الفصل الأول

المفارقة البشرية

المفارقة هي مصدر ولَع المفكر، ومُفكر بدون مفارقة أشبَهُ بعاشق عاطل من الشعور: صيغة مبتذلة.

سورن كيكر جورد

شذوذ في المسار التطوري

يُفيد تصميم نوعنا — الهومو سابينس، أو الإنسان العاقل — أن الخاصية المُحدِّدة للبشر هي القدرة المعرفية التي لا نظير لها، نحن نُفكر على نحوٍ مختلف عن كل الكائنات الأخرى على سطح الأرض، ونستطيع أن نتقاسم الأفكار بعضنا مع بعض بوسائل لا تُدانيها على الإطلاق الأنواع الأخرى، ونجد في المقابل أن بقيَّة تكويننا البيولوجي يكاد يكون طارئًا على ما سبقَه. إن مئات الملايين من سنوات التطور أنتجت مئات الآلاف من الأنواع ذات الأمخاخ، وعشرات الآلاف من ذوي القُدرات السلوكية والإدراكية والتعلُّمية المُعقدة، ولكنَّ واحدًا فقط من بينها جميعًا هو الذي تساءل في دهشةٍ عن مكانه في العالَم، وذلك لأنَّ واحدًا فقط هو الذي تطوَّرت لدَيه القدرة على ذلك.

وعلى الرغم من أن كوكب الأرض ذاته شركة بيننا نحن وملايين الأنواع من الكائنات الحية، فإننا نحن أيضًا نعيش في عالَم لا يُدانيه أي نوع آخر، نحن نسكن عالمًا زاخرًا بالمجردات والاستحالات والمُفارقات، نحن وحدَنا من يُطيل التفكير فيما لم يحدث، ونقضي شطرًا طويلًا من النهار نتأمَّل ما يمكن أن يكون عليه مسار الأحداث لو أنها وقعت على نحوٍ مختلف، ونحن دون الكائنات الأخرى من يتأمَّل كيف يكون الحال لو لم تحدث، أنَّى لنا أن نجد بين أفراد الأنواع الأخرى من يؤرِّقها عدم تذكُّر كيف كانت الأمور قبل أن تُولَد أو يؤرقها جهلُها بما سوف يحدث بعد الموت؟ ونحن نحكي قصصًا من واقع خبراتنا الحقيقية، ونختلق قصصًا عن خبراتٍ خيالية، بل نستخدِم هذه القصص لتنظيم شئون حياتنا، ونحن، بالمعنى الحقيقي للكلمة، نعيش حياتنا في هذا العالم الخائلي المُشترك بيننا، وأدركنا تدريجيًّا وعلى مدى الأحقاب أنه لا وجود على وجه البسيطة لأنواعٍ أخرى، على ما يبدو، قادرة على أن تُدانِينا في هذه المنزلة الإعجازية.

نألف جميعًا هذا الوجه من حياتنا، ولكن قد يُعِنُّ للمرء أن يسأل كيف لي أن أشعر بالثقة الكاملة في أن هذا لا يُمثل جزءًا من الخبرة الذهنية لأنواعٍ أخرى — وأكون على يقينٍ تامٍّ من أنها لا تُشاركني في هذه الأفكار والاهتمامات على اختلاف أنواعها — بينما هي لا تتساءل بشأنها؟ هذا هو لُبُّ المسألة؟ وإجابتي التي سوف أسوق الحُجَج بشأنها تفصيلًا في الفصول التالية؛ ستبذل كل ما في وسعها فيما يخصُّ اللغة وغيابها لدى الأنواع الأخرى. إن الباب المُفضي إلى هذا العالم الخائلي انفتح لنا وحدَنا بفضل تطوُّر اللغة؛ ذلك لأن اللغة ليست مجرد نمطٍ للاتصال، وإنما هي أيضًا التجلِّي الصريح لنمط الفكر، وهو نمط غير مألوف؛ أي التعبير الرمزي؛ إذ بدون الرمز يغدو كلُّ هذا العالَم الخائلي الذي تحدثتُ عنه بعيدَ المنال: لا يمكن تصوُّره. وإنَّ دعواي التي أبدو فيها مُغاليًا والتي أدعو فيها لمعرفة ما الذي لا يُمكن أن تعرفه الأنواع الأخرى، تعتمِد على بيِّنة مؤدَّاها أن الفكر الرمزي لا يتوفَّر كشيءٍ مدمج فطريًّا في الإنسان، بل يتطوَّر عن طريق استدخال العملية الرمزية التي تُشكِّل أساسًا للُّغة؛ لذلك فإن الأنواع التي لم تكتسب القدرة على التواصُل رمزيًّا لا يمكن أن تكون قد اكتسبت قدرةً على التفكير بهذه الطريقة أيضًا.

وإن الطريقة التي تُمثل بها اللغة الأشياء والأحداث والعلاقات، تُزوِّدنا ببطاقةٍ اقتصادية فريدة على الاستدلال، إنها تُهيئ لنا وسيلةً لتوليد صورٍ مُتباينة لانهائية من التمثيلات الجديدة، كما تُزوِّدنا بقدرةٍ استدلالية غير مسبوقة للتنبُّؤ بالأحداث وتنظيم الذكريات وتخطيط السلوك، إنها تصوغ بالكامل تفكيرَنا وطُرقنا في معرفة العالَم المادي، ولهذا نراها عامةً شاملة وغير مُنفصلة عن الذكاء البشري، بحيث يتعذَّر تمييز أي جوانب الفكر البشري لم تَصنع اللغة قوالبه وتُحدِّد مساره؟ وتتمثل التحديات الأخيرة في دراسة نشأة الإنسان في تفسير هذا الفارق، ووصف الظروف التطورية التي أفضت إليه.

وجدير بالذكر أن السؤال الذي يأسر دائمًا وأبدًا خيالَنا في نهاية المطاف فيما يتعلق بأصل الإنسان، ليس هو: مَن أسلافنا الأُوَل؟ ولا هو كيف تسنَّى لهم السير مُنتصبي القامة؟ ولا حتى هو كيف اكتشفوا استخدام الأدوات الحجرية؟ وهذا السؤال حقيقةً ليست له إجابة في عِلم الإحاثة، وهو العلم المعنيُّ ببحث أشكال الحياة في العصور الجيولوجية السالفة على نحوِ ما تظهر في المُتحجرات أو الآثار المُختلفة عن الحيوانات والنباتات، إنه سؤال يمكن أن يوجَّه إلى عُلماء النفس أو علماء الأعصاب أو حتى الفلاسفة، من أين جاءت عقول البشر؟ وإن الحلقة المفقودة التي نأمُل أن نهتدي إليها عن طريق البحث عن أصل البشر ليست في الأساس ثغرةً في شجرة العائلة البشرية، بل ثغرة تفصلنا عن الأنواع الأخرى بعامة. وطبيعي أن معرفة الكيفية التي نشأ بها شيءٌ ما في البداية غالبًا ما تكون أفضل سبيلٍ لمعرفة كيف يعمل؟ ونحن نعرِف أن الوعي البشري له بداية، وأن تلك القسمات المُميزة لقدراتنا العقلية التي تُمايزنا عن سوانا من الأنواع الأخرى انبثقت إلى الوجود خلال بضعةِ ملايين من السنين وقتَما كان ثمة سلَف مُشترك بيننا وبقية القِرَدة العُليا الإفريقية، وثمة إمكانية على الأرجح لتعقُّب مسارها وصولًا إلى الأحداث التي وقعت خلال المليوني سنة الأخيرة فقط؛ إذ هنا النقطة الفاصلة التي تم عبورها في وقتٍ مُحدد، وخلال سياق تطوري نوعي مميز، وإذا استطعنا تحديد ما كان مُختلفًا على جانبَي الفاصل — الاختلافات في الإيكولوجيا وفي السلوك والتشريح العصبي بخاصة — ربما يتسنَّى لنا اكتشاف التغيُّر الحاسم الذي تسبب في انطلاقنا إلى داخل هذا العالم غير المَسبوق المليء بالمجردات والقصص والاستحالات، وهو العالم الذي نُسميه عالم البشر.

ونحن لا ننشُد فقط تفسير نشأة نوعِنا البيولوجي، بل أيضًا أصل ونشأة الشكل الجديد للعقل البشري، إننا على المُستوى البيولوجي المجرد أحد القِرَدة العُليا، ولكن عقليًّا شُعبة جديدة من الكائنات الحية، ونجد بين هذَين الواقعَين غير المُتكافئَين لغزًا يتعين حلُّه، مثل أن يتوفر لنا تفسير مُقنِع لمعنى بشري.

وأدى التقدُّم في دراسة عمليات التطوُّر البشري والمخ واللغة إلى أن زعمَ كثيرٌ من العلماء، عن ثقةٍ، بأنهم أصبحوا قاب قوسَين أو أدنى من التوصُّل إلى المفاتيح النهائية لحلِّ هذا اللُّغز، تُرَى إلى أي حدٍّ اقتربوا من ذلك؟ تبدو مسارات كثيرة للتدليل على ذلك وقد تلاقت عند إجابةٍ ما، ونلحظ فيما يتعلق بالسلَف الأوائل أن الثغرات المُتبقِّية في البرهان الحفري من فترة ما قبل التاريخ بدأ ملؤُها سريعًا؛ إذ خلال عددٍ قليل من العقود الأخيرة ظهرت صورة غنية بما فيه الكفاية عن أحجام وأشكال أجسام وأمخاخ حفرية للإنسان الأول «الهومينيد» hominid ولعلَّه بات من الإنصاف القول: إنه على الأقل فيما يختصُّ بالتغيرات الحاسمة التي تُمايز بيننا وبين القِرَدة العُليا في هذا الصدد لم تبقَ سوى بضع حلقاتٍ مفقودة، مجرد تفصيلات يتعين كشفها. وجدير بالذكر أن المرحلة الحاسمة في تطور الإنسان الأوَّل، «الهومينيد»، وقتما بدأت أمخاخ أسلافِنا الأُوَل في التبايُن والتمايز بعضها عن بعض؛ من حيث الحجم النسبي عن أمخاخ القِرَدة العُليا أصبحت مدعومةً بالأدلة التي تُوفِّرها حفريات على امتداد الحقبة التاريخية. أما عن قصة الباطن، فإن علوم الأعصاب توفِّر لنا أدواتٍ جديدةً قوية وفاعلة؛ بحيث أصبح بالإمكان توفير صورٍ دقيقة وتفصيلية عن المخ البشري في حالة نشاطه وتأدِيَتِه لمهامَّ لُغوية أو لبحث العمليات التي تبني المخ البشري أثناء فترات النمو وتُمايزه عن أمخاخ الأنواع المُختلفة، أو حتى بناء نموذج للعمليات العصبية خارج المخ. وهناك أخيرًا علماء اللسانيات ودراساتهم التحليلية للبِنية المنطقية للُّغاتِ وتنوُّعِها والسلف القريب منها، والأنماط المُميزة لنموِّها لدى الأطفال. وزوَّدتنا هذه الدراسات بثروةٍ من المعلومات عمَّا نحن بحاجةٍ إلى تفسيره، كما زوَّدتنا بدراساتٍ مقارنة عن مظاهر الاتصال بين الحيوانات في البرية وقُدراتها المُماثلة للقدرات اللغوية داخل المعمل؛ مما ساعدَنا على تصوير هذه المسائل في صورة أمثلةٍ واضحة.

ولكن على الرغم من كل هذا التقدُّم ما تزال هنا بعض القضايا الحاسمة الخاصة بهذا اللغز تُراوِغنا ويصعب حسمها. وإذا كان علم الأعصاب قد سبر أغوارًا عميقةً لكشف غوامِض وأسرار وظيفة المخ، فإننا ما تزال تعوزنا نظرية عن وظائف المخ في شمولها ووحدتها. نحن الآن نفهم الكثير من التفاصيل الخليوية والجزيئية، ورسَمْنا خارطةً توضح عددًا من مهام الإدراك المعرفي لمناطق المخ المُرتبطة بها، بل أنشأنا نماذج مُحاكاة حاسوبية للشبكات التي تعمل بطرقٍ تُشبه إلى حدٍّ ما أجزاءً من المخ، ولكن ما تزال تنقصنا البصيرة النافذة التي تكشف لنا عن المنطق العام الذي يربط هذه التفاصيل بعضها ببعض، ونقول إجمالًا: إن الغالبية العُظمَى من علماء الأعصاب يلتزمون رؤيةً حكيمة تقضي بأنه فقط بفضل اطِّراد الكشف عن تفاصيل العمليات العصبية البسيطة في الأمخاخ البدائية، وبفضل العمل تدريجيًّا وتراكُميًّا لوضع هذه النتائج معًا وإضافتها بعضها إلى بعض، سوف تتهيأ لنا القدرة على التصدي لمُعالجة هذه المسائل النظرية الشاملة من مثل الأساس العصبي للُّغة. ويتعين أن نُضيف إلى هذه المشكلات الجديدة الكثيرة النابعة من خلال المقارنات بين اللغة وبين الاتصال بين الحيوانات، ونلحظ في كل الأحوال أن هذه المشكلات تغدو أكثر تعقُّدًا وأكثر تشوُّشًا كلما زادت معرفتنا عن مدى تعقُّد قدرات الأنواع الأخرى، وما تنطوي عليه قدراتنا نحن من مفارقات. بيد أن الحلقة المفقودة والأهم في اللُّغز هي فهم الأمخاخ موضوع البحث: أعني أمخاخ الإنسان الأول، «الهومينيد»، الذي هو سلفنا الأوَّل، وإذا كانت قد توفرت لدَينا معلومات كثيرة عن أحجام الأمخاخ في العينات الحفرية، فإن معلوماتنا قليلة جدًّا عن أشكال المخ، والمعلومات التشريحية بشأنها، والبنية الدقيقة الباطنية لكل هذه الأمخاخ على اختلاف أنواعها، وذلك لأنها لم تُخلِّف لنا أثرًا حفريًّا؛ معنى هذا أننا فيما يتعلق بالأمخاخ الحفرية، فمِن المُسَلَّم به أننا لن نعثر أبدًا على حفرية مخٍّ تُمثل البرهان القاطع — أي أول مخ قادر على استخدام لغة — وإنما سوف نتوصَّل فقط إلى معلوماتٍ ثانوية عن الظروف والملابسات.

