تصدير

ويزداد الإيمان رسوخًا، وإن أثبت التاريخ أنه ضرب من الهلاوس، الإيمان بأن جميع الأسئلة التي سألها العقل البشري هي أسئلة يمكن الإجابة عنها في ضوء بديلَين تتضمنُهما ذات الأسئلة، وواقع الأمر أن التقدُّم الفكري يحدُث عادةً بفضل التخلِّي الكامل عن الأسئلة وعن البديلَين الوارِدَين ضِمنها، ونتخلَّى عنها نتيجة تناقُص حيويتها، علاوة على التغيُّر الذي طرأ على الاهتمام المُلِحِّ بها، وهكذا نحن لا نحسمها وإنما نُذلِّلها.

جون ديوي

منذ عدة سنوات خلت، وبينما كنت أُلقي محاضرةً موجزةً عن تطور المخ سألني شخص ما سؤالًا لم أستطع الإجابة عنه، لم يكن سؤالًا معقدًّا، ولم يأت على لسان زميلٍ لي اكتشف نقطة ضعفٍ في نظريتي، ولا من طالبٍ جامعي سبق له أن قرأ عن تجربةٍ جديدة تتناقض مع معلوماتي، ولكن جاء السؤال على لسان طفلٍ في الصف الدراسي الأول الذي فيه ابني، وسبق لي أن قدمتُ أحاديث مدرسية عن كيف يكون المرء عالمًا، وظننتُ أنني أعرف ما لي أن أتوقَّعه، بيد أنني لم أتوقَّع أن يُلجِمني طفل لم يتجاوز الثامنة من العمر.

كنت في كلمتي أتحدَّث عن المخ لدى مُختلِف الكائنات الحية، وأشرح على أي نحوٍ يختلف المخ البشري، وكيف يتجلَّى هذا الفارق في النمط الفريد والمُعقد للاتصال؛ أي اللغة، ولكن يبدو أنني حين أوضحتُ أن البشر وحدَهم هم من يتواصلون بلغةٍ، كنت قد استثرتُ وترًا حساسًا.

إذ سألني طفل: «ولكن أليست للحيوانات الأخرى لغةٌ خاصة بها؟»

وجدت في السؤال فرصةً لأُبين بعض الجوانب التي تُميز اللغة وتُكسبها خصوصيتها: كيف أن الكلام أسرع وأدق كثيرًا من أي سلوكٍ اتصالي آخر، وكيف نتعلم القواعد الأساسية لبناء الجُمَل، وكيف أن أي شكلٍ آخر للاتصال عند الحيوانات ليست له بِنية منطقية وإمكانات مفتوحة مثلما هو الحال بالنسبة لجميع اللغات، بيد أن هذا لم يكن كافيًا ليُشبع عقلًا نشأ وتربَّى على قصص حيوانات والت ديزني.

واستطرد مُحدِّثي ليسألني:

«هل الحيوانات لدَيها فقط لغة بسيطة؟»

أجبتُ مُوضحًا: «لا، لا يبدو ذلك؛ إذ على الرغم من أن الحيوانات الأخرى تتواصل، بعضها مع بعض فيما بين أفراد النوع نفسه، فإن هذا الاتصال يُشبه اللغة فقط من حيث طريقة سطحية جدًّا — مثل استخدام الصوت — ولا نجد بينها كما أعلَم أي شيءٍ مُماثل لأمورٍ أخرى مثل الكلمات، ناهيك عن الأسماء والأفعال والجُمَل، وليست مجرد أشياء بسيطة.»

سألني طفل آخَر قائلًا: «ولمَ لا؟»

هنا ترددتُ، وكلما فكرتُ في الأمر أكثر، أدركت أكثر أنني لا أملك إجابة، وأستطيع أن أقول: إنه لا أحد من العلماء فكر حتى الآن جديًّا في السؤال على هذا الوجه، لماذا ننفي وجود لغاتٍ بسيطة تشتمِل على أسماء وأفعال وجُمَل بسيطة؟ إنه في الحقيقة أمر على نقيض الحِسِّ الفطري، ونحن نعرف أن الأساطير والخرافات وقصص الجان والصور المُتحركة وعروض أفلام ديزني تُصور جميعها ما قد يتراءى للحسِّ العام وكأنه واقع؛ إن الحيوانات الأخرى بعقولها البسيطة الأوَّلية تتواصل وتتدبَّر أمرها مُستخدمةً لغاتٍ أبسط من لُغتنا، لماذا لا يكون الأمر كذلك؟

