الفصل الحادي عشر
وتجسدت الكلمة بشرًا
عاشت البشرية قرونًا، بل آلاف السنين؛ لكي تتبيَّن الرؤية من
خلال ضباب الصعوبات والمُفارقات التي يُطالبنا المُعلمون اليوم
بحلِّها في بضع دقائق.
لانسيلوت هوغين
المخ الذي لم يتطور
العبارة التي اقتبستُها من الكتاب المقدس (يوحنا ١-١٤)،
واتخذتُها عنوانًا لهذا الفصل، تعكس فكرة غيبية قديمة تفيد أن
كلمات بعينِها لها قوة السحر، وتتمتع بسلطانٍ مباشر للخلق أو
التدمير، وكان الظن في تراثات كثيرة أن معرفة «الاسم الحقيقي»
لشيءٍ ما يعني أن يكون للمرء سلطان عليه، واستعرت هذه العبارة
المُلغِزة من الكتاب المقدس، وانتزعتُها خارج سياقها؛ لكي أصف
عمليةً تطورية، لا لأصف معجزةً إلهية، وإن كانت العملية التي
أصِفها لا تقل إعجازًا لأن العِلم يمكن أن يُفسرها، والمعجزة
التطورية هي المخ البشري، وإن ما يجعلها استثناءً ليس فقط أن
حاسوبًا من لحمٍ ودمٍ قادر على إنتاج ظاهرة مُثيرة للاهتمام مثل
العقل البشري، بل إن التغيُّرات التي طرأت على هذا العضو
والمسئولة عن هذه المعجزة حدثت نتيجةً لاستخدام الكلمات، وأنا
لا أعني هذا بالمعنى المجازي، وإنما أعني أن الإبداعات
البنيوية والوظيفية الكبرى التي جعلت مخ الإنسان قادرًا على
الإتيان بأعمالٍ ذهنية فذَّة غير مسبوقة تطوَّرت في استجابةٍ
لاستخدام شيءٍ ما مجردًا وخائليًّا
virtual مثل قوة الكلمات،
أو لكي أُعبر عن هذه المعجزة بكلماتٍ بسيطة أقول: إن فكرةً غيرت
المخ.
وقد تبدو هذه الآن فكرةً مغرقة في الغيبيَّات في حدِّ ذاتها؛ إذ
تعكس فكرتنا الشائعة عن السببية التي تقضي بأن التغيُّرات
المادية تستلزم أسبابًا مادية، بيد أنني أؤكد أنها ليست كذلك،
إنني لا أعني أن فكرًا غير مُتجسِّد ماديًّا عمِل على تغيير البنية
المادية لأمخاخنا على نحوِ ما تفعل القوى الخفية في الأساطير،
ولكنني أعني بالفعل أن أول استخدامٍ لأسلافنا القُدامى والأول
للمرجعية الرمزية غير ما أحدثته عمليات الانتخاب الطبيعي من
تأثيراتٍ في تطوُّر المخ البشري للإنسان الأول منذ ذلك الزمن؛
لذلك أعني بالمعنى الواقعي تمامًا أن التغيرات المادية التي
جعلت منَّا بشرًا، تُجسِّد — إذا جازت الكلمة — عملية استخدام
الكلمات. وهنا أقول: إن الهدف من بقية الكتاب هو توضيح ما
أعنيه بهذا الرأي المُلغِز وأن نتتبَّع تطبيقاته.
نعرف أن عالِم النفس الأمريكي جيمس مارك بالدوين هو أول من
أدخل منذ قرنٍ تمامًا تعديلًا طفيفًا على نظرية داروين عن
الانتخاب الطبيعي،
١ ويُمثل هذا التعديل مفتاحًا لفهم العملية المسئولة
ربما عن هذه التغيرات، ويُعرف هذا التغيير الآن بعبارة «التطور
البالدويني
Baldwinian
evolution» على الرغم من أنه لا يتضمَّن
شيئًا غير دارويني. ذهب بالدوين إلى أن التعلُّم والمرونة
السلوكية يمكن أن يكون لهما دور في تضخيم وانحياز الانتخاب
الطبيعي؛ لأن هذه القدرات تُمكِّن الفرد من تعديل سياق الانتخاب
الطبيعي الذي يؤثر في عشيرة المُستقبل، وتتمكن الكائنات الحية
بفضل المرونة السلوكية من الانتقال إلى مَواطن مُلائمة
niches مختلفة عن المواطن
التي شغلها أسلافهم، وتتمثَّل النتيجة في أن الأجيال التالية
ستواجِه طائفةً جديدة من الضغوط الانتخابية، مثال ذلك، القدرة
على استخدام موارد من بيئاتٍ أبرد يمكن أن تُيسِّرها أنماط هجرة
موسمية في بداية الأمر، ولكن إذا ما أصبح التكيُّف مع هذه
المواطن الجديدة أهم بصورةٍ متزايدة ومُطَّردة، فإنه سيفضل أن
تحتفظ الأجيال التالية بأي سماتٍ من شأنها أن تزيد القدرة على
تحمل البرد، من مثل تخزين الدهون تحت الجلد، أو نمو شعرٍ عازل،
أو القدرة على الكمون أو البيات أثناء فترةٍ من السنة، صفوة
القول أنَّ نظرية بالدوين تفسر لنا كيف أن السلوك يمكن أن يؤثر
في التطوُّر ولكن دون حاجة للزَّعم بأن الاستجابات إزاء المُتطلَّبات
البيئية والمكتسبة أثناء حياة المرء يمكن أن تنتقل مباشرةً إلى
الذُّرية (وهي آلية فقدت مِصداقيتها لتفسير التغيُّر أثناء التطوُّر
وقد اقترحها جان بابتيست لامارك العالم الفرنسي للطبيعيات في
مطلع القرن التاسع عشر)، ورأى بالدوين أن الحيوان إذ يعمل بشكلٍ
وقتي على تعديل السلوكيات أو الاستجابات الفسيولوجية أثناء
حياته في استجابةٍ منه إزاء ظروف جديدة، يُمكنه بذلك أن يتسبَّب في
إحداث تغيُّرات لا رجعة عنها في السياق التكيفي لأجيال المستقبل،
وعلى الرغم من عدم تولُّد أي تغيُّر «جيني» وراثي جديد بشكلٍ مباشر
في العملية فإن تغيُّر الظروف من شأنه أن يُعدل ما سوف يكون موضع
تفضيلٍ في المستقبل من بين الاستعدادات القائمة أو ما سيكون
مُستقبلًا استعداداتٍ سابقة وراثية معدلة (شكل
١١-١).
شكل
١١-١: رسم تخطيطي يُبين العمليات
الأساسية لعملية الانتخاب البالدويني؛
الأسهم الرأسية تُصور ثلاث عمليات نقل
آنية: الوراثة الجينية (يسار) والنقل
الاجتماعي المُكتسب (وسط) ودوام التغيُّرات
المادية في البيئة الناتجة بفعل تغيرات
سلوكية (يمين). وتُشير الأسهم الموجهة إلى
اليمين إلى تأثيراتِ الجينات على السلوك
وتأثيرات السلوكيات على البيئة، وتُشير
الأسهم الموجهة إلى اليسار إلى آثار
الضغوط الانتخابية المُتغيرة على الجينات،
ويُلاحظ أن الأسهم الدالة على الانتقال
الاجتماعي تضعُف أكثر في كلِّ جيلٍ في إشارة
إلى نقص دور التعلُّم نتيجة لزيادة التأثير
الجيني على السلوك (ويشار إليه بأسهم
يزداد سُمكها من الجينات إلى
السلوك).
وإن بعضًا من الأمثلة عن التطور البالدويني المفهومة لنا على
أفضل وجهٍ تلك التي استقيناها من حالاتٍ غيَّرت فيها سلوكيات البشر
الانتخاب الطبيعي على نحوٍ غير متوقَّع، ويعتبر تقبُّل الجسم لسُكَّر
الحليب، اللاكتوز، حالة مثالية في الصميم؛ إذ على الرغم من أن
القُدرة على استخدام اللاكتوز موجودة لدى أغلب الثدييات أثناء
الطفولة الباكرة فإن الإنزيمات الضرورية لتفتيته تضعف كثيرًا
بعد الفطام؛ أي بعد أن تُصبح غير ضرورية، لذلك نجد غالبية
الثدييات البالِغة عاجزة عن هضم اللاكتوز وربما تُعاني من عسر
الهضم إذا ما تحلَّل على نحوٍ غير سليم بتأثير بكتيريا في القولون،
وأحسب أن هذا هو حال غالبية البشر قبل اكتشاف العناية بتنمية
الحيوانات في عصر الزراعة، ومن ثم ليس مصادفةً أن البشر الذين
يتمتعون بأعلى نسبةٍ من تحمُّل اللاكتوز في الكبر هم الذين عاشوا
زمنًا طويلًا يهتمُّون برعي الحيوانات والماشية؛ بينما أقل الناس
قبولًا للاكتوز هم من دخل لديهم نظام الرعي حديثًا أو لم
يعرفوه بعد، ولكن ثمة عوامل كثيرة أخرى مُستقلة لها دور في تطوُّر
هذه القدرة الهضمية،
٢ غير أن من الواضح أن استخدام حليب الحيوانات كمصدرٍ
للغذاء، على الرغم من الصعوبات الهضمية لدى البعض، آثر تكاثُر
من هم الأكثر تسامِيًا.
والقصة أكثر تعقيدًا من ذلك بسبب أساليب التوافق العديدة
والمختلفة التي لجأ إليها الناس في مختلف أنحاء العالم إزاء
عدم تحمُّل اللاكتوز، مثال ذلك ترك الحليب يحمض أي يتحول إلى
رايب بفضل البكتريا التي تحلل سُكر الحليب، أو تصنيعه جُبنًا في
قوالب تُهيئ له الوسط الذي يجعله يتعدل ومن ثم تُساعد على حفظه.
وساعد كل هذا على تخفيف حالات عُسر الهضم كما ساهمت كجسرٍ يُهيئ
الفرصة للرعاة القدامى لتنمية قدرةٍ أكبر على الاعتماد على
الحليب، وسمح هذا لمُجتمعات الرعي بالانتقال إلى المناطق
المناخية الشمالية والجبلية غير الصالحة للزراعة، حيث حرارة
الشمس منخفضة وساعد التعرض لهذا المناخ على توفر عاملٍ جديد
أكثر عمومية في الانتخاب الذي خلق درجةً إضافية لتحمُّل اللاكتوز:
مزايا الحصول على فيتامين د من الحليب بديلًا عما لا ينتج
باطنيًّا بسبب انخفاض ضوء الشمس، ومع مرور الزمن تزايدت
الجماعات السكانية في أوروبا التي أصبحت تتحمَّل
اللاكتوز.
وفي خمسينيات وستينيات القرن العشرين برز عالم البيولوجيا
التطوُّرية البريطاني، وهو من الرواد، بجامعة أدنبرج كونراد
وارنجتون، وقدم وصفًا لعملية وثيقة الصلة اتخذ لها اسم
«الاستيعاب الجيني» genetic
assimilation، وأجرى تجارب للتلقيح
الصناعي على ذباب الفاكهة لإثبات رؤيةٍ له مفادها أن الانتخاب
الطبيعي سيتَّجه إلى إحلال الاستجابات التكيُّفية محل القيود
البيئية المُتصلة والاستعدادات السابقة الجينية، ويقول بنص
كلامه: إن توليد هذه الاستجابات التكيُّفية سيأخذ بالتدريج
مرحليًّا «مسارًا موجهًا يتحدَّد له.» معنى هذا أنه بعد أجيال
كثيرة سيكون إنتاجها أثناء النمو أكثر فأكثر انحيازًا بفعل
الوراثة الجينية وأقل اعتمادًا على العلامات الخارجية. وحريٌّ
أن ندرك من منظور النمو أن «استباق» استجابةٍ مهمة عن طريق جعل
تعبيرها عن نفسها إلزامًا أكثر منه مُصادفةً اعتمادًا على ظروف
خارجية من شأنه أن يُهيئ استجابةً أكثر كفاءة وأقل مخاطرة من
الاعتماد على استجابةٍ ملائمة حفزت إليها علاقات خارجية. وواضح
أن هذا الرأي يزوِّدنا بوصفٍ أكثر صقلًا وتقدمًا من الناحية
الجينية والتنموية لفئةٍ مهمةٍ من العمليات البالدوينية، بيد أن
وارنجتون اتَّخذ موقفًا نقديًّا إزاء النماذج المُغرقة في الحتمية
بشأن الإنتاج الوراثي «الجيني» للخصائص. وتُشير عملية
«التَّقْنِية»؛ أي تحديد المسارات أو القنوات إلى التأثيرات
المُقيدة أو الأكثر أو أقل انحيازًا للجينات على نموِّ تكوينات
الجسد والسلوك، ولم يكن القصدُ من الاستيعاب الجيني الإبدال
المُتساوي واحدًا بواحدٍ للتكيفات المكتسبة مع نظائرها الغريزية،
وهذا مناقض من نواحٍ كثيرة للفكرة القائلة بإمكانية وجود أي
مُطابقة بسيطة مع استجابة اختيارية إزاء الجينات التي تُنتجها
استجابة لمجموعة تعليماتٍ مُستدخلة أي كامنة باطنيًّا، ولكنها
تتَّسق مع عمليةٍ للنمو شِبه تطورية.
والطبيعة غير المباشرة للاستيعاب الجيني هي وليدة واقع يتمثل
في ندرة وجود روابط واضحة بين السلوكيات التي تُحفِّز إليها
التغيرات البيئية وبين نتائجها التطورية طويلة المدى، وخير
مثال على ذلك نجده في تطور تنويعة مختلفة من أمراض الدم
الجينية التي تحدُث استجابةً للملاريا، وأكثر هذه الأمراض شهرةً
هي أنيميا الخلية المِنجلية sickle cell
anemia، ويحدث هذا المرض القاتل نتيجة
وراثة نُسختَين من جينة متحولة لإحدى مكونات الجزيء الحامل
للأكسجين، والهيموجلوبين؛ إذ حينما يفرغ الهيموجلوبين المتحوِّل
من الأكسجين ويُفرِزه في أنسجة الجسم، فإنه ينزع الترسُّب في
تكويناتٍ مُركبة من بلوراتٍ دقيقة
microcrystalline يُمكنها
تفجير خلايا الدم الحمراء التي تحتويها بداخلها. وجاء اسم
المرض من شكل الإصابة التي لحقت بهذه الخلايا، ويتمثل مفتاح
فهم تطوُّرها في خاصيتها للانتشار بين تجمُّعات سكانية مختلفة
وبخاصةٍ نسبة الإصابة العالية بها بين السكان الأصليين في وسط
إفريقيا، واكتشف العلماء منذ بضعة عقودٍ مضت أن الناس الذين
لديهم نسخة واحدة فقط من الجينة المتحولة تكوَّنت لديهم بعض
المناعة ضد الملاريا، وسبب ذلك أن الملاريا تحدث نتيجة طفيل
parasite ناشئ في الدم،
ويتكاثر داخل خلايا الدم الحمراء أثناء فترةٍ من دورة حياتها
داخل الجسم العائل، وجدير بالذكر أن وجود بعض هيموجلوبين
الخلية المنجلية sickle cell
hemoglobin في خلايا دم المرء (حتى وإن لم
تكن كافية لتفشِّي الخلايا المنجلية في الدم) من شأنه التدخُّل في
تكاثر الطفيل، وهكذا أصبح من المُفضل اختيار جينات الخلايا
المِنجلية بنِسَب صغيرة بالقياس إلى جينات الهيموجلوبين الطبيعية
لدى الناس؛ لأنها تمنحهم منافع تكاثرية (للبقاء) في مواجهة
الملاريا، وأمكن بفضل هذه الوسيلة تحقيق التوازن بين الكلفة
التي يتحملها بعض الأفراد الوارِثين لاثنتَين من هذه الجينات
وبين الموت بسبب الملاريا.
وجدير بالذكر أن خاصية الخلية المنجلية انتشرت سريعًا في
إفريقيا خلال الفترة الأخيرة من مرحلة ما قبل التاريخ بسبب
النشاط البشري، ونعرف أن البعوضة هي العائل الآخر لطُفيل
الملاريا التي من خلالها ينتقل من عائل بشري إلى عائل بشري
آخر، وأحسب أن الحدث التاريخي الحاسم الذي حول الملاريا إلى
مرض وبائي هو إدخال الزراعة وتربية الحيوان في إفريقيا منذ ما
بين خمسة إلى ستة آلاف سنة مضت، وأدَّت هذه الممارسة المنقولة
ثقافيًّا إلى تعديل البيئة الاستوائية لخلق الأرضية المثالية
لنمو البعوض، وأدى النظام الزراعي الذي يقوم على قطع الأشجار
وحرقها، وكذا نظام تربية ورعي الحيوانات إلى إبدال الغابات
المطيرة الكثيفة بأرض مهيَّأة لتكوين الكثير من البِرَك
والمُستنقعات التي تحتوي على مياه راكدة ناهيك عن أعداد غفيرة
من العوائل البشرية، والبعوض يحتاج إلى الاثنَين لكي يتربَّى
ويتكاثر، وهكذا غيَّر إدخال النظام الزراعي الانتخاب الطبيعي
الذي يؤثر على الأنواع الثلاثة جميعها، ودخل السكان من البشر
في سياقٍ نجد فيه أن الانتخاب القوي يفضل تكاثرًا؛ أي تحولًا،
يُحقق بعض المناعة ضد الملاريا. معنى هذا أن الأفكار البشرية
المختلفة في صورة ممارسات زراعية استهلَّت دورة غير مباشرة من
التطوُّر البالدويني الذي انتهى إلى تكوين بروتين دموي محوَّل له
إمكانيات قاتلة، ولكنه لم ينتج جلدًا مقاومًا للبعوض أو كراهية
شديدة مانعة للمياه الراكدة. وطبيعي أنه مع تعديل مثل هذه
المنظومة المُعقدة لن نجد من يكشف لنا عما سوف يحدث؛ ذلك أن
التطوُّر نادرًا ما يأخذ في مساره خطوطًا مستقيمة، وواقع الحال
أنه في حالة التكيُّف مع الملاريا (ومع الزراعة الاستوائية) ظهر
عدد من التكيفات الجزيئية الآنية الموازية لبروتينات الدم
للحيلولة دون المرض، وكلٌّ له خسائره الفريدة.
٣
يثبت هذان المثالان كيف أن بالإمكان أن تؤدي سلوكيات البشر
في صورة ممارسات زراعية هنا، إلى التأثير غير المباشر في نشوء
وتطوُّر جينات بشرية مُعينة والخصائص الفسيولوجية التي تُسهم بها،
بيد أن هذَين المِثالين يؤكدان أيضًا أن المسار من السلوك إلى
النتيجة التطوُّرية يمكن ألا يكون بسيطًا على نحو ما ذهب إليه
اقتراح لامارك أصلًا؛ إذ إن لامارك يرى أن النتيجة تتحقَّق خلال
جيلٍ واحد عن طريق الوراثة في الجيل التالي، ويُفيد المثال
المناظر لخصائص الوراثة اللاماركية أنها مكتسبة عن طريق
العادة، وأن مِن المفترض أن تكون الاستجابة التكيُّفية مطابقة في
الخارج لما في داخل الجينوم، ولكن على العكس من ذلك فإن
الانتخاب البالدويني سوف يؤثر على خصائص من شأنها أن تحدَّ من
الخسائر التي يفرضها التكيُّف السلوكي على الظروف الجديدة، وبذا
يخضع للاستيعاب الجيني، وثمة صعوبة موروثة في تتبُّع الأسباب
والنتائج في عملية من هذا النوع؛ لأنها تتضمن مُماثلةً بين واحد
إلى كثير، والشيء الحتمي أن استجابة تكيفية ما يمكن أن تنحاز
من حيث احتمالات الظهور أثناء النمو إلى عددٍ ضخم جدًّا من
السبل المُتنوِّعة، ويمكن لها جميعًا، حسب الانتخاب البالدويني أن
تتعدَّد آنيًّا.