إذن ما دورنا ونحن نتأمل ونفكر في البدايات الأولى للغة؟ إذا ما سلَّمنا بتعقُّد المخ البشري، وجهلنا الراهن بالكثير من المبادئ الأساسية الحاسمة لتشغيله، وحقيقةً أنه لا اللغات ولا الأمخاخ التي أنتجتها احتفظت بها حفريات، فسوف نواجِهُ الكثير من الأسئلة المباشرة التي يتعيَّن الإجابة عنها قبل أن نفكر حتى في سؤالنا الأول. ويبدو أنَّ هناك الكثير من النتائج غير المُحددة والثغرات في الدليل الداعم للرأي؛ بحيث إنه لا يُمثل دعائم صلبة تقود خطواتنا في البحث عن المفاتيح اللازمة لفهم طبيعة العقل البشري من خلال الأصول الأولى لنشأة اللغة.

بيدَ أن هذا يُغفل دلالةً حقيقية تتمثل في أن اللغة نوعٌ واحدٌ من أنواع الخروج عن القياس. ونجد في الغالب الأعم أن أكثر الإشارات بروزًا وفائدةً التي تُشير من طرف خفي إلى المنطق الأساسي لتصميمات الطبيعة؛ إنما تتوفر لنا حال اكتشاف تلازُم قسماتٍ فريدة واستثنائية أو مُفرطة بين مجالَين مختلفين. ونذكر من بين الأمثلة الواضحة على ذلك التلازُم بين فرط الموصلية «المقاومة الكهربية تُعادل صفر» super conductivity والبرد القارس، وبين المسافات الكونية الأكبر وزيادة احمرار ضوء النجم، وبين الفناء الشامل لأنواع حفرية والدليل على ارتطام أجسام من الفضاء الخارجي، أو بين الخصوصية المُميزة للوراثة أحادية/ثنائية الصبغيَّات haplo-diploid genetics والحروب والدفاع الانتحاري والفئات غير المُخصَّبة في الحشرات الاجتماعية، وهكذا. وتُلِحُّ كلٌّ من هذه التلازُمات تطلب تفسيرًا، وإنها إذ تفعل ذلك تُهيئ مفتاحًا حاسمًا لمبدأ أكثر شمولية، والملاحظ أنه كلما تباعدَت قسمتان مُترابطتان عمَّا هو نمطي في المجالات الخاصة بهما، أصبحت رؤيتنا أكثر نفاذية، نجمع أطرافها وعناصرها من خلال العلاقة الأساسية التي تنبني عليها الظواهر.

ولنا في إطار هذا السياق أن نتدبَّر ونُفكر في حالة اللغة البشرية، ونعرف أنها واحدة من أبرز سلوكيات التكيُّف تميزًا على ظهر الكوكب، وواضح أن اللغات نشأت وتطورت لدى نوعٍ واحد فقط وبطريقةٍ واحدة فقط دون سوابقها إلا بالمعنى الأكثر عمومية، وغيرُ خافٍ أن الفوارق بين اللغات وكل أنماط الاتصال الطبيعية فوارق شاسعة، وطبيعي أن مِثل هذه النقلة الكبيرة في التكيُّف السلوكي لا يُمكن أن تحدُث دون أن تترك أثرها في التشريح البشري، ويتجلَّى هذا واضحًا حتى في المظاهر السطحية؛ إذ إننا نحن البشر لنا مخٌّ كبير على نحوٍ فريد وجهاز صوتي معدَّل على نحوٍ استثنائي، وتُهيئ لنا هذه المفاتيح نقطة انطلاق. بيد أنها، وعلى الرغم من ذلك، تفيد بأن العلاقات البنيوية والوظيفية التي تُشكل أساسًا لهذه التلازُمات السطحية تبدو لنا وكأنها خاصية مُميِّزة لنا وذات فعالية.

ومن ثم، وعلى عكس ما هو متوقَّع، فإن مشكلة نشأة اللغة يمكن أن تُمثل لنا عمليًّا مَدخلًا من أهم الأفكار الواعدة ونحن نبحث عن المنطق الذي يربط بين وظائف الإدراك المعرفي وتنظيم المخ. وتأسيسًا على أن الشروط الذهنية الفريدة للغة مُنعكسة في الفوارق التشريحية العصبية الفريدة، فإننا قد نجد مثالًا واضحًا للغاية يوضح كيف حددت الطبيعة معالم الفوارق المعرفية في فوارق بِنية المخ. وعلى الرغم من أن تفاصيل هذا السرِّ تُمثل تحديًا، فإن العناصر الحاسمة لهذا اللغز ثاوية في الأعماق البعيدة للماضي التطوري، أو لا سبيل إلى الوصول إليها بأدواتنا التكنولوجية الراهنة، ويمكن ملاحظتها في صورة الاختلافات في القدرات المعرفية وفي هياكل المخِّ على نحوِ ما نراها في الأنواع الحية.

وأحسب أن صعوبة مسألة نشأة اللغة ليس سببها ما نجهله، بل ما نظن أننا نعرفه، نحن نظنُّ أننا نعرف أن السبب في أن اللغة ليست ظاهرة واسعة الانتشار هو تعقُّدها الشديد وما تفرضه من شروط كثيرة على التعلُّم والذاكرة، ونرى أيضًا أننا نعرف أن اللغة تهيأت لأسلافنا حال تمكَّنوا من التغلُّب على عوائق التعلم بفضل ما حدث في السابق من تغيُّر في المخ. وتأسيسًا على جوانب اللغة التي نظنُّها الأكثر تعقيدًا نفترض المظاهر السلوكية المختلفة التي توفَّرت في السابق؛ لكي تُفسر لنا كيف أصبحت اللغة مُمكنة؛ إذ ربما استلزم ذلك زيادةً في الذكاء، أو تصميم وتحديد معالم القُدرات السمعية والشفاهية، أو فصل الوظائف الخاصة بكلٍّ من جانبي المخ، أو تطور نوع من النحو؛ أي قواعد اللغة المدمجة في بِنية المخ. وأحسب أن ليس بالإمكان أن نكون على يقينٍ بالنسبة لأي منها، وأعتقد أن المشكلة أساسية أكثر، وأبعد ما تكون عن التفكير الحدسي على نحوِ ما تفترض أيٌّ من هذه الروايات.

وتتقاسم كلُّ هذه التفسيرات عددًا قليلًا من الفروض المشتركة التي أظن أنها جِذر مشكلةٍ أعمق. وتناظر هذه الدراسات بعامةٍ كثيرًا غيرها من الدراسات التي لا تفتأ تظهر على السطح من جديد على مدى ذلك الزمان المُمتد الذي عاش على فكرة الفصل بين الطبيعة والتنشئة الاجتماعية؛ هل اللغة مفروضة من الخارج أم أنها تعكس ما هو قائم فعلًا في الداخل؟ ولقد تأكد على مدى عقود مدى سطحية هذا الفصل المُبتذل وهو ما كشفته بحوث في العلوم النفسية والبيولوجية التي برهنت على حقيقة تعقُّد وتكافل الإسهامات البيولوجية والبيئية في النمو، وهكذا أعدْنا اختراع الإجابات القديمة نفسها، ولكن وراء أقنعةٍ جديدة مع كل جيل؛ ومن ثم، ترانا نُصِرُّ في عنادٍ أن الإجابة على مسألة معرفة اللغة نجدها بالضرورة في نموذجٍ من بضعة نماذج أساسية بديلة (تُعبِّر عنها رسوم توضيحية تبسيطية في الشكل ١-١).
ونجد عند أحد طرفَي هذا الطيف فرضًا يقضي بأن نظام بناء اللغة نشأ أصلًا وبالكامل من الخارج (عملية ترابط بسيطة)، ونجد عند الطرف الآخر فرضًا يرى أنها نشأت بالكامل من داخل (لغة الفكر الغريزية mentalese١ ترى ما البدائل الأخرى المُحتملة التي لم نتبيَّنها في موقعها بين هذين الطرفين؟ وإذا لم تكن هناك بدائل أخرى، أليس من المتوقع أن تشير الإجابة عن هذا السؤال إلى الحل بشأن مسألة أصل نشأة اللغة؟ وطبيعي أن اكتشاف أي الجوانب الخاصة بمعرفة اللغة هي التي أسهمت في تكوينها الطبيعة، وأيها أسهمت في تكوينها التنشئة، من شأنه أن يدلَّنا على حقيقة الاختلاف المُميِّز لنا الذي كانت نشأته ضرورية لتجسيد هوة اكتساب اللغة الأصلية الأولى. وإذا كانت الإجابة أكثر ميلًا في اتجاه النظرة الترابُطية عند أحد طرفي الطيف، فإن التطوُّر لزومًا هو الذي وهبَنا اللغة؛ بأن زوَّدنا بقوة استثنائية للتعلُّم والتذكر. وإذا كانت الإجابة أكثر ميلًا في اتجاه الطرف الآخر الخاص بلُغة الفكر الغريزية، فإن هذا يعني أن التطور بالضرورة قد زوَّدنا بمعرفةٍ غريزية مُعقدة خاصة باللغة، وهي التي جعلت التعلُّم غير ضروري تمامًا.

ويمكن القول، في ضوء هذين البديلين الملزمين بداهةً، إن النهج الذي اعتزم اتِّباعه هنا قد أخطأ التوفيق؛ ذلك أنني لا أعتقد فقط أن هذَين البديلَين يتسبَّبان في تشوُّش مشكلة الطبيعة/التنشئة أكثر مما يُفسرانها بما يُسقطانه عليها من ضوء، بل إنني أرى أن المسألة برُمَّتها المعنية بالكشف عن مكان نشأة لغة المعرفة أثناء مسار النمو هي مسألة ثانوية. نعم إن النمو شِبه الإعجازي لقدرات اللغة لدى الطفل يُمثل لغزًا مُثيرًا حقًّا، وهو الأمر الذي سأتناوله بمزيدٍ من التفصيل فيما بعد (الفصلان ٤ و١١)، ولكنني على الرغم من ذلك أرى أنه لا بد أن نبحث مسألة أصل اللغة في مكانٍ آخر، وأن نتتبَّع بجديةٍ عددًا من القضايا البحثية المُختلفة، من حيث النوع، أشد الاختلاف. إننا ونحن مُنشغلون بقضية المصدر الذي نشأت عنه معرفة اللغة، تجنَّبنا مسألةً أخرى أكثر أساسية: ماذا تعني بمعرفة اللغة، وما طبيعتها؟ ولكن قبل التحوُّل إلى هذا السؤال، جدير بنا أن نتأمَّل بعض الفروض التطورية المُضلِّلة بالقدْر نفسه، التي من شأنها دعم البديلَين النظرِيَّين التقليدِيَّين.

fig1
شكل ١-١
شكل ١-١: أربعة رسوم توضيحية تُصور بعضًا من النماذج النظرية الأساسية المقترحة لتفسير القاعدة الأساسية للغة البشرية. أعلى يسارًا: فكرة أن معنى الكلمة نشأ بدايةً حال إدراك صوت كلمة منطوقة واقترانها بموضوع ما باعتباره موضوعًا مُدركًا ومختزنًا في الوقت نفسه داخل العقل على هيئة صورة ذهنية. وحسب هذه النظرة البسيطة المشتركة، فإن ربط الكلمات بعضها ببعض في جملةٍ يؤدي بالمُستمع إلى استحضار الصور وتجميعها معًا داخل العقل. أعلى يمينًا: فكرة أن كلًّا من معنى الكلمة ومعرفة بنية اللغة يتم تعلُّمها عن طريق استدخال أنماط من الاحتمالات الاقترانية التي تربط الكلمات بعضها ببعض، وتربط الكلمات بالموضوعات، ويعتبر بي. إف. سكينر أبرز المُدافعين عن هذا الرأي، ولكن ظهرت حديثًا صياغات جديدة أكثر إحكامًا لهذه الفكرة الأساسية، وذلك بفضل ما توفر من رؤًى نافذة وعميقة عن طريق دراسة عمليات التعلم الموزعة بالتوازي parallel distributed learning processes، ويجري هنا تصوير معرفة اللغة على أنها مناظرة لأنماط الربط الموزعة داخل شبكة عصبية. أسفل يسارًا: أحد الآراء الأكثر نفوذًا وتأثيرًا عن المعرفة النحوية grammatical knowledge، التي تتصوَّر أنها مدمجة سابقًا؛ أي قبل خبرة اللغة، شأن عداد مُثبت في الحاسوب (ويتصوره أصحاب هذه النظرة مثل شريحة حاسوب يجري غرسها في المخ)، وتُفيد هذه النظرة أيضًا أن بِنية اللغة مفروضة على سلاسل الكلمات (التي مِن المُفترض سابقًا أنها ذات معنًى ولكنها أقل فائدة بدون هذه البنية)، وأول من حدثنا عن هذه النظرة وصاغها في عباراتٍ واضحة صريحة هو نعوم شومسكي. أسفل يمينًا: النظرة الفطرية المُتطرفة عن معرفة اللغة، التي تتصورها انعكاسًا خارجيًّا للغةٍ مُشتركة باطنية للمخ تُسمى «لغة الفكر الغريزية» أو اللغة الذهنية mentalese، وإليك تعريف ستيفن بينكر لها في كتابه «اللغة الغريزية» ص٨٢: «إذن فإن معرفة لغةٍ ما هي معرفة كيفية ترجمة اللغة الغريزية إلى مُسلسلات من الكلمات وبالعكس. إن من لا يتحدثون لغةً من بني البشر لديهم لغة غريزية فطرية، كما أنه من المُفترَض أن صغار الأطفال وكثيرًا من الحيوانات دون مرتبة البشر لدَيها لهجات أبسط خاصة بها. وحقيقة الأمر أن صغار الأطفال إذا لم تكن لديهم لُغة ذهنية فطرية يترجمون الإنجليزية منها وإليها، فلن يكون واضحًا كيف يتعلَّمون الإنجليزية، بل لن نعرف معنى تعلُّم الإنجليزية. وأرى أن أيًّا من هذه الآراء لا يُقدِّم لنا أي تفسير واضح للمفارقة التي نسعى لاستكشافها في هذا الفصل.»

