. لا يعني أنه إذا كان ثمة شيء يمكنه أن يصلَ بعيدًا أن شيئًا آخر يمكنه أن يصلَ إلى أبعد منه، بل إن الأداة الواحدة يمكن أن يكون لها أكثر من استخدام؛ اعتبر الرجال في حصن كريك أن السكين أداةٌ للقتال اليدوي ونسوا أنه يمكن أن يُستخدم للقذف كالرِّماح. واعتبره آخرون، أعرفهم، شيئًا يُستخدم للقذف كالرماح ونسوا، مع ذلك، أنه يمكن استخدامه للطَّعن كالحربة في القتال اليدوي. باختصار، المعنى الأساسي للقصة هو أنه بما أنه يمكن تحويلُ خنجر إلى سهم، فإنه يمكن أيضًا تحويل سَهم إلى خنجر.»
كانوا جميعًا ينظرون إليه في ذلك الحين؛ لكنه تابع حديثَه بالنبرة نفسها دونما تكلُّف أو حسبان قائلًا: «بطبيعة الحال، تساءلنا وقلقنا كثيرًا حول مَن أطلق هذا السهم عبر النافذة، وعما إذا كان قد جاءَ من مكان بعيد جدًّا، وما إلى ذلك من الأمور، ولكن الحقيقة هي أنه لم يطلق أحد السهم على الإطلاق، ولم يأتِ السهم عبر النافذة بأيِّ حال من الأحوال.»
سأل المحامي الأسمر اللون وهو مطأطأ الرأس لأسفل قليلًا: «فكيف وصل إلى هنا إذَن؟»
قال الأب براون: «أظن أن أحدَ الأشخاص أحضره معه؛ فهو لا يصعب حمله أو إخفاؤه. وقد كان في يد أحد الأشخاص، بينما كان واقفًا مع ميرتون في غرفته، والذي دفعه في حَلقه كالخنجر، ثم جاءت له الفكرة الشديدة الذكاء المتمثلة في وضع كلِّ شيء في موضع وزاوية يجعلاننا جميعًا بالنظر سريعًا نفترض أن السهمَ قد دخل عبر النافذة كأحدِ الطيور.»
قال العجوز كريك بصوت ثقيل كالحجارة: «أحد الأشخاص!»
رنَّ جرس الهاتف محدثًا صخبًا مُلحًّا بنغمته العالية والمفزعة. كان في الغرفة المجاورة، وقد اندفع الأب براون إليها قبل أن يتمكَّن أي شخص آخر من الحركة.
صاح بيتر وين، الذي بدا مهتزًّا ومشتتًا للغاية، قائلًا: «ما كل هذه الجلبة بحق الجحيم؟»
رد عمه بالصوت الخافت نفسه: «قال إنه يتوقع اتصالًا من ويلتون السكرتير.»
علَّق المحامي كشخص يتحدَّث ليكسر الصمت ويملأ الفراغ: «أظن أنه ويلتون، أليس كذلك؟» لكن لم يُجِب أحد عن السؤال، حتى عاد الأب براون إلى الظهور فجأة وفي صمتٍ في الغرفة، ومعه الإجابة.
قال بعدما عاود الجلوس على مقعدِه: «أيها السادة، إنكم أنتم من طلبتم مني البحثَ عن حقيقة هذا اللغز، وقد وجدت الحقيقة، وعليَّ أن أخبركم بها، دون أي تظاهر بالتمهيد للصدمة. مع الأسف، أي شخص يتورط في مثل هذه الأعمال لا يمكن أن ينالَ احترام الآخرين.»
قال كريك كاسرًا الصمت الذي تبِعَ ذلك: «أعتقد أن هذا يعني أن شخصًا منا متَّهم، أو مشكوك في أمره، أليس كذلك؟»
أجاب الأب براون: «جميعنا موضعُ شك. قد أكون أنا نفسي موضع شكٍّ؛ لأنني وجدت الجثة.»
قال وين بحدة: «بالطبع نحن مشتبَهٌ بنا. وقد بيَّن الأب براون لي مشكورًا كيف لطيار مثلي أن يحاصِر البرج من طائرته.»
رد القس مبتسمًا: «لا، أنت مَن وصفت لي كيف يمكنك فعل ذلك. وقد كان ذلك الجزءَ المثير للاهتمام في الأمر.»
قال كريك بنبرة تذمر: «يبدو أنه يعتقد في احتمال أن أكون قد قتلته بنفسي بسهمٍ من أسهم الهنود الحمر.»