وأنا لست على يقين لماذا لم ألحظ هذه المُفارقة من قبل؟ أو لماذا لم يلحظها علماء آخرون. إن الغالبية العُظمَى من الثدييات ليست غبية … والكثير منها قادر على تعلُّم قدْر ملحوظ، ولكنها مع هذا لا تتواصل فيما بينها عن طريق لغاتٍ بسيطة، ولا تكشف عن قُدرة على تعلُّمها — هذا إذا اتخذنا حيواناتنا الأليفة مؤشرًا على ذلك — ربما شغلنا أنفسنا كثيرًا بمحاولة تفسير أمخاخِنا الكبيرة، أو ربما رضِينا قانِعين بالاستخدام المجازي لمُصطلح لغة الحيوان، وحال هذا دون أن نلحظ هذه الحقيقة البسيطة المُناقضة، وربما تجنَّبنا عن غير وعيٍ المسألة بسبب العبء الفكري اللازم للتفكير الجادِّ في الأمر، والحقيقة أنني كلما تابعتُ المسألة بمزيدٍ من العُمق، بدا لي أنها أشبه بأسطورة صندوق باندورا الذي يؤدِّي فتحُه إلى انطلاق كل الشرور، ومن ثم تنطلِق كل الشكوك المُثيرة للقلق بشأن الكثير من المشكلات الأخرى التي ظنناها يومًا محسومة، وليس هذا هو السؤال المطروح الذي سألناه، ولكنه ربما كان هو، ويُذكِّرنا هذا برأي ديوي الذي أشار فيه إلى أن البدائل التي نطرحها في أسئلتنا العلمية قد لا تمسُّ حتى غالبية القضايا الملحَّة والأكثر حسمًا.

وينطلق كتابنا هذا من تلك المسألة المُثيرة للفضول؛ ذلك لأنها تجبُّ الكثير من الأسئلة التي ظننَّا أنها أكثر أهمية، ولأنها ترفض في عناد أن تعتبر نفسها أثرًا جانبيًّا ترتب على تفوُّق الذكاء البشري أو القدرة اللغوية الساذجة لصغار الأطفال، بيد أنني وعلى مدى جهودي للإجابة عن ذلك، وجدتُني مُضطرًّا إلى أن أعيد من جديدٍ طرح الكثير من الأسئلة التي ظننا أننا حسمناها منذ زمنٍ طويل، أو أننا على الأقل اخترناها في حدود بضع بدائل قليلة تبدو لنا الآن أقلَّ إفادة بالمعلومات عما كنَّا نظن في السابق.

وسوف أبحث في الفصول التالية أوجُهَ الاختلاف بين اللغة وأشكال الاتصال الأخرى، ولماذا تواجِه الأنواع الأخرى صعوباتٍ لا قبل لها بها عمليًّا عند محاولة تعليمها ولو لغة بسيطة جدًّا، وكيف تطورت بِنية المخ بحيث أمكنها التغلُّب على هذه الصعوبات، وما القوى والشروط التي توفرت بدايةً ووجَّهتنا على طول المسيرة التطورية غير المسبوقة، وأسفر ذلك عن تقييمٍ تفصيلي جديد لتطوُّر المخ البشري واللغة على نحوٍ يؤكد الاستمرار المُطَّرد للأمخاخ البشرية وغير البشرية، ويكشف هذا في الوقت نفسه عن انفصالٍ فريد واستثنائي بين العقل البشري والعقول غير البشرية، أو لنقُلْ — كي نكون أكثر تحديدًا: الانفصال بين الأمخاخ التي تستخدِم هذا الشكل من الاتصال وبين الأمخاخ التي لا تَستخدِمه. وجدير بالذِّكر أن النهج غير المسبوق الذي التزمتُه في معالجة هذه القضايا يتكشَّف في صورة حُجَّة تتَّضح مَعالمها خطوةً بخطوة بحيث أن كل فصلٍ من فصول الكتاب يَنبني على المسائل والتحليلات والبراهين التي توفَّرت في الفصول السابقة، وأصِلُ مع كل خطوةٍ من خطوات هذه الدراسة إلى تفسيراتٍ مختلفة عما يمكن أن نُسميه، على نحو فضفاض، النظريات المُعتمَدة في هذا المجال؛ ولهذا أرى أن نتناول هذا السرد على نحوٍ أقرب إلى أسلوب تناوُلِنا لرواية مُلغِزة؛ حيث يكون الترتيب والعرض حاسِمَين بالنسبة لحبكة الرواية؛ ذلك لأن قراءة المفاتيح والنتائج غير المتوقَّعة خارج سياقها ربما تستلزِم جهدًا يتَّصف بالدقة والحذَر لاكتشاف كيفية تطابُقها بعضها مع بعض؛ لتؤلِّف إطارًا واحدًا.