صعاب تقنية والمسخ الواعد٢

من بين أكثر الآراء شيوعًا عن نشأة وتطور اللغة، الرأي القائل: إنها حصاد حتمي للتطور؛ إذ اتخذ التطور هذه الوجهة المُفضية إلينا، وحيث إننا نحن النوع الوحيد القادر على تصور مكانه بين كل الأنواع الأخرى، فإننا نرى ما يُشبه سلسلة مُتصلة من المراحل أفضت في النهاية إلى نوعٍ واحد قادر على مثل هذه التأمُّلات. وبدهي أن توفر وسيلة اتصال أوضح بيانًا وأكثر دقة ومرونة ستكون دائمًا وأبدًا ميزةً نافعة مع بقاء كل الأمور على حالها، وطبيعي أنه في ضوء مظاهر السلوك التعاوني، فإن توفر قدرة أكبر على نقل معلومات عن موارد طعام بعيدة أو خافية، أو تنظيم الجهد من أجل أعمال القنص أو التحذير من خطرٍ وشيك ستكون قدرةً مفيدة للعشيرة وللفريق الجمعي ككل، وإن قدرة المرء على إقناع أو خداع منافسيه أو التعاون والتواطؤ مع شركائه الاجتماعيين والقرينات للتزاوج ربما وفَّرت للمرء ميزات تناسُلية مُهمة، خاصةً في النُّظُم الاجتماعية التي تُحدد فيها المنافسة آلية الوصول إلى موارد يُمكن الدفاع عنها أو اكتساب المزيد من القرينات. وكم هو عسير في واقع الأمر تصور أي جهد بشري غير ذي نفع لتحقيق تواصُل أفضل! وإذا نظرنا إلى الأمر على هذا النحو بدا لنا أن البشر قطعوا شوطًا أطول في التطوُّر قياسًا على الأنواع الأخرى على مدى مسارٍ للتقدم الحتمي وصولًا إلى تفكيرٍ أفضل وتواصُل أكثر كفاءة.

وهل لا بد أن نكون يقينًا بعضَ مسارٍ لتطورٍ أفضل بشكلٍ ما؟ يبدو لي أن هذا افتراض غير مُعلن يُفيد أن التطور البيولوجي إذا ما استمر إلى مسافةٍ أطول كان من شأنه أن يؤدي إلى نشوء شكلٍ ما للُّغة لدى الكثير من الأنواع الأخرى. وهل معنى هذا أن الشمبانزي، وهي الوصيف التي تحتل المرتبة التالية لنا مباشرةً، لا تختلف عنا إلا من حيث تخلُّفها فقط لمسافة قصيرة في الطريق المُوصل إلى اللغة؟ ويُذكرنا هذا بالفيلم السينمائي «كوكب القِرَدة العُليا» (كان الاسم التجاري لهذا الفيلم هو «كوكب القرود»)، وهو فيلم من الخيال العلمي، ويعرض الفيلم ما يُفيد أن أبناء عمومتنا ذوات الشعر الكثيف فوق أجسادها وقد لحقت بنا وارتقت إلى مستوًى بشري من حيث القدرات الذهنية واللسانية، ونحن نتخيَّل أنه لو توفر لها الوقت الكافي لنشأت لها لُغة مع التطور. ونتمادى في خيالنا أكثر إلى الحدِّ الذي نتصوَّر فيه أن الحياة إذا ما وجدناها على كوكبٍ آخر، وإذا حدث وتطوَّرت على مدًى يناظر تطور الحياة على الأرض، أو ربما سارت مدًى أطول، فسوف نجد هناك نوعًا «ذكيًّا عاقلًا» يمكن أن نتحادث معه يومًا ما.٣ وتجدُر الإشارة هنا إلى فكرة سادت في عصر النهضة عن «سلسلة الوجود العُظمَى»، وأدَّت هذ الفكرة إلى ظهور نظريات القرن التاسع عشر عن النشوء والتطور النوعي phylogeny التي رتَّبت الأنواع في مراتب من الدنيا إلى الأرقى، ومن الكائنات التي تُشبه الآلة إلى الكائنات الإلهية، والتي يحتلُّ فيها البشر المرتبة الأدنى مباشرةً من الملائكة. ولكن علماء التطور رفضوا هذه النظريات فيما بعدُ في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين؛ إذ رفضوا الترتيب السكوني للنشوء التطوري النوعي وأبدلوه بنظرية التسلسل التطوري للسلالات evolutionary descent، وهذه النظرية هي صياغة جديدة للمنظور القائم على المحورية البشرية ولكن بلغة تطورية؛ إذ ساد افتراض بأن البشر هم أكثر الأنواع «تقدمًا»، ومضى البعض بهذه الفكرة إلى أقصاها بحيث أضحوا يشكُّون في أن سفن فضاء ربما زارت في الماضي كوكب الأرض حاملةً على متنها كائنات «أرقى تطورًا» منَّا.
ويبدو التقدُّم هنا في ظاهر الأمر كامنًا في الانتخاب الطبيعي، ويبدو التحسُّن التدريجي لعمليات التكيُّف وكأنه يعني ضمنًا أنه كلما امتدَّ التطور واستمر، أصبح التصميم التكويني أفضل، ونجد في الحقيقة علماء كثيرين يتحدَّثون عن ضرورة توفُّر نوعٍ خاصٍّ من الانتخاب الارتجاعي retrograde selection لإيقاف تقدُّم الزيادة الحتمية للذكاء. وكثيرًا ما يرى البعض أن الأنواع ذات الأمخاخ الصغيرة هي أنواع بدائية أو هي ردة إلى أشكال سابقة خلَّفها بعيدًا المسار الرئيسي للتطوُّر، ويبدو بدهيًّا — حسب المنظور القائم على المحورية — أن الأنواع الأكثر ذكاءً سوف تنتصِر على الأنواع الأقل ذكاءً، وهكذا الذكاء دائمًا ميزة، فهل صحيح؟ المخ يتفوَّق على العضل، ونحن نُرتب العبقرية والتخلف العقلي ضمن درجات سُلَّم واحد، ومِن المُفترَض وضع الشمبانزي والكلاب والجرذان عند الدرجة الأدنى من السُّلَّم نفسه. ونلحظ أن التطور البشري يُوصَف عادةً بأنه «صعود»، بما يعني ضمنًا ارتقاءً من المستوى الأدنى للذكاء إلى مستوًى أعلى، وينتج عن هذا فيما يبدو أن البشر هم ذروة اتجاهٍ صاعدٍ حتمًا، إنهم الفائز في حرب الخلايا العصبية.

ويبدو هذا الرأي معقولًا في ظاهرِه، وتعكس هذه المعقولية أُلفتنا مع التقدُّم التقني السائد في المجتمعات الغربية. ويكاد يروج في الصحافة الشعبية استعمال مصطلحات مثل زيادة الوعي والتقدُّم الاجتماعي والتطوُّر وكأنها بمعنًى واحد بحيث يمكن استعمال أحدها محلَّ الآخر، ونادرًا ما يجري تمييز هذه الأفكار بعضها عن بعضٍ حتى في العروض المتقدمة التي تتحدَّث عن التطور البشري. ولكن فكرة التقدم في التطور هي عادة غير ملحوظة تخلفت عن فهمٍ شائع لا ينبني على معلوماتٍ صحيحة نتيجة النظر إلى العالم باعتباره تصميمًا، أي مُخططًا ابتداعيًّا، وتكمُن المشكلة في أن نموذجنا الحدسي للتطوُّر مأخوذ عن تاريخ التطوُّر التكنولوجي الذي هو عملية تراكُمية تُضيف كل يومٍ المزيد والمزيد من عناصر الخبرة إلى الجُملة المُتنامية من الأجهزة والممارسات والسجلات، ونلحظ في المقابل أن التطور البيولوجي ليس إضافةً متزايدة إلا في بعض المظاهر المحدودة جدًّا. وجدير بالذكر أن الرصيد البشري من الجينات يكاد يكون هو نفسه مثل رصيد الجينات لدى فأر أو ضفدع، كما أن مُخطط أجسام جميع الفقريات يبدو في الغالب الأعم تعديلات لخطة مشتركة؛ حتى بالنسبة للمخ. وعلى الرغم من أننا نحتل الطرف النهائي الشامل لسلسلة أحجام الجسم والمخ، فإن هذا ليس نتاجًا لإضافة أعضاء جديدة، بل هو مجرد تضخم للأعضاء الموجودة مع تعديلاتٍ طفيفة.

إن التطور عملية غير قابلة للارتداد، وعملية زيادة مُطَّردة في التنوع والانتشار، ويُمثل التطور بهذا المعنى وحدَه اتجاهًا مُتسقًا، إنه مثل الأنطروبيا entropy عملية انتشار إلى حيث تُوجَد إمكانيات شاغرة وفي حدود المدى المُمكن لإحداث مزيدٍ من التنوع المحدود. إن التطوُّر لا يستمر لكي تصدر عنه بشكلٍ عشوائي ومُطَّرد مصائد فئران أكثر جودة، حتى وإن نتجت عنه بعض السوابق المُماثلة، بيد أن هذا النمط الخاص بالتوسُّع في صورة مواطن شاغرة لا يضعنا في أي من المواطن الأكثر تطرفًا.
والتطور تنوع وتباين في جميع الاتجاهات وإن كانت الخيارات المُتاحة في بعض الاتجاهات أكثر من غيرها. بدأت الكائنات الحية صغيرة الحجم قصيرة العمر ولم يكن لها أن تتحول إلى ما هو أصغر، بل لا بد أن تتحول دائمًا إلى ما هو أكبر وأطول عمرًا. وطبيعي بالنسبة لأصغر الكائنات الحية حجمًا أن الموارد التي يمكن رصدُها للتمثيلات الباطنية للعالَم كانت محدودة، حتى وإن بدت البكتيريا قادرة على استخدام جهازها لتخزين المعلومات، أي لكي تستمدَّ جيناتها المعلومات من حولها وتعديل سلوكها بما يتلاءم معها، ولكن الطرف الأعلى في سلسلة قدرات تناول المعلومات لم يكن محدودًا بالقدْر نفسه، ولذلك ازداد الفارق بين الطرف الأدنى والطرف الأعلى من السلسلة على مدى مئات الملايين من السنين من عمر التطوُّر الحيواني باعتبار ذلك جزءًا من عملية التبايُن والتنوع، ومع ذلك فإن عدد الكائنات صغير الحجم لم يقلَّ بسبب التنافس مع الكائنات ذات الأمخاخ الكبيرة، كما أن الكائنات التي لا أمخاخ لها مثل جميع النباتات والكائنات وحيدة الخلية تتفوَّق أعدادها كثيرًا جدًّا على كل ما عداها، وحدث عرَضًا أن اتجاهًا تطوريًّا واحدًا ثانويًّا للغاية سار في اتجاه مواطن مُلائمة niches تجري فيها عملية ضخمة لمُعالجة المعلومات على مدى حياة الكائن الحي، وثبت أنه الطريق الصحيح لنقل الجينات، هل هذا حتمي؟ يبدو في ظاهره وكأنه اتجاه حتمي في التطور مثل تطور السمك القُطبي وعدم قابلية دمه للتجمُّد أو مثل ثعبان البحر الكهربي electric eels الذي يستخدم الكهرباء لاستشعار سبيله عبر مياه نهر الأمازون الطينية. لقد توفر الموطن الملائم هناك ولا شيء آخر، ثم تمَّ ملؤه بعد ذلك، ونحن لدرجةٍ ما قريبون من الطرف النهائي لهذا الوزع.
السؤال إذن هو ما إذا كان تطوُّر اللغة في هذا السياق حدثًا متطورًا قبل وقوعه، وهل ثمة اتجاه عام وصولًا إلى اتصالٍ أفضل؟ كم هو يسيرٌ ونحن ننظر إلى الأحداث بعد وقوعها أن ننظم تاريخ الاتصال عبر المسافات البعيدة ابتداءً من رسائل البرق «التلغراف» إلى الهواتف السلكية، ثم إلى الهواتف النقَّالة، وصولًا إلى أجهزة الاتصال الجوالة Star Trek communicators (التي استُخدِمَت في فيلم ستار تريك)، وليس يسيرًا تمامًا تحديد ما إذا كان الاتصال بين الحيوانات سار في تقدُّم مُطَّرد، وما إذا كانت لغة الإنسان جزءًا من هذا المسار، ونحن نعرف يقينًا ما شهده التطوُّر من تقدُّم في الاتصال عبر المسافات البعيدة وفي وضوح الإشارة، بيد أننا إذا ما حصرنا مُقارنتنا في إطار الاتصال الصوتي لن نجد دليلًا في الأنواع الحية يؤكد وجود اتجاهٍ حتمي للتقدُّم على مراحل وصولًا إلينا. ويبدو واضحًا أن الأنواع البسيطة غير المُعقدة يمكنها استخدام طرق شديدة التعقُّد للاتصال الصوتي، كما أن بعض الأنواع شديدة التعقُّد قد تكون غير واعية بمزاياها، وهناك أيضًا الكثير من الخاصيَّات الصوتية المُتميزة عظيمة الدلالة مثل النظام الحسي المُعتمِد على صدى الصوت echo location، الذي يتجاوز تمامًا قدرة الإنسان، ونجد لدى أقرب أقربائنا، وهم القِرَدة العُليا، نوعًا عالي الصوت (الشمبانزي) ونوعًا أقرب إلى الصمت (الأورانج أوتان)، ونلحظ في الواقع أن غالبية الطيور تتفوَّق بسهولةٍ على أيٍّ من الثدييات من حيث المهارات الصوتية، وعلى الرغم من أن الكلاب والقطط والخيل والقردة تتميز بقُدرة عالية على التعلُّم في مجالات كثيرة، فإن النطق أو التلفُّظ vocalization ليس من بينها، ومن ثم فإن قدراتنا المُميزة على إخراج الأصوات ليست جزءًا من مسارٍ عامٍّ بل هي استثناء.
ونحن ننزع أيضًا إلى الحطِّ من تقديرنا لتعقُّد ودقة الكثير والكثير من مظاهر الاتصال الاجتماعي غير البشري، وشهدت العقود الأخيرة دراساتٍ ميدانية عن الاتصال الاجتماعي لدى الأنواع غير البشرية، وأكدت هذه الدراسات أن الكثير من الطيور والرئيسات واللواحم الاجتماعية تَستخدِم رصيدًا صوتيًّا وإشاريًّا لبناء تجمُّعاتها الاجتماعية الضخمة، ويُهيئ هذا وسيلة لتنظيم أعمال البحث عن النظام وحركة السِّرب، وتحديد أفراد السرب؛ بغية الحفاظ على التراتُبية الاجتماعية ذات الأبعاد المُتعددة وإعادة هيكلتها، وتُستخدَم الوسيلة أيضًا للتعامُل مع المواجهات العدوانية والْتماس المساعدة والتحذير من الأخطار،٤ ونلحظ حتى في نوعِنا البشري أن لُغتنا على الرغم من تعقُّدها وثرائها ليست بَعدُ بديلًا عن التعبير عن صدمةٍ أو ضحكة مكبوتة أو فيضٍ من دمع صامتٍ عندما يلزم توصيل بعض الرسائل الأهم دلالةً في العلاقات الاجتماعية الإنسانية.
ولكن على الرغم من تعقُّد هذه الأرصدة التفصيلية من النداءات والعروض والإشارات، فإنها كما يبدو لا تُحدد معالم أيٍّ من العناصر التي تتألف منها اللغة. وذهب بعض الباحثين من ذوي الاتجاهات المُختلفة إلى أننا نجد نظائر موازية لبعض مظاهر اللغة في الأصوات المُكتسبة من شدو الطير، كما نجد المرجعية الخارجية واضحةً في صيحات الخطر عند قردة الفرفيت vervet أو في رقصات نحل العسل، ونراها كذلك في المُتواليات الصوتية الاجتماعية المُتبادلة التي تتألف منها أغنيات الحوت الأحدب humpback whale، (وسوف نتناول بالتفصيل كلًّا منها على حِدة في الفصل الثاني)، وتكشف هذه الأمثلة وكثير غيرها عن تشابُهٍ ظاهري فقط مع عملية تعلُّم اللغة أو مرجعية الكلمة أو التركيب النحوي، وإذا سلَّمنا بهذه التوازيات، فلن نجد نوعًا غير بشري يضع هذه المظاهر الشبيهة باللغة بعضها مع بعض في منظومةٍ مُتآزرة ولها قواعدها الحاكمة.