قال الأب براون بوجه ساخر: «بل أعتقد أنه من غير المرجح. آسف إن أسأت القول، ولكني لم يسَعْني أن أجد طريقة أخرى لفحص الأمر؛ فلا يمكنني التفكير في أي شيء مستبعدٍ أكثر من فكرة أن الكابتن وين قد طار بطائرة ضخمةٍ فوق النافذة في الوقت نفسه الذي حدَثَت فيه جريمة القتل، ولم يلاحظه أحد إلا ربما أن يكون ثمة رجلٌ عجوز قد لعب دورَ هندي أحمر، وأمسك بسهم وقوس خلف الشجيرات كي يقتل شخصًا كان بإمكانه أن يقتله بعشرين طريقةً أخرى أسهل، ولكن كان عليَّ معرفة ما إذا كان لديهما أي علاقة بالأمر؛ ولذلك كان عليَّ اتهامهما كي أتمكن من إثبات براءَتهما.»
سأل بليك المحامي منحنيًا للأمام في اهتمام شديد: «وكيف أمكنك إثبات براءتهما؟»
رد الآخر: «فقط من خلال الغضَب الذي ظهر عليهما عندما وُجِّه إليهما الاتهام.»
«ما الذي تعنيه بالتحديد؟»
علَّق الأب براون بهدوء تامٍّ قائلًا: «إذا سمحت لي أن أقول ذلك، فقد اعتقدت بلا شك أنه من واجبي أن أشتبهَ فيهما وفي الجميع. لقد شككت في السيد كريك وفي الكابتن وين، بمعنى أنني نظرتُ في إمكانية أو احتمالية أن يكونا مذنبين. وأخبرتهما أنني قد توصَّلت إلى استنتاجات حول الأمر، وسأقول لهما الآن ما هي تلك الاستنتاجات. أنا واثق من براءتهما؛ بسبب الطريقة واللحظة التي انتقَلا فيها من اللاوعي بالأمر إلى السُّخط منه. وما داما لم يفكِّرا قط في احتمال كونهما متَّهمَين، فقد استمرا في إعطائي الأدلة لدعم اتهامي؛ فقد شرحا لي عمليًّا كيف كان بإمكانهما ارتكاب الجريمة، ثم أدركا فجأة في صدمةٍ وصيحة غضب أنهما كانا متهمَين؛ وقد أدركا ذلك بعد وقت طويل من توقعهما لذلك الاتِّهام، ولكن قبل وقت طويل من اتهامي لهما. لا يمكن لأي شخص مذنب أن يفعلَ ذلك؛ فقد يكون سريع الغضب ومرتابًا من البداية، أو قد يتظاهر بعدم الوعي أو البراءة حتى النهاية، لكنه لن يشرع في جعل الأمور تعمل ضدَّه، ثم يتحول تحوُّلًا سريعًا غاضبًا منكرًا لفكرةٍ ساعد بنفسه في انبثاقها في الأذهان؛ فلا يتأتَّى هذا إلا من فشله الحقيقي في إدراكه لما كان يُوحي لمن أمامه به. إن الوعي الذاتي للقاتل سيكون دائمًا على الأقل مريضًا بما يكفي لمنعِه من نسيان علاقته بالأمر أولًا ثم من تَذكُّر إنكاره؛ لذلك استبعدتكما كما استبعدت آخرين لأسباب أخرى لست بحاجة إلى مناقشتها الآن. على سبيل المثال، كان هناك السكرتير …
ولكني لن أتحدث عن ذلك الآن. انتبهوا، لقد تحدَّثت للتو مع ويلتون عبر الهاتف، وقد أعطاني الإذن كي أنقل لكم بعض الأخبار الشديدة الخطورة. وأعتقد أن جميعكم يعرفُ الآن ويلتون وما كان يسعَى له.»
رد بيتر وين: «أعلم أنه كان يسعى وراء دانيال دوم ولم يكن ليسعد حتى يجدَه، ولقد سمعت القصة التي تقول إنه ابن العجوز هوردير؛ ولذلك فهو لديه رغبة في الانتقام. على أي حال، لا بد أنه يبحثُ عن الرجل الذي يُدعى دوم.»
قال الأب براون: «حسنًا، لقد وجده.»
هبَّ بيتر وين واقفًا في دهشة.
وصاح: «القاتل! هل القاتل متحفَّظٌ عليه بالفعل؟»
قال الأب براون آسفًا: «لا؛ قلت إن الأخبار خطيرة، وهي أكثر خطورة من ذلك. يؤسفني أن يكون ويلتون المسكين قد تحمل مسئولية شاقة، ويؤسفني أنه سيُحملنا مسئولية شاقة كذلك؛ فقد وجد المجرم، وعندما ضيق الخناق عليه أخيرًا، حسنًا، أخذ بثأره منه بمعرفته.»