وجدير بالذكر أنه من بين جميع أشكال التكيُّف نلحظ أن مرونة
تعلم استجابات سلوكية جديدة أثناء الحياة يمكن أن ينتج عنها
أسرع النتائج التطوُّرية وأكثرها حسمًا، وإن القدرة على التعلُّم
ومن ثم وراثة السلوكيات المكتسبة يمكن أن تكون في الحقيقة
مصدرًا من أهم مصادر التغير التطوري، إنها تُهيئ للكائن الحي
السبيل لاكتساب ذخيرةٍ لتكيُّفات محتملة، وهكذا تضاعف كثيرًا
وتوسع من نطاق الاستعدادات السلوكية السابقة التي يُمكن أن
«ينتفي» من بينها الانتخاب الطبيعي، وهنا يمكن استيعاب
الاستجابة السلوكية المكتسبة جينيًّا لتُصبح استعدادًا سلوكيًّا
سابقًا بفضل ما تفرِضه من كلفةٍ على الكائن الحي، وتتمثل الكلفة
في زمن التعلُّم وكلفة الإخفاق في التعلم أو التعلم الخاطئ،
وكلفة أن يكون السلوك غير كفء، ونعرف أن الأفراد الذين لأي عددٍ
من الأسباب، يتعلَّمون سريعًا وتعليمًا موثوقًا به، وينجزون هذا
السلوك بكفاءة أكبر سوف يفيدون بذلك فيما يتعلق بالتكاثر، ونجد
أن إحدى قسَمات هذه العملية أن أي استعدادٍ سابق يمكن أن يُسهم،
ولو عن بُعد، في توليد استجابةٍ تتَّسم بالثقة والكفاءة سيجري
انتخابه يقينًا؛ لذلك نعود ونقول، وعلى عكس الصورة
الكاريكاتورية اللاماركية: إن ما سوف يتطوَّر هو كوكبة من
التأثيرات والانحيازات الكثيرة التي تُسهم إيجابيًّا وبشكلٍ غير
مباشر، وليست أبدًا نسخة فطرية من الاستجابة السلوكية
الاختيارية السابقة.
ولقد تغيرت أمخاخ البشر بمثل هذه العملية التطورية تمامًا.
والسؤال هو كيف كانت هذه التغيرات نوعيةً وواسعة النطاق، هل كان
بالإمكان أن تمتدَّ إلى مثل هذه المعرفة الفطرية عن النحو كما
يتصوَّر دعاة النظرية الفطرية من أمثال نعوم شومسكي؟ وعلى الرغم
من أن شومسكي نفسه لم يرَ أن المعرفة النحوية يمكن أن يكون قد
تم انتخابها أثناء التطوُّر البشري شأن غيرها، وسبق أن ذكرنا في
الفصلين الأول والرابع أن الفكرة القائلة: إن نحوًا كليًّا
فطريًّا ربما تطوَّر وفق العمليات الداروينية (والبالدوينية) قد
وجد أوضح تعبير عنه في كتاب ستيفن بينكر الذي صدر حديثًا
بعنوان «غريزة اللغة»،
٤ ويعني بينكر بوجهٍ عام بالمصطلح البيولوجي القديم
إلى حدٍّ ما وهو أن «الغريزة» استعداد سلوكي سابق يجري أداؤه
وعلى استعداد للتطبيق قبل أي خبرة، ويُعادل هذا في جوهره فكرة
نعوم شومسكي عن الأهلية أو المهارة الفطرية، ونجد من اليسر
إدراك أمثلةٍ من مثل هذه المهارات الفطرية في الأنواع الأخرى:
بسبب الطريقة التي تتكشَّف بها بصورة حتمية مع نمو الحيوان، بغض
النظر عن الخبرة أو التعلم، مثال ذلك تُذهلني دائمًا حقيقة أن
صغار القطط يمكن حفزها بسهولةٍ كبيرة لاستخدام صندوقٍ مليء
بالرمل أو فضلات قطط لاستعمالها كمرحاض، ولا بد حتمًا أن تنبش
بأظافرها القذرَ بالأسلوب النمَطي ذاته، وأحسب أن ما يذهل أكثر
سلوك الطير لبناء العش، ويُمكن لمن لدَيه خبرة بمراقبة الطير أن
يحكي كيف بنى طير مُعين عشًّا مميزًا بسبب خاصية اختيار المواد
والطريقة المُميزة من نسجها معًا، وثمة مهارات غريزية تبدو
مُهيأة للانتشار بين أنواع كثيرة جدًّا من مثل سلوكيات النبش
بالأظافر أو التفلية بين الحيوانات، هذه السلوكيات جميعها هي
التي نصِفها بالغريزة، وعلى الرغم من أن الكثير من هذه الأمثلة
يمكن أن تتضمَّن فترةً ما من الخبرة بالسلوك وتشكُّله فإن من الواضح
أن مثل هذه المهارات القائمة على استعدادٍ سابق تم تشكُّلها من
خلال عمليات تطوُّرية، أليس من الممكن أن عالمًا بيولوجيًّا من
كوكبٍ آخر حين يشاهد الطابع الكلي الشامل لتطوُّر اللغة البشرية
والأنماط الخاصة المُميزة لعمليات نسج أجزاء اللغة لتكوين بنية
كلية فإذا به يتصوَّر، مثلما تصور عالم بيولوجيا الطيور، الأمر
فيما يتعلق بِبنية عشِّ الطير؛ أي كغريزة؟ أليس من الممكن أن
جزءًا كبيرًا من المهارة اللغوية والمعرفة قد نشأ وتطوَّر ليكون
مندمجًا في لحمة المخ البشري منذ البداية؟
تبيَّن لنا في الفصل الرابع أن من الممكن تفسير الكثير من
الأعمال الفذة المثيرة للانتباه بشأن اكتساب اللغة عند
الأطفال، وذلك حين نضع في الاعتبار حقيقة أن اللُّغات ذاتها صيغت
وتشكَّلت عن طريق نوع من المعادل الثقافي للانتخاب الطبيعي، الذي
عملت فيه الاستعدادات السابقة للتعلُّم لدى الأطفال على تشكيل
اللغة لتأخذ الوضع الملائم، ولكن من الواضح أن الأمخاخ قد
تشكَّلت لتتلاءم مع مُتطلبات اللغة بالمثل، وحدَّد الباب الأوسط من
الكتاب بشكلٍ منهجي الإطار العام لبعضٍ من أهم هذه التغيرات
تأثيرًا في المخ، وسوف نستكشِف في هذا الفصل العمليات التطورية
التي كانت مسئولةً عن مثل هذه التغيُّرات الكثيفة والشاملة،
والخطوة الأولى في ذلك هي أن نسأل: ما قسمات المخ والسلوك
الأقوى تأثرًا؟ وكذا التي لم تتأثَّر في هذه العملية، وإذا كان
التطوُّر قادرًا على توليد مثل هذه التغيرات الشاملة والكثيفة في
بِنية مخ الإنسان، ألم يكن من المُمكن أيضًا أن تتولَّد عنه بسهولة
أكثر تغيُّرات طفيفة ودقيقة تتجسَّد المنطق الأساسي لنحوٍ لغوي كلي
وشامل؟
أكدْنا — بينكر وأنا — أن ثمة لغة أولية بسيطة جدًّا ربما
نشأت لدى سلَف من الأوائل السابقين لأشباه الإنسان في غياب أي
حالات تكيُّف نوعية للمخ، وأن المزايا التكيفية للاتصال اللغوي
هيأت فيما بعدُ الوضع للانتخاب الذي حقق مرحليًّا استدخال قسَمات
حاسمة مُعينة من بِنية اللغة بهدف جعلها أكثر كفاءة، فضلًا عن
اكتسابها بسهولةٍ أكبر، ولكن ما نختلف بشأنه هو وصف ما تم وما
لم يتم استدخاله بهذه الطريقة، كما اختلفنا أيضًا وبشكلٍ مُحدد
أكثر عما تم نظريًّا استدخاله، ونعبر عن ذلك بلغةٍ رسمية: إن
المعرفة النحوية الفطرية ساعدت على اكتساب اللغة، ويمكن أن
تُفسر كيف أن مجموعة من القواعد تبدو في ظاهرها أن لا سبيل
لتعلُّمها، ولكن يمكن مع ذلك أن يمتلك الأطفال ناصيتها ويبرعوا
فيها، ويمكن أيضًا أن تفسر القسمات الكلية الظاهرة للغات
والخصوصيات المُميزة لبنية اللغة، هل ثمة قيود على تطور اللغة
تُحدد نوع المعرفة التي يمكن ولا يمكن استدخالها أثناء التطور؟
وسوف أقترح أنه على الرغم من أن أمخاخنا وقدراتنا الحسحركية
تكشف عن حالات تكيف كثيرة للغة، يمكن أن نُسميها معًا غريزة، فإن
المعرفة النحوية لا يمكن أن تكون إحداها.
وإلى أي حدٍّ يمكن للعمليات البالدوينية أن تزوِّدنا بتفسير
للأساس العصبي للقدرات اللغوية الفطرية؟ الأمر هنا يعتمِد على
المتطلبات النوعية التي خلفها استخدام اللغة للتعلُّم والسلوك
البشريَّين، إن بعض حالات التكيف السلوكية يمكنها أن تسهم في
التطور البالدويني وبعضها الآخر لا يستطيع الإسهام، والعوامل
الأساسية المُحددة هي شدة وكثافة الانتخاب، ثبات الظروف المطلوب
التكيُّف معها، والقسمات الدائمة غير القابلة للتغير للاستجابة
التكيفية. وسواء كان التطوُّر بالدوينيًّا أم داروينيًّا، فإن
تطورًا تكيفيًّا مؤسسًا على أساسٍ جيني هو دالة الظروف طويلة
المدى دون تغيير التي تؤثر في نجاح أو فشل تكاثر خاصية أو بعض
الخاصيات، واعتمادًا على حجم السكان وشدة الانتخاب فإن
المُتطلبات التكيُّفية النوعية التي تفرضها البيئة لا بد أن تبقى
دون تغيير لأكثر من مئات، بل آلاف الأجيال لإنتاج مستويات
الإبدال اللازم للجينات الذي يتسبَّب في ظهور خاصية جديدة
وبقائها قسَمة منتظمة للنوع. والسؤال هو ما إذا كان مثل هذه
الضغوط الانتخابية المُطَّردة والمُتسقة مقترنةً بتطور
اللغة.
وإنه لكي يكون لقسمة اللغة مثل هذا التأثير على تطور المخ
بحيث يشارك فيها جميع أفراد النوع يجب أن تبقى ثابتة دون تغيير
إلى أن يُصبح التغير اللغوي الأشد عنفًا أمرًا ممكنًا. وعلى
الرغم من أن هذا قد يبدو للوهلة الأولى ضغطًا تقييديًّا واضحًا
فإنه يُمثل نتيجةً حتمية للاختلاف العظيم للغاية في المعدل
التطوري بين التطوُّر الجيني الذي يؤثر في وظيفة المخ وبين سرعة
تغير اللغة، وقد يُوافق غالبية الباحثين على أنَّ تغيُّر اللغة يكون
على الأرجح أسرع كثيرًا بدرجاتٍ ضخمة عن التغير الجيني، وأن
البطء النِّسبي للتغيُّر التطوري الجيني مقارنًا بتغيُّر اللغة سوف
يبقى طويلًا؛ لكي يُسهم بأي تأثيرٍ مُطَّرد ومُهم على المدى في
تطور المخ، وثمَّة دليل من تاريخ اللغة الهندو-أوروبية يفيد بأن
التغيرات اللغوية الشاملة يُمكن أن تظهر خلال آلاف السنين فقط،
وهكذا نجد — في ضوء أدنى التقديرات عن عمر اللغة الحديثة — أن
نطاقًا واسعًا من المحاولات الغريبة لمطابقة النحو بسلاسل من
الكلمات كان موضع اختبارٍ داخل كل سلالة لغوية، ومنذ أن ظهرت
اللغات الأولى ظهرت أنواع لا حصر لها من النحو وقواعد بناء
الجُمَل عدة مرات وذوت ثانيةً، ولكن حتى لو افترضنا أمرًا بعيد
الاحتمال تمامًا، وهو أن جميع السكان من نوع الإنسان الأول
hominid المستخدِم للُّغة
تجمعوا في نقطةٍ صغيرة نسبيًّا، وتمركزوا فيها وتصادف أن كانوا
يستخدِمون لغةً وحيدة (كما يمكن أن يذهب الخيال بالنسبة لنوع
متطرف يُمثل عنق الزجاجة؛ حيث انقرض كلُّ السكَّان المحليين ما عدا
تجمعًا واحدًا) فإن الوقت الفاصل ما بين ظهور تحوُّل مُفيد وحتى
ثباته داخل السكان سيمتدُّ عبر عيناتٍ واختبارات شاسعة لتكويناتٍ
لغوية مُحتملة.
لهذه الأسباب جميعها الاحتمال ضعيف جدًّا بالنسبة لحدوث تكيف
ذهني مع تكويناتٍ نحوية نوعية ومُحددة، ولكن ثمة قسمات مميزة
كثيرة للُّغات ابتداءً من حضور الكلمات ووحدات الجُملة إلى
التمييز بين الاسم — الجزء/الفعل — الجزء والكثير من القسَمات
الأدق التي تُمثل خصوصية، وهي مشتركة بين كل اللغات الطبيعية.
وجدير بالذِّكر أن القسَمات الكلية للغات لا تتغيَّر حتى وإن تغيَّر
ظاهرها عند الإنجاز، ولذلك استطاعت أن تبقى وتصمد في جميع
اللغات على مدى آلاف السنين، ولكن الثبات دون تغيير ما هو إلا
وجهٌ واحد لعدَم التغير؛ إذ لكي يتحقق الاستيعاب الجيني يتعين
أيضًا أن يفرض هذا الوجه الثابت للغة مُتطلبات متَّسقة وثابتة على
العمليات العصبية، وهذا معيار أصعب على تكوينات اللغة للوفاء
به، ومن هنا نرى أن المشكلة بالنسبة للغة من منظورٍ تطوري هي أن
الثابت نسبيًّا على مدى اللغات، يُسمى غالبًا «البنية العميقة»
للنحو، اقتداءً بشومسكي، إنما يُقيد بشكلٍ ضعيف السطح الظاهري
القابل للتغير بدرجةٍ عالية للنظم المنفذة له، ولن يتحقق
الاستيعاب الجيني بأي درجة من الدرجات إلا إذا توفرت علاقة
مشتركة بين هذه المظاهر النحوية العميقة الثابتة وبين العمليات
الحسابية العصبية الثابتة. وعلى الرغم من حقيقة أن الاسم هو
اسم وأن تغيُّر زمن حدوث الفعل هو تغيُّر في الزمن، بغض النظر عن
الكلمات الواردة والمعالجات الخاصة ببناء الجُمَل التي تسجل هذه
الوظائف، فإنه يمكن ألا يحدُث استيعاب لوظيفته عن طريق عمليات
تطوُّرية ما لم تكن هذه التمايُزات الوظيفية موضع معالجةٍ دائمة
وبالطريقة نفسها في الأمخاخ كلها تحت جميع الظروف. إن الشرط
الرئيسي لتحقُّق الاستيعاب الجيني هو وجود بعض القسمات الحسحركية
الثابتة أو قسمات ذاكرية ثابتة عن التكيف.
ويمكن أن نوضح تأثير الثبات وعدم التغير في التمثيل العصبي
«النيورولوجي» في ضوء تطور صيحات التحذير التي يطلقها قردة
الفيرفيت، وأولى القسَمات الثابتة هي البرامج الحركية والقوالب
الحسِّية لإخراج الأصوات ذاتها؛ إذ يمكن تسجيل كلٍّ منهما في المخ
كشبكةٍ بنائية عصبية محددة، وهذه القسمات البنائية الجوهرية سوف
تتمركز على الأرجح بصورة واضحة وقوية في شبكات الدوائر العضلية
السمعية والتنفُّسية الصوتية. ليس هذا فحسب، بل سوف تتألَّف من
دائرة مُماثلة للتفاصيل، تأتي بعد ذلك الخاصيات الحسِّية الثابتة
للمُنبهات؛ إذ على الرغم من أن فئات الحيوانات المفترسة لقردة
الفيرفيت تتميَّز بعددٍ من السمات الحسية من بينها علامات خاصة
بالسياق، فإن الصور البصرية لأفراد النسور والفهود يمكن أن
تتغير كثيرًا، ولذلك فإن سِمات حسِّية عامة مُعيَّنة هي التي تُميز
بشكل ثابت هذا الحيوان المفترس عن غيره، والنتيجة نجد أن
التمايزات الحِسِّية الموثوق بها هي فقط المرتبطة دائمًا بدوائر
عصبية مميزة وهي التي تخضع لأي درجةٍ من الاستيعاب الجيني.
ونذكُر من بين هذه السمات العامة الصورة الظلِّية الشاملة والحجم
وأنماط الحركة وما إذا كانت داخل إطارٍ صامت على صفحة السماء أم
مقترنًا بخشخشة وحركات الشجيرات، فهذه كلها تُمثل جزءًا من
القوالب الحسِّية التي تُميز بين هذه الحيوانات المفترسة، علاوة
على هذا يُوجَد عددٌ من القسمات «المحورية الذاتية
egocentric» الأعم التي
تُميز بين هذه الفئات من الحيوانات المفترسة، مثال ذلك أن
النسور تنقضُّ من أعلى في الهواء، وتنقضُّ دائمًا فوق الفريسة،
ولكن الفهود تهاجم فوق الأرض ولا تنقضُّ عادةً فوق ظهر الفريسة؛
لذلك فإن اتجاه التربُّص الحسِّي تجاه الفريسة يُمكن أن يكون هو
ذاته مكونًا رئيسًا لقسمةٍ تمييزية ثابتة (إذ تُفيد معلوماتنا
لمعرفة نوع الصيحة التي يتعيَّن إطلاقها حال كونِ قرد الفيرفيت
على الأرض، وارتعد لوجود فهدٍ كامن بين أفرع الشجرة)، ونعرف أن
الاستجابات التلقائية الموجَّهة تميل إلى أن تتحكَّم فيها دوائر
مُتمركزة في مناطق خاصة من المخ الأوسط الظهري.
والقسَمة الثالثة الثابتة هي حالة الاستثارة الانفعالية التي
تحفزها الصيحات والحيوانات المفترسة الحقيقية معًا، إن
استجابات الفزع والخوف التي تستثيرها رؤية الحيوانات المفترسة
هي بطبيعة الحال قسمة قديمة ومتمركزة على نحو ثابت في الأجهزة
العصبية لأغلب أنواع الفقريات؛ لذلك فإن هذا العنصر من
الاستجابة سيظل ثابتًا أيضًا من فرد إلى آخر حتى وإن لم يميز
بالضرورة نمطًا من الحيوانات المفترسة عن آخر. والعامل الرابع
والأخير هو الطبيعة الثابتة لأي استجابةِ هربٍ ناجحة. ونلاحظ أن
اتجاه الهرب يكون دائمًا ضد اتجاه الحيوان المفترس (النزول في
حالة النسور، والتسلُّق صاعدًا في حالة الفهود)، كذلك فإنَّ أنماط
الهجمات المُميزة للحيوانات المفترسة تُحدِّد بدورها شروطًا حركية
مُعينة مقترنة بالقسَمات الهندسية للأشجار، ولهذا تؤثر سلوكيات
مُعيَّنة مختلفة قائمة على استعدادات سابقة لدى قردة الفيرفيت
(مثل المَيل إلى القفز والتسلُّق بذراعَين ممدودتَين بدلًا من أن
يجثُم ويتشبَّث بشيءٍ ما)، وطبيعي أن الأجهزة العصبية المُماثلة سوف
تسجل جميع هذه الأنماط السلوكية بأساليب مُتماثلة.
والخلاصة أن تشكيلة من القسمات اللافتة للانتباه واردة ضمنًا
في سياق صيحات التحذير يمكن أن ترتبط بفوارق ثابتة في البِنية
المعمارية العصبية، سواء عن طريق التعلُّم أو الوراثة، وإن
الطبيعة المُتعارضة والإقصائية على نحوٍ تبادلي لأفضل
استراتيجيات الهرب، مضافة إلى الخسائر الخطيرة بسبب الفشل في
الهرب يُمكن أن تؤدي إلى انتخابٍ مُتَّسقٍ وقوي للصيحات التي يمكن
التمييز بينها بوضوح ودون لبس؛ فضلًا عن انتخاب روابط ثابتة
بين هذه الصيحات مع طائفة من الاستعدادات السابقة الحسية
والحركية والتنبيهية المميزة بشكلٍ واضح للغاية. وغني عن البيان
أن تطوُّر منظومات صيحات التحذير هذه خلقَ نوعًا من «المعرفة
السابقة» الفطرية innate
foreknowledge مؤلَّفة من ترابُطات مفيدة بين
المنبه والاستجابة الملائمة للبيئة، وهذه هي أنواع
الاستعدادات السابقة المدمجة في البِنية التي يُريحنا تسميتُها
«غرائز»، وهذه لها قسمات مميزة كثيرة يمكن تفسيرها بسهولةٍ في
ضوء الاستيعاب الجيني المُوازي لنظرية لامارك.