تُرَى هل عجزنا عن معرفة اللغات غير البشرية بسبب غُربتها بالنسبة إلينا مِثلما أن كلامنا غريب عليها؟ دأب الناس منذُ زمانٍ طويل على افتراض هذا الظنِّ على الأقل في الأساطير وقصص الأطفال، وذهب بهم الخيال إلى حدِّ الظن بأننا يومًا ما سوف نتغلَّب على حواجز الاتصال التي تحُول دون البشر والحيوانات الأخرى من تقاسُم الذكريات والمُعتقدات والآمال والمخاوف. وجدير بالذكر أن د. دولتيل يُعدِّد في كتاب الأطفال ذائع الصيت، الذي تحوَّل إلى فيلم سينمائي، أنواع المساعدات التي قدَّمها ببغاء «مُتعدد اللغات» في الترجمة بين كلام الحيوانات وكلام البشر، ولكن هل يمكن ولو عمل «ترجمة» بدائية شديدة السطحية؟ ماذا عساك تقول لطفلٍ يسألك: «ماذا تقول قطتي؟ هل أصوات وإشارات الحيوانات تُفسَّر أو تصف أو تسأل أو تأمُر؟ هل هي تُحاجُّ أو تخالف الرأي أو تُساوِم أو تُثرثر أو تقنع أو تتسامر بتبادُل الأفكار فيما بينها؟ هل يشتمِل الاتصال بين الحيوانات على عناصر مناظِرة لعناصر لغة البشر؟» إن نداءات وحركات الحيوانات ليس بها ما يُناظر الأسماء أو الأفعال في بناء الجُمل، ولا روابط نحوية مقابلة لروابط غير نحوية، ولا ما يدل على مفردات أو جمع، ولا مؤشرات دالة على الزمان، ولا حتى أي عنصر يمكن مُقابلته بالكلمات إلا ما يمكن وصفه بأقل المعاني ببداية ونهاية الصوت.

وثمة أسباب معقولة تدعونا إلى أن نلزم الحذر فلا نُطلق دعاوَى مؤكِّدة فيما يختصُّ بنفي وجود لغاتٍ غير بشرية، ووجه الحذَر أن دراستنا لمنظومات الاتصال بين الأنواع الأخرى ما تزال في مهدِها، أليس من الحكمة أن نلتزِم موقفًا لاإداريًّا إلى حين تحصيل قدْر وافٍ من المعارف عن مظاهر الاتصال بين الأنواع الأخرى؟ تقتضي الحكمة دائمًا ألا نستبق الدليل والبرهان خاصةً عند الحديث عن موضوعٍ تُسيطر علينا فيه انحيازات وأهواء لا سبيل إلى إنكارها، وما أكثر الأنواع التي لا نعرف شيئًا عن سلوكها الاتصالي بالقِياس إلى الأنواع التي درسنا نظام الاتصال بينها، ومع ذلك، أعتقد أن لدَينا ما يكفي من المعلومات لصوغ رأي موثوق به إلى حدٍّ معقول حتى بالنسبة لأنواع لم ندرس سلوكيات الاتصال فيما بينها إلا دراسةً سطحية. وجدير بالذكر أن ما يجعل هذا الزعم تخمينًا آمِنًا إلى حدٍّ كبير ليس تقدُّم الدراسات التحليلية للسلوك، بل الخصوصيات المُثيرة التي تتجلَّى واضحةً في لغةٍ غير بشرية. وطبيعي أنه حين تكون الفوارق واضحة لكلِّ ذي عينَين، فسوف تكون الحساسية وحنكة وتعقُّد الملاحظات والاختبارات عند الحد الأدنى لها.

ترى ما عساها أن تكون خصائص لغة غير بشرية تجعلنا نُدركها على الفور كشبيهِ لغةٍ للاتصال حتى وإن بدت غريبة تمامًا بالقياس إلى كل لغات البشر؟ هذا هو السؤال الذي يقوم العلماء بمسح أطراف السماوات عن طريق التلسكوبات اللاسلكية يُحاولون الإنصات إلى إشاراتٍ صادرة عن أنواعٍ غير أرضية تسأل نفسها أو تُوجِّه إليهم الأسئلة عن طريق أولئك العاكفين على المراقبة الإلكترونية والمَعنيِّين بالتمييز بين نقل إشاراتٍ مُشفَّرة أو ذات طابعٍ سري وبين ضوضاء عشوائية، وسيكون مُثيرًا للانتباه أن الكثير من هذه الخصائص واضحة في البنية السطحية للإشارات، وليست بحاجةٍ إلى بصيرةٍ خاصة للنفاذ إلى المعنى أو إلى الوظيفة المُستهدفة، كما لا تكشف عن تطابُقٍ مع قواعد نحو اللغة الطبيعية،٥ ونجد هنا عددًا محدودًا من القسمات العامة التي يتعين فرزها؛ إذ تكشف الإشارة الشبيهة باللُّغة عن شكلٍ توليفي يشتمِل على عناصر متمايزة، ويمكن أن تتكرَّر في توليفاتٍ مختلفة، وتكشف أيضًا عن إنتاجيةٍ إبداعية لمنتجاتٍ مُتباينة وقدْر محدود من الحشو الزائد عن الحاجة. وعلى الرغم من أن التوليفات المُحتمَلة من العناصر ستحمل درجةً عالية من التبايُن، فإن غالبية الإمكانات التوليفية سيجري استبعادُها تدريجيًّا، وربما نلحظ قسمةً مُثيرة أخرى على نقيض ما هو بدهي في الأمثلة الأرضية؛ حيث من المُمكن إدراك عوامل الارتباط بين الإشارات والأحداث التي تقع في سياقها؛ ذلك أن الروابط بين الإشارات الفردية والأشياء والأحداث التي يتألف منها سياق إنتاجها لن تكشف عن تكوينٍ بسيط قائم على أساس واحد إلى واحد، وهنا قد تختلف جذريًّا الروابط بين عناصر الإشارة وسياقها العملي، ويجري الاختلاف على نحو منظم من مناسبةٍ إلى أخرى اعتمادًا على كيفية تنظيم الإشارات في توليفةٍ واحدة بعضها بالنسبة إلى بعض. وطبيعي أن هذه جميعًا هي قسمات عامة مقترنة بالبناء النحوي حتى وإن لم يكن مجرد بناء نحوي لغوي، وتكشف الألعاب البشرية والرياضيات بل والأعراف الثقافية عن هذه القسمات.

ولو أن مراقبًا يرصد بالتلسكوب اللاسلكي حدَّدَ إشارةً صادرة من الفضاء البعيد ولها هذه الخصائص، فإن اكتشافه سيحتلُّ صدر الصفحات الأولى من صُحف العالم على الرغم من أن معنى الإشارة سيظلُّ غير مفهومٍ على الإطلاق، ومع الرغبة في المُضي إلى أبعد من ذلك حتى فيما يتعلق بالاتصال بين الحيوانات التي تمَّت دراستها دراسةً سطحية يُمكننا أن نكون على قدْر معقول من اليقين من أن مثل هذه الإشارة لم يتسنَّ رصدُها بعد بالنسبة للغالبية الساحقة من الأنواع التي يمكن أن تترشح لذلك، ونجد على العكس السلوكيات التواصلية — على الرغم من أنها شديدة التعقُّد ومتقدمة للغاية، لدى أنواع أخرى — أميَل للحدوث في صورة إشارات منعزلة وداخل مُتتاليات ثابتة أو توليفات غير مُنتظمة نسبيًّا؛ بحيث يكون من الأفضل وصفها بأنها إضافات تراكُمية أكثر منها قواعد شكلية، كذلك فإن تطابُقها مع القواعد وناتج السلوك، في حالة ما يكون بالإمكان بحثها، يتحول حتى إلى طبيعة ترابُطية في علاقات تُناظِر واحدًا إلى واحد، وعلى الرغم من أن هذا نموذج لم يتسنَّ وصفُه بَعدُ لنظام اتصالٍ حيواني يفي بكل هذه المعايير، وليس بالإمكان استبعاده، فإنه من المعقول أن نستنتِج أن الفرص لتحقيق ذلك نادرة بحيث نظنُّ أنها مضت دون أن نرصدها لدى أنواع الحيوانات المألوفة؛ الأمر الذي يمكن أن نفتقده فيما يتعلق بإشارةٍ لاسلكية كونية.

وليست فكرتي هنا أننا نحن البشر أفضل أو أذكى من الأنواع الأخرى، أو أن اللغة مُستحيلة بالنسبة لها، وإنما فكرتي ببساطة أن هذه الفوارق ليست أنواعًا من لُغاتٍ غير متكافئة لا يمكن القياس عليها، بل — وهو الأصح — أن هذه الأشكال غير البشرية للاتصال مختلفة تمامًا عن اللغة، وأعتقد، لهذا السبب، أن المقارنة مُضللة وتفيد فقط على المستوى السطحي جدًّا، وليس من العسير تمامًا تقييم هذه الحقيقة؛ لأن كلًّا منَّا له خبرة شخصية عن طبيعة اللاتكافؤ التي أتحدَّث عنها، وتُوجَد نظائر بشرية عديدة لسلوكياتٍ تواصلية حيوانية لا لسانية، ونحن أيضًا لدينا مدًى واسع من التعبيرات الفطرية والأصوات والإيماءات التي تبدو واضحةً في ظاهرها ومفهومة لدى الجميع. وهذه من مكونات التواصل الاجتماعي البشري التي لا يمكن إبدالُها بغيرها مثلما هو الحال لدى الحيوانات، بيدَ أنها، مع ذلك، ليست مناظرةً لتجعلنا ثُنائيِّي اللغة. وطبيعي أن هذا الرصيد الآخر من السلوكيات التواصلية ليس لغةً من الإيماءات بديلًا عن الكلمات، إنه شيء آخر، وعلى الرغم من أن هذه النداءات والإيماءات البشرية تؤلِّف منظومةً نألُفها تمامًا فإننا نواجِه الصعوبة نفسها في ترجمتها إلى ما يُكافئها من كلماتٍ مثلما هو الحال مع نداءات وحركات الحيوانات التي نحن على قدْر أقل بكثيرٍ من الأُلفة معها، وليست المشكلة غرابتها أو عدم أُلفتنا لها، بل إننا لا نجد معنى للسؤال عن نوع الكلمة التي تُعبر عنها الضحكة، أو ما إذا كان صوت نشيجٍ يأتي تعبيرًا عن زمن ماضٍ أو زمنٍ حاضر، أو ما إذا كانت مُتتالية من إيماءات الوجه جاء التعبير عنها صحيحًا، وليست المشكلة صعوبة المقابلة بين معالم اللغات البشرية وغير البشرية، بل صعوبة تحديد معالم اللغات بالمقابل لأي شكلٍ آخر للاتصال الذي تطوَّر طبيعيًّا سواء كان بشريًّا أم غير ذلك.

