مقدمة المترجم
هذا الكتاب سباحة ضد التيار، أو مغامرة علمية/فكرية في الاتجاه المعاكس لغالبية الآراء السائدة (مثل نعوم شومسكي وستيفن بينكر) التي تحاول تفسير مسألة اللغة التي ينفرد بها البشَر دون الكائنات الأخرى، سواء القِرَدة العُليا أو الثدييات وما دونها. البداية سؤال طرَحَه طفل في السابعة من العمر: لماذا لا تتكلَّم الحيوانات؟ وهو سؤال حارت معه البشرية تحاول — وما تزال — الاهتداء إلى إجابة وتفسيرٍ علمي على الرغم من تلك الخُرافات والحواديت التي تربَّى عليها أطفال البشر عن حكايات يدور فيها الكلام بين بشَر وحيوانات على نقيض ما يجري في الواقع، ويَمضي السؤال ليقول على لسان المؤلف هذه المرة: إذا كانت الحيوانات ليست لديها أمخاخ كبيرة، فلِماذا لا تتكلَّم لغة بسيطة مناسبة لحجم مُخها؟
هذا هو بداية خيط البحث ظاهريًّا، وإن كانت دراسات المؤلف عميقة ومُمتدة، في محاولةٍ لفهم وصوغ نظرية طموحة تدعمها دراسات وتجارب وتحديات عميقة واسعة النطاق للكشف عن أصول نشأة اللغة والوعي وتطوُّرهما عند البشر.
يوضح ديكون أن أمخاخ البشر ليست مجرد أمخاخٍ ضخمة لقردة عُليا، وإنما هي أمخاخ قردة عُليا مُضافٌ إليها تغيُّرات مهمة في النِّسَب والعلاقات بين مكونات المخ، ويُحدد أن الانحرافات البنيوية الجذرية التي حدثت في مُقدَّم المخ البشري أدَّت إلى نشوء قشرة مخ عند مُقدَّم الجبهة «قشرة قبجبهية»، ومن ثم حدث تحول في شبكة الاتصال آثرت الوصلات القبجبهية في المنظومات الأخرى، ويُعتبر تطور القدرات الصوتية نتيجةً أكثر منه سببًا لنشأة اللغة وتطورها، بمعنى أن التغيُّرات الحادثة في تنظيم المخ [من حيث التراكب التدريجي للسيطرة الحركية لقشرة المخ على المنظومات الحركية الحشوية لإخراج الصوت]، هي التي هيأت للبشر الدعم اللازم لتجاوز عتبة أو عقبة التعلُّم الرمزي التي تُمايز بين البشر والقِرَدة العُليا.
لماذا تستطيع الطيور التغريد؟ لماذا نستطيع نحن البشر أن نتكلم؟ لماذا لا تغرد الثدييات مثل الطير؟
ويقدم هنا دراسة تحليلية تشريحية وبيئية مقارنة للإجابة على ذلك، ويوضح أن كلام البشر يعتمد على تكوينات قشرة المخ، وعلى الحركات السريعة الماهرة لعضلات الفم والصوت، وهذا غير موجود لدى الثدييات الأخرى؛ أي لا ينطبق على إخراج الأصوات عند الثدييات الأخرى. هذا في حين أن القدرات الصوتية المُتميزة للطيور هي نتيجة خاصية تشريحية مُميزة لها علاقة بالتكيُّف مع الطيران، ويدعم هذا بدراسة ورسوم تشريحية مقارنة لتفسير السهولة الصوتية عند البشر، ولعلَّ هذا هو ما دعا بعض الباحثين إلى الربط بين تطوُّر إخراج الأصوات المُتناغمة عند الطير وبين الغناء والقدرات الصوتية عند البشر. ويؤكد الغناء مدى قُدرتنا، بشكلٍ مُنظم، على التحكم في تنغيم الصوت.
ويقول ديكون: إن ما يفصل ويُمايز البشر عن سواهم من الكائنات هو القدرة على التمثيل الظاهري الرمزي؛ إذ الحيوانات يُمكنها بسهولةٍ تعلُّم الربط بين الصوت وشيءٍ ما أو نتيجةٍ ما، ولكن التفكير الرمزي يستلزم بدايةً توفُّر القدرة على الربط بين الأشياء التي نادرًا ما يكون هناك رابط مُشترك بينها، مثل كلمة وحيد القرن، أو فكرة المُستقبل. اللغة ما هي إلا تعبير ظاهري عن هذه القدرة الرمزية التي تضع الأساس لكل شيءٍ ابتداءً من الضحك عند البشر وحتى بحثنا الدءوب دون كللٍ عن المعنى.