ويُماثل هنا الاستيعاب الجيني التعلُّم بالترابط
associative learning مِن
نواحٍ عدة؛ إذ يعتمد التعلُّم بالترابط أيضًا على دعم الاستجابات
التي تستبِق روابط ثابتة مُعينة بين الأحداث في البيئة المحيطة،
ولكن الفوارق حاسمة، إن العلاقات الشرطية بين مُحدِّدات المنبه
أثناء الاستيعاب الجيني تحتاج إلى أن تبقى ثابتة مُطَّردة على
مدى مئات الأجيال، ويتعيَّن أن يستدخل أفراد مُختلفون هذه
الترابُطات بوسائل متطابقة، ولهذا السبب نجد أن أنواع العلاقة
التي يمكن للتطوُّر أن ينقلها إلى البنية المعمارية العصبية،
وكذا مستوى الدقة التي يتعيَّن كسبُها فطريًّا هي جميعها مُحددة
ومحدودة على نحوٍ صارم. ونلحظ أن هذا التوازي بين التعلُّم
والتطوُّر وثيق الصلة باللغة، وأن القيود ضرورة حاسمة، والمشكلة
هي: عدم الاستمرارية بين ترابُطات المنبه وترابُطات المرجعية
الرمزية التي تُشكل الأساس لوظيفتهما فضلًا عن أنها تجعل من
الصعوبة بمكانٍ تعلم الترابُطات الرمزية، ثم إنها أيضًا تجعل من
المُستحيل استيعابها جينيًّا.
وحريٌّ أن نُدرك أن تطوُّر إشارات مرجعية مؤسسة على الدليل
الموضوعي وذات صفاتٍ مميزة من مثل صيحات التحذير لدى قردة
الفيرفيت إنما أصبحت مُمكنةً بفضل قسمات غير متاحة بالنسبة لتطوُّر
اللغة؛ إذ تكشف اللغات عن أدنى حدٍّ من العلاقات بين الكلمات
ومرجعيتها، كما أن العمليات النحوية تكشف عن قدرٍ أقل من
التطابق مع الأشياء في العالم، وتفرض منطقًا أبعدَ ما يكون عن
الجانب المادي في الحياة (من مثل المسند/المسند إليه
predicate/subject،
الأدوات، الظروف … إلخ)؛ معنى هذا أنه لم تُتَح الفرصة الكافية
لتطوُّر مرجعية لغوية فطرية؛ إذ إن كلًّا منَّا عليه أن يتعلَّم هذه
التطابُقات الرمزية منذ البداية، ولكن هل تشتمل المعالجة
اللغوية على أي أساسٍ لاطِّرادات حسابية مُسببة؟ وإذا كانت عملية
تحديد الفارق بين المُسند والمسند إليه أو تعديل زمن الأفعال
على نحوٍ ما تستلزم أنماط النشاط العصبي نفسها في كلِّ شخصٍ ومن كل
شخص، إذن ستتوفر إمكانية على الأقل لكي تطوِّر هذه العملية
حاملًا يُمثل أساسًا لها. إن العلامات الظاهرية والتحولات في
البنية التركيبية المُستخدمة لتمثيل الوظائف النحوية المختلفة
مثلها مثل الكلمات تتغيَّر تغيرًا واضحًا من لغةٍ إلى أخرى، ومن
ثم فإن هذا المستوى من التحليل لا يكشف عن قدْر كافٍ من الثبات
والاطِّراد، ولكن ماذا عن الوظائف النحوية الأساسية ذاتها؟ هذه
هي تحديدًا ما اتخذها علماء اللسانيات بؤرةَ اهتمامهم كقسَمات
كلية مُميزة للنحو. والسؤال: هل الوظائف النحوية العميقة
المشتركة في كل اللغات البشرية تُمثلها في الأمخاخ عمليات عصبية
ثابتة لا تتغير؟ إذا كان ذلك كذلك فلا بد أن تكون قابلةً لتطبيق
التطوُّر البالدويني وتُرسِّخ للاستيعاب الجيني، وإذا كان غير ذلك،
لا مجال للأهمية التكيفية، فإن أي كمية ضغطٍ وأي مدًى زمنيٍّ
للتطور لن يكون لهما أثر للإسهام من أجل جعلِها استعداداتٍ عصبيةً
فطرية سابقة.
وإن هذا المعيار للثبات الحسابي العصبي لا يستلزِم وجود بِنية
ما محلية في أمخاخ البشر تكون مجالًا تجري فيه هذه الحسابات،
ونلحظ أن النظريات المُتقدمة التي تقول بالكفاءة اللغوية
الفطرية قد عمدت إلى تجنُّب الافتراضات التي تؤكِّد وجود مراكز؛ أي
«أجهزة» لاكتساب اللغة … إلخ. وظهرت بدلًا من ذلك نماذج كثيرة
حديثة تستهويها استعارات عن مناهج الحاسوب و«تكوينات البيانات»
الثابتة لتفسير طبيعة الكليات اللغوية، بيد أن ثمَّة معنًى مهمًّا
يفيد أن تطور المخ يقتضي تخصيصًا للحامل العصبي، وليس
«البرنامج» فقط، وعلى الرغم من أن «تحديد موقع» في المخ يمكن
أن يُشير إلى دوائر كثيرة ومنتشرة، فإنه لكي يكون مثيلًا
عضويًّا للمعلومات الفطرية في المخ يجب أن يستخدِم دوائر عصبية
مُعينة بوسائل قابلة للتكرار وثابتة من شخصٍ إلى آخر على مدى
فترةٍ زمنية مُمتدة؛ حتى يتسنَّى للانتخاب أن يعمل على نحوٍ مُتكرِّر
ويؤثر في العمليات التخليقية
morphogenetic نفسها جيلًا
بعد جيل، وتحتاج هذه العمليات نفسها ألا تكون محصورة في موضعٍ
واحد، ولكن يتعيَّن ثبات كيفية انتشارها داخل تكوينات المخ
المختلفة.
وعرضنا في الفصل السابق قابلية التغير العصبي لمظاهر العجز
المُتمثلة في حالة الحبسة النحوية
agrammatism وهو ما يعتبر
شاهدًا على أن هذا الاطراد ليس خاصية نوعية لوظائف اللغة. وغني
عن البيان أن تكلُّم لغة مُمعِنة في قواعد التصريف يعني أن جزءًا
مختلفًا في المخ أكثر أهميةً بشكل حاسم لوظيفة نحوية بعينِها منه
بالنسبة لها عند التكلم بلغةٍ ليس بها قواعد تصريف نسبيًّا، وإن
الدلالة الضمنية لاطراد التمثيل العصبي هي أن العملية النحوية
ذاتها عندما تُمثلها قسمات ظاهرية لبنية اللغة المختلفة أشد
الاختلاف يمكن أن تمثلها أيضًا، وبالمثل، مناطق في المخ مختلفة
للغاية، وعلى الرغم من أن العملية الرمزية — المنطقية الأساسية
التي تؤديها هذه الاستراتيجيات المختلفة لبناء الجُمل — هي هي
نفسها، فإن هذا ليس هو ما يحدِّدُ أي تكوينات المخ هي التي تؤدي
العملية، إن ما يُحدِّد أي جزءٍ من المخ هو المشارك في الأداء هو
سبل إنجاز العمليات الظاهرية المُتضمنة للكلمات (أي تحليل
الإشارات المادية ذاتها). وطبيعي أن هذا له تأثير عظيم الشأن
على الثورة وإن حظي بتقديرٍ ضعيف، وإن غالبية البِنى العميقة
للنحو التي قيل: إنها كليات. إنما هي عملية منطقية لها أوجه
تنفيذ مُتغيرة جدًّا من لغةٍ إلى أخرى. وحريٌّ أن نُدرك أن سُبُل
اشتقاق الأسئلة والتمييز بين المسند/المسند إليه وتحديد
الأزمنة أو صيغ الفعل moods
وغير ذلك من تمايزات نحوية كثيرة يتعين تسجيلها في كلماتٍ مع
بيان مواضعها داخل الجُمل، وكذا القواعد المنطقية الأعمق
الحاكمة للعلاقات بينها، كل هذا خاضع للرابطة المُتغيرة مع
الصفات الظاهرة لأبنية اللغة، وتعتبر هذه العلاقة التراتُبية
حاسمةً بالنسبة لوظائفها الرمزية، بيد أنها تُمثل لغزًا مثيرًا
للاهتمام، إن الصفات الأكثر إغراقًا في طابعها الكُلِّي لبِنية
اللغة هي بطبيعتها الأكثر قابلية للتغير من حيث التمثيل
الظاهري؛ إذ تتغير خريطة معالمها مع مهام المُعالجة، وقابليتها
للتحدُّد مكانيًّا ضعيفة داخل المخ بين شخصَين أو حتى داخل
الأفراد؛ لذلك نجدها في أقل قسمات اللغة التي طوَّرت دعائم عصبية
نوعية، واتَّجه بعض علماء اللسانيات إلى وضع هذه الجوانب المميزة
للغة باعتبارها جزءًا من النحو الكُلي الشامل، وهذه تحديدًا هي
الجوانب غير الجديرة بالمشاركة في التطوُّر البالدويني؛ إذ لو
كانت هناك قواعد فطرية للنحو ثاوية في عقول أطفال البشر، فإنها
ما كانت لتستقرَّ في موقعها عن طريق الاستيعاب الجيني، وإنما
سبيلها فقط مصادفة إعجازية.
أين يتركنا هذا كله؟ هل توجد أي كلياتٍ لغوية نحوية أو خاصة
ببناء اللغة تفي بالمعايير التي تُمكِّن التطور البالدويني من
التحقق؟ ماذا عن المبادئ الأكثر عمومية وشمولًا؟ ولنتأمل على
سبيل المثال التمييز بين المسند والمسند إليه؛ إذ لو أن أي
قسمة نحوية مطلقة سوف ترتبط بالتمييز على أساس عصبي، فإن هذا
هو ما يمكن أن يفعله بخصوص التحليل البنائي للجُمل عن التحليل
الدلالي وفقًا لصيغة من هذه الوظائف الافتراضية التكميلية، إنه
تمييز نحوي ضروري بغضِّ النظر عن اللغة ودون حاجةٍ إلى افتراضه،
مع إمكانية تحديد بعض الوظائف والفئات النحوية الأخرى. وجدير
بالذكر أن اللغات لكي تُفيد كوسائل للإشارة وللسيطرة والْتماس
معلومات إضافية (أن تكون لها وظيفة عملية أو افتراضية على نقيض
الاكتفاء بوظيفة الوسم، أي وضع العلامات) تحتاج إلى شيء
مُماثل لما نراه في اللغات الحديثة مطابقًا لهذا التمييز، وعلى
الرغم من أن مصطلحي المسند والمسند إليه لا يكشفان عن التنوع
الكامل لمِثل هذه الأدوار الوظيفية التكميلية والمكونات
الأسلوبية في اللغة، فإنه يُمكنهما الإفادة في تحديد هذه
الوظيفة الرمزية التي تُمثل القلب في الجميع.
إن أقدم المنظومات الرمزية كانت بالضرورة توليفية وكشفت عن
شيءٍ مثل بنية المشغل — المؤثر operator —
operand (وربما بنية المسند-المسند
إليه) منذ البدء؛ إذ إن هذا هو الحد الأدنى لشرط تحقيق
الانتقال من مرجعية الدليل الموضوعي إلى المرجعية الرمزية، أو
بعبارة أخرى: إن شكلًا ما للنحو وبناء اللغة كان يحوم وقتذاك
منذ فجر الاتصال الرمزي، ولم تكن هناك أبدًا لغة أولية
protolanguage مفتقرة إلى
ذلك مع امتلاكها لكلماتٍ أو ما يعادلها؛ إذ إن ذلك يفي بالشرط
الأول وهو الاتساق المُطَّرد عبر كل اللغات على مدى الزمان،
ولكن الوفاء بالثاني أشد صعوبة بكثير، هل العمليات النحوية
والبنائية للغة الداعمة لوظيفة المسند-المسند إليه التكميلية
اتبعت الأسلوب نفسه، واستخدمت منظومات المخ ذاتها، بغض النظر
عن الفوارق اللغوية؟ نرى في ضوء الثوابت الحسحركية أن من
المحتمَل عدم وجود قسَمة ثابتة في إشارة الكلام يمكن الاعتماد
عليها لوسم الاسم والعبارات الفعلية، ولا توجد كلمات كلية أو
أصوات كلية تَسِمُها، ولا حتى تجويد لضبط الأصوات موثوق به بناءً
على قاعدةٍ أو إطارٍ حاكم، ويُحدد عناصر الكلام التي يتعين
توافرها في كل من هذه الوحدات الوظيفية النحوية. وجدير بالذكر
أن نظرية التكوينات العميقة حشرت نفسها في ركنٍ تطوُّري، إن جاز
أن نقول ذلك حين أقرت بالاستقلال المنطقي للقسَمات الكلية عن
القسمات الظاهرية، وهنا نقول: إن تخلِّي شومسكي عن التفسيرات
الداروينية لمعرفة اللغة الفطرية هو أمر مُتَّسق على أقل تقدير،
إذن ماذا تبقى؟
تكيف اللغة
حدَّدنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب مطلبًا حسابيًّا
معرفيًّا غير مسبوق مقترنًا باللغة هو مقترن بشكلٍ عامٍّ وشامل
بجميع الأنشطة الرمزية؛ إذ كان مطلوبًا نوع غير عادي لحرف عمليات
التعلُّم العادية، لا لشيءٍ سوى تجاوز عتبة الذاكرة والانتباه
التي تمنع فئاتٍ من الارتباط القائمة على دليل موضوعي روتيني من
التسجيل ثانيةً في صورة منظوماتِ ترابُط رمزية. وطبيعي أن هذا
المطلب المعرفي الواحد سيُفضي إلى إضافة ضغطٍ انتخابي لا يتوقف
داخل مجتمع من البشر الأوائل اعتمدوا بشكلٍ روتيني على اتصال
رمزي أيًّا كان شكل هذا الاتصال الرمزي، وأوضحنا في الفصل
التاسع أن الحسابات العصبية الخاصة اللازمة للتغلب على هذه
العتبة المُتعلقة بالذاكرة-الانتباه تعتمد إلى حدٍّ كبير على
عملياتٍ تجري في قشرة مقدم الفص الجبهي، وهكذا فإن الحسابات
العصبية المُقترنة باكتساب الرمز كانت شرطًا لا مناصَ منه
بالنسبة لكلِّ سلوكٍ شِبه لغوي، وفرضت مطلبًا مهمًّا على عملية
معرفية متخلِّفة نسبيًّا، وكانت ثابتةً غير متغيرة عبر نطاقٍ واسع
من المُمارسات الحسحركية، واعتمدت على أساسٍ عصبي مشترك ونوعي في
جميع الأمخاخ، وهذه صيغة مطابقة بقوة لعملية الانتخاب
البالدويني.
هل سير العملية على هذا النحو كان لا بد أن يجعل منها لغة؟
ترى هل اللغة انبثقت في مرحلة تالية بعد أن ظهر هذا التحوُّل في
مناط التأكيد لأسبابٍ أخرى؟ أو بعبارة مغايرة: هل ثمة شريط
اجتماعي أو إيكولوجي آخَر هو الذي اختار هذا الانحياز التعلُّمي
المُحدد، ومن ثم هيأ السبيل للتعلُّم الرمزي؟ يمكن القول إلى حدٍّ
ما: إن انتخاب هذه الوظيفة المعرفية مُتضمنة في واقع أن قشرة
مقدم الفص الجبهي موجودة في جميع أمخاخ الثدييات ومتطورة جدًّا
بشكلٍ خاص في الرئيسات، ويوجَد عدد من السياقات السلوكية
والتعليمية التي تستلزم الحفاظ على الانتباه إزاء شيءٍ ما في
الذاكرة قصيرة المدى؛ بغية عمل شيءٍ مضادٍّ أو شيء تكميلي. إن
البحث عن مرعًى ومصدرٍ كالفاكهة مثال، ولكن توجَد بالمثل سياقات
اجتماعية كثيرة وثيقة الصِّلة بتعلُّم ارتباطاتٍ شرطية مُعقَّدة، بيد
أن هذه تتضمَّن على نحوٍ شبه يقيني استثناءاتٍ ثانوية من عالمٍ يمكن
أن ترتكِز فيه غالبية أحداث التكيُّف العارضة على أساس سياقٍ
مباشر، ومن ثم يتَّجه التعلُّم القائم على دليلٍ موضوعي إلى حجب هذه
الطُّرُز غير المباشرة، ولكن ليس وجود استراتيجياتٍ شرطية
للتعلم/محو التعلم هو الذي بحاجة إلى تفسير في حالة التطوُّر
البشري. إذ إن مثل هذه القدرة أمر جوهري بالنسبة لكثير من
السلوكيات المُعقدة عند الحيوانات، ولكن الشيء غير العادي
بالنسبة للبشر هو التحوُّل الجذري في الميزان بين الانتباه إلى
إمكاناتٍ لإعادة التسجيل من مرتبةٍ أعلى، ومن ثم محو التعلُّم من
حيث المقارنة مع عمليات التعلُّم الأكثر نمطيةً من المرتبة الأولى
التي هي أكثر ملاءمةً للغالبية الساحقة لحالات التكيُّف الطبيعية
بل الاجتماعية.
وما المطلب التكيُّفي الآخر الذي يمكن أن يُفسِّر مثل هذا
الاستعداد السابق المبالَغ فيه لأداء هذا النموذج للتعلُّم نادر
الحدوث؟ يوجد يقينًا القليل من النظائر التلقائية لمشكلة تعلُّم
الرمز في الطبيعة، نعرف أنه لكي تؤدي مجموعة من الأشياء دور
علامات الرمز يتعين أن تكون قابلةً لإعادة التسجيل وفق طريقة
موحدة ومتَّسقة، أو لِنقُلْ بعبارةٍ أخرى: إنها تكون بحاجة إلى
الاقتران بعضها ببعض في نمط يتطابق مع منظومةٍ منطقية مُغلقة،
وجدير بالذكر أن هذه التوافُقات العرضية للعلاقات بين الأشياء
تحدُث بشكلٍ عرضي نادرًا جدًّا أو بفعل قيود فيزيقية. وتعتبر
المعلومات المَبنية على دليلٍ موضوعي كافية للتكيُّف مع غالبية
العلاقات الاجتماعية المُعقدة ما دام أن أكثرها مُعتمِد على عمل
تقييمات موثوق بها لدرجةٍ عالية بشأن النزعات السلوكية للآخرين
التي يمكن استباقها بفضل أعراضٍ سلوكية دقيقة ومُحددة، ويبدو
واضحًا في واقع الأمر أن كلابنا الأليفة كثيرًا ما تقوم بدور
أكثر دقةً وقراءة نوازع المرء السلوكية بأفضل منَّا، وسبب ذلك
تحديدًا هو أن استعدادنا السابق جعلنا نعتمِد على كلمات الآخرين
وعلى تنبؤاتنا الخاصة الرشيدة، وحال دون إدراك الإشارات غير
المنطوقة. والخلاصة أنني أعتقد أن المرجعية الرمزية نفسها هي
الضغط الانتخابي الذي يُمكن تصوُّره لحدوث مثل هذا التحوُّل واسع
المدى للتأكيد على التعلُّم، ومن ثم لا بد أن استخدام الرمز ذاته
هو المُحرك الأول والأساسي لهيمنة مُقدم الفص الجبهي في المخ
خلال مسيرة تطوُّر أشباه الإنسان. معنى هذا أن اللغة أدَّت إلى
ظهور مخٍّ منحاز بقوة لاستخدام الطراز الوحيد للتعلُّم الترابُطي
الذي يُمثل ضرورةً حاسمة له.
