المفارقة البشرية
المفارقة هي مصدر ولَع المفكر، ومُفكر بدون مفارقة أشبَهُ بعاشق عاطل من الشعور: صيغة مبتذلة.
شذوذ في المسار التطوري
يُفيد تصميم نوعنا — الهومو سابينس، أو الإنسان العاقل — أن الخاصية المُحدِّدة للبشر هي القدرة المعرفية التي لا نظير لها، نحن نُفكر على نحوٍ مختلف عن كل الكائنات الأخرى على سطح الأرض، ونستطيع أن نتقاسم الأفكار بعضنا مع بعض بوسائل لا تُدانيها على الإطلاق الأنواع الأخرى، ونجد في المقابل أن بقيَّة تكويننا البيولوجي يكاد يكون طارئًا على ما سبقَه. إن مئات الملايين من سنوات التطور أنتجت مئات الآلاف من الأنواع ذات الأمخاخ، وعشرات الآلاف من ذوي القُدرات السلوكية والإدراكية والتعلُّمية المُعقدة، ولكنَّ واحدًا فقط من بينها جميعًا هو الذي تساءل في دهشةٍ عن مكانه في العالَم، وذلك لأنَّ واحدًا فقط هو الذي تطوَّرت لدَيه القدرة على ذلك.
وعلى الرغم من أن كوكب الأرض ذاته شركة بيننا نحن وملايين الأنواع من الكائنات الحية، فإننا نحن أيضًا نعيش في عالَم لا يُدانيه أي نوع آخر، نحن نسكن عالمًا زاخرًا بالمجردات والاستحالات والمُفارقات، نحن وحدَنا من يُطيل التفكير فيما لم يحدث، ونقضي شطرًا طويلًا من النهار نتأمَّل ما يمكن أن يكون عليه مسار الأحداث لو أنها وقعت على نحوٍ مختلف، ونحن دون الكائنات الأخرى من يتأمَّل كيف يكون الحال لو لم تحدث، أنَّى لنا أن نجد بين أفراد الأنواع الأخرى من يؤرِّقها عدم تذكُّر كيف كانت الأمور قبل أن تُولَد أو يؤرقها جهلُها بما سوف يحدث بعد الموت؟ ونحن نحكي قصصًا من واقع خبراتنا الحقيقية، ونختلق قصصًا عن خبراتٍ خيالية، بل نستخدِم هذه القصص لتنظيم شئون حياتنا، ونحن، بالمعنى الحقيقي للكلمة، نعيش حياتنا في هذا العالم الخائلي المُشترك بيننا، وأدركنا تدريجيًّا وعلى مدى الأحقاب أنه لا وجود على وجه البسيطة لأنواعٍ أخرى، على ما يبدو، قادرة على أن تُدانِينا في هذه المنزلة الإعجازية.
نألف جميعًا هذا الوجه من حياتنا، ولكن قد يُعِنُّ للمرء أن يسأل كيف لي أن أشعر بالثقة الكاملة في أن هذا لا يُمثل جزءًا من الخبرة الذهنية لأنواعٍ أخرى — وأكون على يقينٍ تامٍّ من أنها لا تُشاركني في هذه الأفكار والاهتمامات على اختلاف أنواعها — بينما هي لا تتساءل بشأنها؟ هذا هو لُبُّ المسألة؟ وإجابتي التي سوف أسوق الحُجَج بشأنها تفصيلًا في الفصول التالية؛ ستبذل كل ما في وسعها فيما يخصُّ اللغة وغيابها لدى الأنواع الأخرى. إن الباب المُفضي إلى هذا العالم الخائلي انفتح لنا وحدَنا بفضل تطوُّر اللغة؛ ذلك لأن اللغة ليست مجرد نمطٍ للاتصال، وإنما هي أيضًا التجلِّي الصريح لنمط الفكر، وهو نمط غير مألوف؛ أي التعبير الرمزي؛ إذ بدون الرمز يغدو كلُّ هذا العالَم الخائلي الذي تحدثتُ عنه بعيدَ المنال: لا يمكن تصوُّره. وإنَّ دعواي التي أبدو فيها مُغاليًا والتي أدعو فيها لمعرفة ما الذي لا يُمكن أن تعرفه الأنواع الأخرى، تعتمِد على بيِّنة مؤدَّاها أن الفكر الرمزي لا يتوفَّر كشيءٍ مدمج فطريًّا في الإنسان، بل يتطوَّر عن طريق استدخال العملية الرمزية التي تُشكِّل أساسًا للُّغة؛ لذلك فإن الأنواع التي لم تكتسب القدرة على التواصُل رمزيًّا لا يمكن أن تكون قد اكتسبت قدرةً على التفكير بهذه الطريقة أيضًا.
وإن الطريقة التي تُمثل بها اللغة الأشياء والأحداث والعلاقات، تُزوِّدنا ببطاقةٍ اقتصادية فريدة على الاستدلال، إنها تُهيئ لنا وسيلةً لتوليد صورٍ مُتباينة لانهائية من التمثيلات الجديدة، كما تُزوِّدنا بقدرةٍ استدلالية غير مسبوقة للتنبُّؤ بالأحداث وتنظيم الذكريات وتخطيط السلوك، إنها تصوغ بالكامل تفكيرَنا وطُرقنا في معرفة العالَم المادي، ولهذا نراها عامةً شاملة وغير مُنفصلة عن الذكاء البشري، بحيث يتعذَّر تمييز أي جوانب الفكر البشري لم تَصنع اللغة قوالبه وتُحدِّد مساره؟ وتتمثل التحديات الأخيرة في دراسة نشأة الإنسان في تفسير هذا الفارق، ووصف الظروف التطورية التي أفضت إليه.
وجدير بالذكر أن السؤال الذي يأسر دائمًا وأبدًا خيالَنا في نهاية المطاف فيما يتعلق بأصل الإنسان، ليس هو: مَن أسلافنا الأُوَل؟ ولا هو كيف تسنَّى لهم السير مُنتصبي القامة؟ ولا حتى هو كيف اكتشفوا استخدام الأدوات الحجرية؟ وهذا السؤال حقيقةً ليست له إجابة في عِلم الإحاثة، وهو العلم المعنيُّ ببحث أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة على نحوِ ما تظهر في المُتحجرات أو الآثار المُختلفة عن الحيوانات والنباتات، إنه سؤال يمكن أن يوجَّه إلى عُلماء النفس أو علماء الأعصاب أو حتى الفلاسفة، من أين جاءت عقول البشر؟ وإن الحلقة المفقودة التي نأمُل أن نهتدي إليها عن طريق البحث عن أصل البشر ليست في الأساس ثغرةً في شجرة العائلة البشرية، بل ثغرة تفصلنا عن الأنواع الأخرى بعامة. وطبيعي أن معرفة الكيفية التي نشأ بها شيءٌ ما في البداية غالبًا ما تكون أفضل سبيلٍ لمعرفة كيف يعمل؟ ونحن نعرِف أن الوعي البشري له بداية، وأن تلك القسمات المُميزة لقدراتنا العقلية التي تُمايزنا عن سوانا من الأنواع الأخرى انبثقت إلى الوجود خلال بضعةِ ملايين من السنين وقتَما كان ثمة سلَف مُشترك بيننا وبقية القِرَدة العُليا الإفريقية، وثمة إمكانية على الأرجح لتعقُّب مسارها وصولًا إلى الأحداث التي وقعت خلال المليوني سنة الأخيرة فقط؛ إذ هنا النقطة الفاصلة التي تم عبورها في وقتٍ مُحدد، وخلال سياق تطوري نوعي مميز، وإذا استطعنا تحديد ما كان مُختلفًا على جانبَي الفاصل — الاختلافات في الإيكولوجيا وفي السلوك والتشريح العصبي بخاصة — ربما يتسنَّى لنا اكتشاف التغيُّر الحاسم الذي تسبب في انطلاقنا إلى داخل هذا العالم غير المَسبوق المليء بالمجردات والقصص والاستحالات، وهو العالم الذي نُسميه عالم البشر.