وقسمت العرض ثلاثة أبواب رئيسية. ويُركز الجزء الأول من الكتاب، وعنوانه اللغة، على طبيعة اللغة والسبب في أنها واقعيًّا قاصرة على النوع البشري. ويتناول الجزء الثاني من الكتاب موضوع المخ، ويُعالج مشكلة تحديد ما هو غير عادي بالنسبة لبِنية المخ البشري الذي يختصُّ بالمشكلات الفريدة التي تطرحها اللغة. ويدرس الجزء الثالث من الكتاب، وهو عن التطوُّر المشترك، الاتساعَ المُميز لنطاق منطق الانتخاب الطبيعي، الذي يُمثِّل الخلفية الأساسية لتطوُّر المخ البشري واللغة عند البشر، ويُحاول أيضًا تحديد نوع «مشكلة» الاتصال التي عجَّلت بتطوُّر نموذجنا غير المسبوق في الاتصال. وأختتم الكتاب ببعض التأمُّلات بشأن أهمية ودلالة هذه المُكتَشَفات الجديدة للوصول إلى فهمٍ واضح للوعي البشري.

وثمة هدف أساسي للكتاب ألا وهو ربط القارئ بعمليةٍ جديدة لدراسة الكثير من الافتراضات المُضمَرة والكامِنة وراء الآراء الذائعة راهنًا. وتوخِّيًا لتحقيق هذه الأهداف حاولت أن يكون عرضي ميسورًا لأوسع نطاقٍ من الجمهور العِلمي، كما آمُل أيضًا أن يكون ميسورًا لجمهور القراء المَعنيِّين بالمسائل العلمية. وحاولت، كلما كان مُمكنًا، أن أوضح القضايا التقنية بمُصطلحات غيرِ تقنية، وحاولت تصوير بعض النقاط المُغرقة أكثر من الناحية الفنية وتوضيحها من خلال رسومٍ توضيحية؛ على الرغم من أنني لم أتجنَّب استخدام الاصطلاحات التقنية الخاصة بكلٍّ من البيولوجيا والتشريح العصبي، حيثما كان ذلك لازمًا. وأحسب أن بعض القراء قد يجدون القسم الوسط من الكتاب، وهو عن المخ، جافًّا بعض الشيء، بيد أنني أعتقد أن بذْل الجهد مع هذا الفصل سيكون له عائدُه المُتمثل في بيان كيف يُفضي بنا إلى تقييمٍ جديد لأصول النشأة الأولى للبشر والوعي البشري، وهو التقييم الذي أعرضه في الفصل الختامي، وهو الفصل الأيسر فهمًا والأكثر خيالًا.

ويكاد كل مَن كتب عن نشأة اللغة أن يستشعر قدرًا من السخرية إزاء الأسباب التي جعلت «جمعية باريس للدراسات اللسانية» تُصدر قرارًا حاسمًا في عام ١٨٦٦م يحظر كلَّ أوراق البحث التي تتناول موضوع نشأة اللغة. واستهدف القرار إيقاف الفيض المُتنامي من أوراق البحث المُغرقة في التأمُّلات النظرية، التي أفضت إلى الحدِّ من قدرة الجمعية على الإسهام في الموضوع، فضلًا عمَّا تستنفِده من وقتٍ وموارد عالية القيمة. وطبيعي أن مبحثًا علميًّا ناشئًا مشغوفًا بأن يصوغ نفسَه وفقَ نموذج العلوم الطبيعية الأخرى؛ لا يسعه رعاية بحوثٍ عن موضوعٍ ليس له أي دعم تجريبي، بيد أن ظِل الريبة الذي يُحوِّم حول نظريات نشأة اللغة ليس سببه فقط هذه السمعة التاريخية التي علقت به، وجدير بالإشارة أن المُخططات المفترَضة عن نشأة اللغة ليست مؤسَّسةً على قاعدة تجريبية أفضل من سابقاتها المحظورة التي ما تزال تملأ الأدبيَّات العلمية الرائجة، وتُمثل لنا موضوعًا مُزمنًا لخليطٍ من المناقشات في المحافل. وإنَّ ما هو أسوأ، هو تلك الافتراضات عن طبيعة اللغة والفوارق القائمة بين العقول غير البشرية والبشرية الموجودة ضمنًا في كل نظريةٍ فلسفية وعلمية مَعنية بقضية الإدراك المعرفي أو المعرفة أو السلوك الاجتماعي البشري، وهذه في الحقيقة مشكلة متعلقة بالمنهج مُتعدِّد المباحث العلمية؛ نظرًا لأنها تشتمل على قضايا تقنية واسعة النطاق، يتعيَّن تفهُّمها واستيعابها كاملًا، وهو أمر يتجاوز قدرات أكثر الباحثين تعمقًا وثقافةً؛ لذلك كم هو عسير المُبالغة في تقييم ضخامة المُهمة أو مخاطر التحليل السطحي! وليس مرجحًا أن يتسنَّى لأي دراسة أن تأمُل وحدَها في تحصيل ما يُقرِّبها من الوصول إلى المعالجة الشاملة للمشكلة.