ونظرًا لعدم معرفتنا بأي شكلٍ طبيعي آخر للاتصال، ليس من حقِّنا القول: إن اللغة صورة أكثر تعقدًا من تلك، ونحن نخدع أنفسنا؛ إذ نصف نظُم الاتصال لدى الأنواع الأخرى بأنها لغاتٌ بدائية تمامًا مثلما نخدع أنفسنا إذا قُلنا إنها لغات، وعلاوة على التأكيد بإمكانية التعسف في القول بالتماثل مع الأخرى، فإن المناظرة تُغفل تعقُّد وقوة الاتصال غير اللِّساني بين الحيوانات التي ربما تملك قدراتٍ لا وجه للتوازي بينها وبين اللغة، وربما لدينا استعداد مُستبق لكي نرى عمليات الاتصال لدى الأنواع الأخرى من خلال المجاز اللغوي؛ لأن اللغة تُمثل إلى حدٍّ كبير جزءًا طبيعيًّا من جهازنا الإدراكي اليومي، وهذا من شأنه أن يخلق لَدَينا، بسهولةٍ، منظورًا عنها من الخارج، بيد أن خبرتنا بطبيعتها وواقعِيَّتها تُكذِّب أنها ذات طبيعةٍ غريبة من خلال الإطار الأكبر للموضوعات، إنها شذوذ تطوُّر، أي خروج عن القاعدة في المسار التطوري وليست مجرد المدى الأقصى للتطور.

وافتقارنا إلى سابقة يجعل اللغة مشكلة بالنسبة لعلماء البيولوجيا، ونعرف أن التفسيرات التطورية تختصُّ بالاستمرارية البيولوجية، ومن ثم فإن افتقاد الاتصال من شأنه أن يحدَّ من استخدام المنهج المُقارن من نواحٍ مهمة عديدة، نحن لا نستطيع أن نسأل «ما المُتغير الإيكولوجي المرتبط بزيادة استخدام اللغة لدى عينةٍ ما من الأنواع؟» كما لا نستطيع أن نبحث «الروابط العصبية المُلازمة لزيادة تعقد اللغة»، ولا نعرف سلسلةً من الأنواع المترابطة لنُضمِّنَها تحليلنا، ونتيجة لذلك فإن الجهود المبذولة لتحليل القوَى التطورية المسئولة عن اللغة اعتمدت على بدائل فجَّة لتبنِيَ منها وعلى أساسها التماثل المفقود بين اللغة وأشكال الاتصال غير البشرية، ويستهوي المرء تصوُّر اللغة وكأنها الغاية التي بلغَها مسارٌ ما لما تُنتجه أنواع أخرى من أصواتٍ ونداءات مثل العواء أو الإيماءات أو علاقات التزيين الاجتماعية،٦ ويستهوي المرء أيضًا القياس على إحدى قسمات التشريح البشري التي يمكن مقارنتها بسهولةٍ مع أنواع أخرى واتخاذها مرجعًا لتطوُّر اللغة، مثال ذلك إمكانية وضع البشر في مراتب مع الأنواع الأخرى من حيث حجم المخ وحجم التجمُّعات والتنظيم الاجتماعي للجنس واستراتيجيات البحث عن الطعام … إلخ. ولكن على الرغم من أن البشر يحتلُّون ذروة الكثير من هذه التقديرات، فإن عوامل الارتباط بين هذه الصفات غير واضحة، كما أن ربطها باللغة مُثير للريبة؛ نظرًا لأن هذه الصفات لا علاقة لها باللغة لدى الأنواع الأخرى.

ولكن تفسير القطيعة بين الاتصال اللساني وغير اللساني باعتباره الفاصل الجوهري المُميز بين البشر وغير البشر أفضى إلى تفسيرٍ آخر لنشأة اللغة مثله مثل الآخر من حيث المُبالغة وعدم المعقولية، ونقصد هنا بتفسير نشأة اللغة الزعم بأن اللغة نتاج دائرة عصبية فريدة ومن نوع لا مثيل له يزوِّد البشر بكل القسمات الجوهرية التي تُكسب اللغة طابعها الاستثنائي (أعني التركيب النحوي)، بيد أن هذا لا يقنع فقط بافتراض وجود قسمة عصبية فريدة مُرتبطة بهذا السلوك الفريد، بل يفترض أيضًا وجود قطيعة بيولوجية جوهرية، أو لنقل بعبارة أخرى: إن اللغة منفصلة بشكلٍ ما عن بقية تكويننا البيولوجي والعصبي، وهكذا نُصبح أشبه بقردة عليا زائد لغة؛ أي كأننا أضفنا حاسوبًا لغويًّا إلى شمبانزي.

ويُذكِّرني هذا بمشهدٍ مُثير لأسطورة حديثة عرضها فيلم معاصر بعنوان الدائرة القصيرة، يعرض الفيلم مشاهد لروبوت مُتقدم جدًّا وقد تحوَّل بالصدفة من جهازٍ آلي مُهمته قاصرة على إنجاز برنامج، إلى كائن واعٍ بنفسه إثر ومضةِ بريد خاطف أصابته، ودمَّر الحدث الخاطف والمفاجئ كل دوائره الكهربية في الاتجاه الصحيح تمامًا؛ إذ أدَّت طلقة البرق، حسب منظور الفيلم، إلى تصحيح حدود ومدى التصميم البنائي، وأنجزت طلقة البرق وفقًا للمسار السينمائي أمرَين مُهمَّين، ونجد هنا أن الطبيعة الكارثية المفاجئة للبرق هيأت أداةً لإحداث تغيُّر جذري عاصف وغير مسبوق، كذلك فإن طبيعة التغير اللاقياسية — أو الإعجازية بلُغة التقليد — تحُول دون أي إمكانيةٍ لتقديم وصفٍ دقيق للتحولات التي أدَّت إلى تغيير آلية الحاسوب إلى عقل من النمط البشري، والتزامًا بالقصة نتوقف عن التحليل النقدي ونسمح لهذا الحدث العرَضي الإعجازي ليحلَّ محلَّ تحوُّلٍ آخر غير قابل للتفسير، وإذا أخذنا هذا الحدث كتصويرٍ مجازي للتطوُّر العقلي البشري، فإنه يقدم لنا مثالًا نموذجيًّا لما يُسميه علماء البيولوجيا نظرية «المسخ الواعد»: النظير الفكري التطوري للتدخل الإلهي؛ حيث تحدث طفرة عجيبة تُفضي إلى إنتاج كائنٍ حيٍّ مختلف جذريًّا ومزوَّد على نحوٍ إعجازي بأفضل التجهيزات اللازمة للحياة.٧
وجدير بالذكر أن النظرية الوحيدة ذات التأثير الواسع عن «المسخ الواعد» لتفسير تطور اللغة البشرية هي تلك التي قدَّمها عالم اللسانيات ناعوم شومسكي، ثم تردَّد صداها قويًّا بعد ذلك على ألسنة العديدين من علماء اللسانيات والفلاسفة والأنثروبولوجيين وعلماء النفس. أكد شومسكي أن قدرة الأطفال على اكتساب القواعد النحوية للُغتهم الأولى، وقدرة البالِغين على الاستخدام السهل ودون جهدٍ لهذه القواعد النحوية، لا يمكن أن نُفسرها إلا بافتراض أن جميع أشكال التركيبات النحوية ما هي إلا تنويعات ﻟ «بنية نحوية كلية» universal grammar وحيدة وخاصة بالنوع، وأكد، مع ذلك، أن جميع أمخاخ البشر تظهر إلى الوجود ومُدمَج فيها عضو اللغة الذي يشتمِل على المُخطط أو البرنامج الأساسي لهذه اللغة، وجاءت هذه النظرية باعتبارها الإجابة الوحيدة والمقبولة عقلًا على مشكلة التعلُّم التي تبدو في ظاهرها مشكلةً يستعصي حلُّها؛ إذ تبدو القواعد النحوية مُعقدة على نحوٍ لا مثيل له وذات بنيةٍ منطقية منهجية، فضلًا عن أن «القواعد» النحوية كلٌّ على حدة ليست جليةً بوضوح في المعلومات المتوفرة لدى الطفل، علاوة على هذا فإن الأطفال حين يتعلَّمون لُغتهم الأولى يكشفون عن ضعف القُدرة على تعلُّم أشياء أخرى كثيرة، بيد أن الأطفال، وعلى الرغم من هذه القيود، يكتسبون معرفةَ اللغة بمعدلٍ لافت للأنظار، وطبيعي أن يفضي هذا إلى نتيجةٍ لا مناص منها كما هو واضح، وهي أن معلومات اللغة لا بد أنها موجودة «في المخ» سابقًا قبل بدء العملية، وهذا سبب نجاحها؛ إذ لا بد أن الأطفال «يعرفون» سابقًا مكونات البناء النحوي الخاص بهم؛ حتى يتسنَّى لهم القدرة على إغفال الكمِّ الذي لا حصر له من الفرضيات الخاصة بالبناء النحوي التي يمكن أن تُوحي بها خبرتهم المحدودة لو كان ذلك في وضعٍ آخر.

كذلك فإن هذا الجهاز، أو «عضو اللغة» الفريد المدمج في المخ البشري يُمكن أن يُفسر لنا أيضًا أسباب فشل الأنواع الأخرى في تعلُّم اللغة، وتتمثَّل غواية هذا المُخطط في أنه يُلغي الكثير من القضايا والمسائل العويصة بضربةٍ واحدة قاضية: القطيعة بين الاتصال البشري وغير البشري، وكبر حجم المخ البشري دون الكائنات الأخرى (بسبب إضافة جزءٍ جديد يزيد من حجمه)، وطبيعة التكافل المنظومي للقواعد النحوية؛ (لأنها مُستمدَّة جميعها من مصدرٍ عصبي واحد)، والقسمات الكلية المفترضة المُميزة لبنية اللغة (شأن سابقتها)، وقابلية الترجمة المُتبادلة فيما بين اللغات (للأسباب السابقة)، وسهولة تعلُّم اللغة في البداية على الرغم من عدم كفاية المُدخلات وقلَّة تصويب الخطأ النحوي عند الكبار.

غواية أخرى لقصة المسخ الواعد تتمثَّل في الوعد بحدوث نقلةٍ حاسمة وجذرية من مرحلةٍ إلى أخرى في مسلسل الأحداث التطورية، إنها تعرض لنا رؤية تطورية من خطوةٍ واحدة بحيث تبدو أيسر للفهم والتنظيم عند التفكير في الأمر على عكس القول بتغيرات مُطَّردة تشتمل على عوامل كثيرة متفاعلة ومتداخلة بعضها مع بعض في الزمان وبوسائل معقدة، إنها تستحث الخيال لكي يسمع أن قصة نشأة البشر جرى تدوينها وتخطيطها عبر مسارِ حدثٍ جذري وحاسم وقع فيما قبل التاريخ؛ إذ تفيد القصة أنَّ سلفًا ما استطاع في خطوةٍ واحدة أن يجتاز العتبة عبورًا إلى البشرية، ولكن مثل هذه النقلة الحاسمة ما كان لها أن تحدُث دون أن تُخلِّف أثرًا لبيِّنة تؤكد انفصالها، وطبيعي لو أن القدرات اللغوية الحديثة ظهرت فجأة فيما قبل التاريخ البشري، فإن لنا — كما ينبغي — أن نكتشف عديدًا من مظاهر الارتباط الأخرى الدالة على حدوث إعادة تنظيم جذرية للسلوك والبيولوجيا عند البشر. واستلهم الباحثون هذه الإمكانية في مجالات بحثٍ عديدة، وأخذوا يُنقبون فيما لديهم من معلوماتٍ بحثًا عن إشاراتٍ دالة على حدوث تنقُّلات فجائية يمكن أن تكون قد حدثت نتيجةً لمِثل هذه الطفرة اللغوية العصية على الفهم، ولا غرابة إذا تم اكتشاف «الكثير في سجل ما قبل التاريخ البشري»، ونجد من بينها: تحولات تكنولوجية فجائية (مثل ذلك الظهور الأول للأدوات الحجرية، أو تغيرات ثقافية واسعة النطاق في تصميم الأدوات)، وإمكانية وقوع أحداثٍ لتطوُّرٍ نوعيٍّ إحيائي فاصل (مثل نشأة البشر المُحدثين ذوي التكوين التشريحي المُميز من حواء الميتوكوندرية mitochondrial Eve٨ والتغيرات السكانية السريعة (مثل فناء إنسان النياندرتال)، والإشارات الدالة على إنجاز إبداعات رئيسية في المصنوعات الفنية (أول ظهور للفن التصويري representative art الدائم من مثل النحت ورسوم الكهوف في أوروبا)، ولكن نظرًا لأن المكتشفات الإحاثية لا تُمثل دليلًا ولو غير مباشر على أحسن الفروض فضلًا عن تناثُرها إلى حدٍّ كبير وتشظِّيها، فإنها تظهر غير منظمة لأسبابٍ أخرى كثيرة ليس أقلُّها استعدادنا السابق لتنظيم الدليل وفق تصنيفاتٍ فئوية شاملة ومُطلقة.