وحالات تكيف اللغة لا تنتهي بالإدراك المعرفي للرمز؛ إذ هناك
ما يخصُّ اللغة أكثر من منطقها التمثيلي أو النحوي، كما أن هناك
صفاتٍ أخرى كثيرة تفي بالمعايير الخاضعة للاستيعاب الجيني، ولكن
ثمة حالات انتظام شاملة إدراكية وحركية وذاكرية غير مظاهر
الانتظام المنطقي الكلي، وتتضمَّن الكثير والكثير من صفات اللغة
والمُقترنة بالتكوينات الظاهرية من مثل الأساليب المُستخدَمة
لمطابقة مُتوالياتٍ صوتية مع العلاقات الرمزية والعمليات
المنطقية بين الرموز، وتلك اللازمة لاستخلاص المعلومات الرمزية
منها خلال الوقت المُحدَّد جدًّا الذي يسمح به فيض المعلومات
الكلامية، ويفرض الكلام مُتطلَّبات ثقيلة على استعمال هذه القسمات
العامة من خلال المنظومات السمعية والفمويَّة-الصوتية، ونعرف
أن اللغات الحديثة تعتمِد على إنتاج وتحليل عشرات «الفونيمات»
(أي الوحدات الصوتية المميزة أو الإشارات الصوتية) التي تُنتَج
بمعدلٍ يزيد على عشرة في الثانية من آلاف التوليفات المتمايزة،
والتي تتألف في صورة كلمات. والملاحظ أن هذا المعدل في الإنتاج
والتحليل يفوق أي إمكانيةٍ لعمل تحليل إدراكي أو حركات إنتاج
صوتي بمعدلِ واحدةٍ كل مرة، بطريقة فونيمة-فونيمة على التوالي،
وليس المطلوب فقط أن نكون مُتعلِّمين سريعِين وناطِقين مهَرَة، بل يجب
أيضًا أن نكون قادرين على التخلِّي أو التخفُّف من جزءٍ مُهم من
التحليل منخفض المستوى وإنتاج الكلام وفق منظوماتٍ آلية سهلة
بدرجة ملحوظة، وأن متطلبات الاستيعاب الجيني لاستراتيجيات
الدفاع من صيحات التحذير، مثلها مثل متطلَّبات التحليل والإنتاج
الكفء للكلام؛ إذ يتعيَّن أن تتوفَّر كل الصفات اللازمة، لكي يتم
استدخالها تدريجيًّا في أنماط البِنية المعمارية العصبية،
ومفهوم أيضًا توفر درجة من الاستيعاب الجيني لميكانيزمات نوعية
متخصِّصة وعلى مستوًى تنظيميٍّ عالٍ للتمييز بين الفونيمات.
ويفرض استخدم اللغة أيضًا متطلباتٍ حتمية على المنظومات
العصبية المشاركة على نحوٍ غير مباشر في إنتاج أو إدراك الكلام،
وأن كمية ونسبة المعلومات التي يجري عرضها أثناء الاتصال
اللساني، وشرط أن يتم بناء المرجعية الرمزية؛ بحيث تتألف من
رموزٍ كثيرة، كل هذا يُمثل متطلبات خاصة على الذاكرة قصيرة المدى
وعمليات الانتباه، مثال ذلك يبدو هناك شرط التجاور لتطبيق
القواعد بين الكلمات ولِوَسْم وتحديد علاقات خاصة بالعبارات التي
يمكن أن تعكس شروطًا ثابتةً خاصة بالذاكرة لمعالجة الكلام. وعلى
الرغم من إمكانية وجود — داخل جزء المسند في جملةٍ ما — فصل بين
أوجه فعلٍ مُركب (كما هو الحال في زمن الماضي التام في
الألمانية؛ حيث فعل «الكينونة» يتصدَّر العبارة الفعلية وتنتهي
بالماضي البعيد past
participle) لا نجد هناك على ما يبدو لغاتٍ
تُبدل العبارات الاسمية والفعلية وتمزج بين أجزائها، ونلحظ في
الغالب الأعم أن البنية التراتُبية للجُمل مشتقَّة من بناء وحدات
أرفع مستوى مأخوذة من أجزاء متجاورة، وهنا يكون بالإمكان
استخلاص قسمةٍ ثابتة خاصة بإشارة المدخل أو المخرج، ولكن ما
يُثير الاهتمام أن هذا الكلي تحديدًا له دور فعَّال بالنسبة
للضغوط الانتخابية التي يفرِضها التحليل الحسِّي والعمليات
الذاكرية على تطوُّر اللغة وليس العكس. وعلى الرغم من أن وضع
الجوار يفرض بعض الانحياز من حيث ما إذا كانت العناصر يتم
تحليلها كأجزاءٍ من وحدة نحوية أكبر فإنه لا يُوجَد اطِّراد ثابت
لبيان أي أنواع العمليات تحكمها قيود الجوار ولا أي العلامات
الواسمة تُشير إلى ما إذا كانت العناصر المجاورة على أساس
إدراكي قائمة أو غير قائمة داخل العبارة ذاتها، وقد يصِل الأمر،
وبسبب هذا الالتباس، إلى حدِّ أن اللغات تُطوِّر حتمًا فئة صغيرة
مغلقة من كلماتٍ واسِمة marker
word للإشارة إلى حدود العبارات.
وجُه آخر لتعلُّم اللغة اعتدنا أن نأخذه مأخذ التسليم وهو
القدرة على الاستعداد السابق لمحاكاة أصوات كلام الآخرين، ونحن
نعرف أن أنواعًا أخرى تحاكي سلوكيات الأبوين والأنداد إلا أن
قليلين ممَّن لديهم استعداد يُعادل استعداد أطفال البشر الذين
يدرجون أولى خطواتهم وقُدرتهم على محاكاة الكلام، وإن تطوُّر
الاستعدادات السابقة للتعلُّم يُمثل نتيجةً غير مباشرة وأكثر دقة
للعمليات البالدوينية، هذا على عكس القول بتطوُّر قدرات معيارية
متخصِّصة مثل تلك المشاركة في تحليل أصوات الكلام، إن استعدادًا
سابقًا لتعلم فئةٍ بذاتها من الترابطات أو لأن يُصغي باهتمام
أكبر لقسمات مُنبه بعينه أثناء التعلم، أو فقط مجرد انحياز في
الحفز تجاه مجالات تعلم محددة، كل هذا يمكن أن يُفضِّلها التطوُّر
انتخابيًّا، ولكن أيضًا وعلى عكس العمليات العصبية التي تتطابق
مع قوالب سلوكية أو إدراكية مُحددة، نجد أن اختلافاتٍ فيما يختصُّ
بالتعلُّم ربما تكون غير قابلةٍ للتمركز في موضع بذاته؛ لأن
التعلم يتأسس في النهاية على روابط وانحيازاتٍ بين منظومات
عصبية كثيرة ومنفصلة، ومع ذلك فإن استعدادًا سابقًا للتعلُّم قد
يتوفر نتيجةً للاستيعاب الجيني بموجب ظروف تكون فيها مُتطلبات
بشأن جوانب مُحددة للتعلُّم بمنزلة مُتطلب ثابت مع مرور الزمن،
وهنا أيضًا تكون الدوائر العصبية المشاركة غير مُتغيرة من فردٍ
إلى آخر؛ لذلك فإن أحد التحدِّيات التي تُواجهنا هو أن نُحاول فهم
كيف تتمثَّل في المخ انحيازات تعلُّم خاصة ومحددة.
ويمكن توضيح العلاقة بين تطوُّر الاستعدادات السابقة للتعلُّم
والاستعدادات السابقة للإدراك الحسي بالنظر في وجهٍ آخَرَ من أوجُهِ
صيحات التحذير عند قِردة الفيرفيت، إن مراقبة وتتبُّع صيحات
التحذير عند صغار الحيوانات تُعطينا دليلًا على مصدر الصفات
الحسِّية المُميزة للحيوانات المفترسة التي تحدَّدت سابقًا على نحوٍ
فطري في أمخاخ هذه القردة؛ إذ على الرغم من أن الصغار يبدءون
الحياة مُجهَّزين بقُدرة على إصدار صيحة إنذار، فإنهم في البداية
يبالِغون في تعميم صيحتهم المنذرة لتشمل جميع الحيوانات غير
المفترسة، مثال ذلك أنها أطلقت صيحات نذيرٍ خاصة بالنسور في
استجابة إلى اضطرابات مُروِّعة وقعت فوق رءوسها، وأطلقت صيحات
خاصة بالفهد استجابة لعديد من الاضطرابات المُخيفة وقعت عند
مستوى الأرض. معنى هذا أن القسمات المميزة للمُنبه التي تم
استيعابها جينيًّا بالكامل هي تلك المرتبطة بالاتجاه، وأن صغار
القردة بعد أن يكتمِل نضجها تكون قد تعلَّمت ربط هذه الاستجابات
بمجموعةٍ ثانوية أكثر محدودية بموضوعات التنبيه التي تختصُّ بهذه
السمات، وعلى الرغم من أن قسمات موضوعات صيحة التحذير جاهزة
سابقًا فطريًّا فإنها لم يتم استيعابها كاملةً في ميكانيزمات
عصبية، وما يزال يتعيَّن على التعلم تجاوز الهُوَّة بين ما تم
استدخاله وما لم يتم، ربما لأن تعدُّد الحيوانات المفترسة
المُحتملة يجعل الاستيعاب الجيني غير مرجَّح لأي مزيدٍ من المؤشرات
الدالة على حيوانٍ مفترس بعينه، ويمكن للمرء أن يتخيَّل أن التطوُّر
المُستقبلي لقِردة الفيرفيت ربما يُفضي إلى المزيد من الأنماط
الحسِّية المُحددة سابقًا بالكامل بشأن الحيوانات المفترسة إذا ما
ظلَّت الأنواع المحدودة نفسها هي المشاركة في الخطر دائمًا. هذا
على الرغم من أنه سيكون هناك دائمًا مستوًى ما من الاستيعاب
الجيني الذي لا يمكن للانتخاب تجاوزه بسبب الضغوط المتنافسة
والظروف المُتغيرة، بيد أن دور التعلُّم في اجتياز الهُوَّة بين
الخارج والداخل يخضع أيضًا لتأثيرات الاستيعاب الجيني، ومن ثم
إذا ما كانت هناك خاصيات مُميزة دائمًا لسياق التعلُّم بما في ذلك
خاصيات اجتماعية، فإن عملية التعلُّم التي تُهيئ صغار القردة
للاستجابة على أساسٍ انتخابيٍّ من بين هذه المنبهات يمكن أن
يُعززها تطوُّر انحيازات الانتباه والذاكرة.
وهكذا فإن القدرة على التعلُّم ليست وظيفة عامة بلا حدود أو
قيود يمكن تطبيقها على جميع المنبهات جميعها سواء، وانحيازات
التعلُّم هي في آنٍ سببٌ ونتيجة للتطوُّر البالدويني، وربما الثبات
الحسي والسلوكي بالنسبة لبعض أطر التكيُّف يمكن أن يكون مصدرًا
للاستيعاب الجيني لدعاماتٍ عصبية متوافقة مع القسمات الحاسمة
المُميزة لتلك الأطر، نجد أن القسمات الثابتة لإطار التعلم ذاته
قابلة أيضًا للاستيعاب الجيني؛ لذلك فإننا إلى جانب الاهتمام
بالتفكير في الخاصِيَّات الحسحركية غير المُتغيرة لاستخدام اللغة
يجب أن نضع في الاعتبار أيضًا إمكانية وجود ثوابت في سياق تعلُّم
اللغة تم استدخالها أثناء تطوُّر اللغة. ويتضمن هذا أيضًا، على
نحوٍ شِبه يقيني، انحيازاتٍ تكيفية مع ثوابت في السياق الاجتماعي
لنمو اللغة، وليس الأمر أن جميع أوجه تكيُّف لُغتنا هي إما مهيأة
فطريًّا سابقًا أو مكتسبة، إن بعضها مُحدَّد سابقًا وبقوة قبل
خبرة اللغة، وبعضها الآخر تفاعُلٌ واسع النطاق بين الانحيازات
الفطرية والخبرات، وبعض ثالث شِبه طليق لا تُقيده تمامًا
استعدادات بشرية سابقة. والفكرة هنا أن من الممكن التنبؤ بأي
جوانب التكيف في لُغتنا أكثر أو أقل قابليةً للاستيعاب الجيني
بفضل ما تُثبته من حالات الثبات، ومن ثم فإن الطابع الكلي ذاته
ليس مؤشرًا موثوقًا به؛ لبيان ما غرسه التطوُّر في المخ
البشري.
والخلاصة أن عددًا مُعينًا فقط من القسمات الكلية البنيوية
المميزة للُّغة هي التي تم استدخالها كجزءٍ من «غريزة اللغة»،
وتبيَّن أن هذه لم تكن تلك التي يرِد ذكرها كثيرًا جدًّا
باعتبارها قلب النحوِ الكلي، ولكن على العكس نجد أن أفضل
القسمات المُرشحة للتكيف الفطري للغة هي بعض الخاصيات البنيوية
الأكثر عموميةً لوسط اللغة الأولية ذاتها — أي الكلام —
والمُتطلَّبات الحسابية التي فرضها هذا الوسط عندما تحوَّلت إلى
تحليلٍ رمزي. وأيًّا كانت الاستعدادات السابقة للتعلُّم هي
المسئولة عن السهولة البشرية غير المسبوقة مع اللغة، فإنها
بشكلٍ خاصٍّ لا يمكنها الاعتماد على معلوماتٍ رمزية فطرية، إذ لا
يمكن للتطور أن يغرس في الداخل لا قواعد فطرية ولا مبادئ عامة
فطرية ولا تصنيفات رمزية فطرية، ولا شك أن ثمَّة عددًا من
الوظائف اللسانية تعتمِد أكثر من غيرها على التخصُّصات التطورية
لمناطق مُعينة في المخ، وهي أكثر قابليةً من غيرها للاستيعاب
الجيني، بيد أن الشواهد تُشير إلى أن المنطق العميق للقواعد
النحوية يفتقِد الخصائص الثابتة التي يمكن أن تُهيئه لكي يكون
موضوعًا للانتخاب الطبيعي، ويتعيَّن علينا هنا أن نخلُص إلى نتيجةٍ
وهي أن عددًا قليلًا — هذا إن وُجِد — من أوجه المنطق النحوي
العميق للغة هو الذي أصبح جزءًا مدمجًا من العتاد وقد غرسه
الانتخاب الطبيعي استجابةً لمُتطلبات استخدام اللغة، وأن التجرُّد
ذاته من التطبيق الظاهري للصرف وبناء الجُمل الذي يزوِّد النحو
بقوته التوليدية هو أيضًا الذي يحميه من أن يصِله الانتخاب
الطبيعي، وإن طبيعة المرجعية الرمزية التي لا تقتضي تلازم
الارتباط noncorrelative قد
فصلت اللغة عن القُوَى التي تشكل التطور البيولوجي، وأنها
بدلًا من ذلك نقلت عبء التكيُّف إلى مستوًى جديد لنقل المعلومات؛
ومن ثم، وتوسُّعًا في حُجَّتِنا في الفصل الرابع، نقول: إن التطور
المشترك للُّغات بالنسبة للانحيازات العصبية «النيورولوجية»
البشرية يمكن ألا تكون فقط مصدرًا مقبولًا عقلًا لكلياتٍ
استثنائية للنحوِ دائمًا، يمكن أن تكون المصدر الوحيد المقبول
عقلًا.
والتوسُّع المُثير للانتباه للمخ الذي حدث خلال التطور البشري،
وأدَّى على نحوٍ غير مباشر إلى توسع مقدم الفص الجبهي، لم يكن هو
سبب اللغة الرمزية، بل نتيجة لها. وأثبتت التجارب التي أُجريت
على قِرَدة الشمبانزي في ظل ظروف تدرب مثالية أنها قادرة على
تعلُّم استخدام منظومة رموز بسيطة، وهكذا، ليس من المُتصوَّر أن
الخطوة الأولى لاجتياز العتبة الرمزية قد بدأها قِرد جنوبي شبيه
بالإنسان australopithecine
يتمتع بقدراتٍ معرفية بدائية غير مصقولة مثل الشمبانزي الحديث،
وأنه بقدراته هذه استهل تاريخًا معقدًا من الصعود والنزول على
درجات الزمن إلى أن تم انتخاب استخدام الرمز من أجل هيمنةٍ أكبر
لمقدم الفص الجبهي وقدرات سمعية ونُطقية أكثر إحكامًا، وربما
أدَّى ذلك أيضًا إلى سلسلةٍ من قدرات أخرى مساعدة واستعدادات
سابقة أولية يسَّرت استخدام واكتساب هذه الأداة الجديدة للاتصال
والفكر. إن كل تغيُّر مستوعَب مكَّن حتى منظومات الرمز الأكثر
تعقدًا من أن يتم اكتسابها واستخدامها؛ ثم انتخابها لتحقيق
مزيدٍ من هيمنة مُقدم الفص الجبهي، وهكذا دواليك، أو بعبارة
أخرى: إن المُتطلبات الحسابية للترميز ليست فقط المصدر الرئيسي
للضغوط الانتخابية التي أنتجت على الأرجح إعادة بناء أمخاخِنا
بشكلٍ خاص مُميز، بل إنها أيضًا المصدر غير المباشر للضغوط
الانتخابية التي استهلَّت ودفعت التطوُّر المُمتدَّ لسلسلة كاملة من
القدرات والنزعات التي تؤلِّف الآن «غريزة» لُغتنا.
الإنسان الرامز Homo
Symbolicus
يزودنا تحليل تنظيم ووظيفة المخ في العصر الحديث بكمٍّ وافر من
المعلومات عن الفارق بين البشري/غير البشري فيما يختص بموضوع
اللغة، ولكنه، على الرغم من ذلك يترك مسائل مفتوحة تتعلَّق
بالانتقال التطوُّري من الاتصال غير اللغوي إلى الاتصال اللغوي،
بيد أنه يُهيئ لنا بعضًا من الأدوات الجديدة لدراسة هذه المسائل
القديمة عن أصول نشأة اللغة، متى ظهر لأول مرةٍ اتصال شبه لغوي؟
أي نوع من الإنسان الأول الهومينيد
hominid كان أول من
استخدَمه؟ كيف كان شكلُها؟ هل تعَقُّدُ الكلام واللغة تَطَوَّرَا معًا
دفعةً واحدة أو على مراحل بالتدريج؟ ليست لدَينا سوى بيِّنات
قليلة لدعم أيٍّ من هذه الموضوعات سوى الإجابات العامة على هذه
الأسئلة؛ بيد أن الرباط بين بِنية المخ، وتعلُّم الرمز يفيدنا
بعددٍ من القيود المهمة التي يمكن أن تهدي تأمُّلاتنا فيما يتعلَّق
بهذه المرحلة الحاسمة في تاريخنا خلال فترة ما قبل التاريخ،
والتي يمكن أن تُسهم في وضع تطور اللغة على مسارٍ زمني تحدده
مصادر أخرى أكثر صرامة تشتمل على شواهد عن حفريات أسلافنا
الأُوَل.
وليسمح لنا القارئ، لأهداف إجرائية كاشفة، أن نبتدِع تصميمًا
لنوع جديد: الإنسان الرامز Homo
Symbolicus، ينبني هذا الاسم على خاصية
واحدة تنطبق على جميع مُستخدمي الرمز من أشباه الإنسان الأول،
ونرى أن أول ظهورٍ لهذا النوع يتوافق مع أول أشباه البشَر الذين
اعتادوا استخدام الاتصال الرمزي، ومن ثم فإنه يُشير إلى نوعٍ
افتراضي، وليس نوعًا جينيًّا؛ لأنَّه مؤسس على شيءٍ آخر غير
القسمات الجينية والشكلية فقط، وتتحدَّد أعضاؤه من خلال ميراثٍ
مزدوج. معنى هذا أن التصميم المُفترَض يبدو أشبه بتمرينٍ يؤكد
أخطار استخدام الخصائص السلوكية أساسًا للتصنيف؛ لأنها عرضة
للتأثر بسهولةٍ شديدة لنظرة التوازي والتلاقي حتى تُفيد في تتبُّع
المسار التاريخي للعلاقات.