ونحن لا ننشُد فقط تفسير نشأة نوعِنا البيولوجي، بل أيضًا أصل ونشأة الشكل الجديد للعقل البشري، إننا على المُستوى البيولوجي المجرد أحد القِرَدة العُليا، ولكن عقليًّا شُعبة جديدة من الكائنات الحية، ونجد بين هذَين الواقعَين غير المُتكافئَين لغزًا يتعين حلُّه، مثل أن يتوفر لنا تفسير مُقنِع لمعنى بشري.
ولكن على الرغم من كل هذا التقدُّم ما تزال هنا بعض القضايا الحاسمة الخاصة بهذا اللغز تُراوِغنا ويصعب حسمها. وإذا كان علم الأعصاب قد سبر أغوارًا عميقةً لكشف غوامِض وأسرار وظيفة المخ، فإننا ما تزال تعوزنا نظرية عن وظائف المخ في شمولها ووحدتها. نحن الآن نفهم الكثير من التفاصيل الخليوية والجزيئية، ورسَمْنا خارطةً توضح عددًا من مهام الإدراك المعرفي لمناطق المخ المُرتبطة بها، بل أنشأنا نماذج مُحاكاة حاسوبية للشبكات التي تعمل بطرقٍ تُشبه إلى حدٍّ ما أجزاءً من المخ، ولكن ما تزال تنقصنا البصيرة النافذة التي تكشف لنا عن المنطق العام الذي يربط هذه التفاصيل بعضها ببعض، ونقول إجمالًا: إن الغالبية العُظمَى من علماء الأعصاب يلتزمون رؤيةً حكيمة تقضي بأنه فقط بفضل اطِّراد الكشف عن تفاصيل العمليات العصبية البسيطة في الأمخاخ البدائية، وبفضل العمل تدريجيًّا وتراكُميًّا لوضع هذه النتائج معًا وإضافتها بعضها إلى بعض، سوف تتهيأ لنا القدرة على التصدي لمُعالجة هذه المسائل النظرية الشاملة من مثل الأساس العصبي للُّغة. ويتعين أن نُضيف إلى هذه المشكلات الجديدة الكثيرة النابعة من خلال المقارنات بين اللغة وبين الاتصال بين الحيوانات، ونلحظ في كل الأحوال أن هذه المشكلات تغدو أكثر تعقُّدًا وأكثر تشوُّشًا كلما زادت معرفتنا عن مدى تعقُّد قدرات الأنواع الأخرى، وما تنطوي عليه قدراتنا نحن من مفارقات. بيد أن الحلقة المفقودة والأهم في اللُّغز هي فهم الأمخاخ موضوع البحث: أعني أمخاخ الإنسان الأول، «الهومينيد»، الذي هو سلفنا الأوَّل، وإذا كانت قد توفرت لدَينا معلومات كثيرة عن أحجام الأمخاخ في العينات الحفرية، فإن معلوماتنا قليلة جدًّا عن أشكال المخ، والمعلومات التشريحية بشأنها، والبنية الدقيقة الباطنية لكل هذه الأمخاخ على اختلاف أنواعها، وذلك لأنها لم تُخلِّف لنا أثرًا حفريًّا؛ معنى هذا أننا فيما يتعلق بالأمخاخ الحفرية، فمِن المُسَلَّم به أننا لن نعثر أبدًا على حفرية مخٍّ تُمثل البرهان القاطع — أي أول مخ قادر على استخدام لغة — وإنما سوف نتوصَّل فقط إلى معلوماتٍ ثانوية عن الظروف والملابسات.
إذن ما دورنا ونحن نتأمل ونفكر في البدايات الأولى للغة؟ إذا ما سلَّمنا بتعقُّد المخ البشري، وجهلنا الراهن بالكثير من المبادئ الأساسية الحاسمة لتشغيله، وحقيقةً أنه لا اللغات ولا الأمخاخ التي أنتجتها احتفظت بها حفريات، فسوف نواجِهُ الكثير من الأسئلة المباشرة التي يتعيَّن الإجابة عنها قبل أن نفكر حتى في سؤالنا الأول. ويبدو أنَّ هناك الكثير من النتائج غير المُحددة والثغرات في الدليل الداعم للرأي؛ بحيث إنه لا يُمثل دعائم صلبة تقود خطواتنا في البحث عن المفاتيح اللازمة لفهم طبيعة العقل البشري من خلال الأصول الأولى لنشأة اللغة.
ولنا في إطار هذا السياق أن نتدبَّر ونُفكر في حالة اللغة البشرية، ونعرف أنها واحدة من أبرز سلوكيات التكيُّف تميزًا على ظهر الكوكب، وواضح أن اللغات نشأت وتطورت لدى نوعٍ واحد فقط وبطريقةٍ واحدة فقط دون سوابقها إلا بالمعنى الأكثر عمومية، وغيرُ خافٍ أن الفوارق بين اللغات وكل أنماط الاتصال الطبيعية فوارق شاسعة، وطبيعي أن مِثل هذه النقلة الكبيرة في التكيُّف السلوكي لا يُمكن أن تحدُث دون أن تترك أثرها في التشريح البشري، ويتجلَّى هذا واضحًا حتى في المظاهر السطحية؛ إذ إننا نحن البشر لنا مخٌّ كبير على نحوٍ فريد وجهاز صوتي معدَّل على نحوٍ استثنائي، وتُهيئ لنا هذه المفاتيح نقطة انطلاق. بيد أنها، وعلى الرغم من ذلك، تفيد بأن العلاقات البنيوية والوظيفية التي تُشكل أساسًا لهذه التلازُمات السطحية تبدو لنا وكأنها خاصية مُميِّزة لنا وذات فعالية.
ومن ثم، وعلى عكس ما هو متوقَّع، فإن مشكلة نشأة اللغة يمكن أن تُمثل لنا عمليًّا مَدخلًا من أهم الأفكار الواعدة ونحن نبحث عن المنطق الذي يربط بين وظائف الإدراك المعرفي وتنظيم المخ. وتأسيسًا على أن الشروط الذهنية الفريدة للغة مُنعكسة في الفوارق التشريحية العصبية الفريدة، فإننا قد نجد مثالًا واضحًا للغاية يوضح كيف حددت الطبيعة معالم الفوارق المعرفية في فوارق بِنية المخ. وعلى الرغم من أن تفاصيل هذا السرِّ تُمثل تحديًا، فإن العناصر الحاسمة لهذا اللغز ثاوية في الأعماق البعيدة للماضي التطوري، أو لا سبيل إلى الوصول إليها بأدواتنا التكنولوجية الراهنة، ويمكن ملاحظتها في صورة الاختلافات في القدرات المعرفية وفي هياكل المخِّ على نحوِ ما نراها في الأنواع الحية.