قال المحامي: «أنت تقصد أن دانيال دوم …»
قال القس: «أعني أن دانيال دوم قد مات. شبَّ صراع وحشي نوعًا ما بينهما، وقتله ويلتون.»
قال السيد هيكوري كريك بصوت هادر: «نال ما استحقَّه.»
وافقه وين قائلًا: «لا يمكننا لوم ويلتون على قتله لمحتالٍ كهذا، خاصةً مع وجود عداء بينهما؛ كان الأمر يشبه دهسَ أفعى.»
قال الأب براون: «لست معكما في ذلك؛ إذ أعتقد أننا جميعًا نتحدث برومانسية وعشوائية دفاعًا عن إعدام شخص دون محاكمة وعن مخالفة القانون؛ ولكني أرى أننا إذا فقَدْنا قوانيننا وحقوقنا فإننا سنندم على ذلك. إلى جانب هذا، يبدو لي من غيرِ المنطقي أن نقول إن ثمةَ شيئًا يُقال عن ارتكاب ويلتون لجريمة القتل، حتى دون تحقُّق مما إذا كان هناك أي شيء يمكن أن يقال عن ارتكاب دوم للجريمة. وأنا أشك في الواقع فيما إذا كان دوم مجرد قاتل عاديٍّ؛ فربما يكون نوعًا من الخارجين عن القانون لديه هوس بالكأس، يحاول أخذه بالتهديد ولا يقتل إلا بعد عِراك؛ فقد قُتلت الضحيتان على عتبتَي منزليهما. اعتراضي على ما فعله ويلتون هو أننا لن نستطيعَ أن نستمع أبدًا لجانب دوم في القضية.»
صاح وين بحماس: «أوه، أنا لا أتحمَّل هذه المحاولة العاطفية لالتماس الأعذار للأوغاد القَتلى الوضعاء. إذا كان ويلتون قد قتل المجرم، فقد قام بعمل رائع، وانتهى الأمر.»
قال عمه وهو يومئ برأسه بقوة: «هذا صحيح، هذا صحيح.»
ولكن وجه الأب براون كان قد ظهرت عليه جدية أكبر وهو ينظر ببطء لنصف الدائرة التي تُكوِّنُها وجوههم. وسأل: «هل هذا حقًّا ما تعتقدونه جميعًا؟» حتى عندما قال ذلك كان يدرك أنه رجل إنجليزي بعيدًا عن وطنه، وكان يدرك أنه وسط أجانب، حتى وإن كان وسط أصدقائه. حول تلك الحلقة من الأجانب اشتعلتْ نارٌ لا تهدأ والتي لم تكن أصيلة لسلالته؛ تلك الروح العنيفة للأمة الغربية القادرة على التمرُّد والإعدام دون المحاكمة، وقبل كل شيء، الاتحاد. وقد علم أنهم قد اتحدوا بالفعل.
قال الأب براون بحسرة: «حسنًا، أرى أنكم قد غفَرْتم بلا أدنى شك لهذا الرجل التعيس جريمتَه، أو ما تصور هو أنه تطبيق للعدالة، أو أيًّا ما تسمونه. في هذه الحالة، لن يضره إذا أخبرتكم قليلًا عن الأمر.»
قام فجأة على قدميه، وعلى الرغم من أنهم لم يروا معنًى لحركته؛ فقد بدت بطريقة أو بأخرى مغيِّرة أو منعشة للأجواء في الغرفة.
قال: «قَتل ويلتون دوم بطريقة غريبةٍ بعض الشيء.»
سأل كريك بحدة: «كيف قتله ويلتون؟»
قال الأب براون: «بسهم.»
كان ضوء الشفق يتجمَّع في الغرفة الطويلة، ويتضاءل ضوء النهار إلى بريق من النافذة الكبيرة في الغرفة الداخلية حيث مات المليونير الكبير. وقد توجَّهتْ عيون الجمع ببطء تلقائيًّا نحوها، ولكن لم يكن ثمة صوت حتى ذلك الحين. ثم جاء صوت كريك أجشَّ وعاليًا وعجوزًا يهذي كديك يصيح:
«ماذا تعني؟ ماذا تعني؟ قُتل براندر ميرتون بسهم. هذا المحتال قُتل بسَهم …»
قال القس: «بالسهم نفسِه، وفي اللحظة نفسها.»