بيد أنني لا أقترح ذلك كممارسةٍ مصطلحية عبثية؛ نعرف أن
الأنواع البيولوجية تحددت تأسيسًا على قُدرتها على التكاثر من
خلال ذريةٍ قادرة على الحياة، بمعنى أن تنبع جيناتها من مصدرها
الذي تُسهم فيه كوعاءٍ أو مجمع جيني مغلق ومشترك، وهذا المعيار
الجيني له نظير دلالي واضح. إذ إن جميع الهومينيدات
hominids (القِرَدة
العُليا) المُستخدِمة للرمز مُرتبطة عبر مجمع جيني من المعلومات
الرمزية؛ بحيث إنه غير نافذ لأي أنواع أخرى إلا للجينات
البشرية، ونحن جميعًا ورثة أشكال رمزية انتقلت من جيلٍ إلى جيلٍ
ومن جماعةٍ إلى أخرى؛ بحيث تشكل تراثًا فريدًا متصلًا غير
مُتقطِّع، ونحن نستمدُّ كل «خصائصنا» الرمزية من هذا المجمع الجيني
المشترك ونُسهم في انتشاره، وحيث إن هذه الخاصية جزءٌ من هذه
السلالة المعلوماتية الرمزية من نواحٍ كثيرة، فهي خاصية أقدر
على تشخيص «الطبيعة البشرية» من أي خاصية طبيعية أخرى، وتحدَّدت
التواريخ العرقية التطوُّرية تأسيسًا على وراثة المعلومات، ولكن
ليست جميع المعلومات التي تُحدد الخصائص المميزة للنوع مُشفرة في
الجينات؛ لذلك بقدْر ما توجَد أشكال من نقل المعلومات مُستقلة
جزئيًّا تُعتبر حاسمة لتحديد خصائص النوع، فإنها أيضًا يمكن أن
تُحدد علاقات النسَب المُستقلة المحتمَلة، وبناءً على ذلك يمكن أن
نطلق على «هومو سمبليكوس» الإنسان الرامز مُصطلح النوع العاقل
noo-species؛ حيث كلمة نو
noo تعني في اللغة
اليونانية القديمة العقل، وذلك تمييزًا له عن التسمية
البيولوجية zoo-species، النوع
الحيواني، بيد أن هذا لا ينفي عنه التصنيف البيولوجي؛ إذ بدون
وضع هذا التسلسُل السلالي في الاعتبار، فإن أهم قسمةٍ فسيولوجية
مميزة للنوع البشري وهي المخ الفريد فيما طرأ عليه من تعديلات،
سوف تفتقِر إلى تفسيرٍ تطوري.
وحريٌّ أن نوضِّح أن تاريخ التطور العرقي للإنسان الرامز
Homo Symbolicus يمكن أن
يتقاطع مع حفرياتٍ لتواريخ عرقية من نواحٍ أكثر عمقًا من مجرد
سلسلةٍ صاعدة لأسلاف النوع، وثمة عدد من الأنواع البدائية
القديمة paleospecies يمكن أن
تكون مدرجةً بالكامل داخل هذا النوع العاقل الأعلى مرتبة، بينما
انقسمت أخرى إلى فروع؛ حيث يضمُّ نوعٌ بعض أفرادها، بينما استبعد
أخرى، كذلك ولأن الاتصال الرمزي يمكن أن يكون قائمًا بدون
مُتلازمات نوعية specific
correlates بيولوجية، فإننا لا نتوقَّع أن
يتوافق ظهوره لأول مرة مع أيٍّ من حفريات أنواع المراحل
الانتقالية، ولهذا ليس لنا أن نعتمِد على العلامات البيولوجية
لتحديد أعضاء هذا النوع العاقل، ولكن مع هذا، توجَد متلازمات
بيولوجية واضحة مع الاتصال الرمزي طويل المدى نتجت بفضل
انتخابه على أساس خصائص المخ، نخصُّ بالذكر منها حجم المخ
والتغيرات المتلازمة فيما يتعلق بالتنظيم الباطني وهو حاسم
جدًّا للتعلُّم الرمزي، وتبدو هذه النتائج واضحةً في حفريات
الجماجم، وهذه لا تدعنا نزعم بأن نوعًا ما يفتقر إلى القدرات
الرمزية، بل يُمكن استخدامها لتحديد ما إذا كانت الأنشطة
الرمزية موجودةً لفترة من الزمن، وكانت لها ضغوطها الانتخابية
على تنظيم المخ، ويمكن أن يُبيِّن لنا هذا أي الأنواع يُمكن أن
تندرج ضمن الإنسان الرامز، وليس ما استُبعِد منها. وعلى الرغم من
أن حجم أمخاخ حفريات «الهومينيدات» أي القِرَدة العُليا تزوِّدنا
فقط بمعلوماتٍ ضبابية عن هذا العضو الأشد تعقدًا، ومن ثم يتعين
ألا نُبالغ في تفسيرها، فإنها تزوِّدنا بدليل كافٍ للإجابة على
سؤالٍ أعمَّ وهو: هل كان الاتصال شِبه اللغوي موجودًا في حفرية نوع
بذاته؟
ولكن، ألا توجَد قسمات تشريحية مميزة في الأمخاخ المؤهلة
للغة؟ وماذا عن تطوُّر مناطق اللغة في المخ؟ هل بوسعنا أن نُحدد
في حفريات الأنواع مظهر المناطق المُخصصة للغة في المخ إذا ما
استطعنا فعليًّا أن نتبيَّن حقيقة شكل أمخاخها؟ من الممكن في
الحقيقة التوصل إلى فكرة معقولة عن المظهر الخارجي لأمخاخ
حفريات القِرَدة العُليا، وحدث أن علماء أعصاب الحيوانات في
العصور القديمة
paleoneurolygist عقدوا
الأمل منذ زمنٍ طويل في أن أنماط النتوءات والشقوق التي تظهر
واضحة على سطح باطن قوالب الجماجم
٥ يمكن أن تزوِّدنا بدليل عن أصول نشأة اللغة، ونذكُر
هنا فيليب طوبياس ودين فولك؛
٦ إذ استخلص كلٌّ منهما نتيجةً مفادها أن الأنماط
الظاهرة في باطن قوالب جماجم الهومو هابيليس
homo habilis ربما تعكس
وجود قدرات لغوية،
٧ ويدفعان على نحوٍ أكثر تحديدًا أن مخَّ نسْلٍ من الهومو
هابيليس
habilise يكشف عن وجود
أنماطٍ لأخاديدَ مميزة تُحدد موقع منطقة بروكا في الأمخاخ الحديثة
(أخدودان صاعدان في الفص الجبهي من عند طرف شقِّ سيلفيان)، ويمكن
أن نتبيَّن هذه الثنيات عند أسفل يسار الفص الجبهي في باطن قوالب
أمخاخ الهومو هابيليس، ولكنها غير موجودة في باطن قوالب أمخاخ
الإنسان الأول الجنوبي
australopithecine. ترى هل
يُشير هذا إلى أول ظهور أو أول تضخم خاص لمنطقة فريدة وحاسمة
للغة؟
وعلى الرغم من أن منطقة بروكا هي حقًّا منطقة لغة، ومهمة
للكلام لدى الغالبية العُظمَى من البشر، فإن هذه العلامات
السطحية ذات صِلة على نحوٍ عرضي فقط، إن مناطق اللغة ليست مجرد
مستودعات مهارة ومعرفة لسانية كما كان يظن البعض سابقًا، وعلى
الرغم من أن إصابة القشرة قرب هذا الموقع اقترنت كلاسيكيًّا
بحبسة بروكا فإن هذا تلازُمٌ مُتغير حتى في الأمخاخ الحديثة، هذا
— وكما شاهدنا في السابق — علاوة على أن توزيع الوظائف
والفوارق الفردية والاختلاف بين اللغات في تأثيرات مرض الحبسة
لا يدعم القول بأي تمركز بسيط لوظائف اللغة في هذه المنطقة
الجبهية — البطينية في المخ. والأهم من ذلك أن البراهين
القائمة على أساس المقارنة تؤكِّد وجود مناطق مقابلة لهذه في
المخ لدى الرئيسات الأخرى، فضلًا عن أن شواهد النمو تجعل من
الافتراضات، بشأن حدوث إضافاتٍ أو توسُّعات مُتمركزة في مواقع
بعينها، أمورًا غير مقبولة. ونقول ما قاله علماء أعصاب أحياء
العصور القديمة من أن ظهور ثنيات إضافية في هذه المنطقة ربما
حدث كنتيجةٍ حتمية مُلازِمة للتوسُّع الشامل لكلِّ حجم المخ.
٨
وطبيعي أن وجود أو غياب مناطق مفترضة مُخصصة للغة ليس هو
العامل الحاسم، إنها لا تُمثل ما هو غير ميسور لدى الأنواع
الأخرى. وعلى الرغم من أن مثل هذه التفاصيل السطحية ليست زاخرةً
بالمعلومات عن إعادة تنظيم المخ فإن التغيرات الواضحة دون
الْتباس والأشمل بالنسبة للحجم النسبي للمخ يُمكن أن تُيسِّر لنا
دليلًا أكثر تحديدًا عن إعادة التنظيم، وهذا لأن الفارق الحاسم
ليس إضافة تكوينٍ ما جوهريًّا في المخ، بل التعديل الكمي
للعلاقات داخل المخ في مجموعِه، خاصةً الإسهام النسبي لقشرة
مقدم الفص الجبهي.
وأشار تحليل النمو إلى أن عمليات تنافسية أثناء النمو هي
التي حددت الحجم النسبي لمقدم الفص الجبهي، وأن هذه العمليات
اشتملت على تفاعلاتٍ تلاقت بين مناطق بعيدة بعضها عن بعض في
المخ. ونعرف أن الانحياز لصالح دوائر مقدم الفص الجبهي في
الأمخاخ الحديثة هو دالة على تفاوت النِّسَب بين قشرة المخ في
حالة النمو وبين تكوينات أخرى في المخ وتكوينات عصبية طرفية؛
لذلك فإنه بعد أن أصبحت قشرة المخ أضخم من حيث النسبة والتناسب
أثناء تطور «الهومينيد» القِرَدة العُليا، فإن المنظومات
القائمة بالتوصيل التي تُحدد قشرة مقدم الفص الجبهي شحذت جزءًا
أكبر من الأهداف المُحتمَلة. معنى هذا أن العلاقة بين مخ
«الهومينيد» أي القِرَدة العُليا وحجم الجسم في حفريات النوع
يمكن استخدامها كمؤشِّرٍ على درجة هيمنة مُقدم الفص الجبهي في هذه
الأمخاخ، ونلحظ أن شروط النمو المفروضة على أبعاد مقاييس بنية
المخ تزودنا بوسيلة للتنبؤ على نحو واضح ودون لبس بتفاصيل لا
حصر لها عن التنظيم التشريحي العصبي من خلال قسمة يمكن تقديرها
بسهولة، ويمكن التمييز بينها في الحفريات: حجم المخ بالنسبة
إلى حجم الجسم، وهكذا لم نعُد بعدُ في ظلام بشأن ما كان في داخل
أمخاخ حفريات أسلافنا.
والاتجاهات الرئيسية في سجل حفريات حجم المخ واضحة (انظر شكل
١١-٢)، زاد حجم مخ «الهومينيد» —
القِرَدة العُليا — عن ثلاثة أمثال متوسط القِرَدة العُليا
التي كانت تُماثل أمخاخ أسلافنا من الإنسان الأول الجنوبي، ونجد
خلافًا بسيطًا بين علماء أشكال الحياة في العصور القديمة
paleoontologist؛ إذ قيل:
إن أمخاخ الهومينيد بدأت في التضخُّم لأول مرةٍ وبنسبة كبيرة
بالمقارنة بحجم الجسم منذ ما يقرُب من ٢ مليون سنة مضت مع ظهور
النوع القديم
paleospecies
الموسوم باسم هومو هابيليس، وتبلغ هذه الزيادة في سلالة
الهابيليس حوالي ١٥٠ بالمائة أكثر من تقديرات الإنسان الأول
الجنوبي، وتراوحت الزيادة على نحوٍ تقريبي من ٥٠٠ إلى ٦٥٠ سم٢،
ولم تكن عملية الانتقال بسيطة بهذا الشكل؛ ذلك لأن أي زيادة في
القامة تجعل الزيادة الصافية أقل إلى حدٍّ ما، وأيضًا بسبب أن
سلسلةً كبيرة من أحجام المخ بين عينات الحفريات تم تصنيفها
باعتبارها هومو هابيليس، وحدثت الزيادة التالية في سعة المخ
على نحوٍ تراكمي إلى أن قارب الاتساع الراهن، ولكن حفريات
الهومو إريكتوس التي يرجع تاريخها إلى ١٫٨ مليون سنة مضت
وحتى ٣٥٠٠٠٠ سنة، فإنها تتداخل مع النهاية الأخيرة للهومو
هابيليس والنهاية الأخيرة لأحجام مخ الهومو سابينس الحديث؛ أي
من حوالي ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ سم٢، وعلى الرغم من أن من المقبول عقلًا
أن نرى هذه التحوُّلات باعتبارها عامة وشاملة بين
النوع،
٩ فإن من الواضح أنه توجد أيضًا اتجاهات بشأن حجم
المخ داخل سلالتي الأريكتوس والسابينس، زيادة طفيفة على مر
الزمن بالنسبة للأريكتوس وزيادة طفيفة خلال الأزمنة الحديثة
للسابينس، وأخيرًا الاستقرار عند حوالي ١٣٥٠ سم٢ (شكل
١١-٢).
ونستطيع أن نتنبأ في ضوء هذه الاتجاهات بوجود اتجاهٍ ملازم
لتكوينات المخ الباطنية: زيادة هيمنة مقدم الفص الجبهي، مع
تحول مقابل في الاستعدادات السابقة للتعلُّم، وليس من سبيل للشكِّ
في أن مثل هذا الاتجاه الجامد والمُطَّرد في تطوُّر بِنية المخ
إنما يعكس قوى الانتخاب الطبيعي المؤثرة في وظائف المخ
الرئيسية، وكم هو عسير القول بالتلازُم بين هذه التغيرات
الواضحة في بِنية المخ البشري ونمو جهاز بشري فريد للرموز. ونرى
لهذا السبب أن الزيادة في حجم المخ خلال تطور الهومينيد إنما
هو سجل مُهم وكاشف عن أمرَين: السهولة النسبية التي أمكن بها
اكتساب الرموز بالنسبة لحفرية نوعٍ مُعين، وأيضًا التأثيرات
السابقة التي أثر بها الانتخاب على هذه القدرة.
شكل
١١-٢: التغير في حجم الجسم
(
A) وحجم
المخ (
B)
في حفريات الهومينيد أو القِرَدة العُليا
منذ ٣ ملايين سنة مضت إلى الآن، التواريخ
وأحجام المخ مصدرها تقديرات منشورة، وعلى
الرغم من أن البيانات مأخوذة من مصادر غير
متجانسة بحيث يُمكن أن تتضمن انحيازات
مختلفة، فإنها تزوِّدنا بدليلٍ مرسوم
بيانيًّا يوضح الزيادة الكبيرة والمثيرة
في حجم المخ أثناء فترة ثباتٍ نسبي في حجم
المخ، الخطوط المتقطعة تشير إلى تقديرات
الإنسان الحديث، وتُشير الأحرف تقريبيًا
فقط إلى أي النقط من أي الأنواع:
(A) =
الإنسان الأول الجنوبي (جميع الفئات)؛
H.h. =
هومو هابيليس؛
H.e. =
هومو أريكتوس؛
H.s. =
هومو سابينس.
وعلى الرغم من أن تطور غالبية الخصائص في غالبية الأنواع
يمكن تفسيره تأسيسًا على الداروينية، فإن محاولة تطبيق هذا
النموذج على القسمات الرئيسية للتطوُّر البشري يمكن أن تتسبَّب في
نوع من التشوش بشأن السبب والنتيجة، وتفيد الحجج سالفة الذكر
أن تطور السلوك البشري والمخ البشري بخاصة يمكن فقط تفسيرهما
بصورةٍ وافية على أساس العمليات التطورية البالدوينية،
١٠ ونقول بوجهٍ عام: إن حالات التكيف السلوكي أمْيَل إلى
أن تسبق وتُحدد شروط التحولات البيولوجية الرئيسية الواضحة في
التطور البشري؛ لأنها أيْسر كثيرًا وأسرع في الاستجابة من
التحولات الجينية والمورفولوجية أي التشكُّل، ولكن ما إن ينتشر
سلوك نافع وسط تجمُّع ما ويصبح عظيم الشأن للبقاء على الحياة حتى
يولِّد ضغوطًا انتخابية على الخصائص الجينية الداعمة لانتشاره.
ونلحظ أن حالات التكيُّف السلوكي للهومينيدات أكثر من أي مجموعةٍ
من الأنواع الأخرى، هي التي حدَّدت مسار تطوُّرها المادي، وليس
العكس، وأن الأدوات الحجرية والرمزية التي تم اكتسابها في
البداية بمساعدة قدرات التعلُّم المرِنة لدى القِرَدة العُليا هي
التي قلبت الوضع رأسًا على عقب بالنسبة لمُستخدِميها، وأجبرتهم
على التكيُّف لموطنٍ ملائم جديد تهيأ لهم بفضل هذه التكنولوجيات.
وحريٌّ أن نُدرك أنَّ هذه الإضافات السلوكية التكميلية للحصول على
الطعام وتنظيم السلوكيات الاجتماعية أصبحت عناصر لا غِنى عنها
ضمن مُركَّب تكيُّفي جديد، ولم يقتصر الأمر بالنسبة لها على كونها
مجرد حِيَلٍ نافعة. إن أصل نشأة الطبيعة البشرية
humanness يمكن تحديده
بأنه تلك النقطة في مسيرة تطوُّرنا التي أصبحت عندها هذه الأدوات
المصدر الرئيسي للانتخاب بالنسبة لأبداننا وأمخاخنا، وهذه هي
الخاصية التشخيصية للهومو سيمبوليكوس؛ أي الإنسان
الرامز.
وواضح أن التفكير في موضوع التطور البشري في ضوء هذا الاتجاه
يتعارض مع بعض التحيُّزات الأساسية في تفكيرنا عن الأسباب
والنتائج، إن قدرات التعلُّم والمرونة السلوكية بوجهٍ عامٍّ تُعقِّد
تحليل الأسباب والنتائج، في التطوُّر؛ لأنها تفكُّ الرابطة بين
البنية والوظيفة. وهذا من شأنه أن يُغير كثيرًا من معدل واتجاه
النوازع التطورية، سواء بسبب عزل حالات التكيُّف القديمة عن نفوذ
الضغوط الانتخابية الجديدة، وكذا بسبب العمل كجسرٍ يصل بين
استجاباتٍ تكيفية مختلفة جذريًّا. ولكن نظريات كثيرة تحاول
تفسير التكيفات السلوكية ما تزال تفترض ضمنًا علاقة تلازُم أكثر
صلابةً بين البنية والوظيفة؛ أي إن ثمة فارقًا في التكيف
السلوكي يتعين أن نبنِيَه على تعديلٍ ما تطوري سابق في المخ،
ويتجلَّى هذا بوضوح في افتراضات عن بداية استعمال الأدوات واللغة
وتوسع المخ في مسيرة تطور «الهومينيد»؛ القِرَدة
العُليا.
ويتفق غالبية العلماء على أن أول زيادة مهمة في حجم المخ سوف
تُشير إلى نشأة الجنس البشري homo
genus؛ نظرًا لأن هذه الخاصية هي السمة
المُميزة لنوعنا، وإن أول المهام المقبولة على نطاقٍ واسع التي
كشفت لدى أقدم «الهومينيدات» (القِرَدة العُليا) عن تضخُّمٍ ذي بال
في أمخاخ الهومو هابيليس تعكس هذه الحكمة المُتفق عليها، وليس
مصادفةً أن هذه المرحلة الزمنية تميَّزت أيضًا ببدايات تسجيل
الأداة الحجرية؛ إذ تظهر أول أداة قطعٍ حجرية في السجلَّات
الحفرية خلال الفترة ما بين ٢ و٢٫٥ مليون سنة مضت، وتم صنع هذه
الأدوات عن طريق ضرب قطعة حجَر بحجر آخر بضع ضرباتٍ قوية لعمل
طرفٍ حاد قاطع وإن لم يكن مصقولًا، ويجري الاستخدام عن طريق
إمساك القطعة بأحد اليدَين لقطع اللحم وكسر العظم لأخذ النخاع،
وثمة افتراضٌ عامٌّ بأن أول الأدوات صنعتها هذه «الهومينيدات»
(القِرَدة العُليا)، وهي أول من كانت له أمخاخ أكبر حجمًا، ويجري
عادةً استخدام هذَين المسارين من الشواهد في التفسير للبرهنة
على أن زيادة الذكاء هي التي جعلت هذا النوع من التكيُّف مُمكنًا،
وعلى الرغم من أن هذا الرأي — فيما يبدو — يقدم تفسيرًا واضحًا
لمِثل هذا الترابُط، فإن الترابُط المشار إليه ليس بالوضوح الذي
يبدو عليه؛ ذلك أننا حين نشرع في دراسة وفحص بعض التفاصيل غير
المحسومة بشأن هذا الانتقال، نبدأ في كشف بعض جوانب الضعف في
الافتراضات التي انبنت عليها هذه النظرة.