وأحسب أن صعوبة مسألة نشأة اللغة ليس سببها ما نجهله، بل ما نظن أننا نعرفه، نحن نظنُّ أننا نعرف أن السبب في أن اللغة ليست ظاهرة واسعة الانتشار هو تعقُّدها الشديد وما تفرضه من شروط كثيرة على التعلُّم والذاكرة، ونرى أيضًا أننا نعرف أن اللغة تهيأت لأسلافنا حال تمكَّنوا من التغلُّب على عوائق التعلم بفضل ما حدث في السابق من تغيُّر في المخ. وتأسيسًا على جوانب اللغة التي نظنُّها الأكثر تعقيدًا نفترض المظاهر السلوكية المختلفة التي توفَّرت في السابق؛ لكي تُفسر لنا كيف أصبحت اللغة مُمكنة؛ إذ ربما استلزم ذلك زيادةً في الذكاء، أو تصميم وتحديد معالم القُدرات السمعية والشفاهية، أو فصل الوظائف الخاصة بكلٍّ من جانبي المخ، أو تطور نوع من النحو؛ أي قواعد اللغة المدمجة في بِنية المخ. وأحسب أن ليس بالإمكان أن نكون على يقينٍ بالنسبة لأي منها، وأعتقد أن المشكلة أساسية أكثر، وأبعد ما تكون عن التفكير الحدسي على نحوِ ما تفترض أيٌّ من هذه الروايات.
ويمكن القول، في ضوء هذين البديلين الملزمين بداهةً، إن النهج الذي اعتزم اتِّباعه هنا قد أخطأ التوفيق؛ ذلك أنني لا أعتقد فقط أن هذَين البديلَين يتسبَّبان في تشوُّش مشكلة الطبيعة/التنشئة أكثر مما يُفسرانها بما يُسقطانه عليها من ضوء، بل إنني أرى أن المسألة برُمَّتها المعنية بالكشف عن مكان نشأة لغة المعرفة أثناء مسار النمو هي مسألة ثانوية. نعم إن النمو شِبه الإعجازي لقدرات اللغة لدى الطفل يُمثل لغزًا مُثيرًا حقًّا، وهو الأمر الذي سأتناوله بمزيدٍ من التفصيل فيما بعد (الفصلان ٤ و١١)، ولكنني على الرغم من ذلك أرى أنه لا بد أن نبحث مسألة أصل اللغة في مكانٍ آخر، وأن نتتبَّع بجديةٍ عددًا من القضايا البحثية المُختلفة، من حيث النوع، أشد الاختلاف. إننا ونحن مُنشغلون بقضية المصدر الذي نشأت عنه معرفة اللغة، تجنَّبنا مسألةً أخرى أكثر أساسية: ماذا تعني بمعرفة اللغة، وما طبيعتها؟ ولكن قبل التحوُّل إلى هذا السؤال، جدير بنا أن نتأمَّل بعض الفروض التطورية المُضلِّلة بالقدْر نفسه، التي من شأنها دعم البديلَين النظرِيَّين التقليدِيَّين.
صعاب تقنية والمسخ الواعد٢
من بين أكثر الآراء شيوعًا عن نشأة وتطور اللغة، الرأي القائل: إنها حصاد حتمي للتطور؛ إذ اتخذ التطور هذه الوجهة المُفضية إلينا، وحيث إننا نحن النوع الوحيد القادر على تصور مكانه بين كل الأنواع الأخرى، فإننا نرى ما يُشبه سلسلة مُتصلة من المراحل أفضت في النهاية إلى نوعٍ واحد قادر على مثل هذه التأمُّلات. وبدهي أن توفر وسيلة اتصال أوضح بيانًا وأكثر دقة ومرونة ستكون دائمًا وأبدًا ميزةً نافعة مع بقاء كل الأمور على حالها، وطبيعي أنه في ضوء مظاهر السلوك التعاوني، فإن توفر قدرة أكبر على نقل معلومات عن موارد طعام بعيدة أو خافية، أو تنظيم الجهد من أجل أعمال القنص أو التحذير من خطرٍ وشيك ستكون قدرةً مفيدة للعشيرة وللفريق الجمعي ككل، وإن قدرة المرء على إقناع أو خداع منافسيه أو التعاون والتواطؤ مع شركائه الاجتماعيين والقرينات للتزاوج ربما وفَّرت للمرء ميزات تناسُلية مُهمة، خاصةً في النُّظُم الاجتماعية التي تُحدد فيها المنافسة آلية الوصول إلى موارد يُمكن الدفاع عنها أو اكتساب المزيد من القرينات. وكم هو عسير في واقع الأمر تصور أي جهد بشري غير ذي نفع لتحقيق تواصُل أفضل! وإذا نظرنا إلى الأمر على هذا النحو بدا لنا أن البشر قطعوا شوطًا أطول في التطوُّر قياسًا على الأنواع الأخرى على مدى مسارٍ للتقدم الحتمي وصولًا إلى تفكيرٍ أفضل وتواصُل أكثر كفاءة.
ويبدو هذا الرأي معقولًا في ظاهرِه، وتعكس هذه المعقولية أُلفتنا مع التقدُّم التقني السائد في المجتمعات الغربية. ويكاد يروج في الصحافة الشعبية استعمال مصطلحات مثل زيادة الوعي والتقدُّم الاجتماعي والتطوُّر وكأنها بمعنًى واحد بحيث يمكن استعمال أحدها محلَّ الآخر، ونادرًا ما يجري تمييز هذه الأفكار بعضها عن بعضٍ حتى في العروض المتقدمة التي تتحدَّث عن التطور البشري. ولكن فكرة التقدم في التطور هي عادة غير ملحوظة تخلفت عن فهمٍ شائع لا ينبني على معلوماتٍ صحيحة نتيجة النظر إلى العالم باعتباره تصميمًا، أي مُخططًا ابتداعيًّا، وتكمُن المشكلة في أن نموذجنا الحدسي للتطوُّر مأخوذ عن تاريخ التطوُّر التكنولوجي الذي هو عملية تراكُمية تُضيف كل يومٍ المزيد والمزيد من عناصر الخبرة إلى الجُملة المُتنامية من الأجهزة والممارسات والسجلات، ونلحظ في المقابل أن التطور البيولوجي ليس إضافةً متزايدة إلا في بعض المظاهر المحدودة جدًّا. وجدير بالذكر أن الرصيد البشري من الجينات يكاد يكون هو نفسه مثل رصيد الجينات لدى فأر أو ضفدع، كما أن مُخطط أجسام جميع الفقريات يبدو في الغالب الأعم تعديلات لخطة مشتركة؛ حتى بالنسبة للمخ. وعلى الرغم من أننا نحتل الطرف النهائي الشامل لسلسلة أحجام الجسم والمخ، فإن هذا ليس نتاجًا لإضافة أعضاء جديدة، بل هو مجرد تضخم للأعضاء الموجودة مع تعديلاتٍ طفيفة.