وطبيعي أن أي عضوٍ للغة نشأ على نحو عرضي لا يستلزم تفسيرًا على أساس التكيف لبنية اللغة، وإذا حدث وتم دس أو تركيب هذا العضو الافتراضي أثناء حادثٍ عرضي فيما قبل التاريخ ولم ينشأ على نحوٍ تطوُّري جزءًا فجزءًا وفقًا لمُقتضيات دوره الوظيفي، إذن لن تكون ثمة ضرورة لتقديم تفسيراتٍ وظيفية، وإذا كان الأمر مجرد حدثٍ عرضي، إذن فإن أي منفعةٍ له ستكون من ثم عرضيَّةً تمامًا ونكتشفها بعد وقوع الحدث، وقد يُفسر هذا أيضًا الكثير من الخاصيَّات الواهية للغة وعدم اتصالها وترابُطها عند مقارنتها بالأشكال الأخرى للاتصال غير البشري، بيد أنني أرى أن هذه القصة مُتقنة ومحبوكة بدقة؛ لأنها توحي بأن لا حاجة إلى توجيه الكثير والكثير من الأسئلة، والملاحظ أن نظرية عضو اللغة العرَضي ترجو منا بأدبٍ جمٍّ إغفال التفاصيل المُزعجة عن نشأة اللغة، والتخلِّي عن الأمل في العثور على سوابق في بِنية أمخاخ القِرَدة العُليا أو في قدراتهم المعرفية، وأن نكفَّ عن البحث عن أي منطق عميق لتصميم العلاقات البنيوية والوظيفية لقواعد التركيب النحوي للغة، وهذا إغفال جسيم زائد عن الحد، تُرى ما البديل الذي يُقدمه لنا هذا الفرض؟

نقرأ في مسرحية موليير بعنوان «المريض الخيالي»٩ أن أحد شخصيات المسرحية سأله الطبيب الفاحص أن يشرح له الطريقة التي يُسبب بها الأفيون النوم، أجاب: إنه يُسبب النوم؛ لأنه يحتوي على «عامل مُسبب للنوم»، ولقيت هذه الإجابة استحسان الأطباء، وطبيعي أن المسرحية تسخر هنا من الخبرة الزائفة لأدعياء العِلم بأن أوضحت أن معرفتهم ليست أكثر من مُغالطات؛ ذلك أن الإجابة ليست تفسيرًا، إنها أخذت فقط ما هو بحاجةٍ إلى تفسير وأعطته اسمًا، ليبدو وكأنه شيءٌ طبيعي، ويُشبَّهُ هذا القول بأن الفلوجستون، وهو المادة التي حدث أن افترضها الباحثون في كيمياء ما قبل عصر الذرة، وزعموا أنها الجوهر الذي حدد قابلية الاشتعال؛ إذ إن عبارة «العامل المُنوِّم» لا ترد الظاهرة المطلوب تفسيرها إلى أي آلياتٍ سببية أساسية بحيث تكشف العِلل وراء الظاهرة.

ويرى كثير من اللغويين أن المعرفة النحوية هي ما يتعين تفسيره، وأن ما نحتاج إليه هو بيان وافٍ عن مصدر القدرات النحوية والبنيوية لدى الأطفال في ضوء سوابق موجودة ضمن خبرة الطفل باللغة، وهكذا نكون مثل شخصيات مسرحية موليير الذين يعرفون ما هو المُنْتَج، ولكنهم يجهلون كيف يتم إنتاجه، وهكذا نُخفق في اكتشاف تفسيرٍ كافٍ يفسر لنا كيف انطبعت المعرفة النحوية في عقول الأطفال من مصدرٍ خارجي، وطبيعي إزاء هذا الإخفاق أن نتحوَّل إلى القول بعدَم إمكانية حدوث ذلك من الخارج على الإطلاق، ولكن مجرد افتراض أن هذه المعرفة موجودة مقدمًا، ومن ثم ليست بحاجةٍ للانتقال من الخارج إلى الداخل، ليس إلا إعادة إثبات هذا الاكتشاف السلبي بلغةٍ إيجابية، وتعمل الغريزة النحوية أو القواعد النحوية الكلية عمل المُعوقات البنيوية لكل ما لا يمكن تعلُّمه، وإن طبيعة هذه المعرفة الفطرية المفترضة للُّغة لا يمكن وصفها إلا في ضوء تجلِّياتها. وعمد اللغويون إلى العمل تدريجيًّا لإعادة تعريف وتحديد الشيء الذي ليس بالإمكان افتراضًا تعلُّمه، وصاغوه في عباراتٍ تزايدت باطِّراد دقتها وطبيعتها الاصطلاحية، وهكذا قد يُواتينا إحساس بأن هذه الروايات تقترب أكثر فأكثر من التفسير المطلوب، ولكن على الرغم من أن وصف الشيء الذي نفتقده أصبح أكثر دقةً وتحديدًا، فإنه لم يعد كونه صيغة أكثر فأكثر تحديدًا لما نفتقِده. وجدير بالذكر أن هذه التفسيرات لطبيعة ما سُمِّي غريزة اللغة جرى عرضها لزومًا وراء قناع التعريفات التفصيلية الدقيقة للمبادئ النحوية أو غيرها في صورةٍ تُشبه برامج الحاسوب، ولم تكن في صورتها هذه سوى صياغة اصطلاحية جديدة تُثبت من جديدٍ مشكلة المعلومات المُفتقدة. ونلح أن القول بأن المخ البشري وحدَه يُنتج قواعد نحوية؛ لأنه الوحيد الذي يمتلك عاملًا نحويًّا إنما يُفضي في نهاية المطاف إلى تحويل المسألة برمَّتها من أيدي اللغويين إلى أيدي علماء بيولوجيا الأعصاب.

وتوخيًا للإنصاف نقول: لم يكن مقصد نظريات عضو اللغة language organ theories هو معالجة النشأة الأولى للغة، بل كان القصد على الأصح تفسير مصدر الأهلية اللغوية في مراحل النمو، وإنها لذلك غير وثيقة الصلة بمقولة المسخ الواعد، ونذكر هنا ستيفن بينكر Steven Pinker، وهو من أنصار الرأي القائل بقواعد نحوية كلية للقدرات اللغوية، كما أنه الناطق المُدافع عن الكثير من الآراء الأصلية لشومسكي عن تفرد اللغة، يؤكد بينكر في كتابٍ صدر له حديثًا بعنوان «غريزة اللغة» أن المعرفة النحوية الفطرية ليست أبدًا نقيضًا لتفسير نشأتها في ضوء التكيف، ويدفع بأن غريزة اللغة تطورت على الأرجح تدريجيًّا تأسيسًا على فعالية الانتخاب الطبيعي، ونرى هذا من ناحيةٍ بديلًا بيولوجيًّا أكثر قبولًا بالعقل من الأحداث الإعجازية، ويَحثنا على التصدِّي لبعض من المشكلات الصعبة التي أسقطتها نظريات تتَّخذ من الأحداث الإعجازية سندًا لها لتسدَّ بها الثغرات، ونرى من ناحية أخرى أن تفسيرًا شكليًّا كافيًا للأهلية اللغوية لا يُمثل تفسيرًا كافيًا لكيفية نشأة اللغة عن طريق الانتخاب الطبيعي، إن البحث عن هياكل جديدة في المخ البشري لملء هذا الفراغ النظري يُشبه هنا البحث عن الفولجستون، ليست له نهاية واضحة، وطبيعي أن الفشل في تحديد موضعه في مثل هذه التراتبية المُعقدة للآليات يمكن أن يؤدي دائمًا إلى رفضه والانصراف عنه بذريعة: صعب التحقيق.

ولا ريب في أن القصة التطورية الكاملة لا يمكن أن تتوقَّف عند وصفٍ شكلي لما هو مفتقد، أو عند «سيناريو» أي مُخطط يوضح كيف أن الانتخاب آثر تطوُّر معرفة نحوية فطرية؛ إذ لا بد أن يزوِّدنا بوصفٍ وظيفي يوضح لماذا إيثار هذا التنظيم المُميز تحديدًا؟ وكيف كانت حالات الزيادة الكمية والجزئية فعَّالة أيضًا وظيفيًّا، وأن يوضح كيف تعدَّلت الهياكل الموجودة حاليًّا في الأمخاخ غير البشرية بحيث تُهيئ هذه القدرات؟ إن نظرية غريزة اللغة تضع نقطة نهاية، وهي تقييم ما تحتاج نظرية تطوُّر اللغة إلى تفسيره، ولذلك تُعيد صوغ المُشكلة بأن تُعطيها اسمًا جديدًا، بيد أن هذا لا يُقدم إلا ما يزيد قليلًا عما قدَّمته نظرية الحدث الإعجازي: وصف اصطلاحي جديد لما ظلَّ دون تفسير، وأحسب للأسف أنها ترى الأشجار وتفتقد رؤية الغابة على الرغم من كل الجهد الذي بذلته، وإنني لا أعتقد أن القدرات النحوية لدى الأطفال هي السر الغامض الحاسم للغة.

اللغات البسيطة المُفتقدة

ثمة قاسم مشترك واحد بين النموذجَين الرئيسِيَّين اللَّذَين يُحددان إطار مسألة أصول نشأة اللغة: نشأة وتطور قدْر أكبر من الذكاء مقابل نشأة وتطوُّر عضوٍ خاص باللغة؛ إذ يُحدَّد النموذجان في ضوء مشكلة تعلُّم قدْر كبيرٍ جدًّا ومُعقد من القواعد والإشارات، ويفترِض النموذجان أن الأنواع الأخرى ضعيفة في تعلُّم اللغة؛ لأن اللغة شديدة التعقُّد بحيث يصعُب عليها تعلُّمها، فضلًا عن أن أداءها يتطلَّب قدرةً فوق طاقتها، وتستلزِم اللغة تعلمًا سريعًا وكفؤًا، كما تتطلَّب مخزونًا هائلًا في الذاكرة، وتفيد بمعدلاتٍ خرافية من القدرة على النطق والتحليل السمعي، وتفرض مشكلةً تحليلية قمينةً بأن يتولَّى حلَّها أينشتاين اللغوي، وهكذا يتفق النهجان على أنَّ وجهَ الصعوبة بالنسبة للأنواع الأخرى هو تعقُّد اللغة، ولكنهما يختلفان بشأن مصدر الصعوبة وما هو لازم للتغلُّب عليها، هل يحتاج الأطفال فقط إلى أن يكونوا أكثر ذكاءً بكثيرٍ من الأنواع الأخرى لتعلُّم اللغة، أم أن اللغة شديدة التعقد بحيث يتعذَّر تعلُّمها بدون معلوماتٍ لغوية مدمجة في بنية المخ لكي تنطلِق معها العملية؟ وواضح أن قبول أحد الفرضَين يقودنا إلى دعاوى مناقضة بشأن طبيعة تطوُّر اللغة والعقل البشري؛ إذ لو أن الأمر يتعلق بصعوبة تعلُّم اللغة فقط فإن التكيُّف العصبي الداعم لذلك يمكن أن يكون عامًّا من حيث تأثيره على قدرات الإدراك المعرفي، وإذا كانت اللغة يستحيل تعلُّمها في ضوء كل أغراضها العملية، فإن التكيُّف العصبي اللازم لدعمها يستلزم أن يكون خاصًّا مميزًا للنوع، وأيًّا كانت نظرتنا إلى هذه المشكلات، فمن الواضح أن التغلُّب على القيود التي يفرضها التعقد الواضح للغة يُمثل شرطًا سابقًا لنشأة وتطور اللغة. وأقول من الواضح هنا لأنني أعتقد أن ثمة ما تفقِدُه كلٌّ من النظرتَين إلى المشكلة، وهو شيء أراه أساسيًّا. والملاحظ أن هذين البديلين وكثيرًا من الآراء الأخرى الوسيطة تقنع فقط بمعالجة مشكلة واحدة من المشكلات الرئيسية التي يلزم تفسيرها مع أنها ليست المشكلة الحاسمة.

وإن أي مهمةٍ يتعذَّر أداؤها بدنيًّا ربما تتجاوز قدرتنا وطاقتنا على التحمُّل ومعدل قدرتنا على الأداء والعمل الدقيق وطاقتنا على إنجاز أشياءٍ كثيرة في الوقت نفسه … إلخ. ونقول في ضوء الإدراك المعرفي: إن هذا كله يتوافق مع قدرتنا على تركيز الانتباه، وبقاء ذاكرتنا، ومُعدلنا للتعلم ومدى ذاكرتنا على المدى القصير … إلخ. ونحن حين نقول: إن مهارةً ما يصعب تعلُّمها فإننا نعني أن سلسلة الحركات المنشودة تُمثل عبئًا شديد الكلفة قياسًا على قُدرتنا وبشكلٍ محدد من حيث التوقيت أو التآزر بين الحركات اللازمة. ونحن إذ نقول: إنَّ مهمةً إدراكية ما يصعُب تعلُّمها فإننا نعني بذلك أن تعلُّمها يستلزم استخدام معايير أدقَّ أو أسرع من قُدرتنا على تسجيلها، وأنها غير منتظمة للغاية بحيث يصعُب اكتشاف ما هو مشترك بينها، أو أنها ثاوية وسط علاماتٍ مُثيرة للتشوُّش بحيث يتعذَّر فرزُها، ونحن حين نقول: إن مهمةً معرفية يصعب تعلُّمها، فإننا نعني وجود ترابُطات كثيرة جدًّا يلزم استيعابها في الذاكرة النشطة في وقتٍ واحد أو وجود ترابطات كثيرة جدًّا يلزم التفكير فيها خلال فترةٍ قصيرة جدًّا، أو لِنقُل ببساطةٍ ترابُطات كثيرة جدًّا يتعين تذكرها. إن كلًّا منها يستلزِم أداء الكثير جدًّا في وقتٍ قصير جدًّا وغير كافٍ، معنى هذا أن كلًّا من تعقُّد المهمة والموارد المتاحة للمرء من شأنه أن يُحدِّد صعوبتها النسبية.