أولًا: نشهد سجالًا مُهمًّا بشأن الارتباطات بين حفريات نوع
بذاته والأدوات الحجرية التي تعود إلى هذه الفترة الزمنية،
وينشأ بعضه بسبب صعوبة اكتشاف رابطةٍ واضحة بين بقايا الجماجم
وأقدم الأدوات الحجرية. ثانيًا: ثمة حالة من السيولة عند تحديد
حفرية النوع من هذه الفترة وارتباطاتها بسلالاتٍ أقدم وتالية من
الهومينيد، وهذا بدوره انعكاس للطبيعة المتجزِّئة للدليل، ولكنه
أيضًا نتيجة للتنوُّع الواضح للأشكال المتزامِنة. ونجد أمامنا ما
بين نظرتَين أو ثلاثٍ؛ اعتمادًا على مَن هو الخبير الذي نستشيره،
هي النظرات المرشحة للمعرفة السلف «الحقيقي» لسلالة الهومو
أريكتوس، خاصةً أن كلًّا منها تتضمَّن سماتٍ يمكن تفسيرها على
أنها سلفية لسِماتٍ فرعية موجودة في الهومو أريكتوس، ونجد من بين
هذه السمات انخفاض الأسنان، وتراجع الفك، وبِنية الوجه وزيادة
الحجم النِّسبي للمخ، وتغيُّرات في الوضع المتقابل للإبهام
والأصابع، وهكذا … إلخ.
وإن مسألة تحديد ماهية أول من صنعوا الأدوات ليست مجرد إثبات
علاقة مشتركة بين نوع ومصنوع؛ إذ ليس مطلوبًا ربط حالات التكيُّف
السلوكي وحدَها وعلى نحوٍ فريد بنوعٍ واحد أو سلالة واحدة، وحيث
إن صناعة الأدلة واستخدامها هي من مظاهر التكيُّف السلوكي، فإننا
ربما لا نعثُر حتى على أي قسمات بيولوجية تُمايِز حفريات أول
صانعي الأدوات عن أولئك الذين لم يصنعوها ومن ثم لم يستخدموها.
وإن صناعة الأدوات الحجرية ليست سمةً بدنية مثل الوضع التقابُلي
للإبهام أو الأنياب الصغيرة، إنها لا تنتقل وراثيًّا، وإنما هي
مهارة مُكتسبة بالتعلُّم تنتقل من فردٍ إلى آخر. ونتيجةً لذلك ليس
مُستحيلًا أن نوعًا واحدًا يمكن أن يعيش في ظروفٍ معينة، و«يرث»
تكيفًا سلوكيًّا استخدمه آخر في السابق، ولا يرثه جينيًّا بل
سلوكيًّا، ويعرض التاريخ البشري دليلًا وافيًا ووافرًا عن
قابلية الفصل بين التقاليد الموروثة اجتماعيًّا وبين الأنساب
البيولوجية، وواضح أن مظاهر التكيُّف السلوكية المكتسبة انتقلت
مرارًا من تجمُّع إلى آخر سواء نتيجة استعادة مصنوعات مهجورة أو
المحاكاة المباشرة.
وقد يحدث أن ينقرض فيما بعد أول تجمع «اكتشف» شكلًا من أشكال
التكيف، ولكن تبقى من بعدِه السلوكيات التي تكيفت مع تجمُّع آخر
غير الذي أنشأها، ونرى في الحقيقة أن حيواناتٍ كثيرة تم تعليمها
صناعة واستخدام أدواتٍ بشرية بما في ذلك الأدوات
الحجرية.
١١
ونظرًا للتفاعُلات المحدودة بين الأنواع المُنفصلة، فإن من
المُحتمل أن يكون من النادر إلى أقصى حد انتقال حالات التكيُّف
السلوكي للحيوانات حتى إلى ما يتجاوز سلالة وحيدة، ولكن
الاستمرارية الجينية ليست واردةً ضمن ذلك، بيد أن حواجز الأنواع
دون نقل المعلومات ليست مطلقة، كما أنه في حالة المصنوعات
اليدوية من مثل الأدوات الحجرية التي يمكن أن تبقى مدةً زمنية
أطول أي استخدام نوعي، ويمكن استعادتها وفحصها مستقلة عن
استخدام الآخرين لها؛ بحيث يمكن أن تتهيأ فرص كثيرة لنقل
المعلومات. وطبيعي أن انتقال الأدوات يمكن أن تساعد عليه
الحياة داخل مناطق السافانا المفتوحة؛ حيث تُسهم سهولة الرؤية
والحركية الجماعية في زيادة احتمال التفاعلات فيما بين
الجماعات. وعلى الرغم من أنني أطرح هذه كاحتمالية أكثر منها
فرض جاد، فإنه ليس من اليسير رفضها باعتبارها غير ذات
صلة، وليس بوسعِنا أن نفترض أن جميع مُستخدمي الأداة كانوا
أسلافًا لنا، وحريٌّ أن نذكر أن علماء أشكال الحياة في العصور
القديمة أشاروا إلى أن الإنسان الأول الجنوبي في فترة لاحِقة
تمتَّع بيدَين مدربتَين جيدًا على الاستخدام البسيط للأدوات؛ حيث
كانت أطراف إصبع البنان عريضة وإبهامان أكثر تقابلًا مما كانت
عليه عند أسلافهم.
وليسمح لنا القارئ — بعد وضع هذا التوضيح في الحسبان — أن
نُعيد التفكير في الأصول الحفرية لزيادة حجم المخ والأدوات
الحجرية. واضح أن الأدوات الحجرية الأولى تسبق تاريخيًّا أول
ظهور لجنس الهومو الذي تم تعريفه من ناحية باتِّساع مخه، بيد أن
هذا الفارق الزمني ربما لا يكون فقط بسبب أعدادهم فضلًا عن
البقاء في صورة أفضل. ويفيد المنظور البالدويني باحتمالية
أخرى: إن أول أدوات حجرية صنَعها الإنسان الأول الجنوبي، وإن
الانتقال إلى الهومو حدث جزئيًّا نتيجة وليس سببًا لما أضافوه
من تجديداتٍ في عملية البحث عن الطعام.
وجدير بالذكر أن الإنسان الأول الجنوبي طوال أطول مدةٍ من
مسيرة تطوُّره لم يكن — كما هو واضح — مُستخدمًا للرمز؛ إذ لا
دليل على وجود تغيراتٍ في بِنية المخ نستطيع الآن أن نربطها بهذه
الوظيفة أثناء وجوده على مدى ملايين السنين قبل ظهور أيٍّ من
التكيفات العصبية «شبه البشرية»، وإذا كان قد حدث أن اهتدى رهط
من أبناء الإنسان الأول الجنوبي إلى هذه الوسيلة في الاتصال،
فإن هذا لم يتحقَّق ويثبت إلا لفريق واحد، ولكن بعد أن رسخت
أخيرًا ربما منذ ٢٫٥ مليون سنة مضت، فقد أصبح الانتخاب متاحًا
لقدرات تعلُّمٍ مختلفة عما تحقَّق للنوع السابق، ولنا أن نقول: إنه
خلال هذه الحقبة القصيرة عندما ازدهرت أول منظوماتٍ رمزية بين
التجمعات من الإنسان الأول الجنوبي، تعلَّمَها واستخدمها أفراد
تمتعوا بأمخاخٍ لها بنية تنظيمية باطنية مقاربة لتلك لدى
القِرَدة العُليا الحديثة، أو بعبارة أخرى: أمخاخ لم تكن
ملائمة لتعلُّم الرمز.
وسبق أن عرضنا وتأمَّلنا مشكلة تعليم الرموز للقردة العليا
ولأنواع أخرى ذات أمخاخ ليست مهيأة سابقًا بفضل التطور لتعلم
الرمز، وتوضح نتائج دراسات «تعلم اللغة» عند الحيوان أن توفير
دعم اجتماعي خارجي كبير مُهم وضروري لتحقيق حدٍّ أدنى من تعلُّم
الرمز، ومع ذلك فإنه في ظلِّ ظروف خاصة، نجد نوعًا واحدًا على
الأقل من القِرَدة العُليا (وربما كثير من أنواع أخرى من الطير
والثدييات)، ظهر أنه قادر على تحقيق القفزة المفاهيمية
الضرورية، لدعم منظومةٍ رمزية أساسية إذا ما توفَّرت لها أسباب
الدعم الضرورية، وربما يُمثل هذا نظيرًا دقيقًا ومعقولًا
للقدرات الرمزية لأول المُستخدِمين للرمز كما يمثل أيضًا
المتطلبات اللازمة لدعمٍ خارجي، ومن ثم لا بُدَّ خلال المرحلة
الاستهلالية للتكيُّف الرمزي، إن كان لازمًا توفُّر دعمٍ خارجي كبير
لمساندة ولو منظومة رمز أساسية للغاية، ونتيجة لذلك كانت هذه
القدرات الرمزية الأولى مُعتمدة على حالات تكيُّف اجتماعية هشة
اعتورتها حالات فشل بشكلٍ دوري، ولكن بعد ذلك ونتيجة له آثر
التطوُّر أي مصدر للدعم يمكن شحذه للمساعدة في التغلُّب على هذه
العوائق ويُعزز ويقوِّي هذه الأوضاع الهشة للنقل، ومن هنا نرى أن
توسُّع مقدم المخ، وبخاصة قشرة مقدم الفص الجبهي لدى الهومو
هابيليس يعكس فقط التكيف الجوهري الذي اكتمل بمرور الزمن بفضل
تزايد عدد مظاهر الدعم الأخرى المتنوعة للغة. ونرى أن إدخال
الأدوات الحجرية وما تُشير إليه من تكيف إيكولوجي يمثل علامة
تحدد وجود حالة اجتماعية (إيكولوجية) تستلزم حلًّا رمزيًّا
(كما سوف نعرض في فصل ١٢)، إذن لا بد أن الأدوات الحجرية
والرموز كانت معًا مهندس عملية انتقال الإنسان الأول الجنوبي
Australopithecine-homo
وليستا نتيجةً لها، ومن ثم فإن الأمخاخ الضخمة والأدوات
الحجرية وصغر حجم الأسنان والوضع المتقابل الأفضل بين الإبهام
والأصابع، وكذا تحسُّن القدرة على المشي على قدمَين بصورة أفضل
وهو ما نجده في هومينيدات ما بعد الإنسان الأول الجنوبي، إنما
تُمثل جميعها أصداء مادية لاكتمال تجاوز عتبة فاصلة.
وأحد تعقيدات الوراثة المزدوجة dual
inheritance هي أن الاتجاهات المُستقلة في
التطوُّر المورفولوجي يُمكن دفعها في مساراتٍ متوازية بفعل وراثة
مشتركة غير جينية، ونجد أمثلةً للتوازي في التطور الجيني عند
الدلافين والفقمة وخروف البحر؛ إذ نظرًا لأن أسلافها تكيَّفت مع
البيئة المائية فقد طوَّر كلٌّ منها وبشكل مستقل أطرافًا قصيرة
مفلطحة وجسمًا انسيابيًّا استجابةً إلى المُتطلبات الحركية للسباحة،
وطبيعيٌّ أن البيئة التي خلَّفتها إضافة الأدوات الحجرية والرموز
ساهمت في خلق ضغوطٍ انتخابية موازية على أي سلالة استخدمتها
واختارتها للتغيُّرات نفسها التي حدثت في تنظيم الجسم والمخ حتى
وإن ظلَّت معزولةً جينيًّا. ويمكن أن يكون هذا وثيق الصلة بمشكلة
العمل بين الحفريات الكثيرة للأنواع الموجودة على مدى مليوني
سنة لتحديد أيها كان سلف الهومو أريكتوس، ثم أخيرًا نحن. ويبدو
واضحًا الآن أنه كان هناك على الأقل نوعان بيولوجيان يمكن
اعتبارهما وسيطَين من حيث الزمن والمورفولوجيا «التوزع الشكلي»
بين الإنسان الجنوبي والهومو أريكتوس، كان أحدهما له مخٌّ كبير
الحجم، ولكن قسمات الوجه والأسنان مثل الإنسان الجنوبي، والآخر
له مخٌّ صغير الحجم غير أن القسمات الأخرى مثل الهومو أريكتوس،
تُرى أي الاثنين كان سلفنا البيولوجي؟ لن يكون يسيرًا علينا أن
نُحدد في ضوء تطوُّرنا العقلي وربما لا يُهم هذا كثيرًا، ولكن أي
من الاثنين هو السلف.
وإن فجر استخدام الأدوات الحجرية والاتصال الاجتماعي الرمزي
بين البشر الجنوبيين في المرحلة المتأخرة ربما أدى إلى سرعة
التنوع بين الكثير من حفريات السلالات، ولقد كانت هناك خلال
الفترة المُمتدة منذ أول ظهور للأدوات الحجرية سلالات منفصلة
وكل منها وريث لهذا المُركب السلوكي التكيفي، وربما استجابت كل
سلالة مع قدْر طفيف من الاختلاف إلى هذا المُركب اعتمادًا على
الظروف الأولية المختلفة والأحداث الطارئة في البيئة. ولنا أن
نتوقع أن تتقارَب هذه الفوارق مع مرور الزمن، ونحن هنا بحاجة
إلى أن نحاول تتبُّع القسمات الكثيرة ابتداءً من هذا العصر حتى
السلالات اللاحقة لكي نُحدد التاريخ التطوري العرقي من مثل قصر
الأسنان وغياب الفارق الشكلي بين الجنسين
sexual dimorphism وتحسُّن
كفاءة المشي على قدمَين واكتمال دقة قبضة اليد، وزيادة حجم
المخ، وربما تَمثَّل كل هذا بشكلٍ منفصل في تجمُّعات سكانية منعزلة
في مَطلع عصر مُستخدمي الأدوات الحجرية. وأيًّا كان الأمر فإن أي
سلالة عملت على البقاء لا بدَّ أنها في النهاية طوَّرت صيغتَين
متوازيتَين لهذه الخصائص التي كانت منفصلةً في السابق، وذلك
استجابةً للضغوط الانتخابية التي فرضها التكيف السلوكي
المشترك، ولكن تحديد أي سلالة حفرية انتقالية هي التي تمثل
سلفنا الحقيقي قد لا يكون مُهمًّا بقدْر أهمية واقع أن أدواتهم
الحجرية وحالات تكيُّفهم الإيكولوجية الاجتماعية هي بذور خصائص
بشَر المُستقبل. ونجد في نهاية المطاف أن جميع الخصائص المادية
المُثيرة للانتباه التي تميز أجسام وأمخاخ الإنسان الحديث تسبَّبت
فيها أفكار مشتركة توارثتها الأجيال.
الشبكة التطورية المشتركة
على الرغم من أن العتبة الفاصلة بين الاتصال اللساني وغير
اللساني linguistic &
nonlinguistic ليست هي تعقُّد أو كفاءة
اللغة، فإن حالات التكيُّف البشري من أجل اللغة التي تؤهلها
لتكون شديدة التعقُّد وأكثر كفاءة نتجت هي أيضًا بفعل الانتخاب
للقدرات اللغوية، وما إن أصبح الاتصال الرمزي مُحكمًا ولو لدرجة
طفيفة في مجتمعات الهومينيد الأولى، حتى إن وظائفها التمثيلية
الفريدة ومرونتها المُنفتحة للجديد أفضَتا إلى استخدامها لأغراضٍ
عديدة لا حصر لها مع ما حققته من نتائج تكاثرية قوية بالقدْر
نفسه، وأصبح واضحًا أن بِنية اللغات الحية مُتعددة الطبقات
والسهولة اللافتة للنظر في استخدامنا للكلام كلتاهما قسمتان
مُميزتان لا سبيل لتفسيرهما إلا باعتبارهما نتائج لهذا الانتخاب
الثانوي الذي تولَّد عن الظروف الاجتماعية التي شحذت العمليات
الرمزية عقب إضافتهما لأول مرة، ونعتبرهما ثانويَّتَين إلى أن
أصبحتا تُمثلان ضغوطًا انتخابية بعد أن ترسخ الاتصال الرمزي في
مجالات أخرى، بيد أنهما أسباب أولية أيضًا للتخصُّص المُتسع
المميز للغات المنطوقة وللهوة الكبرى التي تفصل الآن قدراتنا
في هذه المجالات عن قدرات الأنواع الأخرى.
ولقد كانت الدينامية التطورية بين العمليات الاجتماعية
والبيولوجية هي مهندس الأمخاخ البشرية الحديثة، وهي أيضًا
المفتاح لفهم التطور التالي لمجموعة غير مسبوقة من حالات
التكيُّف من أجل اللغة، وهذه نقلة مهمة في مجال التأكيد على
الابتعاد عما يُمكن أن نُسمِّيه «النزعة الفطرية الصماء»
monolithic innatism أي
الرأي القائل: إن «غريزة» البشر الخاصة باللغة هي وظيفة وحدوِيَّة
ومعيارية؛ أي جهاز اكتساب اللغة، ولكن على العكس فإن العمليات
التطورية المشتركة أنتجت تشكيلة واسعة النطاق من الاستعدادات
السابقة الإدراكية والحركية والتعلُّمية، بل الانفعالية وأن
كلًّا منها، وبأسلوب خفيفٍ، قلَّل من احتمال الفشل في لعبة اللغة،
وأن كلًّا منهما مُستقلًّا يمكن أن يظهر في صورة تحوُّل دقيق من
الاستعدادات النمطية السابقة لدى القِرَدة العُليا، ولكن إذا
ما نظرنا إليها جملةً نجد أن هذه التكيفات اللغوية الكثيرة
تُوجِّه على نحوٍ صارم العملية التعليمية. وعلى الرغم من أن أيًّا
منها بمفرده لا يكون شيئًا لا غِنى عنه أو كافيًا بذاته فإنها
معًا تكفل تضاعف اللغة.
وإذا تأمَّلنا الماضي من موقعنا الآن نجد أن استخدامات الاتصال
الرمزي تُرتِّب عليه الكثير من المنافع الجانبية، ابتداءً من
التمرير النشط للمعارف المكتسبة لدى جيلٍ إلى الجيل الذي يليه،
والتعامل والتفاوض مع الغير بشأن كل جانبٍ من جوانب الحياة
الاجتماعية، وكان من الممكن لكل منها أن يظهر مستقلًّا بمنزلة
ضغوط انتخاب تتلاقى من أجل اللغة. والحقيقة أن الكثير من
السيناريوهات المتنافِسة عن أصول نشأة اللغة يختلف بعضها عن بعض
من حيث بؤرة اهتمامها وتركيزها على بعض المزايا الاجتماعية
بذاتها، التي رؤِيَ أنها مصدر الانتخاب للقدرات اللغوية. هل تم
انتخاب اللغة بسبب أهميتها في دعم التعاون الوثيق في العلاقة
بين الأم ووليدها أو تمرير حِيَل ووسائل البحث عن الطعام، أو
تنظيم الطراد، أو معالجة المنافسات بشأن تكاثر النسل، أو
اجتذاب رفيقة الحياة، أو حشد الجماعات للحرب والدفاع الجمعي أو
تهيئة نوع من الرباط الاجتماعي الفعال الذي يمكن من خلاله أن
يُقيِّم الأفراد بشكلٍ متصلٍ المصالح المشتركة وتقوية الشبكات على
نحو ما تفعل التفلية بين الكثير من الرئيسات الأخرى؟ والإجابة
أن هذه جميعًا من المُحتمَل أن تكون مصادر مهمة للانتخاب، ليس في
الأساس بشأن أصل اللغة، ولكن يقينًا فيما يتعلق بتخصُّصها وصقلها
وإحكامها على نحوٍ متطور، وأنها في هذا الصدد لا تقدم فروضًا
منافسة فيما بينها كبدائل يُقصي بعضها بعضًا، بل تُمثل قائمة من
المجالات التي دخلَها في تتابُع وبنجاحٍ الاتصال الرمزي، ومن ثم
فإن قيمة كلٍّ من هذه الاستعمالات أسهمت بضغط انتخاب جديد حقق
مزيدًا من الدعم والصقل والإحكام للقدرات الرمزية.