تُرَى هل عجزنا عن معرفة اللغات غير البشرية بسبب غُربتها بالنسبة إلينا مِثلما أن كلامنا غريب عليها؟ دأب الناس منذُ زمانٍ طويل على افتراض هذا الظنِّ على الأقل في الأساطير وقصص الأطفال، وذهب بهم الخيال إلى حدِّ الظن بأننا يومًا ما سوف نتغلَّب على حواجز الاتصال التي تحُول دون البشر والحيوانات الأخرى من تقاسُم الذكريات والمُعتقدات والآمال والمخاوف. وجدير بالذكر أن د. دولتيل يُعدِّد في كتاب الأطفال ذائع الصيت، الذي تحوَّل إلى فيلم سينمائي، أنواع المساعدات التي قدَّمها ببغاء «مُتعدد اللغات» في الترجمة بين كلام الحيوانات وكلام البشر، ولكن هل يمكن ولو عمل «ترجمة» بدائية شديدة السطحية؟ ماذا عساك تقول لطفلٍ يسألك: «ماذا تقول قطتي؟ هل أصوات وإشارات الحيوانات تُفسَّر أو تصف أو تسأل أو تأمُر؟ هل هي تُحاجُّ أو تخالف الرأي أو تُساوِم أو تُثرثر أو تقنع أو تتسامر بتبادُل الأفكار فيما بينها؟ هل يشتمِل الاتصال بين الحيوانات على عناصر مناظِرة لعناصر لغة البشر؟» إن نداءات وحركات الحيوانات ليس بها ما يُناظر الأسماء أو الأفعال في بناء الجُمل، ولا روابط نحوية مقابلة لروابط غير نحوية، ولا ما يدل على مفردات أو جمع، ولا مؤشرات دالة على الزمان، ولا حتى أي عنصر يمكن مُقابلته بالكلمات إلا ما يمكن وصفه بأقل المعاني ببداية ونهاية الصوت.
وثمة أسباب معقولة تدعونا إلى أن نلزم الحذر فلا نُطلق دعاوَى مؤكِّدة فيما يختصُّ بنفي وجود لغاتٍ غير بشرية، ووجه الحذَر أن دراستنا لمنظومات الاتصال بين الأنواع الأخرى ما تزال في مهدِها، أليس من الحكمة أن نلتزِم موقفًا لاإداريًّا إلى حين تحصيل قدْر وافٍ من المعارف عن مظاهر الاتصال بين الأنواع الأخرى؟ تقتضي الحكمة دائمًا ألا نستبق الدليل والبرهان خاصةً عند الحديث عن موضوعٍ تُسيطر علينا فيه انحيازات وأهواء لا سبيل إلى إنكارها، وما أكثر الأنواع التي لا نعرف شيئًا عن سلوكها الاتصالي بالقِياس إلى الأنواع التي درسنا نظام الاتصال بينها، ومع ذلك، أعتقد أن لدَينا ما يكفي من المعلومات لصوغ رأي موثوق به إلى حدٍّ معقول حتى بالنسبة لأنواع لم ندرس سلوكيات الاتصال فيما بينها إلا دراسةً سطحية. وجدير بالذكر أن ما يجعل هذا الزعم تخمينًا آمِنًا إلى حدٍّ كبير ليس تقدُّم الدراسات التحليلية للسلوك، بل الخصوصيات المُثيرة التي تتجلَّى واضحةً في لغةٍ غير بشرية. وطبيعي أنه حين تكون الفوارق واضحة لكلِّ ذي عينَين، فسوف تكون الحساسية وحنكة وتعقُّد الملاحظات والاختبارات عند الحد الأدنى لها.
ولو أن مراقبًا يرصد بالتلسكوب اللاسلكي حدَّدَ إشارةً صادرة من الفضاء البعيد ولها هذه الخصائص، فإن اكتشافه سيحتلُّ صدر الصفحات الأولى من صُحف العالم على الرغم من أن معنى الإشارة سيظلُّ غير مفهومٍ على الإطلاق، ومع الرغبة في المُضي إلى أبعد من ذلك حتى فيما يتعلق بالاتصال بين الحيوانات التي تمَّت دراستها دراسةً سطحية يُمكننا أن نكون على قدْر معقول من اليقين من أن مثل هذه الإشارة لم يتسنَّ رصدُها بعد بالنسبة للغالبية الساحقة من الأنواع التي يمكن أن تترشح لذلك، ونجد على العكس السلوكيات التواصلية — على الرغم من أنها شديدة التعقُّد ومتقدمة للغاية، لدى أنواع أخرى — أميَل للحدوث في صورة إشارات منعزلة وداخل مُتتاليات ثابتة أو توليفات غير مُنتظمة نسبيًّا؛ بحيث يكون من الأفضل وصفها بأنها إضافات تراكُمية أكثر منها قواعد شكلية، كذلك فإن تطابُقها مع القواعد وناتج السلوك، في حالة ما يكون بالإمكان بحثها، يتحول حتى إلى طبيعة ترابُطية في علاقات تُناظِر واحدًا إلى واحد، وعلى الرغم من أن هذا نموذج لم يتسنَّ وصفُه بَعدُ لنظام اتصالٍ حيواني يفي بكل هذه المعايير، وليس بالإمكان استبعاده، فإنه من المعقول أن نستنتِج أن الفرص لتحقيق ذلك نادرة بحيث نظنُّ أنها مضت دون أن نرصدها لدى أنواع الحيوانات المألوفة؛ الأمر الذي يمكن أن نفتقده فيما يتعلق بإشارةٍ لاسلكية كونية.
وليست فكرتي هنا أننا نحن البشر أفضل أو أذكى من الأنواع الأخرى، أو أن اللغة مُستحيلة بالنسبة لها، وإنما فكرتي ببساطة أن هذه الفوارق ليست أنواعًا من لُغاتٍ غير متكافئة لا يمكن القياس عليها، بل — وهو الأصح — أن هذه الأشكال غير البشرية للاتصال مختلفة تمامًا عن اللغة، وأعتقد، لهذا السبب، أن المقارنة مُضللة وتفيد فقط على المستوى السطحي جدًّا، وليس من العسير تمامًا تقييم هذه الحقيقة؛ لأن كلًّا منَّا له خبرة شخصية عن طبيعة اللاتكافؤ التي أتحدَّث عنها، وتُوجَد نظائر بشرية عديدة لسلوكياتٍ تواصلية حيوانية لا لسانية، ونحن أيضًا لدينا مدًى واسع من التعبيرات الفطرية والأصوات والإيماءات التي تبدو واضحةً في ظاهرها ومفهومة لدى الجميع. وهذه من مكونات التواصل الاجتماعي البشري التي لا يمكن إبدالُها بغيرها مثلما هو الحال لدى الحيوانات، بيدَ أنها، مع ذلك، ليست مناظرةً لتجعلنا ثُنائيِّي اللغة. وطبيعي أن هذا الرصيد الآخر من السلوكيات التواصلية ليس لغةً من الإيماءات بديلًا عن الكلمات، إنه شيء آخر، وعلى الرغم من أن هذه النداءات والإيماءات البشرية تؤلِّف منظومةً نألُفها تمامًا فإننا نواجِه الصعوبة نفسها في ترجمتها إلى ما يُكافئها من كلماتٍ مثلما هو الحال مع نداءات وحركات الحيوانات التي نحن على قدْر أقل بكثيرٍ من الأُلفة معها، وليست المشكلة غرابتها أو عدم أُلفتنا لها، بل إننا لا نجد معنى للسؤال عن نوع الكلمة التي تُعبر عنها الضحكة، أو ما إذا كان صوت نشيجٍ يأتي تعبيرًا عن زمن ماضٍ أو زمنٍ حاضر، أو ما إذا كانت مُتتالية من إيماءات الوجه جاء التعبير عنها صحيحًا، وليست المشكلة صعوبة المقابلة بين معالم اللغات البشرية وغير البشرية، بل صعوبة تحديد معالم اللغات بالمقابل لأي شكلٍ آخر للاتصال الذي تطوَّر طبيعيًّا سواء كان بشريًّا أم غير ذلك.
