الفصل العاشر

تعيين موقع اللغة

كل شيءٍ معصوم على نحوٍ مُطلق من الخطأ. هناك فقط شخصٌ واحد، ويا له من مسكين! موجود في الداخل عن طريق الخطأ.

السيد إل، مريض بداء الحبسة

وضع الأمور في غير نصابها

رجل يناهز السبعين من العمر جالس إلى مائدة، مُمسكًا قلمًا في يده، يتأرجح القلم بين أصابعه وكأنه يتهيأ لكتابة شيءٍ ما، سألته امرأة وهي تُشير إلى القلم عند طرف المائدة: «ما هذا؟ …» أجاب بصوت يحمل نغمة السؤال، ثم حركة في إشارة غامضة لمعنى الكتابة: «آه، إنه وتدٌ لتثبيت المطر …؟» واصلت السيدة حديثه: «فيمَ تستعمِله؟» أجابها قائلًا: «لكي تُمطر …» أجابت: «حسنٌ جدًّا.» عاد وسألها: «لماذا أنا هنا لكي أعرف شيئًا عن ذلك؟» ردَّت قائلة: «نحن هنا لكي نرى إن كان بالإمكان أن نُساعدك التزامًا بكلماتك.»

حقيقة الأمر أنها هي أو غيرها لن يستطيع أن يفعل غير القليل جدًّا، يُعاني هذا الرجل من جلطةٍ دمَّرت جزءًا من النصف الكروي الأيسر في دماغه قُرب المناطق السمعية من الفص الصدغي للمخ، واضطر، نتيجةً لذلك، أن يقضي بقية حياته في حالةٍ قلقة يتلقى الأسئلة دون أن يجد الكلماتِ الصحيحةَ للإجابة، ونعرف أن المنطقة المُصابة في قشرة المخ عنده تُسهم في أداء طائفةٍ مُعينة من عمليات اللغة التي لا تُشفى على الرغم من سلامة القطاع الأغلب من مخِّه وعقله، إنه لم يرتدَّ إلى مرحلة عمرية سابقة؛ بحيث يحتاج إلى أن يتعلَّم الكلمات والمعاني من جديد، لم يقتصر الأمر على فقداته لبعض رصيد الذاكرة من كلمات، بل فقد السيطرة على الأدوات الإدراكية المعرفية لكي يُحدِّد معالم أصوات الكلمات ودلالاتها، وفقد قدراته اللغوية بسبب عطبٍ أصاب منطقةً في المخ التي سُمِّيت بعد ذلك باسم منطقة فيرنيك Wernick’s area؛ (إذ اكتشفها كارل فيرنيك، الطبيب الألماني، وذلك بعد القرن التاسع عشر) ويبدو أن هذا العيب يُفيد بأن وظائف اللُّغة هذه يمكن أن تكون متمركزةً بدرجة عالية في مناطق قليلة من المخ.

ونحن نعرف تاريخيًّا أن القسط الأكبر من معلوماتنا — عن الكيفية التي يفهم ويُولِّد بها المخ البشري اللغة — إنما هي وليدة رؤًى استبصارية توفَّرت بفضل دراسة الناس المُصابين بإصاباتٍ في مراكز مُحددة للمخ، أثَّرت في وظائف اللغة، وتم صقل هذه المعلومات بفضل النظريات النفسيَّة عن طبيعة العقل واللغة، وظلت حتى عهدٍ قريب محدودة بسبب فوضى دراسة الحالات المرَضية العضوية، ولكن توفَّرت الآن جداول المعلومات ثمرةً للمناهج والتقنيات الجديدة التي أفادت في دراسة كلٍّ من حالات المخ السوي والمُصاب بما في ذلك الحصول على صورٍ للعمليات الحيوية ودفق الدم والنشاط الكهربي للمخ، كله في وحدةٍ واحدة وفي حالته السليمة السوية وأدائه الوظيفي. وطبيعي أن هذه المنافذ المعرفية الجديدة لاكتشاف وظيفة المخ آخِذة في الاتساع، فضلًا عن تحدِّيها للأفكار التقليدية عن علاقات المخ واللغة.

وجدير بالذكر أن فقدان القدرات اللغوية بسبب إصابةٍ في المخ (وتُسمَّى اصطلاحًا «الحبسة»، أو الأفازيا، وتعني حرفيًّا «لا كلام») لا تحدُث بطريقةٍ واحدة فقط؛ إذ عند فقد القدرات اللغوية لا ينكص المرء إلى أشكالٍ تُشبه حالات الطفولة، كما كان يخمن أوائل الباحثين قديمًا. والملاحظ أن الكبار عند إصابة المخ لا يفقدون فقط الذاكرة اللغوية أو أجزاء من اللغة، ولا يكونون مثل الأطفال أسرى مرحلةٍ باكرة من مراحل اكتساب اللغة، وإنما تتَّجِه اللغة إلى التفكُّك على امتداد خطوط تكوينية متمايزة؛ حيث تعكس حالات الفقدان الوظيفية صعوبات مُحددة للمعالجة، وليس نقصًا شاملًا لقدرة لغوية أو التعقد اللغوي. والملاحظ أن الوسيلتَين البدهيتَين في تقسيم وظائف اللغة تتبعان فئتَين هما على التوالي اللسانية والسلوكية، ونرى في ضوء مبحث اللسانيات أن التصنيف الثنائي الأكثر انتشارًا لوظائف اللغة هو تصنيف بين البِنية الدلالية (السيمانطيقية) والبنية النحوية syntactic، وتتعامل نظريات كثيرة معهما باعتبارهما بُعدَين متعامِدَين لوظيفة اللغة، وحيث إن جانبي اللغة هذَين يمكن فصلهما منطقيًّا في التحليل اللغوي، فإن مِن المقبول عقلًا أن نتوقَّع أن هذَين الوجهَين للجُمَل يمكن أن يستلزما أساسَين عصبِيَّين مختلفين لمعالجة كل منهما، ويدعم هذا بقوة فصل الخلل الذي يلحق بالوظيفتَين بعد إصابة موقعَين مختلفَين داخل المخ، ويمكن على نحوٍ متبادل عمل تمييزٍ مُفيد بين الإصابات اللغوية التي تلحق بالوظائف السمعية والكلامية للغة، وإن هاتَين الوسيلتَين الأساسيتَين اللتَين تدخل وتخرج بهما اللغة إلى ومن الجهاز العصبي تُمثلان تقسيمًا طبيعيًّا للوظائف التي تنعكس بالضرورة في التنظيم العصبي للغة، ووجد كل من هذين التقسيمين طريقه في النظريات عن حالة الحبسة «الأفازيا» بأشكالها المختلفة.
بيد أن التصنيف الأكثر نفوذًا لحالة الحبسة لا يتبع أيًّا من المنطقَين، بل يلتزم منطقًا تشريحيًّا، وهذا هو التقسيم الكلاسيكي لحالات الحبسة الذي يُقسمها إلى حبسة بروكا Broca’s aphasia، وحبسة فيرنيك Wernick’s aphasia، وسبق أن اقترح عددٌ من الأطباء في مطلع القرن التاسع عشر وجود فئتَين رئيسيتَين لأمراض اللغة والصعوبة في تذكُّر كيفية توليد الكلمات مقابل الصعوبة في تذكُّر كيف يترجَّع صوت الكلمات، ولكن مع هذا نجد أن التحليل المنهجي لاضطرابات اللغة نتيجةَ إصابةٍ في المخ تقدم سريعًا بفضل اكتشاف أن الأنماط المختلفة للخلل الوظيفي للغة language disfunction تحدث عقب إصابةِ مناطق مختلفة للمخ.
إذ في عام ١٨٦١م أثبت جراح فرنسي يُدعَى بول بروكا أن إصابة الجزء السفلي يسار قشرة الفص الجبهي يمكن أن يتسبَّب في حدوث اضطرابٍ عميق في القدرة على الكلام، وأطلق على هذه المُتلازمة السلوكية اسم أفيميا أي فقد النطق aphemia، لكي يؤكد طابعها الحركي، هذا على الرغم من أن مُصطلح حبسة بروكا Broca’s aphasia أصبح هو البديل على المصطلح الذي اختاره بروكا بنفسه، وبعد أكثر من شهر بقليل أي في عام ١٨٧٤م أثبت طبيب ألماني شابٌّ يُدعَى كارل فيرنيك أن إصابة الجزء الخلفي من قشرة الفص الصدغي ناحية الجانب الأيسر يتسبب في حدوثِ مُشكلة لغوية مغايرة: اضطراب عميق في القدرة على فهم الكلام مع ميل إلى الحديث الطليق، ولكن بكلماتٍ شاذة وتوليفات شاذة بين الكلمات،١ وأصبح اسم هذه الحالة حبسة فيرنيك Wernick’s aphasia، والملاحظ أن المناطق الخاصة بذلك في المخ التي قرنها كلٌّ من هذين الطبيبَين بحالة الحبسة التي تحدَّثَ عنها يشار إليهما أيضًا على التوالي باسم منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك؛ (انظر شكل ١٠-١).

وقدم فيرنيك أول تحليلٍ منهجي للعلاقات بين إصابة المخ وحالة الحبسة، وعمد إلى تنظيم نظريته حول تحليل بياني لمجالات قشرة المخ، والوصلات الافتراضية فيما يتعلق بوظائف المدخلات والمخرجات، وتنبأ — تأسيسًا على ذلك — بسلسلةٍ كاملة من الحالات المرضية التي تحدَّدت على أساس الوسائل المُحتملة حتى يمكن أن تنقطع عندها الروابط المادية التي تصِل بين هذه المراكز الافتراضية في المخ، ولم يقتصِر الأمر عنده في حدود تفسير بعض الأعراض البارزة المُقترنة بالتحليل السمعي والاضطراب الحركي، بل تنبأ بعددٍ من مُتلازمات الأعراض الإضافية التي يمكن أن تنتج عن إصابة بعض الوصلات المُفترضة بين هذه المناطق وغيرها، ونجد من بين هذه التوقعات حالات الحبسة «عبر قشرة المخ»؛ نتيجة لقطع الروابط بين منظومات المُدخلات والمُخرجات والمراكز الإدراكية العُليا.

fig38
شكل ١٠-١
شكل ١٠-١: مناطق قشرة المخ المرتبطة في الغالب الأعم بالوظائف اللغوية في النصف الكروي الأيسر مع رسمٍ تصويري لبعض مسارات التوصيل الرئيسية في قشرة المخ كما تحدَّدت في رئيسات أخرى.
(A) مجموعة مناطق اللغة الكلاسيكية تتجمَّع حول الثنية الأفقية المُسمَّاة الشق السولفي Sylvian fissure الذي يقسم الفص الصدغي عن الفصَّين الجداري والجبهي، ويمكن تحديد منطقة فيرنيك بشكلٍ تقريبي بالتلفيف الصدغي العلوي والأوسط، وتشارك مناطق خط الوسط في بداية أو استهلال الكلام (القشرة الحركية التكميلية) والتحكم في إثارة الانتباه في الفهم وإصدار الكلام (قشرة الحزام الأمامي)، وكان الظن أن التلفيف الزاوي مُهم للمعالجة اللغوية مُتعددة الوحدات، مثل القراءة وتسمية الأشياء، ويمثل الجسم الجافي حزمة من الألياف التي تربط بين النصفين الكرويين للدماغ.
(B) تمَّت دراسة النمط العام للوصلات الرئيسية في الرئيسات الأخرى، (ولكن لم يتسنَّ تحديدها بعدُ في أمخاخ البشر)، وهذه الوصلات في قشرة المخ مُتقابلة (على الرغم من أن الوصلات ليست مُتماثلة بالنسبة إلى الطبقات التي يصلها الإمداد العصبي)، وتشكل تنظيمًا طبقيًّا في كلِّ وحدة (الطبقات المجاورة تصِلها بعضها ببعض وصلات قصيرة على شكل φ). ويتلقَّى النمط الطبقي تعزيزًا من خلال وصلاتٍ بين الوحدات التي تتَّجه إلى قُرب مناطق قشرة المخ، عند مستوًى واحدٍ عبر وحدات التوصيل (معلومات التوصيل مُبسطة ومنقولة عن ديكون ١٩٨٨-١٩٩٢م).

ومضى أكثر من قرنٍ على كشفيهما اللذَين يُعتبران بمنزلة اختراقٍ علمي، وما نزال حتى اليوم نعتبر متلازِمات الأعراض التي اقترنت أسماؤها باسمَي بروكا وفيرنيك تُمثل عصب البحث في مجال الحبسة، ولكن ما يزال السجال دائرًا بشأن التفسير الدقيق الذي يحظى بقبولٍ واسع النطاق بشأن هذه الأمراض أو تحديدٍ دقيق لأي أجزاء المخ وهي المسئولة عن مكونات الأعراض. وجدير بالذكر أن ما يجعل تحليل فيرنيك مقنعًا إلى حدٍّ كبير هو منطقه الشامل وما يتحلَّى به من قوةٍ تنبؤية مُذهلة، وعلى الرغم من أن بعض التفاصيل القليلة لهذا المُخطط النظري ما تزال دون تغييرٍ في الدراسات التحليلية الراهنة عن الحبسة، فإن تركيزه على أهمية الموقع التشريحي والأسلوب الحسِّي الحركي تُمثل جميعها من الآن دلائل مُفيدة، ولا غرابة في أننا وعلى مدى أكثرَ من قرنٍ — منذ أن شرع هذان الرجلان في تحليل العلاقة بين إعاقة اللغة وإصابة المخ — توصَّلنا إلى تقييمٍ مفاده أن حالات الحبسة لا تحدث في موازاة أيٍّ من المسارات اللسانية بالمعنى الدقيق ولا الحبسة مقابل المسارات الحركية؛ إذ إنَّ لكلٍّ منطقَه الخاص وهو منطقٌ هجين قلق ناتج عن التزاوج التطوري بين البِنية المعمارية للمخ التي تطوَّرت في عالمٍ من التكيفات الحسية والحركية العيانية قبل اللغة ومنظومة تمثيلية تعتمِد على منطقٍ غير عياني لا جدال فيه.

وغير خافٍ أننا نُواجه مشكلاتٍ كثيرة تتعلق بمشروع الاستقراء تأسيسًا على إصابة المخ وتطبيق ذلك على وظيفة المخ. إن تدهور وظيفةٍ ما ليس هو تحديدًا عكس نمو تلك الوظيفة، كما أن فقدان منطقةٍ ما في المخ لا يعني تمامًا أن يؤدي إلى فقدان وظيفة؛ إذ إن المناطق السليمة في مخٍّ مُصاب تغيرت أيضًا في الأداء الوظيفي بسبب هذا الفقد، ومع ذلك فإن حالات الحبسة وغيرها من الحالات المرضية التي تؤثر في اللغة بسبب إصابةٍ محلية في المخ تُيسِّر لنا مفاتيح أساسية عمَّا تحتويه مناطق المخ من أجزاءٍ في الشبكة المقترنة بوظائف لغوية مختلفة. وتتمثل عبقرية فيرنيك في إدراكه أن الأمخاخ بحاجةٍ إلى تحليلها في ضوء الدارات، وليس فقط باعتبارها تجمُّعات من مناطق ذات وظائف متمايزة. وأمكن في العقود الأخيرة المضيُّ قُدُمًا بهذه الرؤية النافذة إلى أبعد مما كان فيرنيك يتصوَّر. إن عطب وظيفةٍ لغوية مميزة عقب إصابة المخ في منطقةٍ بعينِها لا يعني أن تلك الوظائف اللغوية متمركزة في تلك المنطقة، إن وظيفةً ما حاسمة لهذه العمليات اللسانية أصابها تشوُّش نتيجة إصابةٍ ما، ولكن التوافق ربما حدث على نحوٍ غير مباشر، ومن ثم فإن مهمة عالم الأعصاب هي فك الشفرة بحيث يُمكن ترجمة الأعراض اللغوية إلى عملياتٍ في المخ، ولكن واضح أن الأمر ليس خارجة — تبين العلاقة على أساس واحد مقابل واحد — خاصةً بالنسبة للوظائف التي لا يمكن تحديدها في مصطلحات حسية أو حركية محضة، وربما تحدث مبالغة لحالة عدم التوافق بين المنطق اللساني والعصبي وذلك عند التعامل مع مثل هذا التمايز التحليلي العام على أساس نحوي ودلالي، وتجسد هذه الصعوبة المشكلات المعنية بتفسير العيوب النحوية الناجمة عن إصابة المخ.

وعبارة الحبسة النحوية agrammatism أو اللانحوية هي المصطلح المستخدم للدلالة على التشوُّشات التي تُصيب قدرة المريض على تحليل العلاقات النحوية؛ بحيث يتعذَّر تفسيرها في ضوء الفساد المعجمي العام وحدَه. ويعكس تاريخ دراسة الأمراض الخاصة بالحبسة النحوية agrammatism بعضًا من تأرجُحات بندول النظرية العصبية خلال القرن الأخير. وقسَّم كثير من أصحاب النظريات أمراض اللغة إلى صعوبات الإنتاج مقابل صعوبات الفهم، ونزع هؤلاء إلى فهم عيوب التحليل النحوي في ضوء المُشكلات المعجمية (ولذلك فهي مرتبطة بمنطقة فيرنيك)، ولكن الصعوبات في ربط تسلسُل الكلمات معًا لتكوين جملةٍ أو الصعوبات النحوية، فقد اعتبروها مجرد مشكلات حركية، وهذه صعوبات مميزة لحالة حبسة بروكا Broca’s aphasia، ولهذا نجد ابتداءً من الأطباء الكبار أصحاب النفوذ من أمثال سيجموند فرويد، وبيير ماري وهنري هيد، مع بداية القرن العشرين أصبح شائعًا اعتبارُ حبسة بروكا ليست فقدانًا حقيقيًّا للغة، وإنما هي فقط مشكلة خاصة بإنتاج الكلام، وما يزال كثيرٌ من العلماء المَعنيين بدراسة حالَي الحبسة aphasiologist يتَّفقون مع هذا الرأي ويشيرون علاوة على ذلك إلى ما يبدو ارتفاع نسبة شفاء الوظيفة إثر إصابة منطقة بروكا؛ مما يفيد عدم حدوث فقدانٍ دائم لمعرفة اللغة في ذاتها؛ إذ لو أن وظائف اللغة مُتمركزة في مناطق متمايزة ومنفصلة في قشرة المخ، فإن فقدان المنطقة الخاصة بأداء العمليات النحوية سوف يتسبَّب في حدوث حالةٍ ثابتة وقاسية للحبسة النحوية، تمامًا مثلما أن إصابة القشرة البصرية الأولية primary visual cortex تؤدي إلى فقدان كامل للبصر في ربع المجال البصري المقابل للقطاع المُصاب، وهذا بطبيعة الحال افتراضٌ أكبر من أن نُسلِّم به.
ونجد أن واحدًا من أهم التحديات لهذا التقسيم الثنائي البسيط — الذي يؤثر مباشرةً في تفسير الحبسة النحوية — ظهر مع الاكتشاف الذي حدث في ستينيَّات القرن العشرين، ويُبين أن مرضى حبسة بروكا يعانون من مشكلات خاصة بفهم قواعد النحو،٢ وعلى الرغم من تحليل الكلمات الرئيسية التي هي محتوى الجملة الذي يبدو في ظهره صحيحًا نسبيًّا دون أخطاء، فإنه ليس بالإمكان بسهولة تخمين البنية المنطقية للجملة من محتوى الكلمات وحدَها (وذلك حين تكون الدالة النحوية للكلمات أو ترتيب الكلمات مفاتيح لازمة لفهم كيف تشير الأسماء والأفعال والصفات والظروف بعضها إلى بعض)، ولكن المرضى على الرغم من ذلك يشكون من صعوبات.
وجدير بالذكر أنه من بين النظريات الكثيرة المقترحة لتفسير هذه المشكلة نجد أن النظرية الأكثر تواترًا وانتشارًا ترى أن المرضى يسلكون وكأنهم فقط لا يفهمون الدالة النحوية للكلمات، وتتضمَّن هذه كلمات من مثل «كان وإن ومن وماذا … إلخ.» تعمل كأعلامٍ تشير إلى العلاقات البنيوية داخل الجملة، والملاحظ أن هذه الأنواع من الكلمات هي الأكثر تواترًا وتكرارًا في أي متنٍ أو منطوق، وتُشكل ما قد يصل إلى حدِّ الفئة المغلقة داخل اللغة. ونعرف أن أسماء وأفعالًا وصفاتٍ وظروفًا جديدة تُضاف وتُخترع دائمًا وفي كل حين، ومن ثم وحسب هذا المعنى تشكل فئة مفتوحة، ولكن مع هذا فإن هذه الكلمات الدالة function words لا تسمح فيما يبدو بأي فضاء منطقي آخر للإضافات داخل اللغة. وإن أحد التفسيرات لذلك ربما يتمثَّل في إمكانية وصف المرض بأنه اضطراب لمعجم كلمات الفئة المغلقة closed-class words، وهكذا يتم استدعاء منظومتَين مختلفتَين للمخزون المعجمي: إحداهما لكلمات الفئة المغلقة (مرتبطة بمنطقة بروكا)، والثانية لكلمات الفئة المفتوحة open-class words (مرتبطة بمنطقة فيرنيك)، وهو ما يُمثل تحديًا للفصل الثنائي البسيط بين الفهم/والإنتاج.