وإنَّ هذا الانتشار للضغوط الانتخابية من أجل دعم حالات
متنوعة من التكيف إنما هو حصاد حتمي لعملية الشحذ البالدوينية،
وهذا يناظر أسلوب الإبداع التكنولوجي الجديد الذي تم استحداثه
لاستخدامٍ مُحدد بعينه، ثم يصبح أداة اختيار لعددٍ كبير جدًّا من
الاستخدامات التي لم تكن متوقعةً أبدًا، وأن أي واحدٍ أو أكثر من
هذه المنافع الجانبية للاستعمالات يمكن واقعيًّا أن يُصبح هو
الدعم الأول والأساسي للاستمرار في إنتاجه. ومع هذا، وحين تنظر
إلى الأمر بعد وقوعه نجد أن المؤرِّخين الذين لم يكونوا مُطَّلعين
على أسرار الأحداث الأولية يمكن أن ينظروا إلى أيٍّ من هذه
الاستعمالات الجارية كمرشح معقول للاستعمال الأصلي، أو أن
يدفعوا بأن كلَّ هذه الاحتياجات أدت دورًا ما في الإسراع بهذا
الاختراع في بدايته، مثال ذلك أن سلسلة كبيرة جدًّا من
الاستعمالات يمكن أن تكون وثيقة الصلة ببقاء واستمرار الفيلكرو
«الشريط الرابط لمنتجات الملابس» للشركات في أواخر القرن
العشرين، بينما لا علاقة له أو لا فائدة من اختراعه (وهو من
إنجاز مهندس سويسري يُدعى جورج دومستيرل، الذي حاول محاكاة
المشبك المستخدم في نبات كوكلبور)، ونعرف أن اختراعاتٍ كثيرة
ابتكرها أصحابها أصلًا لأغراضٍ وثبت بعد ذلك على الفور أنها غير
صالحة للتطبيق، ولكنها بقِيَت ودامت؛ لأنها أوثق صلةً باستخدامٍ
آخر لإحدى المنافع الجانبية،
١٢ وطبيعي أن تأليف حكايات عن التكيُّف من موقع الحاضر
عن أحداثٍ مضت واستقراء النتائج في ضوء شواهد راهنة للتكيف
وإسقاطها على ظروف النشأة الأولى في الماضي من شأنه أن يفرقنا
ببداياتٍ زائفة مع كثيرٍ من التفسيرات المعقولة كلٌّ منها في حدِّ
ذاته، ونظرًا لأن التطور هو عملية تاريخية، فإنه أشبه
بالأنطروبيا
entropy بمعنى أن
لا سبيل لتحليله بأثر رجعي، على نحو ما يجري تحليل برهان
منطقي. إن خيوطًا كثيرة متوازية تتداخل وتتشابك داخل شبكة
الانتخاب الطبيعي وتصنع نسيجًا مشتركًا لتبدو وكأنها كانت معًا
منذ البداية.
والصيغة البيولوجية لهذه العملية تُسمى اصطلاحًا التكيُّف مُتعدد
الاستعمالات
exaptation، وهو
المصطلح الذي أطلقه ستيفن جيه. جولد وإي. فيبرا.
١٣ والملاحظ في أغلب حالات التكيُّف مُتعدد الاستعمالات
سواء في مجال البيولوجيا أو المجال التقني، لا يوجد، احتمالًا،
تخلٍّ كامل عن الوظيفة التكيفية الأصلية ولا استثناء لوظيفة
جديدة وجيدة، ومع المزيد من تنوع المساهمات التكيفية لبِنية
جديدة، ينتشر نفوذ الانتخاب ويتوزع بين النتائج الموازية
المُفيدة وهو ما يزيد من احتمالية تضاعفها في صورةٍ ما في
الأجيال التالية، سواء بقِيَت أم لم تبقَ وتستمر أي وظيفةٍ ما.
معنى هذا أن ابتكارًا جديدًا يُحقق التكيف في مجالٍ ما سوف يتَّجه
للتطبيق على مدى نطاقٍ يتوسع دون توقف من الاستخدامات الإضافية
التي تزيد مع الزمن. ولنتأمَّل على سبيل المثال تطور ريش الطير،
لقد كان على الأرجح في البداية تكيفًا بهدف الاحتفاظ بالحرارة،
ثم أصبح العنصر المُهيمن في تكيف الطير للطيران، ونلحظ أن هذا
الاستعمال الذي يُمثل حالةً من التكيُّف الإضافي أصبح له دور رئيسي
في تطور وتوزيع الريش، وما تزال الوظيفتان فاعلتَين لبقاء
الريش، ولكن نلحظ علاوة على ذلك أن الكثير من حالات التكيُّف
الثلاث قد نشأت نتيجةً لذلك، واشتملت هذه على وظائف من مثل
تأثيث العش والتعويم والحركات الاستعراضية للتزاوج، وهذا قليل
من كثير.
وطبيعي أنه كلما كان التكيف أكثر مرونةً بطبيعته أو أكثر
عمومية، زادت إمكانية تنوُّع ما يشتمل عليه من وظائف ثانوية.
ولهذا السبب نجد أن حالات التكيف العصبية قد تكون من بين
الأكثر قابليةً لعملية التكيف مُتعدد الاستعمالات وانتشارها.
وثمة نتيجة مهمة مُترتبة على ذلك، وهي أن حالات التكيف العصبي
تتَّجِه للتطوُّر بمنأًى عن «التخصُّص المجالي» الصارم فيما يختص
بالوظائف التي يمكن شحذها للعديد من الاستعمالات ما دام أنها
لا تتضمن الوظيفة الأصلية المرتهنة بمجال متخصص، وسوف يتضخم
هذا الميل أكثر ليشمل حالات التكيف العصبي التي تبعد خطوة أو
خطوتين عن مجالات الإدراك الحسي والحركي مثل مختلف الاستعدادات
السابقة للتعلم، ونجد هنا أن الاستراتيجيات الرمزية للاتصال
وللدعم الذاكري عند أدنى حد من القيود الكابحة؛ إذ ما أن يصبح
اتصال رمزي جوهريًّا لأداء وظيفة اجتماعية حاسمة حتى يصبح
أيضًا ميسورًا لشحذه لدعم عشرات الوظائف الأخرى أيضًا، ونظرًا
لأن المزيد من الوظائف أضحت تعتمد على الاتصال الرمزي، فإن ذلك
يصبح بالضرورة تكيفًا لا مناص منه، وكلما زادت ضرورته وحتميته،
أدى إلى رفع كلفة التكاثر لفشل تعلُّم رمز وكلفة استخدام الرمز
استخدامًا خاطئًا.
واحتجَّت غالبية النظريات عن تطور المعرفة البشرية بنوع مماثل
لهذه العملية عن التغذية المرتدة الإيجابية، وما يزال القليل
الذي يضع في الاعتبار النتائج التي يصل عمرها إلى حوالي مليونَي
سنة المُترتبة على مثل هذا الانتخاب المكثَّف وتأثيره على الكثير
من المنظومات العصبية والدينة المختلفة التي وردت ضِمن تحليل
وإنتاج اتصالٍ رمزي شِبه لغوي، وإن جميع أوجه الوظيفة الحسِّية
والحركية والمعرفية المُتضمنة في تعلم واستخدام اللغة ربما طرأت
عليها تغيُّرات تكيفية بدرجةٍ أو أخرى، وتركت جميعها بصماتها في
الأمخاخ والعقول والأجساد، بل وفي المؤسسات الاجتماعية
البشرية، ولكن نظرًا لأن القدرة على فهم العلاقات الرمزية تُمثل
الأساس لهذا كله، فإن انتخاب أي شيءٍ أفاد هذه الوظيفة
بمشروطيتها السابقة سوف يثبت وتزداد قوته في كل المجالات، وهذا
ربما يفسر زيادة حجم المخ (هيمنة مقدم الفص الجبهي) الذي استمر
على مدى مليوني سنة منذ بدءِ تاريخ الاتصال الرمزي.
وطبيعي أن التطور سيُؤثِر أي مصدر للدعم الذي يمكن شحذه
للمساعدة في التغلُّب على العوائق أمام الاتصال الرمزي الكفء،
وليست هيمنة مُقدم الفص الجبهي سوى وجهٍ واحد لهذه العملية، ولا
بد أنه كانت هناك وعلى مدى المليوني سنة الأخيرة جوانب أخرى
كثيرة لبنية اللغة التي نشأت لبلوغ الحد الأقصى من تكاثر اللغة
عن طريق الإقلال إلى أدنى حدٍّ من تأثير القيود التي تحدُّ من
مُستخدمي اللغة (ويصور الشكل
١١-٣ هذه
العملية مع بعض الأمثلة)، وإن هذه النتائج لا نجدها واضحة فقط
في مسارد المُفردات والنحو وقواعد البناء للغات، بل نراها أيضًا
في الوسط الذي يجري خلاله الاتصال، وما تزال قسماتها التي
انحدرت عنها إلى اللُّغات الحديثة موجودة واضحة، ولو جزئيًّا على
الأقل على نحوِ ما تشهد «الحفريات» المتناثرة عن المراحل
الباكرة لهذه العملية، وعلى الرغم من أن غالبية تفاصيل ودقائق
حالات التكيف الأسبق للغة قد مضى زمانها بفعل يد الانتخاب التي
شذَّبتها وصقلتها، فإن عددًا من القسمات الرئيسية للغة الحديثة
احتفظت بتأثيرٍ واضح لضغوطها الانتخابية الماضية، ويُهيئ لنا هذا
أساسًا ما لإعادة البناء أو التجديد على أساس تأمُّلي.
وإذا كانت نشأة القدرات الرمزية هي اللُّغز الأول والأساسي
للغة، فإن اللغز الثاني هو كيف أصبح غالبية الاتصال الرمزي
معتمدًا على وسطٍ واحد على قدْر عالٍ من التمفصل والإحكام:
الكلام. والمعروف أننا نستخدِم التمثيل الرمزي في مجالات عديدة
من الاتصال الاجتماعي والباطني، ومع ذلك أصبح وسط الكلام هو
وسيلة الاتصال الطاغية. وتُعتبر لغة الكلام هي الأداة الأولى
لتعريف قوة الرموز للأطفال وتقديمها لهم، وكذا الوسيلة
الأساسية لغرس المعالم الرمزية في غالبية الجهود البشرية، ولكن
من المُحتمَل إن لم يكن الأمر على هذا النحو دائمًا؛ إذ إن هذا
مجرد لقطة تخلَّلت فقط العصر الحديث ضمن عملية طويلة مُمتدة من
التكثف وتحديد المسار الذي تأسس فيه وسط واحد من الترميز وأخذ
على عاتقه بشكلٍ مُطَّرد جزءًا متزايدًا من حمل نقل
الرمز.
شكل
١١-٣: يوضح الرسم كيف أن انتخاب
الوظيفة الرمزية الجوهرية وزعت الانتخاب
على نطاقٍ متنوع واسع من حالات التكيف
الداعمة، التي أضحت مهمةً فقط حال ترسخ تلك
الوظيفة الجوهرية، وهذه بدورها نشرت الضغط
الانتخابي؛ ليعود إلى الوظيفة الجوهرية
بعد أن تحصَّنت خلال العصور التالية
للعملية، والنتيجة أن قشرة مقدم الفص
الجبهي أصبحت قوة فاعلة لشحذ وظائف داعمة
أخرى مثلما فعلت منظومات أخرى، وهكذا
تيسَّرت عرَضًا العديد من «المنافع الجانبية»
التي أصبح بالإمكان أن تستوعِبها أو أن
تتعدَّد استعمالاتها التكيُّفية بفضل التزايُد
المُطَّرد لحزمة حالات التكيف
اللغوي.
وهذه العملية هي الاحتكار
monopolization وهي النظير
المقابل للتطور؛ إذ من المرجح في بادئ الأمر أن «لغة» أقدم أو
أول من استخدموا الرمز كانت مُتعددة النماذج أكثر مما هو حال
اللغات الحديثة، وأن لغة الكلام أصبحت فيما بعدُ فقط المنظومة
المُستقلة المغلقة نسبيًّا، التي نستطيع أن نصفها بكلمة لغة
اليوم، وجدير بالذكر أنه وعلى مدى مليوني سنة منذ بدء الاتصال
الرمزي كانت هناك أنماط بديلة للتعبير عن المعلومات الرمزية
وتنافست بعضها مع بعض، تمامًا وبالطريقة نفسها التي تتنافس بها
العمليات البديلة لنطق الكلمات للتمثيل لدى أجيال المستقبل،
ومع مرور الزمن تغلبت تدريجيًّا أشكال رمزية صوتية على وظائف
خدمت في السابق من خلال أشكال رمزية متنوعة غير صوتية، ولذلك
فإنها تبدو اليوم أقرب إلى الاستقلال الذاتي ومكتفية بذاتها
تمامًا، وحقيقة الأمر أن هذه الكفاية الذاتية الظاهرة هي الغرض
الضِّمني للنظريات اللسانية التي تسعى جاهدة لتقديم تفسيراتٍ
كاملة لها قوانينها الحاكمة لتفسير وظائف اللغة، بيد أن هذا
ضربٌ من الصياغة المثالية لمنظومة الاتصال التي لم تتحرَّر بعد
بشكلٍ كامل من الدعم غير اللفظي المُكمل لها على الرغم من انقضاء
مليون سنة من الدمج والدعم المشترك.
وإن قدرًا كبيرًا من البينات على الاستيعاب المرحلي التدريجي
للوظائف الرمزية غير الصوتية واتخاذها شكلًا منطوقًا، ما يزال
موجودًا في صورة مُلغزة في اللغات الحديثة. والملاحظ أن بنية
التركيب اللغوي للجملة غالبًا ما تخفي بصورةٍ غامضة فقط جذورها
العملية في صورة إيماءات إشارية، ومعالجة يدوية، وتبادل
الأشياء المادية، والعلاقات المكانية والزمانية وغيرها. مثال
ذلك: إنه من الشائع أن تُعبر اللغات عن العدد والشدة والأهمية
والحيازة … إلخ، بما يقابلها من إشارات أيقونية مُتواضَع عليها
لتمثيل التكرار وتغيير نبرة الصوت والجوار … إلخ، في أشكال
بناء الجُملة. وعلى الرغم من أنَّ نموَّ اللغة عند الأطفال لا يُعيد
على الأرجح تطوُّر اللغة في أغلب نواحيها؛ (لأنه لا الأمخاخ غير
كاملة النضج، ولا المُطابقة الجزئية عند الأطفال للغات الكبار
الحديثة يُمكن قياسها ومقارنتها بالأمخاخ مكتملة النضج ولغات
الكبار لأي من السلَف)، فإننا نستطيع مع ذلك أن نلحظ تمثلًا
واستيعابًا تدريجيًّا للُغةٍ غير منطوقة داعمة لأشكالٍ منطوقة
أكثر مرونةً وكفاءة مع اطِّراد نموِّ لغتهم.
والملاحظ أن الفكرة الزاعمة بأن إسقاط القيود المفروضة على
النطق من شأنه أن يُطلق العنان لقدراتٍ لسانية غير مُثبتة إنما
كانت تُمثل موضوعًا رئيسيًّا في عددٍ من النظريات التي تتناول
أصل اللغة (وأشهر من دافع عنها فيليب ليبرمان في عددٍ من الكتب
والمقالات التي كان لها صدًى كبير)،
١٤ وتصور البعض أن اللغات المنطوقة ربما انبثقت فجأة
مع إزالة القيود المفروضة على النطق، ولكن على الرغم من هذا
سنقع في تبسيطٍ مُخل بشأن عمليات اللغة، إذ تذهب إلى أن هذه
القيود كانت القيد الرئيسي الذي حدَّ من اطراد نمو اللغة؛ وسيكون
علاوة على ذلك تفسيرًا مبالغًا فيه للشواهد الحفرية المتجزئة،
وكأنها تُفيد حدوث قطيعةٍ مفاجئة في مسيرة التغيرات التي طرأت
على هذه القدرات، ومع ذلك فإن اطِّراد زيادة مهارة النطق كانت
على الأرجح عنصرًا منظمًا للاستيعاب التطوري للوظائف الرمزية
والوصول به إلى وسطٍ وحيد؛ لأن قدرة النطق تفرِض قيودًا ذات
أهمية على الطاقة الاستيعابية وعلى مرونة الوسط، وإن كلًّا من
الأساس العصبي لتعلُّم النطق والأساس التشريحي للصوت المنطوق قد
تغيَّرا بشكلٍ جذري عن الوضع المرجَّح عند السلف، بيد أن نمو القدرة
والمهارة في النطق كان على نحوٍ شبه يقيني عملية مُمتدة على مدى
مسيرة تطوُّر الهومينيد وليست نقلة فجائية. والملاحظ أن الزيادات
التراكمية في حجم المخِّ — على مدى المليوني سنة الأخيرة — زادت
تدريجيًّا من تحكُّم قشرة المخ في الحنجرة (انظر الفصل الثامن)،
ولقد كان هذا على نحوٍ أقرب إلى اليقين سببًا ونتيجةً معًا في
زيادة استخدام الترميز الصوتي، ونعرف أن سجل تطوُّر الجهاز
الصوتي أبعد كثيرًا من التمام، فإنه اشتمل على قدْر كبير من
المعلومات بشأن الإنسان الجنوبي عند أحد الطرفَين والمعلومات عن
الهومو سابينس (بما في ذلك إنسان نياندرتال) على الطرف الآخر،
ووضح أن الاستخدام المتزايد للنطق أثناء عصورٍ مُتعاقبة لتطوُّر
المخ أدى بالحتم إلى أن يفرض الانتخاب على بِنية الجهاز الصوتي؛
لكي يزيد من قُدرته على المعالجة خلال الفترة نفسها، وربما يحقُّ
لنا في أمانٍ أن نستخلِص نتيجة مفادها أنه على الرغم من أن قدرات
النطق الحديثة بالكامل لم تكن ميسورة للسلالات الهومو الأولى
فإن قُدراتهم على النطق لم تكن في أي مكانٍ قريب مُقيدة مثلما
كانت قدرات القِرَدة العُليا الأخرى.
وثمة تجارب بدأت في خمسينيات وستينيات القرن العشرين لبحث
القدرات اللغوية عند القِرَدة العُليا، وسرعان ما أدركت أن
الشمبانزي على الرغم من أن لها قدرات تعلُّم شِبه بشرية لم تنضج
بعد (وكذا جميع القِرَدة العُليا)، فإنها محدودة إلى أقصى حدٍّ
من حيث قُدراتها على التعلُّم المنطوق، وتم بذل جهودٍ مضنية للغاية
للتدريب على اللغة علاوة على جهود بدنية للمساعدة على تشكُّل
الفم، وذلك مع قردة شمبانزي تربَّت ونشأت في البيت واسمها فيكي،
ولكن على الرغم من ذلك لم تتمكَّن من التدرُّب إلا على كلمتَين
اثنتَين بسيطتَين، وحدث اختراق في أواخر الستينيات استهلته جهود
آلا وبيتريس جاردنر؛ إذ أوضحا، بعد الاستعانة بوسط تعبيري
مختلف وهو الإشارة اليدوية — أن قردهما الشمبانزي ويدعى واشو
بدا قادرًا على اكتساب «مسرد» ضخم من مفردات هي علامات من لغة
العلامات الأمريكية، وهكذا بعد التحرُّر من هذا القيد وحدَه ظهر
على السطح أن تعلُّم اللغة يُمكن أن يُحقق قدرًا مُهمًّا لدى
الرئيسات غير البشرية.