ويفترض ديكون أن المخ البشري ولغة البشر تطوَّرا على نحوٍ مشترك على مدى ملايين السنين في سياق مجتمعٍ بشري من حيث العمل والفكر والتفاعل، ولهذا لا وجود لما يُمكن أن يُسمِّيه لغةً بسيطة لدى القِرَدة العُليا؛ أي لا وجود للغة الرمز، ويطرح هنا قضيةً مُهمة وهي أن القِرَدة العُليا غير البشرية لا نجد من بينها ما يستطيع تعلُّم أساسيات اللغة البشرية حتى عند مُعايشتها لبيئةٍ اجتماعية تسودها لغة بشرية.
ولكن لماذا القِرَدة العُليا غير البشرية لا تتعلَّم أساسيات اللغة سريعًا، ثم «يتوقف نموُّها» إزاء اللغة المُعقدة تمامًا مثل توقفها عند مرحلة نموٍّ محدودة يصل إليها أطفال البشر ويتجاوزها الطفل البشري ويشرع في تحصيل قاموس مفرداتٍ أكبر وأعقد؟ يرى ديكون أن أطفال البشر غير الشمبانزي لهم مليونا سنة وهم يستخدمون اللغة وتطوَّرَ المخ واللغة على مدى تلك الحقبة في استجابةٍ لضغوطٍ انتخابية ونشوء وتطور مناطق أكبر في المخ تُساعد على التفكير الرمزي، وحريٌّ ألا ننسى أن المخ البشري يكون أكثر نضجًا؛ إذ يقضي مخ البشر فترة أطول لاكتمال النُّضج بعد الولادة، بينما مخ الشمبانزي يكتمل نضجُه قبل الولادة، وهذا له أثره الكبير بالنسبة للغة.
ونلحظ أن المنطق السائد في كل ما يعرضه الكتاب من دراسات تشريحية وتحليلية هو منطق المنافسة/الصراع من أجل الوجود … وجود الأصلح، وهو مبدأ دارويني. يؤكد ديكون مبدأ المنافسة والصراع من أجل الوجود، وأن البقاء للأصلح/الأنفع/الأقدر على التكيُّف والملاءمة، وأن هذه عملية دينامية متطورة، ويتجلَّى هذا في عرضه لتطوُّر ونمو وظائف وبِنية تكوينات المخ، فضلًا عن التكامُل الوظيفي للبِنية في شمولها … وهو مبدأ يتَّسع ليصدُق على كل مجالات الحياة الاجتماعية البشرية.
- (١)
كيف أن علم الأعصاب توصَّل إلى نتائج مهمة للكشف عن نشوء لغة البشر، ذلك اللغز القديم قِدَم الفكر البشري، وسوف تَتبعه دراسات واكتشافات مُهمة.
- (٢)
يعرض الكتاب نظرية ديكون عن التطور المشترك للمخ/اللغة، التي تؤكد أهمية الإبداعات السلوكية التي تُغيِّر من البيئة البشرية وتُفضي إلى حالات تكيُّفٍ وراثية فيما بعد، ونراه هنا يدعم فكر جيمس بالدوين (عالم النفس الأمريكي جيمس مارك بالدوين صاحب الإسهام المُتميز في النظرية الداروينية)، وتفسر نظرية بالدوين كيف أن التعديلات السلوكية التي أثبتت جدواها يُمكن أن تُفضي إلى تغيُّرات راسخة تمتدُّ لأجيال المستقبل.
- (٣)
تمثل الدراسة وعدًا جديدًا بإمكانية صقل وتطوُّر فلسفة اللغة والارتقاء بها بفضل نتائج الدراسة العلمية للغة البشرية.
- (٤)
تؤكد الدراسة أهمية نظرية التطوُّر في صيغتها المتطورة كبوصلةٍ وإطارٍ فكري لتحديد منهج دراسة ظواهر الوجود والحياة، وحريٌّ أن تحظى هذه النظرية باهتمامٍ بالِغٍ في ساحة الفكر العربي بدلًا من إغفالها، بل تعمُّد رفضها، مما كان سببًا أساسيًّا لقصور الفكر العربي.