ولم تُصبح المشكلات في تفسير الحبسة النحوية أصعبَ من ذي قبل إلا حينما حاول الباحثون اختبار هذه الافتراضات المُتعارضة، مثال ذلك تفسير معجمي بسيط؛ (أي فقدان الجزء الذي يحتوي، في القاموس الذهني، على الدالة النحوية للكلمات) لا يبدو أنه يُفسر مشكلات المرضى حينما تكون معالجات ترتيب الكلمات عملًا محوريًّا، كما هو الحال في الجُمَل المطلوب استخراجها مُرتبةً من بين الكلمات (البنت الولد أحبَّا الحياة في بيت أحمر)، ولكن تفسر جزئيًّا فقط صعوبات المبني للمجهول في العبارات الإنجليزية (الكلب المطارد بالقط …)، ويبدو أن الزمن عامل حاسم، والملاحظ أن التحليل «المباشر» للألفاظ المنطوقة يكشف عن إعاقاتٍ مهمة تخفُّ فيما يبدو إذا ما تناول المريض مادةً مكتوبة أو أُتيحت له فترة أطول للتفكير في التحليل، أو بعبارة أخرى: يبدو أن المعلومات الخاصة بالنحو لم يفقدها المرضى، ولكن وصولها أقل يسرًا بكثير، فضلًا عن أن استخدامها معرض للخطأ. ويمكن القول مجازًا: إن الأمر يبدو كأن الطريق الرئيسي إلى هذه المعلومات بات مُعطلًا مما يُضطرُّ معه المرضى إلى اتخاذ دروبٍ لافتة عبر الطرق الخلفية للذاكرة للوصول إلى نقاط النهاية نفسها. ونعود لنقول: إن الأمر يبدو وكأن الوظائف النحوية ليست «متمركزة» في منطقة بروكا.

وناقض هذا الرأي بعض الباحثين المَعنيين بحالات الحبسة، ورأوا أن ما نلحظه من عدم استمرارية هذا العيب هو سيطرة من النظيرَين المتماثلَين لمنطقة بروكا على النصف الكروي الأيمن، أو سيطرة المناطق المجاورة الأخرى السليمة، أو مجرد شفاء بقية باقية من منظومة المخ التي لم تُصب بالكامل. بيد أن هذا التفسير أصعب من أن يثبت في حالاتٍ تعاني من إصابةٍ أكثر شمولًا أو إصابة لحقت بالجانبَين وتتضمَّن أيضًا أن حبسة بروكا هي مجرد عيبٍ حركي، وأنه عند إصابة القشرة الحركية نجد فقدانًا دائمًا للوظيفة في هذه المنطقة. ويعني هذا التفسير أن حالات العطب الإدراكية يمكن أن تكون المسئولة عن آثار التدخُّلات الحركية، ونجد أيضًا تحديات أشدَّ وأقوى تم طرحها نتيجة مقارنات لحالات الحبسة النحوية في المرضى من المتحدِّثين المحليين بلغاتٍ شديدة الاختلاف. والملاحظ أن مرضى حبسة بروكا — كمثالٍ عمن يتحدثون لغاتٍ مغرقة في قواعدها التصريفية — لا يبدون مُتهافتين في الالتزام بالقواعد النحوية مثل نظرائهم المُتحدثين بالإنجليزية، وسوف نعرض المزيد من التفاصيل لاحقًا عن هذا التبايُن.

إن كل هذه المعارضات التي تناقض القول بتمركز الوظائف النحوية في منطقة بروكا غالبًا ما تكون ثاوية في عباراتٍ إما أنها تنكر واقع حال منطقة بروكا كمنطقة لغةٍ أو تفيد بأن ثمة مناطق أخرى تؤدي الوظائف المنسوبة تقليديًّا لمنطقة بروكا، ولكنَّ ثمة نهجًا آخر لتناول هذه المسألة التي تعتمد على التخلِّي عن فكرة التمركز الوصفي للوظيفة مع الاحتفاظ بشيءٍ مثل تمركز الحساب، وهناك طريقة أخرى للتعبير عن ذلك، وهي أننا بحاجة إلى التوقف عن تصور التمركُز الموضعي لوظائف اللغة وأن نحاول بدلًا من ذلك أن نفهم كيف ترتسِم خريطة وظائف اللغة على وظائف المخ التي تنتظِم على الأرجح وفق منطقٍ مُغاير تمامًا، وهناك، مثلما هو الحال بالنسبة لكثيرٍ جدًّا من وظائف الجسم والمخ الأخرى، احتمال وجود عددٍ من الوسائل المختلفة لتحقيق هدف واحد. ولنقدم مثالًا بسيطًا للغاية على ذلك؛ قذف كرة صوب هدفٍ يستخدم عضلاتٍ مختلفة وأنماطًا متآزِرة من النشاط العصبي؛ اعتمادًا على وسيلة الرمي، هل يمدُّ الذراع من فوق الكتف دون رفعِها إلى أعلى أم إلى الخلف. وطبيعي أن تحليق الكرة في الهواء نتيجة لذلك، وأيضًا التفاعل مع الهدف ربما يتماثلان تمامًا على الرغم من أن العملية شاركت فيها عضلات مُختلفة وحركات للجسم مختلفة للغاية. وعلى الرغم من التسليم بعموميات كثيرة (مثل أنها جميعًا تتضمن ثنيَ عضلات الذراع وحركةَ دفع سريعة وقوية وتوجُّهًا بصريًّا نحو الهدف) فإن ما يربطها بعضها ببعض ليس هذه العموميات، بل الشروط التي يقتضيها الهدف الوظيفي، وهو أمر غريب عن التشريح.

وعندي أننا بحاجة إلى أن نفكر في موضوع وظائف اللغة على هذا النحو ذاته، خاصةً بالنسبة لتلك التي نتصوَّرها في «عمق» البنية السطحية للكلام، ونحن بحاجة إلى معالجتها باعتبارها نواتج سلوكية مؤلفة أو نواتج تحدَّدت منطقيًّا مقابل العمليات العصبية. وليست ثمة حاجة لأي رابطة نوعية بين منطقةٍ ما في المخ وفئة من العمليات اللسانية، وأن مِن الممكن حتى أن تتوفر وسائل عصبية بديلة لتحقيق الهدف الرمزي نفسه، وهذا لا يعني أن المخ البشري يفتقر إلى تخصُّصاتٍ محلية للغة، أو أن القدرات اللغوية يمكن وصفُها في ضوء آليات التعلم وحدَها، كذلك فإنها لا تعتمِد على أي إنكارٍ للتخصص المجالي داخل قشرة المخ، وإنما يعني فقط أن التوزيع العصبي لوظائف اللغة ليس بحاجةٍ إلى أن يكون موازيًا لتحليلٍ لساني لتلك الوظائف ذاتها.

والقول بوجود مناطق متمايزة للغة في المخ تُقابل هذه الأمراض اللغوية (مثل منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك)، مثال لما وصفه الفيلسوف ألفريد نورث في مجالٍ آخر «واقعية في غير موضعها»، وطبيعي أن التخلِّي عن الرؤية البركروسيتزية — نسبةً إلى الشخصية الإغريقية الخرافية بروكروسيتز — الموجودة ضمنًا في النظريات المقابلة عن المخ ووظائف اللغة، يفتح الباب أمام عددٍ من المصادر الإضافية للمعلومات من أجل فهم هذه العلاقة، وتضمَّنت النظريات الكلاسيكية إحدى التفصيلات المشوشة، التي تفيد أن منطقتي بروكا وفيرنيك لا تتطابقان مع تقسيمات قشرة المخ التي تُحددها تمايُزات البنية المعمارية العصبية، على الرغم من أن كثيرين أصرُّوا على محاولة فرض علاقة تطابُق واحد إلى واحد قسرًا. ويبدو مع هذا أن هذه المناطق تتغير من حيث موقعها من مريضٍ إلى آخر، وليس معنى هذا فقط أن لا وجود لمعايير تشريحية دقيقة موثوق بها عن هذه المناطق، بل إن متلازمات الأعراض ذاتها ليست مقسمة بدقةٍ ووضوح، إنها ليست هي ذاتها من شخصٍ إلى آخر أو من لغةٍ إلى أخرى، ومن ثم نسأل: هل من الممكن ألا تكون هناك منطقة جبهية بُطينية مرتبطة دائمًا بحبسة بروكا، ولا أي منطقة صدغية خلفية مقترنة دائمًا بحبسة فيرنيك؟

إن المعلومات المُستمدة من المرضى الذين يعانون من إصاباتٍ في المخ لا تُهيئ لنا قدرة كافية وحاسمة لسبر المنطقة الموجودة دون مستوى العموميات السلوكية أو اللسانية؛ حتى نستطيع تحديد معالم وتفاصيل مشكلة اللغة حسب دقائقها العصبية الطبيعية، ولكن بدأت الآن تتوفر سريعًا أدوات بحثٍ لها قوة حسم أفضل لدراسة الوظيفة داخل أمخاخ سليمة، وهذا من شأنه أن يُسهم في التغلُّب على الكثير من قيود الدقة التشريحية والدراسة التحليلية الوظيفية، وتتمثل إحدى النتائج في أن فيضانًا من أنواع جديدة من المعلومات بدأ ينهمر فوق رءوسنا، نجده في الغالب متنافرًا مع الأطر الفكرية الموجودة، وهذه المعلومات مُستمدة من عمليات تصويرٍ تقنية من داخل الكائن الحي والفسيولوجيا الكهربية electrophysiology والعديد من الوسائل الأخرى لدراسة وظيفة المخ، وغالبًا ما تتنافى مع التفسير وفق الخطوط الكلاسيكية؛ لأنها تنظر إلى هذه العمليات عند مستوًى مُغاير من حيث البنية والوظيفة بالنسبة لأي تصوُّر قدمته النظريات الكلاسيكية، ونعرف أن النماذج الكلاسيكية رفيعة المستوى لوظائف اللغة استهدفت حسب تصوُّر الباحثين تفسير القسمات الأهم والأعم المُميزة لتدهور اللغة، التي يمكن أن نُسميها المعرفة الأشمل macrocognition، وأصبح لزامًا الآن مواجهة المهمة الأصعب والمسيطرة وهي تحليل المعرفة الأدق microcognition للغة: تحليل الظواهر عند مستوًى أصغر ومُحدد بدقة؛ حيث الفئات الوظيفية لم تعُد تقابل وتطابق أيًّا من الظواهر السلوكية والخبرية التي ننشد تفسيرها في نهاية المطاف.

والمشكلة المحورية التي يُواجهها الباحثون المعنيون بدراسة المخ واللغة هي أن أدق أقسام الوظيفة الإدراكية المعرفية التي نأمُل في تفسيرها على المستوى النفسي هي في نهاية الأمر نواتج للأداء الوظيفي للمخِّ كله في تكامله — حتى وإن كان مصابًا — بينما الوظائف التي يتعين علينا تفسيرها على المستوى العصبي هي العمليات (أو الحسابات) الخاصة فقط بجزءٍ صغير من هذه الشبكة من التكوينات المُوزعة والمتكامِلة على أعلى مستوى. والحقيقة أنه لو أن هناك أي بنيةٍ يحقُّ أن نؤكد بالنسبة إليها بأن وظيفة الكل متكاملًا ليست مجموع وظائف أجزائها، فإننا نقول: إن المخ هو هذه البنية. وطبيعي أن صعوبة النفاذ إلى أعمق أعماق منطق تنظيم المخ يعكس عن يقينٍ واقع أن المخ تحقق تنظيمُه وفق منطقٍ مُغاير تمامًا لما هو واضح في أكثر أدائه المعرفي والسلوكي إحكامًا، وها هنا بالدقة والتحديد؛ حيث يمكن لسُبل الدراسة المقارنة والتطورية أن تُقدم أكثر إسهاماتها حسمًا وأهميةً.

وعلى الرغم من أن أمخاخ الرئيسات الأخرى لم تتطوَّر لدَيها مناطق مُخصصة لعمليات اللغة، فإن تلك المناطق الموجودة في المخ البشري لم تظهر من عدم. إن مناطق اللغة هي مساحات من قشرة المخ التي عُبِّئت لهذه الفئة الجديدة من الوظائف من بين التكوينات التي سبق أن تطوَّرت لتحقيق حالات تكيُّفٍ مختلفة تمامًا، وتم انتخابها أثناء تطور اللغة؛ لأن ما كانت تؤدِّيه في السابق قدم أفضل ملاءمةٍ ومطابقة للمشكلات الجديدة التي فرضتها اللغة. وهكذا سوف نكفُّ عن التفكير في منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك باعتبارهما «منطقتَين لُغويَّتَين»، إنهما المنطقتان اللتان تستخدِمهما اللغة بأقصى قدرٍ من الكثافة. والسؤال الذي يتعيَّن أن نسأله هو: لماذا؟ ماذا عن هاتَين المنطقتَين اللتَين تفرضان وزع وظائف اللغة التي نُلحظها؟

والإجابة البسيطة التي اقترحها علماء الحبسة في القرن التاسع عشر هي أن موقعهما دالٌّ على سيادة مسالك المدخلات والمخرجات: تحليل الصوت وتوليد الكلام. ونعرف أن منطقة بروكا مجاورة لمنطقة الفم — اللسان — الحنجرة في القشرة الحركية، كما أن منطقة فيرنيك مجاورة للقشرة السمعية، ولكن هل توجد تكوينات تشريحية متمايزة تقابل هذه التكوينات المحددة للغة طبقًا لأدائها؟ الإجابة المحتملة لا. إن منطقتَي بروكا وفيرنيك تُمثلان ما يمكن أن نتصوَّره عنقَي زجاجة لدفق المعلومات أثناء معالجة اللغة، مع وجود روابط ضعيفة في سلسلة العمليات، ونحن ما إن نتخلى عن التصوُّر المثالي من أن اللغة مدسوسة في المخ في وحداتٍ أساسية، ونعترِف بأنها مجرد استخدام لتكوينات موجودة، فسوف ينتفي أي سببٍ يدعونا لأن نتوقَّع أن وظائف اللغة سوف ترتسِم بأسلوبٍ مباشر ما على التقسيمات البنيوية الوظيفية لقشرة المخ، وإن الأكثر معقوليةً هو أن نتوقَّع تقسيم العمليات اللغوية إلى وظائف فرعية عليها أن تؤدِّي ما هو أكثر من المنطق اللساني لصالح المنطق العصبي.

والحقيقة الواحدة والواضحة هي أن وظائف اللغة مُعتمدة على التفاعُلات بين عددٍ من المناطق المنفصلة داخل المخ، ونعرف أن اللغات ذاتها هي تكوينات غير متجانسة، وغالبًا ما تسجل شفريًّا وظائف تكميلية في مكوناتٍ مختلفة تمامًا لإشارة الكلام، وربما تساعد في هذا المنظومات الحسابية التي تدعمها، وذلك عن طريق تحليلها بطريقةٍ تسمح بأكثر فعالية مُمكنة لمعالجة آنية لعددٍ من الوظائف الموازية، وإن الانتخاب الطبيعي المُكثف الذي يؤثر في أشكال اللغة أنتج بالضرورة ضروبًا مختلفة تتطابق بسهولةٍ مع هذه المُتطلبات الخاصة بالمعالجة، وسوف تنتهي العمليات اللسانية التكميلية بوزعها في صورة تكوينات مختلفة للمخ. وطبيعي أن ينعكس هذا في صورة اختلافات في الاضطرابات التي تكشف عنها حالات الحبسة، ولكن اللغة ملائمة لخطة مُخ القِرَدة العُليا، وأمخاخنا التي هي أمخاخ قِردة عُليا على الرغم من أنها تعدلت من خلال استجاباتها، وهي الآن العنصر الأكثر مرونةً في هذه العلاقة؛ إذن ما المنطق التشريحي الذي اضطرَّت اللغة إلى التكيُّف معه؟

المخ يكشف أسراره بالكهرباء

أول مصدرٍ للمعلومات عن المخ واللغة الذي قدم لنا منظورًا مختلفًا لدرجةٍ كبيرة عن تلك المعلومات التي توفَّرت لنا عن طريق إصابات المخ جاءنا من الدراسات عن آثار التنبيه الكهربي لقشرة المخ لدى مرضى خاضِعين لجراحةٍ عصبية لأمراضٍ غير مرتبطة بعضها ببعض؛ إذ في خمسينيات القرن العشرين استطاع جراح أعصابٍ اسمه وايلدر بنفيلد أن يستكمل تقنيةً لتقييم التمركز الوظيفي عن طريق التنبيه الكهربي لقشرة مخٍّ لمرضى أيقاظ ومُخدَّرين موضعيًّا، وعمد بانفيلد إلى تمرير تيارٍ كهربي ضعيف في قشرة المخ قرب المناطق التي نفترِض أنها مناطق اللغة في النصف الكروي الأيسر للدماغ، واكتشف أن بالإمكان أن يتدَّخل انتقائيًّا بإجراء اختبارات لغةٍ يؤدِّيها مرضاه، مثال ذلك: لو أنه سألهم أن يتكلَّموا أو أن يذكروا اسم شيءٍ ما فإن بوسعه — وعلى نحو اختباري — أن يعوق الكلام، وأن يتسبَّب في تشوشه، أو أن يعوق المريض عن التوصل إلى الاسم المطلوب، وهكذا، ونظرًا لأن النبضات العصبية هي أيضًا عمليات كهروكيميائية، فإن التنبيه يغمر المنطقة بضوضاء عصبية عالية، ومن ثم يشوش أي وظيفةٍ لهذه المنطقة، وهذه نتيجة وقتية ومُحددة الموقع، وتتوقف مباشرةً بعد توقف التيار، وكذلك تنبيه أسطح قشرة المخ اللصيقة (على بُعد بضع ملليمترات) يمكن أن يتسبب في آثار مُختلفة تمامًا. واستطاع بانفيلد سبر مناطق كثيرة، ومن ثم حدَّد هو وآخرون مدى مناطق قشرة المخ التي تدخَّل فيها التنبيه الكهربي؛ بحيث أثَّر في وظائف اللغة، وسمح هذا للجراحِين بتحديد تلك المناطق التي يُمكن أن تشوِّش وظائف اللغة إذا ما استؤصلت أثناء جراحة المخ لاستئصال أورامٍ أو مراكز صرع.