ونقول بوضوح: إن اللغة مُعقدة من جميع هذه النواحي، ونعرف أن الاتصال اللساني يستلزِم منَّا أن نتعلم أن نؤدي بعضًا من المهارات المُعقدة جدًّا، سواء من حيث إنتاج الكلام وكذا في تحليل أصوات الكلام، علاوة على هذا ثمة قدْر كثير مما يلزم تعلُّمه، آلاف المفردات اللغوية مع نظامٍ دقيقٍ مُحكم للقواعد اللغوية وعمليات البناء النحوي للغة، ولا يكفي القول: إن اللغة مُعقدة. ويذهب كثير من علماء اللسانيات إلى أنه غير مُتوفر لنا ما يكفي من دعمٍ خارجي للتعامُل معها؛ إذ إننا مُضطرون إلى فهم القواعد الأساسية الضِّمنية لكلٍّ من قواعد النحو والبناء النحوي دون أن يتوفر لنا تعليمٌ جيد وقدْر غير كافٍ من الأمثلة والأمثلة المُقابلة، ولنا أن نقول: إن هذا النقص الواضح للتعلُّم الكافي يزيد الطين بلة؛ إذ يجعل المُهمة المعقدة أشد صعوبة. وطبيعي أن الدرجة التي يؤدي إليها دعم تعلم اللغة إلى الحد من وتقصير هذه الحاجة تتناسب (أُسِّيًّا) مع مدى تعقُّد المهمة المنوط بها بداية، وبهذا يكون عامل تعقُّد اللغة قيدًا مضاعفًا.

كيف لامرئٍ أن يشكَّ في أن تعقد اللغة هو المشكلة؟ اللغات أمور مُعقدة في الحقيقة، ربما تكون مَراتب من حيث الأهمية وأكثر تعقدًا من نظام الاتصال التالي لها خارج النطاق البشري وفق منظور درجة التعقُّد، ولا ريب في أن الأنواع الأخرى يكاد يستحيل عليها تمامًا تعلُّمها، والسؤال هو ما إذا كان هذا التعقُّد هو مصدر الصعوبة الذي يَحصُر جوهريًّا في نوعِنا وحدَه استخدام اللغة؟ وعلى الرغم من أن هذا الرأي يبدو النتيجة الواضحة فإنه لا يبدو للوهلة الأولى شديدَ الوضوح؛ إن القسمات المُميزة للغة والأكثر حسمًا لا يمكن تفسيرها في إطار تعقُّد اللغة فقط.

إن التحدِّي الذي يُواجِه حجةَ التعقُّد بشأن نشأة اللغة البشرية رهن تجربةٍ فكرية بسيطة، لنتخيل لغةً بسيطة للغاية، وليست هي لغة الطفل، التي هي جزءٌ صغير من لغة الكبار الأكثر تعقدًا، وإنما هي لغة كاملة في ذاتها منطقيًّا، ولكنها تنبني على قاموس مفردات محدودة جدًّا، وقواعد نحوية محدودة للغاية، وقد تكون كافيةً فقط لمدًى محدودٍ جدًّا من الأنشطة، وأنا لا أعني هنا «لغة» بالمعنى المجازي، على نحوِ ما يجري خطأً أحيانًا تفسير كل نظُم الاتصال بأنها لُغات، ولكنني أيضًا لا أقصر المعنى الذي أريده على الكلام أو على نظامٍ تنحصِر مبادئه التنظيمية في أنواع القواعد النحوية الموجودة في اللغات الحديثة، وإنما أعني اللغة بالمعنى التالي العام جدًّا: نمط اتصال مبني على أُسُس المرجعية الرمزية symbolic reference (الطريقة التي تُشير بها الكلمات إلى الأشياء)، وتشتمل كذلك على قواعد بنائية combinatorial rules تُمثل نظامًا للتعبير عن علاقات توليفية منطقية بين هذه الرموز. وحسب هذا التحديد، فإن الإشارة اليدوية والرياضيات أو «لغات» الحاسوب، والتوليفات الموسيقية والاحتفالات الدينية، وقواعد السلوك الاجتماعي «الإتيكيت»، وكثير من الألعاب التي تحكمها قوانين، يمكن وصفها بأنها حاملة لجوهر خصائص اللغة، والأهم من ذلك أن الوفاء بهذه المعايير لا يستلزم أكثر من قاموسٍ صغير جدًّا للمفردات ذات المعنى وطرازَين أو ثلاثة فقط من القواعد البنائية، وقد يكفي هنا قاموس يشتمل على خمس أو عشر كلمات وقواعد نحوية بسيطة بقدْر بساطة الطفل الذي يَحبو. وطبيعي أن اختزال تعريف اللغة إلى مثل هذه الشروط التي تُمثل الحد الأدنى لها، يسمح لنا بأن نتصوَّر نظُمًا شبيهة باللغة تتَّسِم بأنها أبسط كثيرًا حتى من الرصيد الاتصالي الذي قد نجده في التفاعُلات الاجتماعية بين كثيرٍ من الأنواع الأخرى.

لذلك نرى أن هذا هو السر الحقيقي، إننا نرى حتى بموجب هذه المعايير الفضفاضة لا تُوجَد لُغات بسيطة تستخدِمها الأنواع الأخرى، على الرغم من وجود أنماط اتصالٍ أخرى كثيرة تُعادل هذه في درجة تعقُّدها أو تتجاوزها، ولمَ لا؟ والمشكلة أبعد ما تكون عن وصفِها بالبدهية حين نضع في الاعتبار الصِّعاب التي لا يمكن تقريبًا التغلُّب عليها عند تعليم اللغة للأنواع الأخرى، وهذا أمر يُثير الدهشة؛ نظرًا لوجود أنواع أخرى كثيرة تتصف بالذكاء، وأفادت تقارير الباحثين أن الاتصال شِبه اللغوي تعلَّمَته أنواع غير بشرية، ولكن على الرغم من هذا نجد أن أفضل النتائج لم ترْقَ عن مستوى الارتياب المشروع، وبدا في واقع الأمر أنَّ من الصعوبة بمكانٍ إثباتَ ما إذا كانت بعض هذه الجهود قد نجحت أم لا؟ الأمر الذي يؤكِّد النطاق المحدود للسلوكيات التي تم التوصل إليها، فضلًا عن الاختلافات العميقة بشأن تحديد ماهية مُكوِّنات السلوك شِبه اللغوي بالدقة والتحديد، بيد أن ما حققته هذه البحوث من نجاحٍ أو فشل يتضمَّن معلوماتٍ ثرية لمعرفة ما يُمكن وما لا يمكن للحيوانات أن تؤدِّيَه، وكيف نتصوَّر نحن اللغة ذاتها، ولكن النجاحات القليلة المُثيرة للجدل يتعيَّن النظر إليها في ضوء خلفية الحيوانات المُستأنسة والحيوانات المنزلية التي عجزت تمامًا عن تحقيق المهام المطلوبة منها، على الرغم من نشأتها في سياقٍ أمطرها بوابل مُستمر لا ينقطع من الأوامر وأحاديث من جانبٍ واحد، وأسئلة «خطابية». ونحن لا نجِد أثرًا حتى للغة البسيطة لدى الغالبية الساحِقة من الأنواع التي تعيش وسط الغالبية الساحقة من الأوساط أو السياقات، وليس ثمة معنى للافتقار إلى اللغات البسيطة في البرية والعجز عن تعلُّم اللغات البسيطة في ظل الوصاية والرعاية البشرية! وتنخرط أكثر هذه الأنواع في سلوك اتِّصالي طبيعي أكثر تعقُّدًا من اللغة البسيطة، وتكشف عن قُدرة على تعلُّم قدْرٍ من الترابُطات أكثر مما هو ضروري لتكوين لغةٍ بسيطة. والسؤال: لماذا تُمثل اللغة مثل هذه المشكلة؟ الفارق لا يمكن أن ينحصر في «بسيط مقابل مُعقد».

إن تعقد اللغة أمر مُهم، ويستلزم هذا تفسيرًا مثله مثل قدرة صغار الأطفال على فهم اللغة دون أن تتوفر لديهم — حسبما هو ظاهر — تغذية مُرتدة أو زمن، وهذه من مظاهر سِر اللغة المُثيرة للانتباه، ولكنها تحتل مرتبةً ثانوية بالنظر إلى سِر أساسي أكثر من غيره، ويُعتبر عاملًا مؤثرًا أكثر من غيره في الفارق بين البشري وغير البشري؛ إذ على الرغم من ذكاء الأنواع الأخرى، وعلى الرغم من واقِع أنها تنخرط في سلوكٍ اتصالي له مظاهر تعقُّد تماثل اللغة البسيطة، فإنه لا تُوجَد نُظم لغوية أخرى، وليست المسألة هي عدم الحاجة إليها، وتبدو حتى اللغة البسيطة بسببٍ ما صعبة ومُستحيلة لغير البشر، ويُشكِّل هذا لغزًا عميقًا، والسؤال إذن: لماذا تم إغفالها؟ ربما شغلتنا أكثر التفاصيل عن إدراك هذه المشكلة البسيطة، أو ربما كنَّا مُتلهفين أكثر لصوغ المشكلة في عباراتٍ تُمثل التقدم في عملية الاتصال بحيث يحتل البشر الصدارة، وأيًّا كان السبب فقد حان الوقت الذي أدركنا فيه أن المسائل التي ظننَّا أنها بحاجة إلى نظرية عن نشأة وأصل اللغة لتفسيرها هي مسائل ثانوية بالقياس إلى سِرٍّ آخر أكثر جوهرية: لماذا لا تُوجَد أي لغة بسيطة؟ ولماذا تعلُّم اللغة، حتى البسيطة، أمرٌ شِبه مستحيل على الأنواع الأخرى؟

هذا من شأنه أن يُغير كل شيء، إذا لم يكن التعقد هو المشكلة، إذن فإن النظريات التي تزعم تفسير تطور اللغة في ضوء التغلُّب على التعقد تفقد أي مُبررٍ لها، إن قاموسًا صغيرًا من المفردات لا يستلزم ذكاءً واسع الأفق أو ذاكرةً قوية أو مهارة في النطق لامتلاك ناصيتها، وطبيعي أن الذكاء المُتدني للرئيسيات والثدييات القريبة لنا لن يكون هو السبب في أنها لم تُواكبنا، كذلك فإن توفُّر قواعد نحوية وبنائية للغة سيكون مسألةً غير ذات أهمية من حيث التعلُّم، ولن تكون ثمة حاجة لجهازٍ خاصٍّ للتشفير وفكِّ شفرة القواعد النحوية، ما دام التحليل التوليفي بسيطًا، كما أن البدائل المُحتملة قليلة نسبيًّا وأكثر من هذا أن الحدَّ الأدنى من القُدرة على التعلُّم الاستقرائي سيكون كافيًا، وهكذا يتبخَّر مُبرر افتراض قواعد نحوية كلية شاملة أو افتراض عضوٍ للغة عندما نكون بصدد لُغاتٍ بسيطة، وأخيرًا، فإن نظام الأصوات phonology المُعقد والنطق السريع والتحليل التلقائي لأصوات الكلام سيكون كله غير ضروري على قدَم المساواة، ونلحظ أن مشكلات التعلُّم التي تناولتها كل هذه النظريات لا تُفسر عدم وجود لغاتٍ غير بشرية، وإنما تقنع فقط بتفسير لماذا اللُّغات غير البشرية ليست مُعقدة شأن اللغات البشرية، وتُشير إلى قضايا وثيقة الصِّلة باللغات البشرية الحديثة المُعقدة دون أن توضح الظاهرة التي ظننا بدايةً أنها عمدت إلى تفسيرها، ونلحظ كذلك أنها لا تُقدم لنا أي مفتاحٍ يفسر لنا لماذا تطوَّرت اللغة لدى سلالة البشر دون سواهم. وواضح أن هذه مشكلة اختلاف كيفي ونوعي، وليست مشكلة «بسيط مقابل معقد»، وليس المُثير للفضول فقط أن الأنواع الأخرى لم تبدأ مسيرتها التطورية عبر الدرب نفسه، وهو أمر يَستعصي على الفهم العام.

ماذا تبقَّى لنا من صعوبات تعلُّم اللغة إذا لم يكن تعقد اللغة هو موضوع البحث؟ إننا إذا طرحنا جانبًا مسألة التعقد سوف يتبقى لدينا فارق واحد مُهم بين الاتصال اللغوي وغير اللغوي: المعجزة اليومية العادية بشأن معنى الكلمة والمرجعية.

وجدير بالقول: إنه لا النحو اللغوي ولا البناء اللغوي ولا توليد الصوت المموج ولا القاموس الضخم هي الأمور التي حالت دون الأنواع الأخرى وتطوُّر لغةٍ لها، وإنما فقط المشكلة البسيطة الخاصة بتصوُّر كيفية توليف الكلمات وتركيبها يُشير إلى الأشياء. والسؤال: لماذا بدت غايةً في الصعوبة؟ لماذا الطريقة المختلفة والمُثيرة للتصوُّر التي ترى أن اللغات تُمثل أشياء أدَّت إلى وضع ذلك الحائل الذي لا سبيل إلى النفاذ منه في طريق التطور؟ إذا نجحنا في تفسير هذه المُشكلة التي تنطوي على تناقُضٍ ظاهر ربما نلمح العتبة التطورية الحاسمة التي عمد أسلافنا نحن إلى تجاوزها.