ونظرًا لعدم معرفتنا بأي شكلٍ طبيعي آخر للاتصال، ليس من حقِّنا القول: إن اللغة صورة أكثر تعقدًا من تلك، ونحن نخدع أنفسنا؛ إذ نصف نظُم الاتصال لدى الأنواع الأخرى بأنها لغاتٌ بدائية تمامًا مثلما نخدع أنفسنا إذا قُلنا إنها لغات، وعلاوة على التأكيد بإمكانية التعسف في القول بالتماثل مع الأخرى، فإن المناظرة تُغفل تعقُّد وقوة الاتصال غير اللِّساني بين الحيوانات التي ربما تملك قدراتٍ لا وجه للتوازي بينها وبين اللغة، وربما لدينا استعداد مُستبق لكي نرى عمليات الاتصال لدى الأنواع الأخرى من خلال المجاز اللغوي؛ لأن اللغة تُمثل إلى حدٍّ كبير جزءًا طبيعيًّا من جهازنا الإدراكي اليومي، وهذا من شأنه أن يخلق لَدَينا، بسهولةٍ، منظورًا عنها من الخارج، بيد أن خبرتنا بطبيعتها وواقعِيَّتها تُكذِّب أنها ذات طبيعةٍ غريبة من خلال الإطار الأكبر للموضوعات، إنها شذوذ تطوُّر، أي خروج عن القاعدة في المسار التطوري وليست مجرد المدى الأقصى للتطور.
ولكن تفسير القطيعة بين الاتصال اللساني وغير اللساني باعتباره الفاصل الجوهري المُميز بين البشر وغير البشر أفضى إلى تفسيرٍ آخر لنشأة اللغة مثله مثل الآخر من حيث المُبالغة وعدم المعقولية، ونقصد هنا بتفسير نشأة اللغة الزعم بأن اللغة نتاج دائرة عصبية فريدة ومن نوع لا مثيل له يزوِّد البشر بكل القسمات الجوهرية التي تُكسب اللغة طابعها الاستثنائي (أعني التركيب النحوي)، بيد أن هذا لا يقنع فقط بافتراض وجود قسمة عصبية فريدة مُرتبطة بهذا السلوك الفريد، بل يفترض أيضًا وجود قطيعة بيولوجية جوهرية، أو لنقل بعبارة أخرى: إن اللغة منفصلة بشكلٍ ما عن بقية تكويننا البيولوجي والعصبي، وهكذا نُصبح أشبه بقردة عليا زائد لغة؛ أي كأننا أضفنا حاسوبًا لغويًّا إلى شمبانزي.
كذلك فإن هذا الجهاز، أو «عضو اللغة» الفريد المدمج في المخ البشري يُمكن أن يُفسر لنا أيضًا أسباب فشل الأنواع الأخرى في تعلُّم اللغة، وتتمثَّل غواية هذا المُخطط في أنه يُلغي الكثير من القضايا والمسائل العويصة بضربةٍ واحدة قاضية: القطيعة بين الاتصال البشري وغير البشري، وكبر حجم المخ البشري دون الكائنات الأخرى (بسبب إضافة جزءٍ جديد يزيد من حجمه)، وطبيعة التكافل المنظومي للقواعد النحوية؛ (لأنها مُستمدَّة جميعها من مصدرٍ عصبي واحد)، والقسمات الكلية المفترضة المُميزة لبنية اللغة (شأن سابقتها)، وقابلية الترجمة المُتبادلة فيما بين اللغات (للأسباب السابقة)، وسهولة تعلُّم اللغة في البداية على الرغم من عدم كفاية المُدخلات وقلَّة تصويب الخطأ النحوي عند الكبار.
وطبيعي أن أي عضوٍ للغة نشأ على نحو عرضي لا يستلزم تفسيرًا على أساس التكيف لبنية اللغة، وإذا حدث وتم دس أو تركيب هذا العضو الافتراضي أثناء حادثٍ عرضي فيما قبل التاريخ ولم ينشأ على نحوٍ تطوُّري جزءًا فجزءًا وفقًا لمُقتضيات دوره الوظيفي، إذن لن تكون ثمة ضرورة لتقديم تفسيراتٍ وظيفية، وإذا كان الأمر مجرد حدثٍ عرضي، إذن فإن أي منفعةٍ له ستكون من ثم عرضيَّةً تمامًا ونكتشفها بعد وقوع الحدث، وقد يُفسر هذا أيضًا الكثير من الخاصيَّات الواهية للغة وعدم اتصالها وترابُطها عند مقارنتها بالأشكال الأخرى للاتصال غير البشري، بيد أنني أرى أن هذه القصة مُتقنة ومحبوكة بدقة؛ لأنها توحي بأن لا حاجة إلى توجيه الكثير والكثير من الأسئلة، والملاحظ أن نظرية عضو اللغة العرَضي ترجو منا بأدبٍ جمٍّ إغفال التفاصيل المُزعجة عن نشأة اللغة، والتخلِّي عن الأمل في العثور على سوابق في بِنية أمخاخ القِرَدة العُليا أو في قدراتهم المعرفية، وأن نكفَّ عن البحث عن أي منطق عميق لتصميم العلاقات البنيوية والوظيفية لقواعد التركيب النحوي للغة، وهذا إغفال جسيم زائد عن الحد، تُرى ما البديل الذي يُقدمه لنا هذا الفرض؟
ويرى كثير من اللغويين أن المعرفة النحوية هي ما يتعين تفسيره، وأن ما نحتاج إليه هو بيان وافٍ عن مصدر القدرات النحوية والبنيوية لدى الأطفال في ضوء سوابق موجودة ضمن خبرة الطفل باللغة، وهكذا نكون مثل شخصيات مسرحية موليير الذين يعرفون ما هو المُنْتَج، ولكنهم يجهلون كيف يتم إنتاجه، وهكذا نُخفق في اكتشاف تفسيرٍ كافٍ يفسر لنا كيف انطبعت المعرفة النحوية في عقول الأطفال من مصدرٍ خارجي، وطبيعي إزاء هذا الإخفاق أن نتحوَّل إلى القول بعدَم إمكانية حدوث ذلك من الخارج على الإطلاق، ولكن مجرد افتراض أن هذه المعرفة موجودة مقدمًا، ومن ثم ليست بحاجةٍ للانتقال من الخارج إلى الداخل، ليس إلا إعادة إثبات هذا الاكتشاف السلبي بلغةٍ إيجابية، وتعمل الغريزة النحوية أو القواعد النحوية الكلية عمل المُعوقات البنيوية لكل ما لا يمكن تعلُّمه، وإن طبيعة هذه المعرفة الفطرية المفترضة للُّغة لا يمكن وصفها إلا في ضوء تجلِّياتها. وعمد اللغويون إلى العمل تدريجيًّا لإعادة تعريف وتحديد الشيء الذي ليس بالإمكان افتراضًا تعلُّمه، وصاغوه في عباراتٍ تزايدت باطِّراد دقتها وطبيعتها الاصطلاحية، وهكذا قد يُواتينا إحساس بأن هذه الروايات تقترب أكثر فأكثر من التفسير المطلوب، ولكن على الرغم من أن وصف الشيء الذي نفتقده أصبح أكثر دقةً وتحديدًا، فإنه لم يعد كونه صيغة أكثر فأكثر تحديدًا لما نفتقِده. وجدير بالذكر أن هذه التفسيرات لطبيعة ما سُمِّي غريزة اللغة جرى عرضها لزومًا وراء قناع التعريفات التفصيلية الدقيقة للمبادئ النحوية أو غيرها في صورةٍ تُشبه برامج الحاسوب، ولم تكن في صورتها هذه سوى صياغة اصطلاحية جديدة تُثبت من جديدٍ مشكلة المعلومات المُفتقدة. ونلح أن القول بأن المخ البشري وحدَه يُنتج قواعد نحوية؛ لأنه الوحيد الذي يمتلك عاملًا نحويًّا إنما يُفضي في نهاية المطاف إلى تحويل المسألة برمَّتها من أيدي اللغويين إلى أيدي علماء بيولوجيا الأعصاب.