وتبيَّن أن اكتشافات بانفيلد تتَّسق مع ما كان معروفًا عن طريق إصابات المخ، وإن كانت مختلفة أيضًا من نواحٍ كثيرة، ووجد أن تنبيه مناطق اللغة المفترضة سابقًا يتسبب على الأرجح جدًّا في اضطرابات للغة، ولكنها ليست اضطرابات مُماثلة لحالات الحبسة. علاوة على هذا اكتشف أمرَين: الأول انتشار مواقع تشوش اللغة على نطاقٍ أوسع؛ مما أفاد حالات الحبسة؛ والثاني تماثُل الوظائف الخلفية والجبهية التي لم تتوافق مع آثار الإصابة والتي بدت منقسمةً إلى اثنَين. وبعد ذلك بفترةٍ استطاع جراح أعصاب آخر يُدعى جورج أوجمان هو وزملاؤه تطوير هذا الجهد مُستخدِمين اختباراتٍ عصبية لسانية neurolinguistic testing متقدمة للتنبيه والتسجيل. ويوضح الشكل ١٠-٢ موجزًا بيانيًّا لهذه النتائج.
وتثبت دراسات التنبيه الكهربي هذه أن المناطق التي يشوش فيها التنبيه وظيفة اللغة تخرج وتنتشِر من المنطقة الفموية الجبهية frontal mouth area؛ لتدخل إلى الفصَّين قبل الجبهة prefrontal lobes ومن حول المنطقة السمعية تقود إلى المنطقتَين الجدارية والصدغية. وجدير بالإشارة أن هذه المناطق التي من المُعتقَد أن التنبيه الكهربي للمنطق الأقرب إلى المنطقتَين الحركية والسمعية يتسبَّب في مشكلات خاصة بتحديد الفونيمات والحركات الفموية، ولكن التنبيه أبعد من ذلك يفسد القدرة على تسمية الأشياء المألوفة والتقديرات النحوية. وتبيَّن أن التنبيه الأبعد من ذلك يفسد فيما يبدو الاحتفاظ ﺑ/أو استدعاء الكلمات. ونجد أيضًا ما يُشبه التماثل بين الواجهة والخلفية لهذه الطبقات؛ بحيث إن الاستجابات نفسها تستثيرها الطبقة الثانية والثالثة من أمامٍ ومن خلف. وتغطي مناطق اللغة قطاعًا كبيرًا من مُجمل نصف الكرة الأيسر للدماغ، غير أن التنبيه داخل هذه المناطق لا تحدُث عنه نتائج مُتماثلة. وواقع الحال أن تنبيه غالبية المواقع لا يتسبَّب في تشوُّشٍ للغة في شخصٍ بعينه، ويمكن أن تكون هناك مواقع قليلة فقط هي التي تشوش كل نوعٍ من أنواع المهام اللغوية؛ لذلك فإن خرائط تنبيه وظائف اللغة هي خرائط مُركبة وتؤكد اتساقًا إحصائيًّا بين المرضى.
fig39
شكل ١٠-٢
شكل ١٠-٢: دراسات التنبيه الكهربي لعددٍ من المهام اللغوية المختارة، وتُشير هذه الدراسات إلى أن عمليات اللغة مجزأة وموزعة في مناطق كثيرة داخل النصف الكروي الأيسر للدماغ، ويظهر التنبيه الكهربي (في صورة نقاط)؛ ليشير إلى نمطٍ شِبه طبقي للتنظيم الوظيفي خارجًا من المناطق الكلاسيكية للغة ليدخل مناطق مقدم الجبهة والمنطقة الصدغية والمنطقة الجدارية؛ وتبدو المناطق الأكثر بُعدًا عن القشرة الحركية الأولية والقشرة السمعية، مشارِكةً في العمليات بقدْر أكبر من التكامل الزمني. ويوجِز الرسم البياني المعلومات المُستمدَّة من بانفيلد وروبرتس (١٩٥٩م)، وأوجمان (١٩٨٣م، ١٩٩١م)، وأوجمان وماتير (١٩٧٩م).

ونجد من بين هذه النتائج أن النمط الأكثر إثارةً للدهشة هو التماثل الانعكاسي كأنه في مرآةٍ بين الآثار الأمامية والخلفية، وهذا نمط مختلف كليةً عن ذلك النمط المُستمَّد من دراسات المخ المُصاب، والسؤال: كيف يُغير هذا فهمنا لآثار إصابات المخ وتوزيعها؟ والمفتاح لكي نفسر هذه الاختلافات هو أن التنبيه الكهربي شيءٌ مُضاف بينما الإصابة شيء أزلْناه. وعلى الرغم من أن مناطق قشرة المخ المجاورة تمامًا لموقع التنبيه ربما لا يؤثر فيها التنبيه مباشرةً، فإن المناطق البعيدة إلى حدٍّ ما يمكن أن تتأثر، ولذلك فإن الضوضاء الصادرة من مواقع كثيرة يمكن أن تكون قادرةً على السريان في تيار المعلومات الداعم لوظيفةٍ لغوية معينة. وليس لنا أن ندهش لذلك إذا ما عرفنا درجة التواصُلية العالية بين مناطق قشرة المخ، ولكن نمط التوزيع وأنواع التشوش تُفيدنا بما هو أكثر من مجرد وجود سبلٍ كثيرة لتشوُّش إشارات اللغة.

أولًا: الوظائف اللغوية تمتدُّ لتصل إلى جميع الفصوص الرئيسية لقشرة المخ بما في ذلك المنطقة الصدغية (السمعية)، والمنطقة الجدارية (اللمسية)، والقشرة الجبهية (الانتباه والذاكرة الشغالة working memory والتخطيط) في النصف الكروي الأيسر للدماغ، ويُشير هذا الانتشار الواسع إلى أن منظومة اللغة أقل تمركزًا بكثيرٍ في مواقع بعينها؛ مما كان معتقدًا في السابق بفضل نتائج المخ المُصاب. وعلى الرغم من أن حالات العطب اللغوي بسبب إصابة المنطقة الجدارية أو مُقدم الجبهة لم تكن ظاهرةً كثيرة للعيان ومُدمرة مثل الإصابة الصدغية اليُسرَى فإن كليهما يُمكنه أن يتسبَّب في مشكلاتٍ لطلاقة الكلام والتوصُّل إلى الكلمات وإلى أنواع مختلفة من التحليلات الدلالية. ثانيًا: إن مواقع التنبيه الموجودة في مواقع أقرب بالشقِّ السُّلفي Sylvian fissure تكون في الغالب مرتبطةً بالوظائف الحركية اللغوية، هذا بينما المواقع الأبعد مرتبطة بالوظائف اللسانية والإدراكية الأعلى مستوًى. ويتسق هذا مع حقيقة أن الطبقات الأعمق تقع مجاورةً للمناطق اللمسية الأولية والسمعية والحركية، بينما الطبقات الخارجية مُنتشرة داخل مناطق الترابُط والمتعدد الأشكال. وثمة تفسير واضح لهذا النمط التراتُبي، وهو أنه يوازي النموذج المُسمَّى أحيانًا مناطق الترابط الثانوية والثالثية في كل وسيلة من تلك الوسائل. ولكن حريٌّ أن نلحظ أيضًا أن الاختلافات من طبقةٍ إلى أخرى تعكس درجات مختلفة من التكامُل اللساني ودرجات زمنية مختلفة لمعالجة الثقة. ونجد من الطبقات الأعمق إلى الطبقات الخارجية تقدمًا مرحليًّا في أجزاء الكلام إلى الكلمات إلى العبارات ثم إلى الذاكرة اللفظية قصيرة المدى، ونلاحظ مع التحليل الزمني أن الطبقة الداخلية الأعمق في المناطق تتعامل مع الأحداث التي تقع وفقًا لتوقيتات زمنية من عشرات إلى مئات المللي ثانية (الفونيمات)، والطبقة الخارجية من المناطق تتعامل مع المعلومات التي يتم حفظها لأكثر من ثوانٍ عديدة (مثال ذلك أن العلاقات بين الجُمَل يتعين تحليلها حسب هذا المعدل).
fig40
شكل ١٠-٣
شكل ١٠-٣: تشير دراسات تدفق الدم في المخ عند أداء مهامَّ لغوية مختارة إلى أن العمليات اللغوية مجزَّأة وموزعة أيضًا وفقًا لهذا الاختبار للحاجة النسبية الأيضية لأداء مهامَّ مُعينة، وتُبين هذه الرسوم أن تنشيط تدفُّق الدم تضاعف عند الرسوم المُحيطية للأمخاخ البشرية، المناطق ذات اللون الداكن أكثر نشطت بفضل المهمة المُحددة، ونجد أن منطقة فيرنيك والمنطقة الحركية للكلام والمناطق القبجبهية البُطينية مرتبطة بمنطقة بروكا يجري تعبئتها بدرجاتٍ مختلفة لأداء مهام لغوية مختلفة، ويجري تعبئة المنطقة القبجبهية البُطينية لكلٍّ من مهام إدراك الكلمات وربط الكلمات (بمعنى توليد قوائم كلمات). ويلخص الشكل بيانيًّا المعلومات من لارسين وآخرين (١٩٧٨م)؛ لارسين وآخرين (١٩٧٨م، ١٩٨٠م)؛ ورولاند (١٩٨٥م).

والزمن عامل مُهم لدرجة حاسمة، خاصة بالنسبة لجهاز معالجة المعلومات الذي يتَّجه للعمل على نحوٍ تامٍّ تقريبًا في موازاة (بدلًا من تسريب كل العمليات خلال وحدة معالجة وحيدة، الواحدة بعد الأخرى، كما يعمل كل حاسبٍ من الحواسب المكتبية)، وتتَّجه العمليات التي تستخدم العمليات المعروضة بنِسَب مختلفة تمامًا إلى أن تُصبح منفصلةً بعضها عن بعض داخل المخ (كما يجب أن تكون كذلك داخل كثيرٍ من الأجهزة ابتداءً من الأجهزة الميكانيكية وحتى البيروقراطية)، وطبيعي أن الحفاظ على إشارةٍ ما داخل دائرة لمدة طويلة — بغية تحليل أجزائها في نمطٍ مُمتدٍّ إلى حدٍّ ما — يميل إلى أن تكون العمليات من النوع الذي يستلزِم توقيتًا وتحديدًا سريعَين، كذلك فإن النقل العصبي البطيء للإشارة يمكن أن يكون عاملًا مُحدِّدًا داخل المخ؛ بحيث إن العمليات السريعة جدًّا يكون من الأفضل تناولها داخل منطقةٍ متمركزة للغاية، هذا بينما تراكم المعلومات مع الزمن يمكن أداؤه وخدمته على نحوٍ أفضل عن طريق تنظيمٍ منتشر بشكلٍ أوسع، ولدَيه ما يزيد عن اللازم لمقاومة التدهور؛ لذلك يكون مفهومًا أن بالنسبة لكل وحدة أساسية من المُفيد فصل عملياتها البطيئة عن السريعة، وربما يكون هذا أحد العوامل الرئيسية التي تُمايز بين المناطق الفرعية للقشرة التي نُسمِّيها «المناطق الأولية» (الإشارات العابرة سريعة الزوال) و«مناطق الترابط» (الإشارات الثابتة). وواضح أن فصل العمليات طبقًا للتدرج الزمني للتكامُل قد يكون مهمًّا للغاية من جميع النواحي لمعالجة التدخُّل المُحتمل في الوظائف مثلما هو الحال في فصل الوسائل الأساسية والفرعية على اختلافها.

وأحسب أن التماثُل بين التمثيل الوظيفي الأمامي والخلفي يمكن فهمه على أفضل وجهٍ في ضوء مصطلحات الاتصال. لقد أثبتت الدراسات بشأن الاتصالات الخاصة بالمحاور العصبية بين مناطق قشرة المخ في الرئيسات أن المنطق الاتصالي يوازي التنظيم شِبه الطبقي للمناطق الثانوية والثالثية. والملاحظ داخل وحدة الاتصال الواحدة أن مناطق قشرة المخ المجاورة تَميل إلى أن تكون أكثر تداخلًا في الاتصال فيما بينها عن المناطق الأبعد المُنفصلة، ولكن يبدو أنه عبر وحدات الاتصال يوجَد تفضيل للوصلات الموجودة على مستوًى واحد في سلسلة المناطق البعيدة بالتدريج عن المدخلات والمُخرجات الأولية. معنى هذا أن التنظيم شِبه الثلاثي لآثار التنبيه في قشرة المخ الأمامية والخلفية ربما يكون انعكاسًا للاتصال المشترك المباشر بينها، وانعكاسًا لتماثل (ربما عن طريق التزامن) مجالاتِ المعالجة الزمنية في كلٍّ منها، كذلك فإن عدم ظهور تداخُل عبر المستويات ربما يعكس العزلة الزمنية النسبية للعمليات على هذه المستويات المختلفة، صفوة القول: إن الدليل الذي يوفِّره لنا التنبيه الكهربي يفيد باحتمال وجود مناطق كثيرة في كلٍّ من مناطق قشرة المخ الأمامية والخلفية التي تُسهم في معالجة اللغة على مستوياتٍ مختلفة من التحليل والإنتاج، وأن هذه يُمكن أن تكون مرتبطةً بالتوازي في علاقة تطابُق زمني.