تأسيسًا على ما سبق نرى أن المُهمة الأساسية الأولى لهذا الكتاب هي تقديم وصفٍ دقيق للفارق بين هذا النمط البشري الفريد للمرجعية الذي يُمكن أن نصوغ له مصطلح «المرجعية الرمزية»، كذلك وصف أشكال المرجعية غير الرمزية الموجودة في كل اتصال لابشري (وموجود أيضًا في كثيرٍ من صور الاتصال البشري)، وثاني المهام بيان لماذا هذا الشكل للمرجعية صعبٌ على الفهم للغاية لدى الأنواع الأخرى، وتتمثل المهمة الثالثة في تقديم تفسيرٍ يوضح كيف نحن البشر (وعدد قليل آخر من الحيوانات في مجال التجارب الحذرة على تعلُّم اللغة ذات البناء النحوي structured language) قد نجحنا في التغلُّب على هذه الصعوبة، وليس بالإمكان الإجابة على هذه الأسئلة ما لم نأخُذ المرجعية الرمزية مأخذ التسليم، هذا على الرغم من أن هذا الجانب من لُغز نشأة اللغة ليس سوى جزءٍ من قصة تطور اللغة، علاوة على أن فهم هذا الفارق لا يقدِّم لنا أي إجابةٍ مباشرة تُفسر لنا سبب تعقد اللغات على النحو الذي نعرفه اليوم، ولا يفسر لنا لماذا نخضع لما نراه قواعد تخطيطٍ ليس لها تفسير؟ أو كيف يمكن أن يفهم أطفال البشر هذه التفاصيل التي قد تبدو في غير هذا الوضع تفاصيلَ مُعقدة وشاذة، بيد أن المرجعية الرمزية ليست مُسلَّمة، إن القواعد والفئات النحوية هي قواعد وفئات رمزية، كذلك فإن البنية التكوينية النحوية ما هي إلا انتظامٌ مادي إذا ما نظرنا إليها دون اعتبار للعمليات الرمزية التي تستهدف حلَّ شفرتها، وتحتل الصدارة هنا نظريات اللغة والعقل التي أخفقت في معالجة هذه المسألة أو ترى أنها ليست بحاجة إلى تفسير، ثم تفترض في نهاية المطاف ما انبرت هي لتفسيره. إننا بحاجةٍ بادئ ذي بدء أن نُفسر تلك الصعوبة المثيرة للاهتمام الخاصة بالمرجعية الرمزية.
وإذا عُدنا بنظرنا إلى الماضي نلحظ أن ثمة إدراكًا ولو ضمنيًّا بمحورية هذه المشكلة دائمًا؛ ومن ثم لن نبالغ إذا قُلنا: إن الفلاسفة أراقوا كمياتٍ كبيرة من الأحبار في محاولاتهم بيان أساس المرجعية الرمزية أكثر مما أراقوه أو سطروه لتفسير أيةِ مشكلةٍ أخرى، ولكن على الرغم من تلك الأُلفة البدهية مع هذه المسألة (أو لِنقُل بسببها)، وعلى الرغم من جهود بعضٍ من أعظم العقول في كل قرن، فإنها ظلَّت، وعلى نحوٍ مُثير للفضول، دون حلٍّ حاسم، وكابد علماء اللسانيات أيضًا مع هذه المشكلة، وهو ما يتجلَّى في صورة نظريات الدلالة semantic theories، وعانوا من صعوباتٍ مُماثلة، ومن ثم لا غرابة إذ نجدها تطفو من جديد على السطح في صورة لغزٍ محوري في مشكلة أصل نشأة اللغة، ونرى أنه لا تثريب على علماء اللسانيات وعلماء النفس وعلماء البيولوجيا؛ إذ أخفقوا في حلِّ هذا اللغز الأساسي، لُغز العقل، قبل أن يتحولوا بجهودهم إلى جوانب أخرى من مشكلة اللغة. ونعرف أن القواعد النحوية والبناء النحوي يُمكن دراستهما وعمل مقارنات بشأنهما بين لغةٍ وأخرى، كما يمكن أيضًا تحديد العلاقات بين العمليات اللغوية ووظائف المخ بغضِّ النظر عن حلِّ مشكلة المرجعية الرمزية، وأكثر من هذا أن بالإمكان دراسة تعلم اللغة دون التفكير في سبر أيٍّ من أغوارها، بيد أن النظريات التي تهدف إلى تفسير الفارق بين القدرات اللغوية البشرية وغير البشرية لا يمكن أن نُغفلها، كما لا يُمكنها أن تفسِّر ما الذي يجعل عقول البشر مختلفةً عن العقول غير البشرية.

ولكن إذا كانت طريقة اللغة في تمثيل الأشياء هي الحاجز الأول على طريق تطور اللغة لدى الأنواع الأخرى فإننا بذلك نغدو بحاجةٍ إلى أن نُعيد التفكير بشأن الكثير والكثير جدًّا من الجوانب الأخرى للتطور العقلي البشري؛ إذ لو كان تعقد اللغة يمثل تطورًا ثانيًا بالنسبة إلى هذا التكيُّف في الإدراك المعرفي، الذي يُعتبر أكثر أوليةً وأساسية، فإن معنى هذا أن غالبية النظريات قد عكست علاقات السبب والنتيجة في المسار التطوري التي دفعت التطوُّر الذهني البشري على طول هذا المسار، لقد وضعوا العربة (تطوُّر المخ) أمام الحصان (تطوُّر اللغة)، وإذا لم يكن مستوى الذكاء الأعلى، ولا قدرات النطق السهل، ولا الاستعدادات السابقة الغيبية لقواعد النحو لدى الأطفال هي المفاتيح والأدوات التي كسرت هذا الحاجز الرمزي، إذن فإن نشأة وتطوُّر هذه الدعائم للتعقُّد اللغوي لا بد أنها النتيجة وليست السبب أو الشروط السابقة لنشأة وتطور اللغة، والأهم من ذلك أن مظاهر التكيُّف هذه ما كان لها أن تُمثل المُحددات الأكثر حسمًا لتطوُّر المخ لدى النوع البشري، وإنَّ معالجة لُغز أصل ونشأة اللغة من هذا المنظور أشبَه بالابتعاد خطوات عن المرآة لنرى الأشياء عكس ما هو مُفترض.

ويتعيَّن أن نرى اللغة، من هذا المنظور، باعتبارها المحرك الأول والأساسي، إنها صانع حالات التكيُّف المُعقَّدة التي تطوَّرت معًا وتجمَّعت حول مركزٍ أوحد للإبداع الدلالي للرمز أي السيميوطيقي semiotic الذي كان اكتسابه في البداية صعبًا إلى أقصى حد، وحدث التطور التالي للمخ كاستجابة لهذا الضغط الانتخابي الذي أدى على مراحل إلى جعل عبور هذه العتبة أيسرَ فأيسر تدريجيًّا، وأدى هذا بدوره إلى فتح الباب لتطوُّر المزيد والمزيد من تعقُّد اللغة، ويقضي هذا بأن اللغات الحديثة بكلِّ ما تشتمل عليه من قواعد نحوية، وبِنًى نحوية معقدة، وقواميسها المُثقلة بالمفردات، ومتطلباتها الحس-حركية الكثيفة قد تطوَّرت تراكُميًّا من بداياتٍ أبسط شكلًا، وعلى الرغم من أنه لا وجود اليوم للُّغات البسيطة في أيٍّ من المجتمعات، فإنها كانت يقينًا موجودة عند مرحلةٍ ما فيما قبل تاريخنا، وحلت اللغات البشرية الحديثة محلَّ اللغات البسيطة، كما أبدلت الأمخاخ التي كابدت بدايةً لدعم اللغات البسيطة بأمخاخ أفضل وأكثر مُلاءمة لهذا التكيُّف الجديد وما يستلزمه من مهارة فائقة.
ويمكن القول إلى حدٍّ ما: إن أسلافنا الأُوَل، على الرغم من قدراتهم المعرفية المحدودة، اهتدَوا بشكلٍ ما إلى سبيلٍ لخلق وإنتاج نظام بسيط للرموز، وما إن توفر هذا النظام حتى أضحت الرموز شيئًا لا سبيل للاستغناء عنه، وغرس هذا نمطًا جديدًا لنقل المعلومات في العملية التطورية، ويمثل هذا حدثًا لأول مرة على مدى بلايين السنين منذ أن تمَّ تشفير العمليات الحية في مسلسل الدنا DNA، ونظرًا لأن هذا الشكل الجديد لنقْل المعلومات انفصل جزئيًّا عن النقل الوراثي فقد حول نسل القِرَدة العُليا إلى دربٍ تطوري جديد؛ درب لم يكفَّ عن التباعُد عن جميع الأنواع الأخرى منذ ذلك التاريخ، وترتَّبت نتائج هائلة على هذا التحوُّل الذي عكس وضع العلَّة والمعلول. وإذا كان التطوُّر أدى إلى صقل الاستعداد البشري للغة بدرجةٍ ذات دلالة خلال فترة ما قبل تاريخنا البشري، فلا بدَّ أن نفهم أيضًا ذهنيَّتنا الفريدة في ضوء ذلك الحدث، وطبيعي أن المُتطلبات الدءوبة المُستمرة من أجل تجدد نظام رمزي يتصف بالكفاءة والفعالية في كلِّ جيلٍ قد أدَّت إلى خلق ضغوط انتخابية لإعادة تشكيل أمخاخ نسلِنا من القِرَدة العُليا؛ بحيث تتلاءم مع الوظيفة الجديدة، ولا ريب في أن هذا كانت له تأثيرات عميقة على تطوُّر المخ، ويتعيَّن أن تنعكس اللغة في بنية المخ البشري مثلما تتجلَّى في الطيور والديناميكا الهوائية aerodynamics للطيران في شكل حركات الجناحَين. معنى هذا أن ما يُمثل أهم خاصيةٍ في معالجة اللغة لا بد أن يتوافَق مع ما يُمثل الخاصية الأهمَّ للمخ البشري، وبناءً على ذلك فإذا كان الأساس الرمزي هو الشيء الاستثنائي الفريد أكثر من غيرِه بالنسبة للغة، فإن السؤال: ما الشيء الاستثنائي الفريد أكثر من غيرِه في المخ البشري؟

نعرف أن المخ البشري ضخم على نحوٍ غير عادي: أكبر ثلاث مرات بالنسبة لأحد القِرَدة العُليا له حجم الإنسان، ولكن كِبر حجم المخ ليس سوى العرض الظاهري السطحي لعملية إعادة تنظيم جوهرية امتدَّت إلى مُستوياتٍ أعمق، ويهدف الجزء الأوسط من هذا الكتاب إلى كشف مكنون وحقيقة هذه المشكلة التشريحية المعقدة ومضاهاتها مع المتطلبات التقديرية الخاصة التي فرضتها اللغة، وسوف نكتشف، حين ننظر عن كثَب أكثر، حدوث إعادة تنظيم هندسي جذري لكلِّ المخ، وعلى مستوًى غير مسبوق. وجدير بالذكر أن تفسير هذه الفوارق باعتبارها نتائج مُترتبة على المُتطلبات الوظيفية التي اقتضتها أحقاب طويلة من المعالجة اللغوية ربما يُهيئ لنا نظرة ثاقبة جديدة إلى حقيقة العلاقة بين الاختلافات في وظيفة الإدراك المعرفي والاختلافات في تنظيم المخ على نطاقٍ واسع، وسوف نكتشف من خلال التطور المشترك للمخ واللغة تلاقِي اثنَين من أهم أسرار العلم الهائلة، وسوف يُهيئان لنا معًا طائفة من المفاتيح المهمة الدالة على حقيقة علاقة أحدهما بالآخر.

ونعرف أن علماء تشريح الأعصاب ظلوا قرونًا يبحثون عن «حجر رشيد» أي مفتاح أسرار وظائف المخِّ البشري، وعلى الرغم من ذلك لم يكن جهدهم عبثًا لفرز الفوارق الموضوعية المُهمة دون الفوارق العرَضية في بِنية المخ، وسوف يستلزِم هذا جهدًا كبيرًا للتوصُّل إلى تحديدٍ دقيقٍ لما تغيَّر وكيف تغير؟ أما عن مشكلة تحديد ما هو مختلف أساسًا فيما يتعلَّق باللغة، فإننا نُدرك أن الدراسة التحليلية لطريقة استجابة المخ لهذه التأثيرات سوف تتطلَّب منَّا النفاذ إلى ما وراء حجم المخ والاختلافات الظاهرية السطحية في بِنية المخ، والهدف أن نسبر غور العمليات التي تبني المخ لدى الأجنة. إن المخَّ هو أكثر الأجهزة على ظهر الكوكب دقةً وقدرة على الحساب، كذلك فإن الاتصال اللساني يُعتبَر أكثر السلوكيات المعروفة لنا تعقُّدًا، ويُمثل التطور خلاصةً لمسار يتصف بالألغاز والعلاقة غير المُباشرة والملاءمة؛ إذ نادرًا ما يلتزم مسارًا واضحًا أو مُميَّز المعالِم، وأصبح لزامًا علينا الآن أن نُلقي وسط هذا المزيج المروِّع من المشكلات بالمشكلة التي تُدانيه حيرةً وتشوُّشًا، الخاصة بتفسير المرجعية الرمزية. وطبيعي أن لغزًا محيرًا بهذا الحجم لن نجد له على الأرجح حلًّا سهلًا، بل لا أتصوَّر أن ما لدَينا من أدلةٍ وبيِّنات قليلة سيكفي لأكثر من العمل لكي نبدأ من جديدٍ البحث عن المزيد من المفاتيح في مواقعها الصحيحة، بيد أن ترتيب المفاتيح في تنظيمٍ صحيح ليس سوى الخطوة الأولى، وغالبًا ما يكون التفكير في مُشكلةٍ قديمة من منظورٍ جديد هو أفضل سبيل للخلاص من متاهة الافتراضات التي تحول دون معرفة ما هو واضح، وربما نستطيع بعد تجميع هذه الأسرار المترابطة من مجالاتها المُختلفة أن نُدرك ونتبين الخيط المشترك للمنطق الذي يربط بينها جميعًا، وسيكون هذا على غرار حجر رشيد الشهير الذي اشتمل على نصٍّ واحدٍ مكتوب بثلاث لُغات مختلفة بعضها عن بعض اختلافًا جذريًّا، ومن ثَم نجد أن هذه الأجزاء التي يتألَّف منها لُغز الإدراك المعرفي والعصبي المُصطفَّة جنبًا إلى جنبٍ تُهيِّئ لنا القدرة على اكتشاف الكيفية التي نُترجِم؛ أي نفهم أحدها في ضوء الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