مرة أخرى، ساد نوع من الصمت الخانق، بل الحانق والطافِح أيضًا، ثم قال الشاب وين: «هل تعني …»
قال الأب براون بنبرة ثقة: «أعني أن صديقَك ميرتون كان هو دانيال دوم، وهو دانيال دوم الوحيد الذي قد تجدُه يومًا. كان صديقك ميرتون دائم الهوس بتلك الكأس القبطية التي اعتاد على تقديسها كصنمٍ كل يوم؛ وفي شبابه الجامح قتل بالفعل رجُلَين للحصول عليها، غير أنني لا أزال أعتقد أن حالتي الوفاة وقعتا على نحوٍ ما نتيجةً لحادثتي سرقة. على أي حال، لقد حصل عليها؛ وهذا الرجل دريدج عرف القصة وكان يبتزُّه، ولكن ويلتون كان يلاحقه لغرض آخر تمامًا؛ أتخيَّل أنه لم يعرف الحقيقة إلا عندما دخل إلى منزله. ولكن على أي حال، في منزله وفي تلك الغرفة انتهتْ هذه الملاحقة، وقتل قاتل والده.»
مرَّ وقت طويل دون أن يردَّ أحد، ثم كان بالإمكان سماع العجوز كريك وهو يطرق بأصابعه على الطاولة ثم تَمتَم قائلًا:
«لا بد أن براندر كان مجنونًا. لا بد أنه كان مجنونًا.»
انفجر بيتر وين في الحديث قائلًا: «ولكن، يا إلهي، ماذا علينا أن نفعل؟ ماذا علينا أن نقول؟ أوه، كلُّ شيء مختلف تمامًا! ماذا عن الأموال ورجال الأعمال الكبار؟ براندر ميرتون كان كالرئيس أو بابا روما.»
قال بارنارد بليك، المحامي، بصوتٍ خفيض: «أعتقد بالتأكيد أن الأمور قد اختلفت تمامًا. ويشمل ذلك الاختلاف مجموعة …»
ضرب الأب براون الطاولة حتى طقطقت الكئُوس التي كانت عليها؛ وكادوا يتخيلون دويًّا كدوي الأشباح آتيًا من الكأس الغامضة التي كانت لا تزال في الغرفة وراءهم.
صاح بصوت كصوت طلق ناري: «لا! لا يجب أن يكون هناك فرق. أعطيتكم الفرصةَ للتعاطف مع الشيطان المسكين عندما كنتم تظنون أنه مجرم عادي، لكنكم ما كنتم لتستمعوا حينها؛ إذ كان كل ما يعنيكم جميعًا الثأر الشخصي. كنتم جميعًا مع تركه يُذبح كحيوانٍ مفترس دون جلسة استماع أو محاكمة علنِيَّة، وقلتم إنه نال ما استحقه. حسنًا جدًّا إذَن، إذا كان دانيال دوم قد نال ما استحقَّه، فإن براندر ميرتون قد نال ما استحقَّه. وإذا كان ذلك قدْر دوم، فبكل ما هو مقدَّس هذا أيضًا قدْر ميرتون. فلتختاروا عدالتكم الهمجية أو شرعيَّتنا الكليلة؛ ولكن باسم الرب القدير، فلتكن فوضى للجميع أو قانونًا للجميع.»
لم يردَّ أحد سوى المحامي، الذي أجاب بشيء من الزمْجَرة: «ماذا ستقول الشرطة إذا أبلغناهم بأننا نريد التغاضي عن جَريمة؟»
رد الأب براون: «ماذا سيقولون إذا أخبرتُهم بأنك تغاضيتَ عنها بالفعل؟ يأتي احترامك للقانون في مرتبة متأخِّرة نوعًا ما لديك، أيها السيد بارنارد بليك.»
بعد توقف استأنف بلهجةٍ أكثر تسامحًا: «أنا شخصيًّا على استعداد لقول الحقيقة إذا سألتْني السلطات المختصة؛ ويمكنكم جميعًا أن تفعلوا ما تشاءون، ولكن في الواقع لن يُحدث ذلك فرقًا كبيرًا؛ فقد اتصل بي ويلتون فقط ليخبرني أنني حر الآن في إخباركم باعترافه؛ لأنكم عندما تسمعُونه، سيكون قد أفلتَ من الملاحقة.»
دلف ببطء إلى الغرفة الداخلية ووقفَ هناك عند الطَّاولة الصغيرة التي مات المليونير بجانبِها. وكانت الكأس القبطية لا تزال في مَكانها، وبقي لبعضِ الوقت يحدق في مجموعة ألوان قوس قزح البادية جميعًا عليها، ويحدق فيما وراءَها في الزُّرقة اللامتناهية للسَّماء.