ونحن ما إن نتخلى عن تشيؤ reification مناطق اللغة؛ أي اعتبارها شيئًا له وجوده العياني المُستقل، على هيئة إجراءاتٍ أو أجهزة لُغوية لها تصميمها الخاص في وحدات مثل الحاسوب ومدسوسة في مخٍّ غير لساني لولاها، يصبح واضحًا أن وظائف اللغة ربما تكون منتشرةً على نطاقٍ واسع، وتُعالج في آنٍ واحد في أماكن كثيرة دفعةً واحدة، ويمكن أيضًا أن تكون منتشرة وفقًا لمنطقٍ حسابي ليس واضحًا بالضرورة من خلال علامات الكلام الخارجية الظاهرة. وجدير بالذكر أن خبرتنا عن خطية الكلام؛ أي أحادية بعد الكلام تكذب القول بالتوازي الباطني التراتُبية للعمليات الإدراكية الأساسية. ونجد في الحقيقة أن أحد التفسيرات المُحتملة للمنطق التراتُبي للعمليات النحوية والبنائية للغة، هو أنها نشأت وتطوَّرت لتحقيق الملاءمة بدلًا من عدم التوافُق بين العمليات الإدراكية وقيود الإنتاج، وهذه معلومات مهمة يتعيَّن الحفاظ عليها في الذهن للتحليل اللِّساني. نحن قد نكون بحاجةٍ إلى أن نبدأ في التفكير بشأن مختلف الحِيَل المورفولوجية والبنائية للغة التي تستعملها اللغات لتمييز بِنيتها المنطقية والرمزية؛ لتكون بمنزلة معالم تساعد على سرعة تحليل أو تفكيك تسلسل العلامات وتوزيع القطاعات المُتوافقة مع المجالات الزمنية المختلفة على أدوات المعالجة الأكثر ملاءمة لها، مثال ذلك: الكلمات ذات الوظائف الصغيرة والمهمة بوجهٍ خاص للتحليل البنائي النحوي، تشير إلى الفواصل بين النقلات البنائية مثلما تفعل الوقفات والتغيُّرات الجرسية/الإيقاعية للصوت. والملاحظ أن التعقُّد التراتُبي لبنية اللغة وتضاعف الحِيَل لدمج العبارات في جُمَل ذات عُمق تحليلي واضح ربما لا تضيف في الحقيقة صعوبةً حسابية، وإنما يمكن أن تكون على العكس سبلًا لتوزيع عمليات اللغة على نحوٍ أكثر كفاءة على مدى منظومات كثيرة جزئيًّا وعلى التوازي.
نافذة أخرى تطل على تحكم المخ في العمليات اللغوية هيأتها لنا تقنيات مُستحدثة في العقود الأخيرة لإنتاج صورٍ لعمليات الأيض داخل المخ. ونعرف أن الفرض الأساسي بشأن التصوير الأيضي metabolic imaging يقضي بأن مناطق المخ الأكثر نشاطًا سوف تكشف عن استهلاكٍ أكثر من الجلوكوز، وسوف تكون بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الدم يزيد عما هو لازم للمناطق الهادئة. وهكذا فإن المناطق الساخنة؛ أي النشطة، سوف تتجلى واضحةً داخل المناطق الضالعة في أداء مهمةٍ إدراكية مُحددة. ويجري استخدام ثلاث تقنيات للتصوير الأيضي؛ أي تصوير العمليات الحيوية من بناءٍ وهدمٍ داخل الجسم، وهي التقنيات المُستخدمة لتصوير التغيُّرات الوظيفية أثناء أداء مهام لغوية، وهذه التقنيات هي تدفُّق الدم داخل مناطق المخ regional cerebral blood flow (rCBF)، والتصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني positron emission tomography (PET)، والتصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي functional magnetic resonance imaging (fMRI)، ونعرف أنه في تصوير تدفُّق الدم داخل مناطق المخ يُشير غاز إشعاعي خامل مُذاب في الدم إلى مواضع زيادة تدفُّق الدم. أما عن التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني (PET)، فإنه يجري حقن نظيرٍ إشعاعي للجلوكوز (السُّكر البسيط الذي تحتاج إليه جميع الخلايا العصبية للطاقة) في الدم لقياس تراكُم الأيض في مختلف مناطق المخ،٣ أما في التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي (fMRI)، فإنه يُصور استجابة جزيئات الماء داخل المخ إزاء شدة المجالات المغناطيسية، وبهذا تنتج صور لتكوينات المخ، ويجري حقن محاليل مغناطيسية magnetic solutions (وتُسمَّى عوامل التبايُن contrast agents) لتوضيح تغيرات تدفق الدم.
والملاحظ عند الاستجابة للمهام اللغوية أن أضخم زيادة في تدفُّق الدم نشهدها في مناطق قشرة المخ التي تتوافق مع تلك المُصابة في حالات الحبسة المكتسبة acquired aphasias (شكل ١٠-٣)، وتوضح أنماط المهام المُختلفة أن حركات الفم للكلام تتَّجه إلى تنشيط القشرة الحركية، بينما الإنصات للكلمات يُنشط المناطق السمعية للنصف الكروي الأيسر من المخ، ولكنَّ ثمة أنماطًا أخرى أكثر إثارةً للاهتمام، إن مجرد تكرار الكلمات مراتٍ ومراتٍ (مثل العد مرارًا من واحدة إلى عشرة) لا ينشِّط المنطقة التي نُسميها منطقة بروكا؛ إذ على العكس أنه ينشط أغلب المناطق الحركية، كما ينشط بدرجةٍ أقل المناطق السمعية ومنطقة حركية ظهرية تُعرف باسم المنطقة الحركية التكميلية،٤ وأوضحت هذه الدراسات أيضًا أن الاستماع السلبي (غير التكراري) للكلمات لا ينشط المناطق الحركية، وإنما ينشط القشرة السمعية، ومنها المنطقة التي ربما تتوافَق مع منطقة فيرنيك، وأيضًا منطقة قبجبهية بُطينية موجودة مباشرةً أمام ما يُسميه غالبية الباحثين منطقة بروكا. بيد أن المهام اللغوية الأكثر تعقُّدًا من مثل توليد قوائم الكلمات دون تكرار أيٍّ منها (من مثل تسمية أشياء يُمكن مسكها باليد) تتسبَّب في حدوث أنماطٍ لتدفق الدم في المخ المُميزة لكلٍّ من الكلام والإنصات، وتنشط المنطقة القبجبهية البُطينية، وكذا المناطق الحركية بما في ذلك المناطق التي يمكن أن نُسميها منطقة بروكا (أمام وتحت منطقة الفم الحركية)، وتلتئم على نحوٍ فريد مع هذه المهمة في الأداء أيضًا مناطق الفصوص الصدغية والجدارية، التي ربما تحتوي على استجابةٍ متعددة الأشكال (مناطق ارتباط).
وتكشف هذه الأنماط عن عددٍ من القسمات المميزة للتنظيم الوظيفي التي لا تظهر واضحةً في أيٍّ من آثار الإصابة أو التنبيه، أولًا: التكرار «عن غير وعيٍ ودون تنبُّه» يؤدي فقط إلى إشراك أقل حدٍّ من المناطق الكلاسيكية للغة أو مناطق الارتباط، ثانيًا: يبدو أن تفسير الكلمات يُشرك كلًّا من المناطق السمعية والقبجبهية ولكنه — كما يبدو واضحًا — لا يشرك ما كان يُسمى تقليديًّا منطقة بروكا،٥ ولكن هذه المنطقة القبجبهية البُطينية لقشرة المخ كثيرًا ما تُصاب جزئيًّا في حالات حبسة بروكا، وتُعاني من آفاتٍ مرضية جسيمة مثلما يحدُث في القشرة الحركية لمنطقة الفم، وحريٌّ أن نلحظ أيضًا أن هذه المنطقة القبجبهية البُطينية مرتبطة بالذاكرة اللفظية قصيرة المدى وبالتسمية كنتيجةٍ لعملية التنبيه وتوليد قائمة الكلمات، على الرغم من أن درجة التوافق أو الاختلاف من مهمةٍ إلى أخرى غير واضحة؛ مما يُشير إلى أن التقسيمات الثانوية المُختلفة ربما تكون ضالعةً في أداء هذه المهام، ويبدو الجزء القبحركي من منطقة بروكا مشاركًا بنشاطٍ كبير جدًّا عندما يكون لازمًا كلٌّ من تحليل الكلمات والكلام.
وثمة معلومات من تقنيةٍ أخرى للتصوير الأيضيِّ وهي التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني (PET)، وتقدم لنا نتائج مماثلة لنتائج الدراسات عن تدفق الدم داخل مناطق المخ (rCBF) (انظر شكل ١٠-٤٦ وتبين هذه المعلومات أن الإنصات السلبي إلى كلماتٍ جديدة غالبًا ما يؤدي إلى نشاطٍ سمعي مع بعض النشاط لقشرة مقدم الفص الجبهي البُطيني، وكذلك الحال عند النظر إلى كلماتٍ جديدة مكتوبة تشتمل على القشرة البصرية، وإن المدخلات البصرية في هذا المثال لا تستلزِم نشاطًا سمعيًّا مُهمًّا يتعين تفسيره. ونلاحظ في الدراسة التي تلخصها رسومات شكل ١٠-٤٧ أن القائمين على التجربة أضافوا تحليلهم بأن استخدموا تقنية الطرح للتصوير وهي ذات أهمية؛ إذ إن الصور المنتجة من مهام تضمنت إدراكًا حسيًّا للكلمات، تم طرحها من الصور المُنتجة من مهام تضمَّنت أيضًا كلامًا، ثم تم طرح كلٍّ من هاتَين الصورتَين من صورٍ منتجة من مهام تضمنت إضافة عليمات ترابط للكلمات (توليد فعلٍ مناسبٍ لاسم معروض). وجدير بالذكر أنه بدون هذا النهج كانت الصور الناتجة ستطمس الفوارق بين المهام الأكثر تعقدًا، بينما هي شغلت المزيد والمزيد من المخ على مراحل. وطبيعي أن طرح الصور واحدةً من أخرى يعزل أين تجمَّعَ النشاط في المخ تراكميًّا لمعالجة زيادةٍ نوعية في تعقُّد المهمة، هذا على الرغم من أنه لا يُشير إلى المناطق التي نشطت بفضل مهام سابقة أبسط لا تُسهم هي الأخرى بسبلٍ فريدة في حسابات المهمة الأرفع مستوًى أيضًا.
وكشفت عمليات الطرح هذه عن أمور عديدة عند مقارنتها بالنتائج السابقة. أولًا: على الرغم من استخدام وسائل تنبيهٍ مختلفة (مثل البصري مقابل السمعي في عرض الكلمات)، فإن أنماط النشاط الفارق الناتجة عن المهام الأكثر تعقيدًا باستخدام هذه المدخلات كانت متماثلة. ثانيًا: إن المنطقة القبجبهية البُطينية عاودت نشاطها ثانيةً عندما كان لازمًا تحليل الكلمات. ثالثًا: نشطت مناطق على خط الوسط، وبدا أن تكرار الكلمات شاركت فيه المنطقة الحركية التكميلية، كما بدا أن تحليل الكلمات أشرك القشرة الحزامية الأمامية anterior cingulate، ويبدو أن القشرة الحزامية حيوية بالنسبة لغالبية المهام التي تقتضي انتباهًا مكثفًا، ومن ثم يمكن ألا تكون، استثنائيًّا، جزءًا من المعالجة اللسانية (وإن كانت جوهرية). رابعًا: إن كلًّا من النشاط الحركي لتحليل الكلام بشكلٍ مُستقل يتسبَّب في حدوث نشاطٍ مكثف للمُخيخ (على الجانب المقابل للمخ) نظرًا لعبور الدروب التي تربط قشرة المخ والمخيخ. (انظر الشكل ١٠-٤، الصورتان ٢، ٣).
ولا غرابة في أنه بعد ممارسة هذه المهمة، وبعد تكرار عرْض الكلمات المألوفة تغدو المهمة أيسر، ومن ثم ينقص مستوى النشاط لكلٍّ من المناطق الثلاثة التي تم تنشيطها بدرجاتٍ مختلفة (القبجبهي البطيني الأيسر والحزام الأمامي وقشرة المخيخ اليمنى)، ويقترب إلى درجة كبيرة من مستويات الخلفية. ونجد في المقابل أن مناطق أخرى في المخ، من مثل القشرة المعزولة insular cortex والمخطط striatum زاد نشاطها بدرجةٍ طفيفة، وهكذا فإن الجهد الذهني اللازم للمُهمة ينعكس في درجة النشاط الفارق لهذه التكوينات.

وإنه لأمر مذهل (من منظور كلاسيكي) أن المُخيخ تعبأ لهذه المهمة، ليس باعتباره، أولًا وأساسًا، مُستودعًا للسلوك التلقائي، بل من أجل التغلُّب على هذه الميول في خدمة إنتاج البدائل. معنى هذا أن نمو المُخيخ المُنخفض خلقيًّا ليس لنا أن نتوقع منه أن يُنتج ضروبًا من مشكلات مقترنة بتعليم الحركات الماهرة التي تقتضي تآزُرًا معقدًا وتوقيتًا دقيقًا، وسوف يؤدي أيضًا إلى إزاحة دعمٍ مهم لصالح مجموعةٍ متنوعة من وظائف مقدم الفص الجبهي، خاصةً تلك التي تستلزِم إنتاجًا سريعًا من الترابطات الجديدة، ونظرًا لأن بعض العمليات اللغوية المطلوبة بإلحاحٍ يُمكن على الأرجح أن تكون تلك العمليات اللازمة لتوليد الكلمات التي تتألف منها جُمَل جديدة يتعيَّن إنتاجها في الزمن الواقعي، فإن هذه الرابطة بين المُخيخ ومقدم الفص الجبهي ربما يكون لها دور حاسم.

أخيرًا: أودُّ أن ألفت الانتباه إلى مساهمة المنطقة القبجبهية البُطينية التي تنشط بخاصةٍ في جميع هذه الأمثلة لتحليل الكلمات، ترى ما هذه المنطقة بلُغة التشريح؟ يأتينا البيان والدليل الخاص بهذا السؤال من مَعملي ومن آخرِين ومن التجارب على القردة التي وضحت لنا الوصلات التي تربط المنطقة المقابلة للمناطق الأخرى في قشرة المخ والمناطق الثانوية من قشرة المخ،٨ ويوضح هذا الدليل أن هذه المنطقة من المخ هي المُتلقي الرئيسي ومصدر الوصلات التي تربط المنطقة السمعية بالمناطق الأخرى الجبهية، وفي مقدمة الجبهة (انظر شكل ١٠-١B)، والمناطق الموجودة خلفها مباشرة — بين قشرة مقدم الفص الجبهي والقشرة الحركية التي ارتبطت تقليديًّا بمنطقة بروكا — لا تحصل على مدخلاتٍ سمعية، بل على مدخلات حركية تكميلية، ومدخلات تحمِل معلوماتٍ لمسية عن المنطقة الفموية، وكذلك ترتبط المنطقة القبجبهية البُطينية بالمناطق القبجبهية الظهرية (ومن المُرجح أيضًا تلك النشطة مع مهام إدراكية أخرى للكلمات)، وترتبط أيضًا بقشرة الحزام الأمامية التي تتميَّز بدرجةٍ عالية من النشاط أثناء هذه المهمة الخاصة بارتباط الكلام. ومثلما أفادتنا الدراسات الخاصة بالتنبيه الكهربي نجد أن المنظومات التي يجب أن تنشط معًا بالمشاركة في مهمةٍ لغوية بعينِها غالبًا ما تكشف عما يؤكد الرابطة، كما أن مهامَّ مختلفة تنفصل بعضها عن بعض من حيث الشكل وكذا من حيث النطاق الزمني، مثال ذلك تحليل ترابُطات الكلمات في الكلام العادي؛ إذ يكون لازمًا لتفسير العلاقات الكثيرة بين الكلمات المُنتشرة في كل المنطوقات وربما حتى بين الكلمات. ونجد أن إنتاج كلمةٍ واحدة أو إدراك حسٍّ واحد يتضمن — من ناحية أخرى — تحديدًا دقيقًا للإفصاح في النطق على مستوى الفونيمات المفردة، كما أن إدراك الكلمات يستلزِم ما هو أكثر قليلًا من المقارنة بين الفونيمات، وتتميَّز هذه بترتيبٍ مُنظم لحجم الفارق الزمني، وأيضًا بنمَط مغاير جملةً للتحليل.
fig41
شكل ١٠-٤
شكل ١٠-٤: تكشف الدراسات للمهام اللغوية بالتصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني (PET) عن أنماطٍ مُماثلة لتلك التي نراها من خلال تصوير تدفق الدم في المخ، ونلحظ في هذه الرسوم للتصوير المقطعي عن نشاط للصور، وتراكبت الأنماط على رسوم الحافة لأمخاخ البشر، ونرى المناطق السوداء أكثر وهي أكثر نشاطًا بفضل المُهمة المحددة، وبُنيت المهام الثلاث حسب النظام التراتبي: ١ = الإنصات فقط؛ ٢ = تكرار الكلمة المدخلة؛ ٣ = إصدار كلمةٍ مقترنة بالكلمة المعروضة. وتُمثل الصورة على اليمين نتاج عملية طرح نتائج الصورة الموجودة على اليسار للكشف عن أوجه الاختلاف، ونلحظ المشاركة الحاسمة لقشرة مقدم الفص الجبهي البُطيني خلال مهمة ربط الكلمات، وتُشير المنطقة النشطة تحت ظهر المخ إلى زيادةٍ إضافية كثيفة لمشاركة الجانب المقابل للمخيخ (انظر أيضًا الشكل ٩-١)، ويلخص الرسم بيانيًّا معلوماتٍ من بيترسين وآخرين (١٩٨٨م)، بوسنر وآخرين (١٩٨٨م)، وراجعها بوسنر وراشيل (١٩٩٤م).

وإن مقارنة المعلومات الناتجة عن هذه الطرق المختلفة اختلافًا كاملًا لتتبُّع مدى تطابُق الوظائف اللغوية، ومناطق المخ تجعل من المُمكن أن نبدأ في التعرُّف على قضايا متكرِّرة، مثال ذلك أن تأثيرات تنبيه مقدم الفص الجبهي البُطيني بشأن التسمية والقرارات النحوية، والتذكُّر قصير المدى للألفاظ، يمكن أن يساعدنا على تفسير السبب في أن حالات حبسة بروكا غالبًا ما تكشف عن ضعف الطلاقة، مع السلامة النسبية لتحليل معنى الكلمة، وعن صعوباتٍ بشأن النحو؛ حيث تكون العلامات الدالة موضعيًّا في الجملة ذات أهميةٍ قصوى. وثمة جوانب من حبسة بروكا مفهومة على نحوٍ أقل تأخُذ هي أيضًا سياقًا تفسيريًّا جديدًا. مثال ذلك تبين أن حالات حبسة بروكا تؤكد بعضًا من الانحيازات المهمة لترابُط الكلمات، وقد تجد صعوبات مع قوائم الكلمات، ولكن لديها وقت لإنتاج قوائم موزعة في فئاتٍ تصنيفية (حيوانات)، وهي أيسرُ من تلك التي تتضمَّن تحوُّلاتٍ في جانب الكلام (مثل علاقات الاسم والفعل)، زد على هذا أن حالات حبسة بروكا لدَيها صعوبات في إعادة بناء علاقات تراتُبية بين كلٍّ من الكلمات والموضوعات. وأخيرًا فإن حالات حبسة بروكا قد يصل بها الأمر إلى حدِّ الكشف عن عيوبٍ في إدراك الكلمات؛ الأمر الذي يتَّسق مع التنشيط الجبهي عند أداء مهامَّ بسيطة لإدراك الكلمات.

صفوة القول: إن صور المخ في حالة نشاطه لأداء مهام لغوية تكشف عن تنظيمٍ تراتُبي يربط كلًّا من الزمن بالتنظيم التراتُبي لمقاطع الجُمل، والانفصال بالنسبة إلى الشكل المادي أو التمثيل أو عرض الإشارة، وتبين كذلك أن مناطق اللغة الكلاسيكية ليست وحداتٍ أساسية موحدة، بل تجمُّعات أو عناقيد مُعقدة من مناطق كلٌّ منها لها مكونات وظيفية مختلفة، وهذا لا يتسق مع الرأي القائل بوجود عضوٍ للغة في المخ «مكتفٍ بذاته» حتى وإن كان واحدًا مُخصصًا فقط للنحو؛ إذ لو أن اللغة نشأت وتطورت نتيجةً لإضافة وحدة جزئية للغة في مخِّ الإنسان، فليس لنا أن نتوقَّع مثل الانتشار الواسع للعمليات اللسانية في مناطق متنوعة من قشرة المخ، كذلك لو أن هناك وحدة جزئية للنحو، فإنها ليست متمركزة في منطقةٍ واحدة من قشرة المخ؛ نظرًا لأن الوظائف الفرعية المقترنة بالعمليات النحوية والبنائية للغة موجودة في كلٍّ من المنطقتَين الأمامية والخلفية.

وإذا أدركنا أن أمخاخ الرئيسات كانت تُشبه أمخاخنا إلى حدٍّ كبير جدًّا منذ حوالي عشرات الملايين من السنين، وأن خطة مخ الثدييات التي يتبعها مُخُّنا كان كذلك منذ أكثر من ١٥٥ مليون سنة، فسوف يتضح لنا أن منطق اللغة ربما كان ملزمًا إلى حدٍّ كبير بأن يتلاءم ليكون منطق مخ القِرَدة العُليا. ونعرف أن عالم اللغويات linguist يقدم تصنيفاتٍ فئوية مُفيدة حين يقسم اللغة تحليليًّا إلى مثل تلك المجالات التكميلية من حيث البناء التراكيبي والدلالي والاسم والفعل والتوليد والفهم، ونعرف أيضًا أن تقسيمها وفقًا للوظائف الحسية والحركية يكون أيسرَ من وجهة نظر عصبية شاملة؛ لذلك ليس لنا أن نتوقَّع أن معالجة المخ للغة تلتزم أيًّا من المنطقتَين لهذه التمييزات الفئوية. إن الأنماط التي نلحظها ربما تعكس بأسلوبٍ غير مباشر، مشكلات المعالجة الناجمة عن مطابقة منظومةٍ مرجعية رمزية مُسجلة شفريًّا عن صورة طريقة معروضة على نحوٍ متسلسل على منطق مُعالجة لمخ القِرَدة العُليا.

وإذا كانت مناطق المخ جرى تعبئتها أثناء اكتساب اللغة على أساس كيف تُخطط بحيث تكمُن معزولة شكلًا وزمانًا، موازية لمجالاتٍ حاسوبية، إذن فإن لنا أن نتوقَّع أيضًا أن يكون تمثيل الوظائف اللغوية متنوعًا، وأن يتضاعف في صورته المنجزة في أمخاخ أفراد مُختلفين، بل أن يحدُث ذلك حتى داخل المخِّ الواحد في أوقاتٍ مختلفة على مدى الحياة أو في ظلِّ ظروفٍ خاصة أخرى مُغايرة، كذلك حتى في داخل مخٍّ واحد يمكن أن نجد درجةً ما من فائض السعة الوظيفية؛ بحيث إن التكوينات البديلة علاوة على تلك التي حقَّقت مستوًى مثاليًّا للأعمال اللسانية يُمكن تعبئتها لأداء مهامَّ لسانية عندما تكون هذه المنظومات الأفضل غير ميسورة (مثلًا بسبب إصابةٍ في المخ أو تداخُل اتصالاتٍ متعدِّدة الألسن أو ضغوط آنية من مهامَّ إدراكية منافسة)، ونكاد نكون على يقينٍ من أن مثل هذه البدائل الوظيفية ستكون مرتبطةً بتناقُض واضح في الكفاءة؛ الأمر الذي يحدث تحديدًا بسبب أن اللغة لا تُعالجها طاقة عامة للتعلُّم، وإنما منظومات فرعية إدراكية غير متجانسة، وليس من بينها ما يُعتبَر وفق تصميمِه معالجًا للغة.