وأعتبر هذا تحذيرًا جادًّا لطموحاتي الخاصة، ولهذا يتعين عليَّ أن أُصرح بادئ ذي بدءٍ بأن مدى العُمق الذي تشمله الدراسة ودرجة الخبرة التي تكشف عنها في الموضوعات التي عالجتُها في هذا الكتاب؛ إنما تعكس بوضوحٍ انحيازاتي الفكرية الخاصة؛ اعتمادًا، في الأساس، على ممارساتي في مجال علم الأعصاب والأنثروبولوجيا التطورية، بالإضافة إلى ثقافتي بصفتي هاويًا في بعض المجالات الأخرى. وتأسيسًا على ذلك، يُركز الكتاب على الدلالة المُختلفة لهذا الفارق الوحيد البشري واللابشري في القدرات الذهنية — خاصة الدلالات العصبية — ويُغفل جوانب أخرى كثيرة للعلاقة بين المخ واللغة. ولم أحاول بأي أسلوبٍ منهجي مُنظم أن أراجع أو أقارن التفسيرات البديلة، وما أكثرها، التي تعرِض للظواهر موضوع دراستي هنا، وإنما قنعتُ بمناقشة عددٍ معين من النظريات البديلة في حدود دورها كأفكارٍ مقابِلة، وذلك بهدف المزيد من توضيح نهجي في الدراسة. وطبيعي أن عمل مراجعة نقدية شاملة لكل التفسيرات المنافسة سوف يستلزِم كتابًا آخر يُقارب هذا الكتاب على أقل تقدير. وإني أعتذر إلى الكثيرين من زملائي الذين سبق لهم أيضًا أن بذلوا جُهدهم لدراسة هذه القضايا، وذلك لأنني أعرِض دراستي وكأنها، إلى حدٍّ كبير، اكتشاف شخصي لا يُوفِّي النظريات الأخرى حقَّها في التقدير والإنصاف. وطبيعيٌّ أن إسهاماتي ما كان لها أن ترى النور إلا بفضل جهود العشرات من الباحثين الذين لم ترِد أسماؤهم، وكانت دراساتهم مصدرَ معلوماتٍ لي وأَثْرَتْ دراستي؛ ومن ثم فإنني أضفتُ فقط إلى إسهاماتهم بضعةَ اكتشافاتٍ محدودة، وحاولت — وفاءً برغبات المُهتمين — أن أُضيف في نهاية الهوامش مرجعًا لكل الدراسات الأخرى التي تناولَتْ هذه الألغاز نفسها.

وقد يبدو خلال الصفحات التالية وكأنني عالِم مُتمرد بطبيعتي، وأرى لزامًا أن أعترف بأن التمرُّد والهرطقة يَستهويانني، وأنني بحُكم طبيعتي أنزِع بعواطفي إلى أن أكون في صفِّ المهووسين والشكَّاكين وضد المذاهب الراسخة في جمود، ولكن ليس سبب ذلك أنني أجِد متعةً في السجال، وإنما السبب على الأصح كما قال ديوي أنني أعتقِد أن البحث عن المعرفة تعوقه، كثيرًا جدًّا، افتراضاتٌ خاطئة ورؤية إبداعية محدودة بحثًا عن بدائل مثلما هو الحال عند الافتقار إلى الأدوات الضرورية أو إلى دليل حاسم؛ ولهذا أكون قد حققتُ مقصدي إذا ما تركت — خلال عملية السرد لأفكاري بشأن هذا اللغز — قليلًا من الفروض التي هي مَوضع تسليمٍ وقد أصبحَتْ أكثر إثارةً للتساؤلات والشكوك، وأن يؤدي هذا إلى أن تُصبح بعض البدائل المُنافية للبداهة أكثرَ قبولًا واستساغةً، وأن أقدم زاوية جديدة هي الأفضل بامتيازٍ لكي نتناول على هَدْيها التفرُّد البشري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