ولا ريب في أن القصة التطورية الكاملة لا يمكن أن تتوقَّف عند وصفٍ شكلي لما هو مفتقد، أو عند «سيناريو» أي مُخطط يوضح كيف أن الانتخاب آثر تطوُّر معرفة نحوية فطرية؛ إذ لا بد أن يزوِّدنا بوصفٍ وظيفي يوضح لماذا إيثار هذا التنظيم المُميز تحديدًا؟ وكيف كانت حالات الزيادة الكمية والجزئية فعَّالة أيضًا وظيفيًّا، وأن يوضح كيف تعدَّلت الهياكل الموجودة حاليًّا في الأمخاخ غير البشرية بحيث تُهيئ هذه القدرات؟ إن نظرية غريزة اللغة تضع نقطة نهاية، وهي تقييم ما تحتاج نظرية تطوُّر اللغة إلى تفسيره، ولذلك تُعيد صوغ المُشكلة بأن تُعطيها اسمًا جديدًا، بيد أن هذا لا يُقدم إلا ما يزيد قليلًا عما قدَّمته نظرية الحدث الإعجازي: وصف اصطلاحي جديد لما ظلَّ دون تفسير، وأحسب للأسف أنها ترى الأشجار وتفتقد رؤية الغابة على الرغم من كل الجهد الذي بذلته، وإنني لا أعتقد أن القدرات النحوية لدى الأطفال هي السر الغامض الحاسم للغة.
اللغات البسيطة المُفتقدة
ثمة قاسم مشترك واحد بين النموذجَين الرئيسِيَّين اللَّذَين يُحددان إطار مسألة أصول نشأة اللغة: نشأة وتطور قدْر أكبر من الذكاء مقابل نشأة وتطوُّر عضوٍ خاص باللغة؛ إذ يُحدَّد النموذجان في ضوء مشكلة تعلُّم قدْر كبيرٍ جدًّا ومُعقد من القواعد والإشارات، ويفترِض النموذجان أن الأنواع الأخرى ضعيفة في تعلُّم اللغة؛ لأن اللغة شديدة التعقُّد بحيث يصعُب عليها تعلُّمها، فضلًا عن أن أداءها يتطلَّب قدرةً فوق طاقتها، وتستلزِم اللغة تعلمًا سريعًا وكفؤًا، كما تتطلَّب مخزونًا هائلًا في الذاكرة، وتفيد بمعدلاتٍ خرافية من القدرة على النطق والتحليل السمعي، وتفرض مشكلةً تحليلية قمينةً بأن يتولَّى حلَّها أينشتاين اللغوي، وهكذا يتفق النهجان على أنَّ وجهَ الصعوبة بالنسبة للأنواع الأخرى هو تعقُّد اللغة، ولكنهما يختلفان بشأن مصدر الصعوبة وما هو لازم للتغلُّب عليها، هل يحتاج الأطفال فقط إلى أن يكونوا أكثر ذكاءً بكثيرٍ من الأنواع الأخرى لتعلُّم اللغة، أم أن اللغة شديدة التعقد بحيث يتعذَّر تعلُّمها بدون معلوماتٍ لغوية مدمجة في بنية المخ لكي تنطلِق معها العملية؟ وواضح أن قبول أحد الفرضَين يقودنا إلى دعاوى مناقضة بشأن طبيعة تطوُّر اللغة والعقل البشري؛ إذ لو أن الأمر يتعلق بصعوبة تعلُّم اللغة فقط فإن التكيُّف العصبي الداعم لذلك يمكن أن يكون عامًّا من حيث تأثيره على قدرات الإدراك المعرفي، وإذا كانت اللغة يستحيل تعلُّمها في ضوء كل أغراضها العملية، فإن التكيُّف العصبي اللازم لدعمها يستلزم أن يكون خاصًّا مميزًا للنوع، وأيًّا كانت نظرتنا إلى هذه المشكلات، فمن الواضح أن التغلُّب على القيود التي يفرضها التعقد الواضح للغة يُمثل شرطًا سابقًا لنشأة وتطور اللغة. وأقول من الواضح هنا لأنني أعتقد أن ثمة ما تفقِدُه كلٌّ من النظرتَين إلى المشكلة، وهو شيء أراه أساسيًّا. والملاحظ أن هذين البديلين وكثيرًا من الآراء الأخرى الوسيطة تقنع فقط بمعالجة مشكلة واحدة من المشكلات الرئيسية التي يلزم تفسيرها مع أنها ليست المشكلة الحاسمة.
وإن أي مهمةٍ يتعذَّر أداؤها بدنيًّا ربما تتجاوز قدرتنا وطاقتنا على التحمُّل ومعدل قدرتنا على الأداء والعمل الدقيق وطاقتنا على إنجاز أشياءٍ كثيرة في الوقت نفسه … إلخ. ونقول في ضوء الإدراك المعرفي: إن هذا كله يتوافق مع قدرتنا على تركيز الانتباه، وبقاء ذاكرتنا، ومُعدلنا للتعلم ومدى ذاكرتنا على المدى القصير … إلخ. ونحن حين نقول: إن مهارةً ما يصعب تعلُّمها فإننا نعني أن سلسلة الحركات المنشودة تُمثل عبئًا شديد الكلفة قياسًا على قُدرتنا وبشكلٍ محدد من حيث التوقيت أو التآزر بين الحركات اللازمة. ونحن إذ نقول: إنَّ مهمةً إدراكية ما يصعُب تعلُّمها فإننا نعني بذلك أن تعلُّمها يستلزم استخدام معايير أدقَّ أو أسرع من قُدرتنا على تسجيلها، وأنها غير منتظمة للغاية بحيث يصعُب اكتشاف ما هو مشترك بينها، أو أنها ثاوية وسط علاماتٍ مُثيرة للتشوُّش بحيث يتعذَّر فرزُها، ونحن حين نقول: إن مهمةً معرفية يصعب تعلُّمها، فإننا نعني وجود ترابُطات كثيرة جدًّا يلزم استيعابها في الذاكرة النشطة في وقتٍ واحد أو وجود ترابطات كثيرة جدًّا يلزم التفكير فيها خلال فترةٍ قصيرة جدًّا، أو لِنقُل ببساطةٍ ترابُطات كثيرة جدًّا يتعين تذكرها. إن كلًّا منها يستلزِم أداء الكثير جدًّا في وقتٍ قصير جدًّا وغير كافٍ، معنى هذا أن كلًّا من تعقُّد المهمة والموارد المتاحة للمرء من شأنه أن يُحدِّد صعوبتها النسبية.