ونجد بعضًا من النماذج النظرية الأجدر بالاهتمام دون غيرها في تحليل اللغة تدفع بأن المعدل فائق السرعة لسير تحليل الجملة، والتلقائية النسبية لخِبرتنا عن هذه العمليات وتعذُّر تأثيرها، يُمكن تفسيرهما فقط بافتراض وجود وحداتٍ ذات خصوصية مجاليةٍ ومُغلقة دون المعلومات من منظوماتٍ أخرى، وإذا كان تحليل الكلام، وتكوين الجُمَل عملياتٍ موازية تمامًا ومُماثلة للوسط الناقل المُتسلسل للكلام، فإن لنا أن نتوقَّع أن المكوِّنات المُتعددة لهذه العملية سوف تجري في عزلةٍ مُماثلة بعضها عن بعض، وهذا ما يستلزمه منطق المعالجة المنتشر؛ لأن مستويات مهمة «الحديث المُتداخل» بين مجالات المعالجة المُتمايزة، سوف تفضي إلى تشوُّش كبير، ولكن منطق هذا النوع من المعيارية التكيُّفية يُعتبر من نواحٍ كثيرة معكوس ما تقترحه النظريات اللسانية بشأن العمليات النحوية. وحقيقة الأمر أن العلامات النحوية المُجسَّدة في «كلمات دالة» صغيرة، يمكن أن تكون العوامل الأولية للبدء بتصنيفٍ نمطي وتوزيع «حزم» الجُمَل لمعالجتها في استقلال بعضها عن بعض. ولهذا السبب فإن هذه القسَمات المُميزة للغة هي على وجه الدقَّة والتحديد التي بحاجة إلى حدٍّ أدنى من التحليل الرمزي، إنها تؤدي وظيفة الدليل الموضوعي المُهيمِن، وسبق أن رأينا أن الدلائل الموضوعية يُمكن تفسيرها منعزلةً باعتبارها مهاراتٍ تلقائية مُكتسبة ومحفوظة عن ظهر قلب.

ورغبةً في التنظيم السريع والكفء لمِثل هذه العمليات الترابُطية المُنتشِرة على نطاقٍ واسعٍ كان لزامًا أن تتجرَّد بعض الرموز من كلِّ شيء، ما عدا المحتوى الأكثر غموضًا؛ لكي توفِّر طائفةً من «المحولات» التلقائية لكي يتحول النشاط الرمزي في الاتجاهَين إلى المناطق المُخصَّصة في المخ. وهكذا فإن التلقائية الذاتية لإنتاج الكلام والفهم تحقَّقت عن طريق تجنيب طائفةٍ صغيرة ومُغلقة من الرموز لاستعمالها وكأنها مؤشراتٌ أو أدلَّة موضوعية، وأصبح بالإمكان، نتيجة تجرُّدها من الروابط الدلالية «السيمانطيقية»، تعلُّمها عن طريق الحفظ الصم وإنجازها بأقل جهدٍ من البحث في الذاكرة، وكذلك يمكن أن يكون تمثيلها داخل المخ محليًّا لدرجةٍ كبيرة حتى وإن كان في منطقةٍ ما تحت قشرة المخ. وتمثَّلت وظيفة هذه العمليات المعيارية في إنجاز القواعد النحوية، ولكن توزَّعت وانتشرت؛ لأن القواعد رمزية ضمنًا، وإن هذه الوظائف اللغوية التلقائية ذاتيًّا ليست وحداتٍ نحوية أساسية، بل مجرد أعراضٍ دالة على النحو من المُحتمل أن تتوزَّع وتنتشِر هي نفسها.

وعلى عكس الوحدات التكوينية المُغلقة فإن مستويات المعلومات الحافلة والمُحكمة التي عُولِجت على نحوٍ مُستقل بعضها عن بعض لا يمكن أن تكون «مغلقة» تمامًا دون المعلومات التي عُولِجت في مستوياتٍ مغايرة؛ إذ إن التوازي يستلزم التزامن لضمان تنظيم العمليات التي انفصلت بعضها عن بعض جزئيًّا؛ بحيث يُعاد تنظيمها وفق علاقاتها بعضها ببعض، وبالنسبة للحديث المُتداخِل انتقائيًّا بحيث يُمكن لنتائج بعض العمليات أن تُقيِّد عمل غيرها، ويمكن تيسير ذلك عن طريق تقسيم معالجة اللغة وفقًا للمجالات الزمنية؛ لأن العمليات المُمتدة وواسعة النطاق (ومن ثم الأكثر فائضًا) يمكن أن تعمل كإطارٍ بحيث يتسنَّى في داخله التحكُّم في كثيرٍ من العمليات الأكثر سرعة، والعكس أيضًا بحيث إنَّ تَوالي واطراد عمليةٍ ترابُطية أبطأ حركةً وأكثر شمولًا يُمكن أن تفيد كعامل توحيدٍ يساعد على التغلُّب على الشواش الذاتي للعمليات السريعة التي يجب أن تكون بحُكم تصميمها عند أدنى نطاقٍ ترابُطي.

أين لا وجود للرموز؟

إذن، أين في المخ يمكن للمرء أن يتوقَّع أن يجد الرموز مُمثَّلة؟ يبدو أن الإجابة هي أن الرموز اللسانية المُفردة لا وجود لها في مكانٍ مُحدَّد في أي مكان، أو أن تكوينات المخ الضرورية لتحليلها موزَّعة، فيما يبدو على طول وعبْر مناطق كثيرة. وتفيد الطبيعة المنظومية للمرجعية الرمزية أنَّ تمثيل الروابط الرمزية داخل المخِّ سيكون بالضرورةِ موزعًا في مناطق مُتنوِّعة في المخ، وأن فئاتٍ مُماثلة من الكلمات ينبغي أن تشارك في البِنى العمومية العصبية. وعلى الرغم من أن الكلمات، من مثل علامات الرمز، يُمكن تشفيرها عن طريق أنماطٍ صوتية مميزة أو نقوش خطية بصرية، فإن العلاقات المرجعية الرمزية هي نتاج تلاقي شفراتٍ عصبية مختلفة من منظومات مخ مُستقلة، وحيث إنها رمزية فإن فهم الكلمة وعمليات الاسترجاع هي نتائج توليفاتٍ بين عملياتٍ ترابُطية أبسط في عددٍ من المجالات المُستقلة التي تشتمل على تعبئة الكثير من مناطق المخ المنفصلة، ومن ثم لا تستطيع لهذا السبب أن يتحدَّد موضعها في أيِّ موقعٍ عصبي وحيد، ولكن حيث إن كلَّ علاقةٍ تمثيلية داعمة تشارك في عملية إنتاج أو فهم الكلمة، فإن كلَّ أساسٍ أو موضعٍ عصبي مطابق ينشَط في مراحل مختلفة من العملية.

وإلى الحدِّ الذي يتعيَّن فيه بناء كل شكلٍ أرقى من العلاقة التمثيلية، أو من تفكيكها إلى، مستويات أدنى للتمثيل يمكن لنا أن نتوقَّع أن تمثيلاتها العصبية ستكشف عن بنيةٍ تراتُبية مماثلة مدمجة أيضًا، وسيكون هناك نوع من الإعادة المختصرة لهذه التراتُبية للاكتساب في اتجاهاتٍ متضادة اعتمادًا على ما إذا كانت العلاقة الرمزية في حالة بناءٍ أم تفسير من أيقونة إلى دليل موضوعي إلى رمز؛ أو من رمز إلى دليل موضوعي إلى أيقونة على التوالي. ونحن لكي نتنبأ كيف يمكن لمِثل هذه العملية أن تجري داخل المخِّ نكون أولًا بحاجةٍ إلى أن نسأل كيف يمكن أن تتمثَّل العمليات الأيقونية والإشارية، أي الدليل الموضوعي.

إن أدنى مستوى للعلاقات الأيقونية سوف يطابق حتمًا العمليات داخل وسائل حسِّية مفردة، مثال ذلك: هناك أوجه التماثُل المُعترَف بها بين الفونيمات في مجالات كلام مختلفة أو بين أشكالٍ بصرية في خبراتٍ بصرية مختلفة، وتنبني هذه على تقييماتٍ لبضعة أبعاد حسِّية فقط في وسيلة مفردة، وإن مثل هذه العمليات الأيقونية البسيطة القائمة داخل الوسيلة تتَّسم على الأرجح بطابعٍ مُحدد الموضع لدرجة عالية، وربما له ما يُمثله في قشرة المخ بفضل نشاطٍ يجري داخل مجالٍ حسِّي أو حركي مجاور، ونعرف أن الكلمات والموضوعات المألوفة غالبًا ما تستلزِم تحليلًا أيقونيًّا مُركبًا متضمنًا أكثر من بُعدٍ حسِّي واحد، وأحيانًا أكثر من وسيلةٍ حسية واحدة، وهكذا. بناءً على الموضوع أو العلاقة يمكن لعملية الإدراك أن تتوزع على مدى مجالات كثيرة، ولكن في غالبية السياقات البرجماتية يكون لازمًا تقييم بضع قسماتٍ فقط (والباقي ضمنًا)، وذلك لاتخاذ قرارٍ إدراكي؛ لأن البدائل المنافسة محدودة. ويتَّضح أن كل مجموعة المعايير الأيقونية جرى تنشيطها عند أدنى درجةٍ في العملية فقط حال اكتشاف أحدِها مفتقدًا عرضًا في المُنبه (كما هو الحال في المثال المعروض في الفصل ٣ بشأن اكتشاف فراشة مُتخفِّية، وذلك حين طيرانها خارج غلافها الخارجي التمويهي المُشابه لها)، إن هذه الرابطة بين قسمات أيقونية مختلفة هي قسَمات مبنية على الدليل الموضوعي، وتعكس العلاقة التراتُبية الأصيلة بين أنماط التمثيل هذه، وينبني التمثيل الذهني لموضوعٍ مُعقَّد على علاقات مشتركة بين روابط أيقونية عدة في أبعادٍ مختلفة أو وسائل تتنبَّأ بحضور الآخر، ومن ثم فكلَّما كان الموضوع أو العلاقة أكثر تعقدًا، كانت التقييمات الأيقونية والمَبنية على الدليل الموضوعي أكثر تعدُّدًا واللازمة لإدراكه، وحسب هذا الرأي يُوجَد فقط من ناحيةٍ فارقٌ مِن حيث أعداد وتنوع الأيقونات المشاركة، وبين التعلُّم من ناحيةٍ أخرى، لمعرفة العلاقات بين الموضوعات وبين الوقائع. ويمكن لعمليات الإدراك والتنبُّؤ أن تنتظم في يُسرٍ وسهولة ونحن نتعلم أن نُركز التحليل الحسِّي على تقييم القسمات الأوثق ارتباطًا دون غيرها.

والملاحظ أن الروابط القائمة على الدليل الموضوعي بين الكلمات والموضوعات المُرتبطة تميل إلى أن تتضمَّن، في الغالب الأعم، علاقاتٍ لوسائل مُتداخِلة (مثل الصوت والرؤية)؛ ونتيجة لذلك لنا أن نتوقَّع أن تتضمَّن أُسس تحليل الكلمة على مجموعةٍ منتشرة من مناطق المخ وليست مقصورة على وسيلة مفردة. وحريٌّ أن نتذكَّر أنه لاستحداث وتطوير مرجعية رمزية يلزم: (١) تأسيس طائفةٍ من روابط الدليل الموضوعي بين العلامات (مثل الكلمات) والموضوعات (الأشياء والأحداث) موضوع الخبرة؛ (٢) تأسيس مجموعة نَسَقية من روابط الدليل الموضوعي بين علامات مختلفةٍ في صورة تبادُلٍ منطقي وعلاقات إحلال؛ و(٣) إدراك أوجه التطابُق (المظاهر الأيقونية) بين علاقاتٍ توليفية علامة وعلامة، والعلاقات الضمنية بين مختلف الموضوعات التي تُشير إليها العلامات، وحين تتآلف كل هذه الأجزاء للُّغز الرمزي وتلتئِم معًا يتيسَّر طريق مرجعي مُختصر؛ إذ يُصبح بالإمكان تجاوز كلٍّ من الوسائط المؤسسة على الدليل الموضوعي واستخدام العلاقات الضمنية في توليفاتٍ من العلامات (مثل عبارات وجُمَل)، وبشكلٍ مباشر للإشارة إلى العلاقات بين الموضوعات المادية والأحداث، وما إن يصل المُتعلِّم إلى إدراكه لهذا التطابق غير المباشر لعلاقات الإشارات مع علاقات الموضوعات حتى يُمكن أن يتحول الانتباه بعيدًا عن الروابط الأكثر عيانيةً للدليل الموضوعي (في واقع الأمر الجهل بها عن طريق تقليل توقُّع رباط مادي)، ويسمح هذا للمنطق التوليفي القوي والأكثر كفاءةً للعلاقات فيما بين العلامات بأن يُهيئ دعمًا ذاكريًّا لاستعادتها وإعادة بنائها عند الحاجة.

وتُعتبَر إعادة تشفير منظومات العلاقات الأيقونية والدليل الموضوعي إجراءً مفيدًا للغاية؛ لأنه يسمح لنا في النهاية بأن نتجاهل الغالبية العُظمَى من محتوى الشبكة من ترابُطات مؤسسة على الدليل الموضوعي من حيث الكلمة والموضوع، والكلمة والكلمة، والموضوع والموضوع. ولا ريب في أن توفر هذا النهج الذاكري المُختصر يُهيئ إمكانية للتسارُع الذي يفوق التصوُّر ولضغط نقل واستقبال المعلومات أثناء توليد اللغة والفهم كما توضح المقارنة مع أشكال الاتصال الأخرى، لقد أصبحنا آلاتٍ حاسبة سريعة جدًّا للمرجعية، وما تزال هذه العلاقات المُغفلة القائمة على أساس الدليل الموضوعي الأساسي الضمني لمرجعية الكلمة، ولكن ما إن تنتهي هذه الخطوات التفسيرية حتى يتحدَّد بدقةٍ أيها وثيق الصلة وأيها ليس كذلك. وإنه لأمر حاسم أن تتوفر الإمكانية المُحتمَلة لاستعادة هذه الترابُطات ذات المستوى الأدنى واعتبارها عناصر في عملية تفسيرية أو استخدامها لتحديد الخطوات اللازمة في بناء الرمز (مثل توليد الجملة)، ونعرف أن المرجعية الرمزية يجري تفسيرها عن طريق تقديم الدليل الموضوعي الداعِم لها، كما أن هذه العلاقات المُكوِّنة للدليل الموضوعي يجري تفسيرها هي أيضًا عن طريق تقديم دعمِها الأيقوني، وهذه عملية اختزالية مثلها مثل تفسير التفاعُلات الجزيئية عن طريق إسهامات مكوناتها الذرية، ثم مكوناتها دون الذرية subatomic. ويستلزم التفسير الرمزي نوعًا من الإيجاز المصوغ بصورةٍ مثالية عن تاريخ اكتساب الدليل الموضوعي الذي قادنا إلى تأسيس هذه العلاقة المرجعية التي تحتاج منَّا ألا نستعيد أي شيءٍ آخر فيما عدا العناصر الهيكلية الأعم للدعم الأيقوني القائم على الدليل الموضوعي الذي يُشكل الأساس — أي أن نستعيد فقط ما هو جوهري للسياق التوليفي المباشر والبرجماتي.
وحريٌّ أن نُشير من الناحية التاريخية إلى أن كثيرين من علماء علم النفس العصبي اقترحوا أن مرجعية الكلمة تقتضي مشاركة مناطق ارتباط خاصَّة أو مناطق مُتعددة الوسائل في المخ (خاصة قشرة المخ)، وثمة دراسات عن النقل المتداخل للمعلومات من التعلُّم القائم على التمييز في الوسائل الحسية المختلفة. وأثبتت هذه الدراسات — في أمخاخ القردة على الأقل — وجود مناطق مُتعددة الوسائل في قشرة المخ الجدارية والصدغية والقبجبهية التي تُعتبر حاسمة بالنسبة للقدرة على نقل الروابط المكتسبة عبر وسائل حسِّية من مثل الإدراك البصري لموضوع كان معروفًا في السابق عن طريق الشكل فقط، وثمة رؤًى أحدث عن هذه الأفكار استعادت مفهومًا وثيق الصلة — مناطق التلاقي convergence zones في قشرة المخ — بُغيةَ تفسير مدى تداخُل وترابُط آثار الخبرات الحسِّية والحركية المنتشرة، وذلك لدعمها لمعاني الكلمات، وهذا من شأنه أن يلفت الأنظار إلى جانبٍ جوهري لمعنى الكلمة دون جانبها الرمزي. والصحيح أن هذه الترابُطات متداخلة الوسائل بين الصور والخبرات من ناحية، وارتباطاتها بأصواتٍ خاصة مميزة للكلمة من ناحيةٍ أخرى تُزوِّدنا بترابُطات بين الكلمات مؤسَّسة على الدليل الموضوعي، ولكن ارتباطها الرمزي — الذي نُسميه المعنى — يشتمِل عليها وعلى ما هو أكثر، وهذا الشيء الأكثر يتضمَّن كلًّا من العلاقات الترابُطية بين الكلمات والمنطق الخاص بالكيفية التي تتطابق به من العلاقات الأكثر عيانيةً للدليل الموضوعي. وجدير بالذِّكر أن هذه المكوِّنات تضمَّنتها منذ زمن طويل نظريات عن عمليات المخ المعنية باستعادة المعنى.
وأدَّى الجمع بين أساليب الدراسة من خلال تصوير المخ مع أساليب دراسة المخ المُصاب في حالة معالجة اللغة، إلى إمكانية وضع تقييمٍ جديد للطبيعة مُتعددة الأوجه لعلاقات ربط الكلمات وما يقابلها من توزيع وانتشار العمليات المكونة لها داخل المخ. ونجد بشكلٍ عام أن الدراسات التي عُنيت بالمعالجة الذاكرية والمعجمية للكلمات تُشير إلى أن مناطق المخ المختلفة ربما تكون مشارِكة بدرجاتٍ مختلفة اعتمادًا على كلٍّ من القسمات الدلالية (السيمانطيقية)، وعلى القسمات الإدراكية المشاركة في التحليل. ونلحظ أن أحد البراهين الدالة على إمكانية فصل الأوجه المُختلفة لتحليل الكلمات يشتمِل على المنطقة اليُسرى البُطينية لمُقدم الفص الجبهي في المخ، وهي المنطقة نفسها المُفضلة المَعنية بمهام توليد فعلٍ للاسم (وسبق مناقشتها)، ويبدو أيضًا أن هذه المنطقة نفسها لها دور حاسم في استعادة الكلمات التي تُمثل أفعالًا نشِطة، وثمة منطقة أخرى تنشط أثناء أداء مهامِّ استكمال الكلمة حسبما يوضح التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي، ولكن الدراسات القائمة على التصوير المقطعي للانبعاث البوزيتروني للمفحوصين حال الاستجابة لأسماءٍ مع أفعال، فإنها تكشف عن أنماطٍ لنشاط قشرة المخ الذي يتداخل جزئيًّا فقط مع مهامَّ تكاد تكون مُتطابقة تشتمل على الاستجابة للأسماء بأسماءٍ أخرى، أو تحليل القسمات النحوية والمعجمية للكلمات (انظر شكل ١٠-٥)، يفيد هذا بوجود فوارق طفيفة في تعبئة مناطق مقدم الفص الجبهي مع التغيرات الدلالية (السيمانطيقية)، علاوة على هذا يبدو أن المنطقة البُطينية اليُسرى لمقدم الفص الجبهي غير ضالِعة في تسمية الموضوعات المألوفة، وتبين أن استعادة كلمات الموضوعات مقابل أسماء الأشخاص في حالة الاستجابة لعلامات بصرية تُصاب بأعطابٍ مختلفة لدى المرضى بإصابة لمقاطع مختلفة في الفص الصدغي البُطيني والأوسط اليساري، ويظهر أيضًا أن هذا التمييز له ما يُماثله ويُوازيه كما توضح الدراسات التصويرية التي تُبين أن لهذه المناطق نشاطًا مفضلًا عند أداء مهامَّ للتسمية (انظر شكل ١٠-٥).

ومن الملاحظات المهمة أن هذه المناطق الصدغية الدنيا والوسطى ليست مُرتبطة بأي من المعالجة السمعية أو حبسة فيرنيك، وواقع الحال أن الأدلة التشريحية تُفيد بأن هذه المناطق الصدغية الدنيا ربما تشتمِل على مناطق من قشرة المخ التي نعتبِرها بصرية وسمعية معًا في الأداء الوظيفي، ولا غرابة في هذا أبدًا؛ لأن المنبهات كانت صورًا، ولكن من المهم أن نُدرك أن هذا لا يعكس فقط عمليات تعرُّف على الصورة. وتوضح هذه الدراسات المبنية على التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني أن نمط تنشيط المخ للمكوِّن البصري في المهمة (حسبما تم تقييمه عن طريق استخدام معلوماتٍ من محاولاتٍ موازية للتعرُّف على شيءٍ ما) كان محذوفًا من النمط المعروض في مهمة ارتباط الصورة والكلمة، ولهذا فإن النمَط المُتبقي يعكس شيئًا آخر، وتظهر في الحلبة مرحلة معالجةٍ بصرية إضافية لتوليد الكلمة (على الرغم من أنها قد تتضمَّن بعضًا من المناطق البصرية ذاتها للزومها لمهمة التعرُّف على الشيء)، ويظهر استخدام آخر للمعلومات المُسجلة بصريًّا؛ ليكون لها دور حاسم في هذا المستوى المُعجمي (أي كلمة وكلمة) للمهمة، ويختلف هذا الاستخدام تأسيسًا على فئةِ الشيء المُسمَّى، وهكذا تبدو أنماط تعبئة قشرة المخ معتمدةً تمامًا على المتطلبات المعجمية للمهمة.

fig42
شكل ١٠-٥
شكل ١٠-٥: موجز دراسات تصوير المخ لبحث تمركز المعالجة الدلالية للكلمات والجُمَل.
(A) كان مطلوبًا من المفحوصين في هذه الدراسة متابعة قصة لرصد الأخطاء النحوية أو رصد ظهور كلماتٍ ضمن فئةٍ دلالية مُحددة، وكشفت الدراستان عن اختلافٍ طفيف ولكن مع تداخُل أنماط التنشيط بالتصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني في المناطق الجبهية الحركية والقبحركية في قشرة مقدم الفص الجبهي البطيني، كذلك تم تنشيط (السهم) قشرة تلفيف الحزام الأمامي (cg) والمنطقة الحركية التكميلية (sma). (تلخيص من نيكيللي وآخرين ١٩٩٥م).
(B) التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي مُستخدَم للتمييز بين تأثيرات صعوبة المهمة الخاصة بمهمة المعالجة المعجمية والمعالجة الدلالية لمهمةٍ مُماثلة، وتُبيِّن تأثيراتٍ منفصلة في مناطق مجاورة لمقدم الفص الجبهي البطيني، (تلخيص من دمب وآخرين ١٩٩٥م).
(C) معلومات مجمعة من تصوير مقطعي بالانبعاث البوزيتروني ومرضى بإصابة بؤرية في المخ، وجرى استخدامهم لبناء خرائط تُحدِّد معالم مناطق تم تجميعها لثلاث فئاتٍ لتسمية صورة، مناطق صدغية لقشرة المخ مختلفة (خارج منطقة فيرنيك التقليدية) تم حشدها اعتمادًا على قسمات ترابُطية معجمية مختلفة للكلمات (أسماء أشخاص، أسماء حيوانات، أسماء أدوات)، وقصرت الإصابات على الفصوص الصدغية، ويُبين التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني علاوة على سبق تنشيط القشرة الجبهية والحزامية (تلخيص من داماسيو وآخرين ١٩٩٦م)، ويبدو أن المعالجة الدلالية تُعبِّئ تقسيمات فرعية مختلفة للفص الصدغي البُطيني والجانبي اعتمادًا على القسمات الدلالية المُتضمنة، وثمة نمط مُماثل للتعبئة للفص الصدغي الأمامي مقابل الخلفي في معالجة أسماء أشياء غير حيَّة مقابل أشياء حيَّة، وتم إثباتها بواسطة تجيل إلكترود «قطب كهربي» سطحي لدى مرضى أيقاظ (نوبر وآخرون، ١٩٩٤م).
(D) تم تنشيط مناطق في قشرة المخ أثناء إبداء أحكامٍ دلالية عن الكلمات أو عن الصور؛ حدَّدت استخدام التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني لتحليل تدفُّق الدم في المخ وطرح المناطق التي تنشط منفردةً بالنسبة لكل مهمةٍ وحدَها (تلخيص عن فاندنبرج وآخرين ١٩٩٦م)، وتضمَّنت جميعها تنشيط قشرة مقدم الفص الجبهي البُطيني تمامًا مثلما حدث مع مهمة ربط الكلمات مع فعل إلى اسم والمصورة في الشكل ١٠-٣، وأكدت إضافة القشرة الصدغية الدنيا حالات تعبئة مُنتشرة لمناطق قشرة المخ في المعالجة الدلالية.
إن هذا الدعم الفارق للبصري والصدغي مقابل مناطق مُقدم الفص الجبهي يُمثل مؤازرةً لرؤية نظرية كان أول من اقترحها هو عالِم اللسانيات البنيوية بمعهد ماساشوسيت رومان جاكوبسون قبل عقود طويلة؛ إذ اقترح أن بالإمكان تحليل ترابطات الكلمات التي تُشكل أساسًا للعمليات اللغوية ضمن فئتَين عامتَين من العمليات الترابُطية التي اصطلح على تسميتِها البُعد السينتاجمي والبعد البراديجماتي syntagmatic & paradigmatic،٩ ورأى أن هاتَين العمليتَين تتوزَّعان في المناطق الجبهية والخلفية لقشرة المخ على التوالي، وتنعكس العمليات البراديجماتية في العلاقات الإحلالية substitution relationships بين الكلمات، مثال ذلك أن المجازات أو العبارات الاستهلالية المُكررة anaphors والضمائر؛ إذ إنها جميعًا تؤدي هذا الدور، ويمكن القول بمعنًى عامٍّ للغاية: إن جميع الكلمات التي تنتمي إلى جزءٍ واحد من الكلام هي باراديجمية من حيث دلالة بعضها على بعض لدرجةٍ ما؛ حيث إن كلًّا منها يمكن أن يحلَّ محلَّ الآخر، والملاحظ أن الكلمات التي تؤدي وظيفةً واحدة في جُملةٍ ما لا تحدُث معًا بمعنى لا تتكرَّر في الجملة نفسها أو السياق نفسه إلا في نوعٍ من وظيفة إعادة الدور أو الدلالة، وتنعكِس العمليات السنتاجماتية في العلاقات التكميلية بين الكلمات التي هي من أجزاءٍ مختلفة في الكلام (مثال الأسماء أو الأفعال أو الصفات أو الظروف أو الأدوات)، والطريقة التي تتبادل بها هذه الفئات المُختلفة من الكلمات مواقعها في تتابُع داخل جملة، وترابُط الكلمات عن طريق الكناية، مثلما هو الحال في توالي «كوب – ماء – عطشان – غداء»، يستخدم أيضًا منطقًا مُماثلًا للتتمَّة، وكلمات المُحتوى المتآلفة في جُمَل ترتبط بعضها ببعض في الغالب بطريقة الكناية. والملاحظ في جملةٍ ما أو في سياقٍ مُطَّرد لوصفٍ أو لقصةٍ أن الكلمات المتوالية تؤثر بعضها في بعض؛ إذ تُوسِّع وتُقلِّص العلاقات الدلالية، أو تُضيف أفكارًا جديدة أو تؤدي وظيفةً بلاغية فقط من مثل الإشارة إلى شيءٍ أو طلب شيء، وإن هذه الوظيفة للتَكنِيَة ليست مجرد تغيير للنموذج الأساسي «الباراديم» (بالمعنى الذي يقصده جاكوبسون)، بل تغيير يتضمن أساسًا لكي تؤثر كلمةٌ على أخرى بالنسبة لتحديد المرجع.

ويستلزِم صوغ رابطة مجازية اختيار الكلمات ذات القسمات الدلالية المشتركة، بينما صوغ رابطة كناية يستلزِم تحويل الانتباه إلى قسَمات تتَّصف بخاصية تبادُلية، وهذا هو السبب في احتمال وجود انحيازٍ خلفي لقشرة المخ إلى العمليات المجازية، وكذا انحياز قبجبهي لقشرة المخ ناحية العمليات التي تعتمِد على الكناية. ونلحظ أن الروابط التي يستثيرها الانتباه إلى قسَمات إدراكية مُشتركة تُماثل عمليات التعرُّف بالإدراك الحسِّي ومن ثم فإنها تدعم وظيفة المناطق الخلفية لقشرة المخ المُقابلة لها، بيد أن الروابط التي تستلزِم تحويل الانتباه المُستخدَمة فيه قسمةٌ ما لتوليد مُكمِّلها، فإنها على الأرجح تقتضي مساهمات مقدم الفص الجبهي، وهكذا فإن رابطة كلمات التكنية تُقدِّم مثالًا نموذجيًّا لاستخدام المعلومات ضدَّ نفسها لتوليد بدائل تكميلية جديدة.

إذن، أي أجزاء المخ نتوقَّع منها معالجة معلوماتٍ نحوية وبنائية لدعمها؟ قياسًا على عمليات الربط البسيط للكلمات، من المُحتمل أن تعتمد الإجابة على مُتطلَّبات المعالجة، وليس على مركز للمعالجة النحوية، وإن العمليات البنائية للغة والأحكام النحوية يمكن أن تشتمِل على الكثير من العمليات السنتاجمية والبرادجماتية، وهذه يمكن أن تختلف من لغةٍ إلى أخرى، مثال ذلك أنه في لغةٍ مثل الإنجليزية والألمانية يجري استخدام وضع الكلمة والعبارة لتحديد الكثير من الوظائف النحوية من مثل علاقات الحيازة أو التبعية، والفارق بين الإفادة والسؤال، وتغيُّرات مُعينة في الزمن مثل المبني للمجهول، ولكن في اللغات المعتمدة على درجة عالية من التصريف مثل الإيطالية أو اللاتينية، فإن لواحق وصدور الكلمات أو التغيرات المنهجية في الفونيمات (مثل الأفعال في الإنجليزية أيضًا)، فإنها تتَّجه للإشارة إلى هذه الأدوار الدالة وظيفيًّا. وطبيعي أنه إذا كانت العمليات النحوية عُولِجت عن طريق مُعالج مركزي، فليس لنا أن نتوقع ملاحظة تغيرات عصبية مشتركة مع التغيرات اللغوية، ولكن نظرًا لأن العلاقات النحوية هي علاقات رمزية فإن انتشارها واعتمادها على طبيعة المهمة من حيث موضعها في المخ، لن يكون أقلَّ من عمليات استعادة الكلمة، ولكن حتى بين الأفراد المُتحدِّثين بلغتَين يمكن أن تنتظِم اللغات المختلفة على نحوٍ مختلف ومنفصلة بعضها عن بعض، أحيانًا بوسائل غير مُقيدة بقشرة المخ، مثال ذلك المرضى بإصابة تحت قشرة المخ (الجسم المُخطط) ويتحدثون لُغتَين غالبًا ما نجدهم، وللغرابة، يُعانون من عطب في لُغتهم الوطنية أكثر مما هو الحال في لُغتهم الثانية.

وأوضح دليل يؤكد أن العلاقة القابلة للتغير بين تكوينات اللغة وتكوينات المخ توفِّر لنا حديثًا من خلال دراساتٍ عن «الحبسة المكتسبة»: فقدان القدرات التحليلية النحوية بسبب إصابةٍ بؤرية للمخ في الكبر. ونعرف أننا لزمنٍ طويل لم يكن واضحًا لنا ما إذا كانت القدرة النحوية يمكن ربطُها بإصابةٍ مُحدَّدة للمخِّ أم لا، هذا على الرغم من أن المُتحدِّثين باللغة الإنجليزية يبدون مُعرَّضين بخاصةٍ لخللِ القدرات النحوية نتيجة إصابةٍ لحقت بمنطقة بروكا، ولهذا فإن المرضى المُصابين بعطب واضح في طلاقة الكلام يَميلون أيضًا إلى المُعاناة من صعوباتٍ في تفسير الجُمَل التي تعتمِد بشكلٍ حاسم على كلماتٍ لها وظيفة نحوية، فضلًا عن المعاناة من مشكلاتٍ خاصة في تفسير الجُمَل التي تعتمِد تمامًا على تحوُّلات نظام وترتيب الكلام (مثل الفعل المبني للمجهول في الإنجليزية)، وإن مثل هذه المشكلات يُمكن أن تُفيد أن هذه الوظيفة النحوية مُتمركزة في هذا الجزء من المخ، وهذا بالفعل ما قاله كثيرون، ولكن المُثير للدهشة أن عيبًا نحويًّا عامًّا لا يكون دائمًا مُقترنًا بإصابة منطقة بروكا، وبخاصة لدى المُتكلِّمين بلغاتٍ تعتمد على التصريف حيث ترتيب الكلمات أكثر حريةً وحيث الفعل المبني للمجهول يتحدَّد بكلماتٍ نحوية أو مورفيمات (الوحدات اللغوية ذات المعنى) أو التصريفات؛ إذ يبدو هنا أن القليل جدًّا من مظاهر عيب الحبسة النحوية مُقترن بإصابة منطقة بروكا. والملاحظ في هذه اللغات (مثل الإيطالية) أن المرضى بإصابة حبسة فيرنيك الذين يكشفون أيضًا عن حالات تشوُّشٍ واضطراب في التحليل الدلالي دون طلاقة الكلام تكون معاناتهم أكثرَ من المرضى المُصابين في منطقة بروكا من حيث إنتاج وتحليل التحوُّلات النحوية المُطابقة (شكل ١٠-٦)، معنى هذا أنه لو كانت هناك وحدة نحوية مُثبتة في المخ، فإن أجزاء هذه الوحدة تتطابق على نحوٍ مختلف تمامًا مع مختلف العمليات النحوية اعتمادًا على الأهمية النسبية لخاصِيَّات الوضع والنحو للإرشاد إلى القرارات النحوية في اللغات المختلفة.

ولعلَّ العامل الحاسم وراء هذا الاختلاف هو الحاجة إلى استخدام أنواعٍ مختلفة للغاية من الحسابات العصبية، والأساليب الذاكرية لتحليل ترتيب الكلمات، في مقابل مفردات الكلمات واللواحق والصدور والتغيُّرات الصوتية. إن كلًّا من منهجَي التسجيل يوفِّر وسائل قابلة للحياة لتحديد وبيان التمايزات النحوية، كما يجري استخدامها بطرقٍ مختلفة ومتنوعة جدًّا في اللغات المختلفة. والملاحظ أن تلك اللغات التي تستخدِم على نطاق واسع التغيُّرَ في شكل الكلمة لبيان الوظائف النحوية تميل في المقابل إلى استخدام حريةٍ كبيرة في ترتيب الكلمات والعكس بالعكس؛ إذ إن الإنجليزية على سبيل المثال تستخدِم الحد الأدنى من التصريف النحوي وتوسِّع من نطاق ترتيب الكلمات و«الكلمات الدالة» الخاصة لبيان التفسير بشأن ترتيب الكلمات، ونجد في المقابل أن اللغتَين الإيطالية واللاتينية تعتمِدان، بل نكاد نقول: مقصورتان فقط على التصريف والكلمات الدالة التي تُغير الوظيفة النحوية لكلمات المحتوى التي تعدلها. ولكن ثمة وجهة نظر ترى أن وظيفةً لغوية خاصة (مثل التحول إلى مبني للمجهول) كانت إجراءً أولويًّا مميزًا «محسوبًا» بمناطق المخ المُخصصة لها، وإذا أخذنا بهذا الرأي سنُضطَرُّ إلى استنتاج أن المُتحدِّثين بالإنجليزية والإيطالية لديهم أمخاخ مختلفة النوع مع أنماطٍ مختلفة لمناطق اللغة التي تجعل هذا أمرًا مُمكنًا، وهذا عبث بطبيعة الحال. إن ما يحدث هو أنه خلال عملية تعلُّم إحدى هذه اللغات نجد أن وظائف خاصَّةً ببناء اللغة تتَّجه إلى طلب أقصى شيءٍ من مناطق المخ التي كانت مُخصَّصة في السابق لأداء معالجاتٍ مُماثلة للعلامة (تتبع علاقات الاعتماد على الترتيب)، والملاحظ على مدى مسار عملية النضج، واستجابة إلى الاستخدام المُطَّرد للغة، فإن نمو وتطوُّر درجة بعينِها من المهارة في هذه العملية يكون مصحوبًا بتخصُّصٍ مرحلي مُطَّرد لهذه المنطقة وانحسار مُطَّرد لمساهمات المناطق الأخرى؛ بحيث يُصبح الجميع أكثر تخصُّصًا مع اختلافها بعضها عن بعض وظيفيًّا.

fig43
شكل ١٠-٦
شكل ١٠-٦: بدأت المقارنات فيما بين اللسانيات المختلفة لمرضى الحبسة تؤكد بالدليل أن العملية النحوية العميقة نفسها يمكن أن تدعم مناطق مختلفة في قشرة المخ، والأمر هنا رهن الوسيلة التي سُجِّلت بها وفقًا لنظام التركيب البنائي، ويتجلَّى هذا واضحًا عند المقارنة بين اللغات التي تعتمد أكثرَ على علامات ترتيب الكلمات وبين تلك التي تعتمِد على علامات خاصة بالبناء الشكلي وبالتصريف النحوي للتعبير عن الوظيفة النحوية نفسها. والأسهم التي تُشير إلى داخل المخِّ تُبين أنه حين يكون ترتيب الكلمات أكثر حسمًا، فإن إصابة المناطق الجبهية البُطينية تتسبَّب في قدْر أكبر من العطب النحوي، وحينما يكون التصريف والبناء الشكلي أكثر حسمًا، فإن إصابة المناطق الصدغية تتسبَّب في قدْر أكبر من العطب النحوي. (لمزيد من التفاصيل انظر المناقشات الواردة في Bates and Wolfeck, 1989; Bates and Whinney, 1991).