ونقول بوضوح: إن اللغة مُعقدة من جميع هذه النواحي، ونعرف أن الاتصال اللساني يستلزِم منَّا أن نتعلم أن نؤدي بعضًا من المهارات المُعقدة جدًّا، سواء من حيث إنتاج الكلام وكذا في تحليل أصوات الكلام، علاوة على هذا ثمة قدْر كثير مما يلزم تعلُّمه، آلاف المفردات اللغوية مع نظامٍ دقيقٍ مُحكم للقواعد اللغوية وعمليات البناء النحوي للغة، ولا يكفي القول: إن اللغة مُعقدة. ويذهب كثير من علماء اللسانيات إلى أنه غير مُتوفر لنا ما يكفي من دعمٍ خارجي للتعامُل معها؛ إذ إننا مُضطرون إلى فهم القواعد الأساسية الضِّمنية لكلٍّ من قواعد النحو والبناء النحوي دون أن يتوفر لنا تعليمٌ جيد وقدْر غير كافٍ من الأمثلة والأمثلة المُقابلة، ولنا أن نقول: إن هذا النقص الواضح للتعلُّم الكافي يزيد الطين بلة؛ إذ يجعل المُهمة المعقدة أشد صعوبة. وطبيعي أن الدرجة التي يؤدي إليها دعم تعلم اللغة إلى الحد من وتقصير هذه الحاجة تتناسب (أُسِّيًّا) مع مدى تعقُّد المهمة المنوط بها بداية، وبهذا يكون عامل تعقُّد اللغة قيدًا مضاعفًا.
كيف لامرئٍ أن يشكَّ في أن تعقد اللغة هو المشكلة؟ اللغات أمور مُعقدة في الحقيقة، ربما تكون مَراتب من حيث الأهمية وأكثر تعقدًا من نظام الاتصال التالي لها خارج النطاق البشري وفق منظور درجة التعقُّد، ولا ريب في أن الأنواع الأخرى يكاد يستحيل عليها تمامًا تعلُّمها، والسؤال هو ما إذا كان هذا التعقُّد هو مصدر الصعوبة الذي يَحصُر جوهريًّا في نوعِنا وحدَه استخدام اللغة؟ وعلى الرغم من أن هذا الرأي يبدو النتيجة الواضحة فإنه لا يبدو للوهلة الأولى شديدَ الوضوح؛ إن القسمات المُميزة للغة والأكثر حسمًا لا يمكن تفسيرها في إطار تعقُّد اللغة فقط.
لذلك نرى أن هذا هو السر الحقيقي، إننا نرى حتى بموجب هذه المعايير الفضفاضة لا تُوجَد لُغات بسيطة تستخدِمها الأنواع الأخرى، على الرغم من وجود أنماط اتصالٍ أخرى كثيرة تُعادل هذه في درجة تعقُّدها أو تتجاوزها، ولمَ لا؟ والمشكلة أبعد ما تكون عن وصفِها بالبدهية حين نضع في الاعتبار الصِّعاب التي لا يمكن تقريبًا التغلُّب عليها عند تعليم اللغة للأنواع الأخرى، وهذا أمر يُثير الدهشة؛ نظرًا لوجود أنواع أخرى كثيرة تتصف بالذكاء، وأفادت تقارير الباحثين أن الاتصال شِبه اللغوي تعلَّمَته أنواع غير بشرية، ولكن على الرغم من هذا نجد أن أفضل النتائج لم ترْقَ عن مستوى الارتياب المشروع، وبدا في واقع الأمر أنَّ من الصعوبة بمكانٍ إثباتَ ما إذا كانت بعض هذه الجهود قد نجحت أم لا؟ الأمر الذي يؤكِّد النطاق المحدود للسلوكيات التي تم التوصل إليها، فضلًا عن الاختلافات العميقة بشأن تحديد ماهية مُكوِّنات السلوك شِبه اللغوي بالدقة والتحديد، بيد أن ما حققته هذه البحوث من نجاحٍ أو فشل يتضمَّن معلوماتٍ ثرية لمعرفة ما يُمكن وما لا يمكن للحيوانات أن تؤدِّيَه، وكيف نتصوَّر نحن اللغة ذاتها، ولكن النجاحات القليلة المُثيرة للجدل يتعيَّن النظر إليها في ضوء خلفية الحيوانات المُستأنسة والحيوانات المنزلية التي عجزت تمامًا عن تحقيق المهام المطلوبة منها، على الرغم من نشأتها في سياقٍ أمطرها بوابل مُستمر لا ينقطع من الأوامر وأحاديث من جانبٍ واحد، وأسئلة «خطابية». ونحن لا نجِد أثرًا حتى للغة البسيطة لدى الغالبية الساحِقة من الأنواع التي تعيش وسط الغالبية الساحقة من الأوساط أو السياقات، وليس ثمة معنى للافتقار إلى اللغات البسيطة في البرية والعجز عن تعلُّم اللغات البسيطة في ظل الوصاية والرعاية البشرية! وتنخرط أكثر هذه الأنواع في سلوك اتِّصالي طبيعي أكثر تعقُّدًا من اللغة البسيطة، وتكشف عن قُدرة على تعلُّم قدْرٍ من الترابُطات أكثر مما هو ضروري لتكوين لغةٍ بسيطة. والسؤال: لماذا تُمثل اللغة مثل هذه المشكلة؟ الفارق لا يمكن أن ينحصر في «بسيط مقابل مُعقد».
إن تعقد اللغة أمر مُهم، ويستلزم هذا تفسيرًا مثله مثل قدرة صغار الأطفال على فهم اللغة دون أن تتوفر لديهم — حسبما هو ظاهر — تغذية مُرتدة أو زمن، وهذه من مظاهر سِر اللغة المُثيرة للانتباه، ولكنها تحتل مرتبةً ثانوية بالنظر إلى سِر أساسي أكثر من غيره، ويُعتبر عاملًا مؤثرًا أكثر من غيره في الفارق بين البشري وغير البشري؛ إذ على الرغم من ذكاء الأنواع الأخرى، وعلى الرغم من واقِع أنها تنخرط في سلوكٍ اتصالي له مظاهر تعقُّد تماثل اللغة البسيطة، فإنه لا تُوجَد نُظم لغوية أخرى، وليست المسألة هي عدم الحاجة إليها، وتبدو حتى اللغة البسيطة بسببٍ ما صعبة ومُستحيلة لغير البشر، ويُشكِّل هذا لغزًا عميقًا، والسؤال إذن: لماذا تم إغفالها؟ ربما شغلتنا أكثر التفاصيل عن إدراك هذه المشكلة البسيطة، أو ربما كنَّا مُتلهفين أكثر لصوغ المشكلة في عباراتٍ تُمثل التقدم في عملية الاتصال بحيث يحتل البشر الصدارة، وأيًّا كان السبب فقد حان الوقت الذي أدركنا فيه أن المسائل التي ظننَّا أنها بحاجة إلى نظرية عن نشأة وأصل اللغة لتفسيرها هي مسائل ثانوية بالقياس إلى سِرٍّ آخر أكثر جوهرية: لماذا لا تُوجَد أي لغة بسيطة؟ ولماذا تعلُّم اللغة، حتى البسيطة، أمرٌ شِبه مستحيل على الأنواع الأخرى؟
ماذا تبقَّى لنا من صعوبات تعلُّم اللغة إذا لم يكن تعقد اللغة هو موضوع البحث؟ إننا إذا طرحنا جانبًا مسألة التعقد سوف يتبقى لدينا فارق واحد مُهم بين الاتصال اللغوي وغير اللغوي: المعجزة اليومية العادية بشأن معنى الكلمة والمرجعية.