وهكذا فإن فئة بذاتها لعملية خاصة بالبناء النحوي يمكن أن «تكمن» في مكانٍ ما في المخ، إذا جاز لنا أن نقول ذلك، ويمكن أن يفقدها المخ بسبب إصابةٍ بؤرية، خاصة في الأمخاخ التي اكتمل نُضجها، ولكنها مع ذلك يتحدَّد موضعها بشكلٍ مختلف في أمخاخ المُتكلِّمين بلغاتٍ مختلفة، ويتحدَّد موضعها بفعل ذات عمليات الإقصاء التنافُسية التي تشحذ كل المنظومات العصبية أثناء النمو، وذلك استجابةً لمتطلباتٍ حسابية عادية، بيد أن هذه المُتطلَّبات تفرضها السمات السطحية الظاهرة للجهاز النحوي المُستخدَم في لغةٍ معينة، وليس ما يُحددها المنطق النحوي (الرمزي) الذي يُشكل أساسًا تقوم عليه وتدعمه، ومثلما هو حال الحاسوب «الأصم الأبكم إزاء محتوى ووظيفة المعلومات التي تغذَّت عليها الذاكرة»، كذلك الخصائص المادية للمعلومات التي لا بدَّ أن يُعالجها المخ في اللغة — أي سواء كانت صورًا أو أحرُفًا أو عملياتٍ مطلوبًا إجراؤها بالنسبة لوحدات أخرى من المعلومات — هي مفاتيح توضح أين ستجري معالجتها أكثر مما توضح ما تعنيه؟ إن الوظائف الرمزية والعلاقات النحوية والتمثيلية لا تجري معالجتها في مكانٍ واحد في المخ، ولكنها تنبثق كنتيجةٍ جمعية لعملياتٍ موزَّعة على نطاق واسع في المخ، مثلما هي داخل النطاق الاجتماعي الأوسع ذاته، إن المرجعية الافتراضية لا تزيد عن كونها فقط مُتمركزة في موضع افتراضي.

تحديد الموقف

قد يبدو غريبًا أن كتابًا عن اللغة والمخ لم يُخصِّص فصولًا بكاملها عن التقسيم الوظيفي لجانبي المخ lateralization أي وظائف النصفَين الكرويين للدماغ — الفارق في التمثيل الوظيفي بين النصفَين الكروِيَّين للدماغ، هذا جزئيًّا مجرد خيارٍ أسلوبي، مسألة تأكيد على بعض قسَمات للعلاقة بين اللغة والمخ، ولكنه أيضًا انعكاس لحقيقة هي أنني أرى أن هذه مسألة جانبية وليست قسمة جوهرية لمعالجة اللغة، التي هي فقط قسمة عرضية للطريقة التي تكيَّفت بها الأمخاخ البشرية مع مشكلات حساب استخدام اللغة. والحقيقة أن كثيرًا من وظائف اللغة المُتخصِّصة انحازت بقوة إلى أحد الجانبَين، إلى نصف الكرة الأيسر لدى الغالبية الساحقة من أمخاخ البشر؛ مما كان سببًا رئيسيًّا في أن نظريَّاتٍ ذهبت إلى أن التقسيم الوظيفي لجانبَي المخ كان شرطًا سابقًا لتطوُّر اللغة. ويدفع كثيرون أن هذا الفارق الصارخ من جانبٍ إلى جانب يعكس قدرًا من المنطق التنظيمي الرئيسي الذي يُشكل أساسًا للغة، ولكن في ضوء الأمثلة التي عرضناها سابقًا التي تناولت الشروط السابقة لقدرات اللغة الحديثة، يُبيِّن أن منطق هذه الحجَّة يكاد يكون النقيض للمنطق التطوُّري وراء العلاقة المشتركة، إن التقسيم الوظيفي بين جانبَي المخ أقرب إلى كونه نتيجةً لا سببًا للتطوُّر المشترك للمخ واللغة، وعندي في الحقيقة أنه وإلى حدٍّ كبير نتيجة لنمو وتطوُّر اللغة في حياة الفرد؛ إذ إن بِنية اللغات تطوَّرت على الأرجح بحيث تُفيد من انحيازاتٍ طفيفة جِبلِّية في الأمخاخ المتطورة لكي تُقسِّم وتوزع مكوناتها من الحسابات المعرفية؛ بحيث يتسنى لها في سهولةٍ ويُسر معالجتها في توازٍ معها، وإن إحدى الوسائل المهمة لإنجاز ذلك هي «أن تعهد» وظائفها إلى أيٍّ من جانبي نِصفَي كرة الدماغ.

ولسوء الحظ أنَّ دراسة وزع الوظائف بينَ النصفَين الكرويَّين للدماغ ابتُليت بمشكلة تحولها إلى موضوع أثير لدى علم النفس الشعبي وتقديم مصدر يستهوي الناس من أمثلةٍ لوضع نظريات عن كل جانبٍ من جوانب العقل، ونتيجةً لذلك أصبح بالإمكان أن يعزو المرء كلَّ وظيفتَين عقليتَين متكاملتَين وأثيرتَين لدَيه إلى ما يُطابقهما في المخ الذي تختلف وظائفه على جانبَين متعارضَين، ودارت المُحاجَّات سجالًا منذ منتصف القرن التاسع عشر بين الأطباء وعلماء النفس حول ما إذا كان اليسار أُنثى واليمين ذكرًا، واليسار خاصًّا بالألفاظ واليمين ليس كذلك، واليسار لسانيًّا واليمين مكانيًّا، واليسار عقلانيًّا واليمين لا عقلاني، واليسار متمايزًا واليمين غير متمايز، واليسار مُتمركزًا في موضعٍ بعينِه واليمين شموليًّا، واليسار انفعاليًّا إيجابيًّا واليمين انفعاليًّا سلبيًّا، واليسار هو الأنا واليمين هو الهو، واليسار مُهيمنًا واليمين خاضعًا، بل قيل: اليسار معرفة بشرية واليمين معرفة الرئيسات، وهذا قليل من كثير من التقسيمات الثنائية، وطبيعي لم يكن من سبيل لمقاومة جاذبية اكتشاف أحب وسيلة لتقسيم العقل إلى منظومتَين معرفيتَين رئيسيتَين متكاملتَين.

إنني لن أجادل بشأن أهمية التقسيم الوظيفي لجانبي المخ١٠ باعتباره مفتاحًا مهمًّا لفهم المتطلبات المعرفية للغة، بيد أنني، على الرغم من ذلك، أريد أن أؤكد على أن هذا التقسيم ربما جاء نتيجةً وليس سببًا أو حتى شرطًا سابقًا لنشوء وتطور اللغة، إنه في واقع الأمر نتيجة وظيفية دينامية لمعالجة مُتطلباتٍ فرضَها أداء اللغة أثناء النمو، ولدينا كمٌّ كبير من الأدلة تُفيد بأن التقسيم بين الجانبَين لوظائف مُماثلة يحدث لدى بعض الأنواع الأخرى، بما في ذلك الرئيسات الأخرى، ولهذا السبب يبدو من المُرجَّح أن مثل هذه الانحيازات الخاصة بالنشوء النوعي والعرقي phylogenetic biases موجودة في أمخاخ الإنسان الأول hominid قبل نشوء وتطور اللغة، بيد أنني أريد أن أوضح أنه على الرغم من أن هذه الانحيازات الموجودة من قبل ربما ساعدتنا على فهم السبب في أن اللغة أصبحت أكثر شيوعًا، وأكثر اعتمادًا على النصف الكروي الأيسر دون النصف الكروي الأيمن للدماغ، فإن هذه الشروط السابقة لا تُفسِّر التقسيم على الجانبَين، إن التقسيم على الجانبَين هو تكيُّف من المخ مع اللغة أكثر من كونه تكيفًا للمخ من أجل اللغة.

ونقطة البدء للتفكير في التقسيم بين الجانبين هي الإقرار بأنه على الرغم من أن أمخاخ البشر منحازة بقوة لتمثيل الجانب الأيسر للكثير من وظائف اللغة، فإن هذا ليس شاملًا ولا هو غير قابل للانعكاس، على الأقل في باكورة الحياة، نعرف أن حوالي أقل من ١٠ بالمائة من الناس ليسوا عُسرًا بهذه الطريقة، وانعكس وضع بعضهم، وآخرون لدَيهم انحيازٌ ملتبِس إلى الجانب الأيسر، كما أن البراعة اليدوية وانحياز أحد الجانبَين للغة لا يتطابقان دائمًا، وإن الانحيازات التشريحية وانحيازات مراحل النُّضج ربما تُهيئ الوضع لانتهاج سبيلٍ ما عند الميلاد، وإن لم تكن بعدُ كافية لكسب الجولة، إن جازت هذه العبارة، وثمة حالات لاستئصال النصف الكروي الأيسر للدماغ في الطفولة الباكرة مع الاحتفاظ باللغة إلى حدٍّ كبير على مدى الحياة الباقية، وحدث أن ساق البعض هذه العمليات كدليلٍ على الإمكانية الكامنة لنصف الكرة الأيمن، وسادت مزاعم بأن ما قيل عن أن لغة هؤلاء الأطفال شُفِيت واستعادوها كاملةً إنما هو على الأرجح محض مُبالغة، ولكن يجب أن نتذكَّر أن تعلُّم اللغة من قِبَل نصف كرة وحيد يعوزه أي اختيارٍ لفصل وظائف مُتخصِّصة أو الاعتماد على فائضٍ من الوظائف المُتمثلة. وواقع الحال أن الزعم بأن الأطفال الذين تم استئصال أحد النصفَين الكرويين للدماغ لديهم بوسعهم تعلُّم أي وجهٍ من وجوه اللغة، هو زعم يُمثل معجزة، فضلًا عن أن هذا — كشيءٍ جانبي — يؤكد حدود وقيود وحجم المخ بأنه وحدَه كافٍ كمُتنبِّئ للغة والقدرة العقلية، وأكثر من هذا أن ٧٠٠ جرام مخ (الذي يمكن أن يُمثل نتيجة استئصال أحدِ النصفَين الكرويَّين) إذا ما تم تنظيمها بطريقةٍ صحيحة يمكن أن يكتسب مهاراتٍ لغويةً متقدمةً ويحظى بذكاءٍ بشري عادي.

دليل آخر عن طبيعة التقسيم الوظيفي بين الجانبَين المُستمد من طبيعة النمو، وهذا الدليل مصدره دراسة عن نموِّ اللغة عند الأطفال ممَّن يعانون من إصابة بؤرية في المخ، يفيد تقرير لكلٍّ من بيتس وثال وتلاميذهما (١٩٩٤م) أن إصابة النصف الكروي الأيمن للدماغ وكذا الأيسر يمكن أن تتسبَّب في تأخُّرٍ واضح لنمو اللغة (نوقش في الفصل ٩)، وتشير هذه المرونة التي يتَّصف بها النمو إلى أن التقسيم الوظيفي بين الجانبَين يتعين أن نفكر فيه كعمليةٍ دينامية تدفعها اللغة ونمو المهارات اليدوية أثناء الطفولة، إن الانحيازات الفطرية لجانبٍ ما هي انحيازات في إطار عملية تنافُسية يمكن أن تشتمِل على كلٍّ من المنافسة بين الوصلات الشبكية العصبية والمنافسة لتثبيت مترسِّبات الذاكرة وليدة الخبرة والسلوك، وربما تنمو أولًا عملية تمثيل وظائف اللغة في استجابةٍ إلى الحاجة إلى أداء عمليات آنية، ولكنها متنافسة عند الكلام أو الإنصات إلى الكلام، وهذا ما تدعمه حقيقة أن التقسيم الوظيفي للجانبَين ليس التزامًا مؤكدًا لجانبٍ من أجل اللغة دون الآخر، بل هو فصل لوظائف مكونات اللغة، علاوة على كثيرٍ من الوظائف الأخرى المُتنافسة ناحية الجانبَين، وهكذا يعتبر التقسيم الوظيفي للجانبَين انعكاسًا آخر لدور العمليات التنافُسية لتحديد التمثيل النهائي للوظائف في النصفَين الكروِيَّين للدماغ أثناء النمو (انظر المناقشة في فصل ٦)، وهذا توجيه مرحلي مُطَّرد لمسار العمليات اللغوية كعملياتٍ تنافُسية تفاضلية تتسبَّب في جعل الوظائف التكميلية المناقشة تدعم مناطق قشرة اللحاء التي هي النقيض المُقابل لها وتساندها دون الجانب الآخر، والشيء المُهم لفهم طبيعة معالجة اللغة ليس كيف نشأ الانحياز البشري المُميز؟ بل ما الذي يدفعه في نموِّ كل فرد؟

ومن الأهمية بمكان، قبل الشروع في بيان وفهم هذه المناقشة الوظيفية أن نعرِض أمرًا في صراحة دون تردُّد؛ إن النصف الكروي الأيمن للمخ ليس نصفًا لا علاقة له باللغة، إنه ضالع وبشكلٍ حاسم ووثيق في معالجة اللغة على مستوياتٍ كثيرة أثناء النمو واكتمال النُّضج، ولعلَّ ما هو أكثر أهميةً أنه حاسم في مجال المعالجة الدلالية «السيمانطيقية» الكبرى للغة، وليس معنى الكلمة وإنما عمليات البناء الرمزية الأضخم التي تُسهِم فيها الكلمات والجُمل: الأفكار المعقدة، والأوصاف والروايات والحجج. إن بناء وتحليل الرمز لا ينتهي بنهاية الجملة، بل إنه من نواحٍ كثيرة يبدأ هناك، وتكمُن القوة الحقيقية للاتصال الرمزي في قُدرته الإبداعية والبنائية. وحيث إن التمثيل الرمزي هو بحكم طبيعته تكوينيٌّ، فإنه لا حدَّ أو قيدَ يعلو على التعقد التكويني لتمثيل رمزي؛ إذ يمكن استخدام رواية بأكملها لتوصيل إحساس عن خبرةٍ حياتية فريدة، ويمكن لورقةٍ بحث مليئة بالمعادلات أن نستخدِمها لعرض فكرةٍ دقيقة ورائعة عن العلاقات الفيزيائية، ويمكن لدُعابة أن تُقدم أسلوبًا جديدًا ومُثيرًا لتُمثِّل فرضًا قديمًا … وهكذا. وهذه جميعًا هي رموز بالمعنى ذاته الذي نقوله عن كلمةٍ أو عن جملة، ولكنها تستلزِم جهدًا مُمتدًّا عند بناء المرجعية الرمزية.

وأفضل دليل يؤكد أن النصف الكروي الأيمن يُشارك في اللغة نستمدُّه من دراسةٍ تحليلية تُوضح كيف أن إصابة النصف الكروي الأيمن تؤثِّر في قُدرات مِن مِثل فهم دعابة أو رواية،١١ ونعرف أن المرضى الذين يُعانون من إصابة واسعة في النصف الكروي الأيمن دون الأيسر يستطيعون بشكلٍ عام الكلام جيدًا دون أي زيادة غير عادية في الأخطاء النحوية أو أخطاء في اختيار الكلمات، ولكن حين نطلُب منهم متابعة وتفسير قصة قصيرة يفشلون — فيما يبدو — في إدراك منطق العمل كلِّه. مثال ذلك أنهم لا يُدركون متى سقطت خطوات مُهمة في القصة أو متى أُقحمت أحداث غريبة وغير مُلائمة. هذا على الرغم من أنه في استطاعتهم إعادة سرد التفاصيل، ويبدون وكأنهم غير مُدركين لقيود المتن. وتُقدِّم الدُّعابات نافذةً أخرى للنفاذ إلى هذه الصعوبة، تعتمِد الفكاهة بشكل حاسم على فهم كلٍّ من: (١) ما الشيء الذي مِن شأنه أن يتبع عادة؟ (٢) كيف أن الحيلة الخادعة في منطق ذروة الدُّعابة يقوض توقعاتنا، وإن تقييمًا ما من شأنه أن يجعل الأمر هزليًّا ومُضحكًا يعتمِد على إدراك نصَّين اثنَين متنازعَين: نص مُتوقع «ملائم»، ونص مُمكن منطقيًّا ولكنه شاذ للغاية، وحريٌّ أن ندرك أن مدى ملاءمة التحول في المنطق الإطاري — المدى الذي يستطيع عنده أن يُلهينا بالفعل دون المتابعة حتى ونحن نعرف أن الأمر دعابة — هو الطريقة الساخرة التي يُصور بها ما يمكن في سياق «صريح» أن يكون خطرًا أو يتهدَّد كل مكونات الدُّعابات الجيدة، (كم من العلماء يلزمون لتركيب مصباح كهربائي واحد فقط؟ لقد استغرق الأمر منه سنتَين للحصول على الدعم المجاني لإنجاز ذلك)، وأيًّا كان الأمر، فإن هذا يُمثل مشكلةً خطرة بالنسبة لشخصٍ عاجز عن بناء النص السردي الملائم أولًا وقبل كل شيء. والملاحظ أن المرضى المُصابين في النصف الكروي الأيمن للدماغ يُصنِّفون الدعابات كأشياء هزلية مُضحكة تأسيسًا فقط على المدى الذي تحتوي فيه ذروتها مادةً مختلفة عمَّا سبقها (لا، أنا لا أعاني من إصابة في النصف الكروي الأيمن من دماغي).

ويتجلى أيضًا مثل هذا الانتباه في جوانب أخرى من سلوكهم، ونعرف أن عرَضًا من أهم الأعراض إلغازًا بشأن إصابة النصف الكروي الأيمن يتمثل في الميل إلى إهمال أو إغفال أمور على الجانب الأيسر بما في ذلك أشياء من مثل الملابس أو الحلاقة موضوعة على هذا الجانب، فإذا ما طلبنا من المُصاب رسم ساعة، فإن المُصاب في النصف الكروي الأيمن لدماغه قد يُكدس جميع عقارب الساعة والأرقام في الجانب الأيمن، أو يكتفي بأن يترك شيئًا ما للجانب الأيسر من الرسم، وثمَّة جانب آخر لنمَط الغفلة عند هؤلاء المرضى، وهو اضطراب التعلُّم الضِّمني، مثال ذلك إذا ما طلبنا منهم متابعة عدد المرات التي يظهر فيها حيوان ما في سلسلة من الصور الضوئية لموضوعاتٍ مألوفة، فإنهم يؤدُّون المهمة على خير وجه، ولكن إذا سألناهم: هل هذه السلسلة من الصور ذاتها اشتملت على عددٍ كبير من قطع الأثاث، فإن أداءهم يكون ضعيفًا، إن ما لم ينتبهوا إليه لم يُسجَّل في الخلفية.

وهذه وظائف خاصة بالانتباه وهي حاسمة لبناء الرمز؛ لأن أساس تحوُّل الانتباه من التفاصيل إلى المنطق الضمني المُنظم لها يستلزِم قدرةً على الوعي بما هو أكثر من شبكةٍ واحدة من العلاقات السياقية في وقتٍ واحد، ولا أعني بذلك القول أن النصف الكروي الأيمن له دور خاصٌّ في هذه العملية أثناء النموِّ أو في التطوُّر، ولكن حيث إن القدرات اللغوية تزداد صقلًا وتعقدًا باطِّراد مع امتداد العمر وطول الخبرة، فإن الحاجة إلى تحليل العلاقات الرمزية على مستوياتٍ عدة في وقتٍ واحد تنمو هي أيضًا باطِّراد. وإن التفسير التلقائي إلى حدٍّ كبير للعلاقات الرمزية المُسجلة في توليفات الكلمات وبنية الجملة يقتضي استراتيجيةً من تفسير سريع يتبعه تفسيرٌ آخر، إنه يتطلَّب كلًّا من الإنجاز السريع وقدرة على الاحتفاظ بالعمليات السابقة والحيلولة دون التداخُل مع العمليات التالية. كذلك فإن المنظومات العصبية التي تخدم تحليل الجُملة ربما تكون هي أيضًا حاسمةً للحفاظ على استمراريةٍ ذاكرية طويلة المدى للمعلومات الرمزية. والملاحظ أن هذه المُتطلَّبات الآنية من شأنها على الأرجح أن تدخُل في صراع، أو أن تتداخل بعضها مع بعض، وبذا تحدُّ من كفاءة كلٍّ مِن العمليتَين، ولكن نظرًا لأن تكوينات المخ اليمينية واليسارية مُرتبطة بعضها ببعض؛ في تزاوُج، فإن من المُمكن أن تحول دون تداخل العمليات بعضها مع بعض وذلك عن طريق تقسيمها إلى فئاتٍ متمايزة داخل النصفَين الكرويَّين المُتعارِضَين للمخ.

ويُسهم النصف الكروي الأيمن للمخ أيضًا في وظيفةٍ لغوية أخرى مُهمة، وهي اللارمزية nonsymbolic، ولكن من المُحتمَل تأسيسًا على حسابات عصبية أن تكون تنافُسية مع تحليل أصوات الكلام، ومعالجة الكلمات، ونعني بها معالجة القسمات العروضية prosodic للكلام، ونعرف أن القسَمات العروضية هي التغيُّرات الإيقاعية وفي طبقة الصوت، التي نستخدِمها عادةً لنقل نغمةٍ عاطفية لتوجيه انتباهِ المُستمع إلى العناصر الأهم أو الأقل أهميةً في جملةٍ ما، وتُشير بوجه عام إلى مدى استثارتنا إزاء محتوى كلامنا. ولا غرابة في أن جوانب كثيرة من هذا التكوين اللحني للكلام أوضحت بأن بينَها قسَماتٍ مشتركةً وبين الأصوات الفطرية الخارجة من الرئيسات، وتتضمَّن هذه العلاقة المشتركة لتغيُّر طبقة وجَهارة الصوت ونسبة إنتاجه مع مستوى الإثارة: التغير في نوعية التصويت كمؤشِّر على نمَط التفاعل (عدواني أم خضوعي … إلخ.) وإجمالي التعبير بالقياس إلى ضبط التنفُّس. وعلى الرغم من أن مدى التمركز الموضعي قد نُوقِش فإن ثمة رابطة مشتركة بين الفساد في تفسير العاطفية في الكلام وبين إنتاج كلامٍ موزون يصدُر عن مرضى مُصابين بعطبٍ في النصف الكروي الأيمن لمُخِّهم.
وها هنا للمرة الثانية يقتضي الإنتاج والتحليل الفعال للغاية أن نُنجز نمَطَين مختلفَين من التحليل الصوتي وفقًا لعلم الأصوات، والضبط الصوتي لمَخارج الألفاظ في آنٍ واحد: العمليَّتان العروضية والفونيمية، وهاتان المُهمَّتان من شأنهما النزوع إلى التنافُس لحشد دعم تكوينات المخ ذاتها، (وربما المنطقتان التقليديَّتان، منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك)، ونتيجة لذلك من المُحتمَل أن تتداخل كلٌّ منهما مع الأخرى، وقد يكون الأمر أبعدَ عن تحقيق الفعالية باستبدال ذلك باستخدام منظومة قشرةِ المخ ذاتها لكلَيهما، وإن رصد المعلومات العروضية، مِثله مثل رصد السياق الموضوعي في الخلفية يميل إلى العمل ضدَّ الانتباه الأمامي لعباراتٍ وكلماتٍ مُحدَّدة، وعلى الرغم من إدراكنا الهامشي لذلك فإنه أميلُ إلى أن يكون الانتباه إليه ضمنًا لا صراحةً، ولكن المبالَغة في أن هذه الوظيفة الخلفية تُمثل النصف الكروي الأيمن، وأن التحليل الفونيمي وتحليل الكلمات يُمثل الأيسر أثناء النمو ويمكن أن يُهيئ بالمثل وسيلةً لمعالجة مصادر المعلومات هذه في موازاة الحد الأدنى من التداخُل المتبادل، ويترتب على هذا أن النصف الكروي الأيمن يمكن أن يُصبح أكثر ارتباطًا بنظائر المخ الأوسط midbrain homologues من دارات التصويت الفطرية التي ما تزال موجودة في المخ البشري، وعلى العكس من ذلك، إذا كان هناك انحياز مُتسق وثابت في عملية النمو يُفضل مثل هذا الرباط التفضيلي فإن هذا من شأنه أن يجعل كفَّة الميزان تميل ناحية هذا النمَط من التقسيم الوظيفي للنصفَين الكروِيَّين للدماغ.
ولكن النصف الكروي الأيمن يمكن أن يكون قادرًا على أداء وظائف لسانية بكفاءةٍ أقدرَ بكثيرٍ مما نتخيَّل نحن عادةً، ويمكن أن تتوارى قدراته وراء هذا التخصُّص التنموي الطويل الذي يؤدي بقوةٍ إلى خفض أدواره في مجال التحليل على مستوى الكلمة والعبارة وعمليات الإنتاج؛ بُغية تجنُّب الصراعات المعرفية، وهل من سبيل لنا نُتابع به قدرات النصف الكروي الأيمن في ظروفٍ انتفى فيها الاختيار التنموي لإنقاص دوره في هذه العمليات؟ توفِّر لنا المدارس المَعنية بالتدريب على الترجمة الفورية معلوماتٍ في هذا الصدد (مثل المتدرِّبين الذين توظفهم منظمة الأمم المتحدة للاستماع إلى مُتحدِّث ليقدِّموا في الآن نفسه، لحظة بلحظة، ترجمة عبر مُكبر صوت ليسمع الآخرون ويتابعوا)، وتفيد هذه المعلومات أنه بمُوجب المُتطلَّبات الخاصة لهذه المهمة اللغوية الصعبة يمكن للنصفَين الكرويين معًا أن يُصبحا إلى حدٍّ ما نصفَين كرويَّين لغويَّين. ونعرف أن المشكلة بالنسبة للمترجم الفوري هو الحرص على عدَم تداخُل سبيل كلٍّ من اللغتَين، الاستماع إلى واحد بينما يُنجز الآخر في الآن نفسِه أمرًا يُشبه المشكلة القديمة بأن تُربِّت على رأسك وتمسح بطنك بيدَيك في حركتَين مُتعارضتين، ثم تعكس ما فعلَتْه كلٌّ من اليدَين وتتركهما في مكانهما، أو أن تمضغ العلكة «اللبان»، بينما تنقُر على الطبلة أو ترقص أو أن تخرُج فقط عن التزامن مع كلِّ مضغة. والملاحظ أن المنافسة أو التعارُض المباشر بين الوظائف اللغوية الآنية والمُتماثلة كثيرًا ما يقترن بحالةٍ ثابتة من اللاتماثل الخاص بالمدخلات السمعية: غالبًا ما يُطوِّر المترجمون إيثار إحدى الأذنَين للإنصات لمصدر اللغة، وتؤكد الدراسات قبل وبعد التدرُّب أن غالبية الدارسِين يبدءون بتفضيل الأذن اليُمنى (النصف الكروي الأيسر) لكلٍّ مِن اللغتَين، ولكن يمكن أن يُطوِّروا ميزة مقابلة للأذن خاصة بكل لغةٍ مع نهاية التدرُّب.١٢
وهكذا يُمكن أن نتمثَّل اللغتَين بشكلٍ تفضيلي في النصفَين الكرويَّين المتعارِضَين، ويبدو هذا واضحًا تمامًا ما دام التحول من تفضيلٍ لجانبٍ واحد إلى فصل ثنائي الجانب يمكن حفزه لدى صغار البالِغين وليس صغار الأطفال، (هناك دون شكٍّ اختيار ذاتي داخل هذا التجمُّع من الدارسين، ولذلك فإن هذه المرونة وسهولة اللغة تكون هي القاعدة)، ومع ذلك، تُثبت هذه الحالة المبدأ العام: عندما تتَّجه العمليات الحركية أو المعرفية إلى التنافس في آنٍ واحدٍ على أُسس عصبية واحدة يحدث ضغط انتخابي قوي خلال عملية النمو من أجل فصل العمليات المتنافسة على التكوينات المناظرة في النصفَين الكرويين المتقابلَين (شكل ١٠-٧)، وطبيعي أن الأفضلية أثناء التطوُّر ستكون للاستعدادات السابقة التي تُسهم في الانحياز الذي من شأنه أن يُسرِّع من العملية أثناء النمو.

إذن، يمكن القول بوجهٍ عام: إنه لمن الخطأ أن نُفكر في اللغة وكأنها كلها خاصة بالنصف الكروي الأيسر، إن الجانب الأيمن ليس بدائيًّا ولا أخرس، وإن كِلا الجانبَين يُسهم في أداء وظائف جوهرية ومتكاملة، ويحدُث هذا في ترادُف، كما أن الانحيازات لصالح نمَطٍ خاصٍّ من اللاتماثل تُطَوَّر في اتجاه هذه العملية التكاملية الوظيفية، كذلك فإن التقسيم الوظيفي بين الجانبَين ليس تعبيرًا عن تكيُّفٍ تطوُّري بقدْر ما هو تكيف أثناء حياة المرء، وينحاز في اتجاهِ أدنى حدٍّ من أي «تردُّدات» عصبية بشأن توجهات السلوك.

fig44
شكل ١٠-٧
شكل ١٠-٧: أمثلة لفصل الوظائف المتنافسة ذات الصلة باللغة التي حلَّت بعضها محلَّ بعضٍ في قشرة النصفَين الكرويين المُتقابلَين للمخ.
وجدير بالذكر أن منطق الانحياز الذي يقود غالبية البشر إلى تطوير النمط نفسه للتقسيم الوظيفي للنصفَين الكرويين للدماغ، يمكن أن يعكس أيضًا فوارق زمنية منتظمة، إن التقسيم الوظيفي بين الجانبَين في كلٍّ من المجال اللساني والمجال اليدوي يبدو منفصلًا وفقًا للسرعة؛ إذ يبدو أن النصف الكروي الأيسر أكثر خبرةً في الغالِب في مجال التحليل فائق السرعة للتغيُّرات الصوتية والتحكُّم في نتائج الحركة السريعة والدقيقة الماهرة؛ ولهذا فإنه في المنافسة من أجل التمثيل الوظيفي أثناء النمو يكون انحياز الأيسر لمُعدل السرعة الأكبر في المعالجة كافيًا دائمًا لكي يُرجِّح كفة الميزان في اتجاهٍ واحد، ونجد فوارق طفيفة مع مراحل النضج أو فوارق خاصة بتكوين النخاع myelination أو فوارق في حجم الخلايا، أو فوارق في نِسَب مدخلات قشرة المخ من المنظومات الحسية على الجانبَين، وهذه جميعًا يمكن أن تُهيئ الانحيازات الأولية في البدء. والمُلاحظ في أمخاخ البشر أن هذه الانحيازات الدقيقة الخاصة بالنمو يمكن أن تتضاعف أكثر وأكثر بسبب التأثيرات الإحصائية التراكُمية المُتعلقة بحجم المخ (مثل عملية نضج أطول؛ مسافات أطول لا تؤدي إلى اختلافاتٍ أكبر في زمن التوصيل؛ شبكات أضخم تميل إلى التفكك بسهولةٍ والتحول إلى تقسيمات فرعية وظيفية … وهكذا).
ونشاهد انحيازاتٍ مُماثلة بالنسبة للوظائف الأخرى في أنواعٍ متنوعة من مِثل الطيور والقوارض والرئيسات، ونلحظ عددًا من الأنماط المناظرة الفجة في الرئيسات الأخرى، وعلى الرغم من عدم وجود براعة يدوية ثابتة خاصة بالنوع للمعالجة اليدوية الماهرة، فإن هناك، يقينًا، قدرًا من التفضيل الثابت لدعم وظائف الجانب الأيسر، ولكن فيما يختصُّ بما هو وثيق الصلة بتطوُّر اللغة نجد دلائل تؤكِّد ميزة للنصف الكروي الأيسر تتمثَّل في المعالجة السريعة للمنبهات السمعية وتصويتات، أي إخراج أصوات خاصة بالنوع لدى بعض القردة (ربما منحازة أيضًا بسبب نسبة مؤثرات التحليل)، كذلك فإن ميزات زيادة الانحياز الفطري تجاه نمطٍ واحد ربما يمكن تفسيرها على أساس نوعٍ من الانتخاب المشوَّش ضد الأمخاخ غير المنحازة. وطبيعي أن غياب الانحياز الفطري يمكن أن يؤدي إلى نوع من التردُّد أو عدم الحسم الفسيولوجي في المنافسة الخاصة بالنمو، ومن ثم يدفع إلى الفصل الوظيفي. ونعرف أن النمط التراتُبي للانحيازات الذي نشأ وتطوَّر للانحياز إلى النمو هو نتيجة لعملية الوصل wiring process التنموية شِبه التطوُّرية، والملاحظ مثلما حدث في التطوُّر المُعاق لمختلف صيحات الاستغاثة عند قرد الفيرفيت الإفريقي، أن الحالة المتوسطة غير المُنحازة سيقع عليها الانحياز في المقابل، لم يكن مُهمًّا أي جانب هو «الفائز» بأي وظيفة، ما دامت النتيجة فارقًا حاسمًا مع بقاء النتيجتَين البديلتَين بمنزلة إمكاناتٍ مُحتملة من شأنها أن تزيد من فُرَص الجمود، ومهما كانت الانحيازات طفيفة لدى أشباه الإنسان وما قبلهم فإنها كانت كافية لكي تُكثف من تطوُّر المزيد من الانحيازات الفطرية للسير في الاتجاه نفسه، ولكن ربما يُوجَد مصدر آخر إضافيٌّ للانحياز يتعيَّن أن نفكر فيه.

ويشير عدد من المفكرين إلى رابطة تطورية بين براعة اليد وتقسيم اللغة بين النصفَين الكرويَّين للدماغ، ويدفعون بأن تكيف الجانب الأيسر من المخ نحو مزيدٍ من «المهارة» في استخدام الأداة ربما مهَّد السبيل لتطوُّر اللغة، ولا ريب في أن العلاقة المشتركة بين لاتماثُلية اللغة والبراعة اليدوية، تشير إلى أن المزايا المستقلة لكل منهما ربما أثَّرت في الآخر أثناء تطوُّره، وهذا انعكاس للمبالَغة في دور التطور في عملية التحديد: التلاقي الظاهر بين كثيرٍ من المزايا التكيفية المُستقلة التي أسهمت في التغير البنيوي ذاته، ونظرًا لأن التطوُّر تدفعه أنماط من الانحيازات، فإن الانحيازات ذات الصِّلة من مصادر مُستقلة تتجه إلى تعزيز بعضها بعضًا مع الزمن، وبقدْر ما كان تخصُّص النصف الكروي الأيسر لمزيد من الدقة في المهارة اليدوية أو لمزيدٍ من المهارة اللفظية المُحكمة يكون قد اختارها لانحيازاتٍ مُماثلة ضمن الأساس العصبي، فإن كلًّا يكون قد زاد من احتمالية أن تتمركز الوظيفة الأخرى على نحوٍ مشترك في النصف الكروي ذاته. وطبيعي أن يكون الانحياز إلى هذا الجانب أو ذاك طفيفًا في البداية، ولكن تطوُّرهما الآني المشترك سيضاعف بقوة التأثير الناتج والرابطة المشتركة، ولن تكون أي من القدرتَين بحاجةٍ إلى أن تكون شرطًا تطوريًّا سابقًا للأخرى.

ترى كم عمر التقسيم الوظيفي للغة بين النصفَين الكرويين للدماغ؟ يبدو أن الانحيازات إلى الجانبَين في كثيرٍ من الوظائف يعود تاريخها إلى زمن أقدم كثيرًا قبل أشباه البشر hominids، مثال ذلك أن الانحيازات المقابلة في الجانبَين في المعالجة المكانية والحسِّية تحدَّدت في كثيرٍ من الثدييات والطيور، وعلى الرغم من أن الانحيازات الجانبية لدى البشر يمكن تتبُّعها وصولًا إلى هذه الجذور فإن اطِّراد وثبات الانفصال شبه الكامل للانحياز إلى أحد الجانبَين لوظائف اللغة وهو الخاصية المميزة لغالبية أمخاخ البشر، تطوَّر على الأرجح تدريجيًّا على مدى فترة التطوُّر المشترك للغة والمخ، ونظرًا لأن المسار التطوري للزيادة في القدرات الصوتية لدى أشباه البشر ظلَّت على الأرجح مُمتدة زمنًا؛ إذ بدأت واستمرَّت على مدى أكثر من مليون سنة لكي تزداد صقلًا وتعقدًا، فإن الانحيازات إلى الجانبَين بالنسبة إلى المعالجة السمعية بلغت أقصاها فقط منذ عهدٍ قريب؛ لتكون على وضعها الحديث، وفي المقابل — كما سوف نرى في الفصول التالية — كان استخدام الأداة الحجرية على الأرجح حول هذه الفترة منذ أقدم مراحل الاتصال الرمزي. وإذا كان هذا صادف مساعدةً عن طريق الانحيازات إلى أحد الجانبَين على النحو الذي يدعم المهارات اليدوية، إذ يمكن القول: إنها بدأت تتطوَّر قبل الانحياز في أحد النصفَين للسمع الصوتي، ولكن يبدو ضعف الدليل على أي عائق انتخاب قوي حال دون القدرات على استخدام اليدَين بمهارة متساوية، ويبدو في الحقيقة أن المهارات الرياضية واليدوية على الأقل قد تطورت جيدًا لدى من يستخدِمون اليدين بمهارة متكافئة، وكذا لدى الأيسرِين؛ أي من يستخدِمون اليد اليُسرى بمهارةٍ تمامًا وبالقوة نفسها لدى الأيمنِين؛ أي من يستخدمون اليد اليُمنَى ببراعة، ولكن فيما يتعلق بمعالجة اللغة، نجد أن المخ المتعادل الجانبَين في الكفاءة ambiphasic brain سيُصبح عقبةً متزايدة مع زيادة معدل نقل معلومات الكلام أثناء التطوُّر؛ ولهذا فإن دليل البراءة في صناعة الأداة الحجرية يمكن أن يُخبرنا بالكثير عن مزايا الانحياز الوظيفي لأحد النصفَين الكرويَّين للدماغ بالنسبة لمعالجة اللغة لدى صنَّاع الأدوات قديمًا أكثر من أي شيءٍ عن أن الانتخاب آثر براعة اليد في صناعتهم للأدوات، وعلى الرغم من أن المعالجة المنحازة لأحد الجانبَين للأداة ربما قدمت مصدرًا جديدًا إضافيًّا للانحياز الذي أثر على انحياز أحد الجانبَين للغة، فإنه يبدو أن الأكثر احتمالًا أن غلبة حدوث براعة اليد اليمنى والانحيازات اليسرى لمعالجة الكلام لدى التجمُّعات الحديثة قد سار مدفوعًا في اتجاهٍ تقريبي نحو التثبيت الوراثي «الجيني»، وهو ما يحدث في الغالِب الأعم بسبب اللغة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