وجدير بالقول: إنه لا النحو اللغوي ولا البناء اللغوي ولا توليد الصوت المموج ولا القاموس الضخم هي الأمور التي حالت دون الأنواع الأخرى وتطوُّر لغةٍ لها، وإنما فقط المشكلة البسيطة الخاصة بتصوُّر كيفية توليف الكلمات وتركيبها يُشير إلى الأشياء. والسؤال: لماذا بدت غايةً في الصعوبة؟ لماذا الطريقة المختلفة والمُثيرة للتصوُّر التي ترى أن اللغات تُمثل أشياء أدَّت إلى وضع ذلك الحائل الذي لا سبيل إلى النفاذ منه في طريق التطور؟ إذا نجحنا في تفسير هذه المُشكلة التي تنطوي على تناقُضٍ ظاهر ربما نلمح العتبة التطورية الحاسمة التي عمد أسلافنا نحن إلى تجاوزها.
ولكن إذا كانت طريقة اللغة في تمثيل الأشياء هي الحاجز الأول على طريق تطور اللغة لدى الأنواع الأخرى فإننا بذلك نغدو بحاجةٍ إلى أن نُعيد التفكير بشأن الكثير والكثير جدًّا من الجوانب الأخرى للتطور العقلي البشري؛ إذ لو كان تعقد اللغة يمثل تطورًا ثانيًا بالنسبة إلى هذا التكيُّف في الإدراك المعرفي، الذي يُعتبر أكثر أوليةً وأساسية، فإن معنى هذا أن غالبية النظريات قد عكست علاقات السبب والنتيجة في المسار التطوري التي دفعت التطوُّر الذهني البشري على طول هذا المسار، لقد وضعوا العربة (تطوُّر المخ) أمام الحصان (تطوُّر اللغة)، وإذا لم يكن مستوى الذكاء الأعلى، ولا قدرات النطق السهل، ولا الاستعدادات السابقة الغيبية لقواعد النحو لدى الأطفال هي المفاتيح والأدوات التي كسرت هذا الحاجز الرمزي، إذن فإن نشأة وتطوُّر هذه الدعائم للتعقُّد اللغوي لا بد أنها النتيجة وليست السبب أو الشروط السابقة لنشأة وتطور اللغة، والأهم من ذلك أن مظاهر التكيُّف هذه ما كان لها أن تُمثل المُحددات الأكثر حسمًا لتطوُّر المخ لدى النوع البشري، وإنَّ معالجة لُغز أصل ونشأة اللغة من هذا المنظور أشبَه بالابتعاد خطوات عن المرآة لنرى الأشياء عكس ما هو مُفترض.
نعرف أن المخ البشري ضخم على نحوٍ غير عادي: أكبر ثلاث مرات بالنسبة لأحد القِرَدة العُليا له حجم الإنسان، ولكن كِبر حجم المخ ليس سوى العرض الظاهري السطحي لعملية إعادة تنظيم جوهرية امتدَّت إلى مُستوياتٍ أعمق، ويهدف الجزء الأوسط من هذا الكتاب إلى كشف مكنون وحقيقة هذه المشكلة التشريحية المعقدة ومضاهاتها مع المتطلبات التقديرية الخاصة التي فرضتها اللغة، وسوف نكتشف، حين ننظر عن كثَب أكثر، حدوث إعادة تنظيم هندسي جذري لكلِّ المخ، وعلى مستوًى غير مسبوق. وجدير بالذكر أن تفسير هذه الفوارق باعتبارها نتائج مُترتبة على المُتطلبات الوظيفية التي اقتضتها أحقاب طويلة من المعالجة اللغوية ربما يُهيئ لنا نظرة ثاقبة جديدة إلى حقيقة العلاقة بين الاختلافات في وظيفة الإدراك المعرفي والاختلافات في تنظيم المخ على نطاقٍ واسع، وسوف نكتشف من خلال التطور المشترك للمخ واللغة تلاقِي اثنَين من أهم أسرار العلم الهائلة، وسوف يُهيئان لنا معًا طائفة من المفاتيح المهمة الدالة على حقيقة علاقة أحدهما بالآخر.
ونعرف أن علماء تشريح الأعصاب ظلوا قرونًا يبحثون عن «حجر رشيد» أي مفتاح أسرار وظائف المخِّ البشري، وعلى الرغم من ذلك لم يكن جهدهم عبثًا لفرز الفوارق الموضوعية المُهمة دون الفوارق العرَضية في بِنية المخ، وسوف يستلزِم هذا جهدًا كبيرًا للتوصُّل إلى تحديدٍ دقيقٍ لما تغيَّر وكيف تغير؟ أما عن مشكلة تحديد ما هو مختلف أساسًا فيما يتعلَّق باللغة، فإننا نُدرك أن الدراسة التحليلية لطريقة استجابة المخ لهذه التأثيرات سوف تتطلَّب منَّا النفاذ إلى ما وراء حجم المخ والاختلافات الظاهرية السطحية في بِنية المخ، والهدف أن نسبر غور العمليات التي تبني المخ لدى الأجنة. إن المخَّ هو أكثر الأجهزة على ظهر الكوكب دقةً وقدرة على الحساب، كذلك فإن الاتصال اللساني يُعتبَر أكثر السلوكيات المعروفة لنا تعقُّدًا، ويُمثل التطور خلاصةً لمسار يتصف بالألغاز والعلاقة غير المُباشرة والملاءمة؛ إذ نادرًا ما يلتزم مسارًا واضحًا أو مُميَّز المعالِم، وأصبح لزامًا علينا الآن أن نُلقي وسط هذا المزيج المروِّع من المشكلات بالمشكلة التي تُدانيه حيرةً وتشوُّشًا، الخاصة بتفسير المرجعية الرمزية. وطبيعي أن لغزًا محيرًا بهذا الحجم لن نجد له على الأرجح حلًّا سهلًا، بل لا أتصوَّر أن ما لدَينا من أدلةٍ وبيِّنات قليلة سيكفي لأكثر من العمل لكي نبدأ من جديدٍ البحث عن المزيد من المفاتيح في مواقعها الصحيحة، بيد أن ترتيب المفاتيح في تنظيمٍ صحيح ليس سوى الخطوة الأولى، وغالبًا ما يكون التفكير في مُشكلةٍ قديمة من منظورٍ جديد هو أفضل سبيل للخلاص من متاهة الافتراضات التي تحول دون معرفة ما هو واضح، وربما نستطيع بعد تجميع هذه الأسرار المترابطة من مجالاتها المُختلفة أن نُدرك ونتبين الخيط المشترك للمنطق الذي يربط بينها جميعًا، وسيكون هذا على غرار حجر رشيد الشهير الذي اشتمل على نصٍّ واحدٍ مكتوب بثلاث لُغات مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا جذريًّا، ومن ثَم نجد أن هذه الأجزاء التي يتألَّف منها لُغز الإدراك المعرفي والعصبي المُصطفَّة جنبًا إلى جنبٍ تُهيِّئ لنا القدرة على اكتشاف الكيفية التي نُترجِم؛ أي نفهم أحدها في ضوء الآخر.