وأوحى هذا للكثيرين أن الإشارة ربما كانت الحلقة المفقودة في
قصة أصل نشأة اللغة، وجدير بالذكر أن فكرة أن أسلاف البشر
استطاعوا حينًا من الدهر التواصل عبر إشارات الأيدي إنما هي
فكرة سبق أن اقترحها البعض مراتٍ كثيرة خلال محاولات تأمُّلية في
السابق لتفسير أصول نشأة اللغة، وشرع واحد من أنصارها، وهو
جوردون هويز
١٥ في مراجعة هذا التاريخ ثانيةً، استهدفت هذه
النظريات التي تُحدِّثنا عن «أصول نشأة الإشارات الإيمائية» تقديم
سبيل لاجتياز الهُوَّة بين العجز عن النطق عند القِرَدة
العُليا وطلاقة اللسان عند البشر. وإذا كانت اللغات الأولى
لغاتٍ يدوية، فالأرجح أنها هيأت مرحلة وسيطة بين ظروف القِرَدة
العُليا والإنسان الحديث، بيد أن القردة العملاقة ليست مثل
الأشخاص خرساء منذ الميلاد، ولا كانت لغاتُ الإشارة التي
تستخدِمها مُجتمعات الصمِّ البكمِ حديثًا هي النموذج المُفيد للاتصال
بين أسلافنا الأقل قدرةً على النطق؛ إذ كان الوسط الصوتي الخاص
بالنطق مختلفًا، وليس غير ميسور لأسلافنا الأُوَل، ولم يكن
الإدراك السمعي محدودًا، وكانت قدرات التعلم الرمزي متقدمةً
كثيرًا عن قدرات القِرَدة العُليا الأخرى، ولكن لم تحظَ بدعمٍ
جيدٍ كما هو حال الأمخاخ الحديثة، وتفيد هذه الوقائع والحقائق
أن الإيماءة تضمَّنت على الأرجح جزءًا مهمًّا من الاتصال الرمزي
الباكر، ولكنه كان موجودًا جنبًا إلى جنبٍ مع الاتصال الصوتي
طوال أطول فترةٍ على مدى المليوني سنة الأخيرة، ومن ثم، بدلًا
من القول بأنَّ كلًّا منهما كان بديلًا عن الآخر، نرى أن
الإيماءة والكلام طوَّرا معًا وعلى نحوٍ مشترك علاقاتٍ متداخلة
فيما بينهما على مدى مرحلةِ زمالتهما الطويلة والمتغيرة؛ لذلك
يكشف كلاهما عن دليلٍ يؤكد هذا التطوُّر المُمتد في صورة نوع أقرب
إلى الاعتماد الكُلي المتبادل بينهما علاوة على ما تُبينه
الاستعدادات السابقة التي تعكس الحداثة النسبية أو القِدَم
النسبي لهذه القدرات، إن «التكافل
symbiosis» الراهن بين
الاتصال بالكلام والاتصال بالإيماءة نراه منعكسًا بقوةٍ ووفرة
في الإيماءات النوعية الثقافية التي تُصاحب القدر الأعظم من
المحادثات، وليس عسيرًا أن نتخيل اتصالًا هو هجين مشترك وكامل
إلى حدٍّ كبير من الكلام والإيماءة.
شكل
١١-٤: تسلسل الحنجرة في التطور
البشري، أوضاع نسبية للتكوينات الأساسية
للجهاز الصوتي، كما هي في القِرَدة
العُليا والإنسان الجنوبي (يسار) والهومو
سابينس الحديث (يمين) تُصوِّر كيفية الارتداد
النِّسبي للفم والوجه والتوسُّع النسبي
للجمجمة في التطوُّر البشري الذي أفضى إلى
هبوط الحنجرة ولسان المزمار إلى أسفل في
الزَّور، وتضخم الخيشوم وزيادة دور اللسان
في تحديد شكلِ تجويف كلٍّ من البلعوم والفم،
وأدَّى هذا بشكل واضح إلى زيادة مدى الصوت
خاصةً الأصوات المُتحركة التي يمكن توليدها
وخفضت درجة خروج أصوات الكلام من الأنف،
وإن المسار الزمني التطوري لهذا التحول في
تشريح الجهاز الصوتي ما يزال موضوع جدال
مُهم وضخم، ولكن أغلب الباحثين مُتفقون على
أن تشريح الهومو أريكتوس كان إلى حدٍّ كبير
أو قليلٍ في موقعٍ وسط بين حالة السلَف الأول
من القِرَدة العُليا والحالة
الحديثة.
وثمة احتمال في أن القسمة المُميزة الأخيرة لمُركب التكيُّف
اللغوي الذي تجسد في ذلك الهجين هو وضع الحنجرة، وتمَّت دراسات
تحليلية مقارنة قارنت تشريح الحنجرة عند فقريات كثيرة (خاصةً
التي قام بها جان وند)
١٦ وعمليات ترميم للأجهزة الصوتية في حفريات
للهومينيد (قام بها فيل ليبرمان وجيف ليتمان وإيد
كريلين،
١٧ وأثبتت هذه كلها أن البشر المُحدَثين غير عاديين من
حيث الوضع المنخفض للحنجرة داخل الزور بالمقارنة بالسابق (انظر
شكل
١١-٤)، وأكد ليبرمان الكيفية التي أثرت
بها هذه القسَمة التشريحية المُميزة تأثيرًا واضحًا في مدى أصوات
النطق والقدرة على التمييز بينها وهي قدرات في استطاعة
الهومينيدات الأوائل، ونعرف أن الوضع المُرتفع للجهاز الصوتي
عند الرئيسات الأخرى والثدييات يخفض كثيرًا من مدى ومرونة
توليد الصوت، ونجد في المقابل أن الوضع المُنخفض للحنجرة
البشرية يزيد من مدى الأصوات التي يُمكن توليدها، سواء عن طريق
إمكانية إحداث تغييرات أكبر في حجم التجويف الرنان
resonant chamber المؤلف
من الفم والخيشوم، وكذلك عن طريق نقل الصوت إلى الفم وبعيدًا
عن التجويفات الأنفية. وتتمثل النتيجة الرئيسية في أن الأصوات
التي تتألف من عناصر متحركة للكلام أكثر قابلية للتغيُّر عن كل
ما يمكن أن يتولَّد عن طريق القِرَدة العُليا الأخرى، ويتضمَّن هذا
أيضًا الأشكال المتطرفة من التوليفات الرنانة، من مثل صوت
ee في كلمة
tree وصوت
ah في كلمة
flaw؛ إذ يستلزِم الاثنان
فراغًا بلعوميًّا (خلف الفم)؛ لكي يتضخَّم نسبيًّا، ونجد بهذا
القدْر نفسه من الأهمية الطريقة التي تُضخم بها هذه الحالة من
قدرة الفم واللسان على تعديل أصوات النطق، وليس مرجحًا أن
الزيادة في مرونة النطق التي هيَّأتها هذه النقلة في وضع الحنجرة
كانت مجرد حالة عرضية، وحدثت هذه النقلة أيضًا مقابل تكاليف
مُعينة — سهولة أكثر في حدوث غُصَّة بالطعام أو شرَق بالماء — وهو
ما كان يمكن لولا ذلك اختيار العكس (شكل
١١-٥).
ولكن علاقة السبب — و — النتيجة فيما يختص بتطوُّر اللغة ليست
واضحة؛ إذ ليس واضحًا أبدًا أن خفضًا في مدى الحرف الليِّن
وزيادة في الكلام من تجويف الأنف، مثل القِرَدة العُليا الأخرى،
يمثل في ذاته عائقًا رئيسيًّا يحُول دون نُطق الاتصال الصوتي؛
إذ على الرغم من خفض كليهما لمدى أصوات الكلام والتمايُز بينها،
فإن هذا لا يُزيل عناصر الصوت الأكثر حسمًا في الكلام: الأصوات
التي تتحدَّد عن طريق القطع الكُلي أو الجزئي للصوت، وهذه هي التي
تؤلِّف الغالبية الساحقة من الفونيمات التي تُحددها في شكل أصواتٍ
ساكنة. معنى هذا أنه حتى الإنسان الجنوبي كان سيتوفَّر لدَيه جهاز
صوتي قادر على هذه الدرجة من النطق لو أنه كانت لدَيه الدرجة
اللازمة للتحكُّم الحركي في الصوت، بيد أن أحجام مخِّه تشي بأنه لم
يكن في واقع الأمر قادرًا على التمتع بهذه القدرة على التحكم
في عضلات اللسان والحنجرة، وربما كانت أقرب الأسلاف إلينا ممن
كانت لهم أمخاخ أكبر، وهم هومو هابيليس وهومو أريكتوس لديهم
قدرة تحكُّم حركي أكبر، وربما أيضًا كشفوا عن درجة متوسطة من
هبوط الحنجرة إلى موقعٍ أدنى، ويبدو أن كلام هومو أريكتوس كان
إلى حدٍّ ما أقلَّ تميزًا وأبطأ أيضًا من الكلام الحديث، وأن كلام
هومو هابيليس كان محدودًا أكثر؛ لذلك، وعلى الرغم من أن كلام
الاثنَين لم تتوفر له السرعة ولا المدى ولا المرونة المتوفرة
اليوم، فإنه تمتع على الأقل بالكثير من القسمات الصوتية
الصحيحة الموجودة في الكلام الحديث.
وتحمل هذه التنبؤات بعضًا من المعاني الضمنية المهمة، أولًا:
إنها تفيد بأن بعض الأوجه شبه الكلية الشاملة من اللغة
المنطوقة الحديثة (مثل ثبات نطق الأحرف الساكنة) ربما ظهرت
مُبكرًا منذ مطلع المليوني سنة الماضية، ثانيًا: تفيد أن التحكم
في النطق الصوتي لم يكن على الأرجح هو وحدَه، ولا حتى الوسيلة
الرئيسية، لأول أشكال الاتصال الرمزي عند الإنسان الجنوبي وهو
السلف المباشر للهومو هابيليس، ثالثًا: تفيد بوجود الكثير من
القدرات الصوتية التي ظهرت متأخِّرة نسبيًّا خلال مسيرة التطور،
وبعضها ربما قريب مع بداية عصر الهومو سابينس، وأنها لهذا
السبب لم يطَلْها الانتخاب في أي فترة زمنية ذات قيمة، رابعًا:
تفيد بأن دقة وسرعة الكثير من جوانب إحكام النطق الصوتي كانت
في حالة نموٍّ متصل خلال أغلب فترة التطوُّر البشري التي من
المُحتمل أنها انعكست على الحجم النسبي للمخ.
وإذا تأمَّلنا النطاق المذهل للقدرات الصوتية لدى البشر
المُحدثين مع مقارنتها بأيٍّ من الثدييات الأخرى، والعلاقة
الوثيقة بين قواعد بناء الجُمَل والكلام، فإننا لن نُدهَش إذ نجد
أن الكلام المنطوق واصل النمو على مدى فترةٍ طويلة من مرحلة ما
قبل التاريخ البشري، وإن معدل حركة التغير في مسيرة التطوُّر لا
يمكن أن تشي بأن مثل هذا الوسط غير المسبوق في تلاحُمه القوي
وفعاليته العالية كان يمكن له أن يظهر إلى الوجود بدون التعرُّض
زمنًا طويلًا لتأثير الانتخاب الطبيعي، ولكن إذا كان استعمال
الكلام مُمتدًّا منذ مليوني سنة، إذن فإنه واصل التطوُّر على مدى
أطول فترةٍ من عمره فيما قبل التاريخ في سياق سعة محدودة إلى حدٍّ
ما من حيث القدرة على النطق. وطبيعي أنه خلال هذه الفترة ظهرت
إلى الوجود غالبية الاستعدادات السابقة لمعالجة اللغة وفقًا
لمُقتضى التطوُّر البالدويني، وهذا أمر له آثاره المهمة جدًّا من
حيث أنواع التكيُّف للكلام والموجودة الآن عند البشر
المحدثين.
شكل
١١-٥: رسم بياني لمدى كلٍّ من القالب
الأول والقالب الثاني (التردُّدات الأساسية
للرنين الصوتي المتناغِم لتصويتات النطق)
بالنسبة لثلاثة أصوات متحركة إلى أقصى حدٍّ
(المناطق الرمادية)، والمنطقة التي تُحيط بها
منطقة داخلية حولها خط مُتقطع هي مدًى مُقيَّد،
بينما القالبان مُرتبطان أحدهما بالآخر نسبيًّا
أكثر على نحو ما يمكن أن يمثل خاصيةً مميزة
للوضع العلوي للحنجرة عند الأسلاف من
الهومينيد، ويُشير السهمان إلى الزيادات
النسبية في المدى نتيجة قدْر أكبر من
الاستقلال، وكذا الزيادة في مدى التغيُّرات في
حجم التجويف الفموي والبلعومي الذي حدث أثناء
التطور التالي للهومينيد.
وجدير بالإشارة أن إيه إل ليبرمان ورفاقه درسوا طرق البشر
في تحليل وتوليد أصوات الكلام في معمل هاسكينز، وكانوا روَّادًا
في بحوثهم لتوضيح سُبل البشر الفريدة في التكيُّف مع الكلام،
وزوَّدتنا هذه الجهود بمفاتيح مهمة؛ لكي نعرف بالدقة أي جوانب
الكلام هي التي استجابت لدرجةٍ ما من الاستيعاب الجيني على مدى
مسيرة التطور البشري،
١٨ وإذا أردنا أن نوجز عقود البحث التي أُجريت في معمل
هاسكينز وغيره في عبارة واحدة نقول: «الكلام خصوصية مميزة»،
استخدام البشر منظومة ذات كفاءة وتلقائية مُثيرة للانتباه من
أجل تكثيف وتخفيف كثافة المعلومات المُتضمنة في سيال صوتي من
الكلام؛ لأن آليات الإدراك الحسِّي للكلام هي إلى حدٍّ كبير
استجابات مُصممة ضمن وحدات نشاط تلقائي، تُعالج سابقًا كثيرًا من
الأصوات التي تقع دون مستوى الإدراك الواعي، وإن المُثير
للدهشة، على خلاف جوانب أخرى كثيرة للإدراك السمعي، أن
المعالجة السمعية لأصوات الكلام لا تبدو مرتكزة على استخلاص
مُحددات صوتية أساسية للإشارة، على نحو ما يضع العالم تصميمًا
لعمل الحاسوب، قبل مُطابقتها على أصوات الكلمات، ويبدو على
العكس أن تحليل الكلام مُصمم للتنبؤ بأي الحركات الفمويَّة-اللفظية الناتجة
عن الصوت هي التي أنتجتها لكي يغفل ما عدا ذلك.
ونظرًا لأن الإشارة الكلامية تنشأ عن مصدرٍ محدود، هو تجويف
الفم البشري، فإن التحليل الكامل للصوت المسموع ليس ضروريًّا،
وإنما فقط المعلومات اللسانية وثيقة الصلة ببيان أي الحركات
ولَّدت الأصوات هي المطلوب فصلُها عن الصوت. وإن المُهم هو الكلمات
المقصودة من المُتكلم التي تنعكس في حركات مقصودة من عضلات الفم
والصوت، ويجري إغفال كل ما عدا ذلك؛ بغية تحليل الكلمة (على
الرغم من أن مفاتيح أو أدلة تنغيمية أبطأ خطوًا موجودة في الآن
نفسه) بما في ذلك حجم الجهاز الصوتي ومعدل الكلام، والفشل في
تحقيق الأهداف الصوتية المقصودة، وهكذا … إلخ. ويتلقى هذا
مساعدةً إضافية من التطور الاجتماعي للكثير من أوجُه التمييز بين
أصوات الكلام لشغل أطراف الطيف الصوتي للنطق؛ حيث تكون الفوارق
ضبابية، إننا نميل إلى إدراك أصوات الكلام في ضوء «إيماءات
منطوقة تتوافق حدودها وتمايُزاتها مع قسمات أعضاء الكلام (أي
القسمات الحركية البدنية)، وليس فقط قسمات صوتية، وهذه العملية
الإدراكية هي في الغالب تلقائية وتجري علاوة على بلوغ التحليل
الواعي».
وإنه لأقرب إلى اليقين أن حالات التكيُّف الفموي-الأذني تم
التوافق بينها للتعامُل مع متطلبات المعالجة الكثيفة للغة
الكلام، وذلك أثناء التطوُّر البشري، ولكن ليس واضحًا إلى أي مدًى
يُعتبر هذا غير مسبوق بالقياس إلى الأنواع الأخرى وخاصية اللغة.
وحريٌّ أن نضع في الاعتبار هنا الطبيعة السهلة والسريعة على
نحوٍ مذهل لتغيُّر الصوت في اللغة (خاصة إذا ما قورنت بالتغير
الذي طرأ على تكوينات المخ على مدى التطور)، وهكذا الضغوط
الانتخابية القوية للتطوُّر الاجتماعي التي قد تُسهم بها قيود
النطق وانحيازات المعالجة السمعية في تعزيز هذا التغيير، وإذا
سلمنا بذلك فلن نجد غرابة في أن التمييزات الخاصة بالنطق التي
تم شحذها للإبانة عن وحدات الكلام قد أفادت أعظم إفادة من
الاستعدادات السابقة التي كانت موجودة بالفعل قبل تطور
الكلام.
ونجد مثالًا على ذلك الاستعداد السابق للإدراك في زمن بدء
خروج الصوت الذي يُعتبر مقياسًا للوقت من وقت بداية توليد الصوت
الساكن
consonant sound إلى
النقطة التي بدأ عندها صوت اللفظ
vocal
sound، إن الحروف الساكنة مثل
p
و
b نُمايز بينها على أساس
الاختلاف في زمن بدء خروج الصوت
voice-onset
time؛ إذ عند صدور صوت
p يكون متميزًا بانطلاق
ضغطٍ مبدئي عند الشفتَين قبل بدء صوت اللفظ، وإذا تآلف مع أصواتٍ
أخرى كما هو الحال عند نطق
pa
يحدث تأخير طفيف قبل أن يصدُر متبوعًا بصوتِ التلفُّظ المقترن
بالحرف اللين، هذا هو زمن بدء خروج الصوت
voice-onset time، ونجد في
المقابل في مقطع
ba أن صوت
اللفظ يتوافق مع أو يسبق قليلًا انطلاق الضغط من بين الشفتَين،
ولذلك نُمايز بين وحدتَي الصوت «الفونيمة» على أساس زمن بدء خروج
الصوت، والشيء الغريب فيما يختصُّ بهذا التأخير في وحدات الزمن
هو القدرة العالية على التنبُّؤ بها من فونيمة إلى أخرى ومن لغةٍ
إلى أخرى، علاوة على هذا يبدو أنها تتوافق مع حدٍّ إدراكي مطلق،
وثمة تجربة مشهورة تم خلالها عرض كلام مصطنع على مجموعة من
الناس؛ حيث اشتمل على كل طيف التمايزات المُمكنة في زمن بدء
خروج الصوت، ولكن الناس لم يسمعوا الأصوات وكأنها تُفضي من واحد
إلى آخر، بل شكلٌ من بين شكلَين متمايزين (مثل إما
p أو
b)، وأن الانتقال بين
الاثنَين يتم عبر نطاقٍ ضيق ومُثير من التأخير، أي تأخير بين صفر
٠ و٠٫٠٥ ثانية؛ إذ إن تأخيرًا لأكثر من ٠٫٠٥ ثانية يسمع
المرء دائمًا
p وأقل من صفر
(بمعنى أن توليد صوت الحنجرة يبدأ قبل فتح الشفتَين) نسمع
b في جميع الظروف العادية،
وقد يستهوي المرء أن يُعامل هذا الوضع الفونيمي (وحدة الكلام)
كشيءٍ خاص مُستوعب جينيًّا، وباعتباره تكيفًا إدراكيًّا-حركيًّا للغة ما لم يكن
بسبب أن هذا التأخير الزمني نفسه الذي
تبين أنه يخلق حدًّا إدراكيًّا مُطلقًا لدى الأنواع الأخرى
بالمثل،
١٩،٢٠ وليس معنى هذا ضمنًا أن الاستيعاب الجيني لا وجود
له جملةً، ولكن الصواب أنه يُشير إلى أن اللغات أفادت بميزة
الاستعدادات السابقة من أجل تحليل الصوت الموجود من قبل في
الجهاز العصبي، وتم شحذ ذلك كله لهذا الغرض الخاص، وزادت أهمية
هذا الاستعداد الخاص بسبب هذا الاستعمال العادي الجديد. ومما
لا ريب فيه أن الانتخاب البالدويني عزز كلًّا من التحليل
والإنتاج.
ونحن لا نسمع فقط هذا الحد الصوتي، بل ننتج أصوات كلام تدخل
بشكل واضح ومُتميز في هذا الجانب أو ذاك ونتجنَّب المتوسطات، وهذه
المهارة الدقيقة والسهلة ليس لها سابقة واضحة عند الحيوانات،
وهنا نرى من المحتمل أن التطور البالدويني كان سببًا في نشوء
وتطور استعداداتٍ سابقة مرتبطة بالنطق لكي نكمل الاستعدادات
السابقة الخاصة بالتحليل، غير أن الضغوط الانتخابية لتحليل
الصوت قيَّدت ووجهت أيضًا التطور الاجتماعي لأصوات الكلام في كل
لغة، وتراكمت البينات فيما يختصُّ بالكثير من الأمثلة الموازية
لنوعٍ من «التناغُم المؤسَّس سابقًا» بين أنماط النطق والمعالجة
الصوتية المُستخدَمة في اللغة، وثمة احتمال بأنه في كلٍّ من
الحالات تم تلاقٍ تطوري مشترك، وساعدت عليه التوافقات السريعة
لتغير الصوت في اللغة بهدف التطور في اتجاه أنماط الحد الأمثل
للتبايُنات الصوتية بين الوحدات الصوتية البديلة.
وهكذا فإن الدليل واسع النطاق على التخصص السمعي وعمله
اللاإرادي يُعتبر علامة على الاستخدام طويل المدى من جانب
أسلافنا؛ لما يقابله من حركات إيمائية مقابلة للنطق. وطبيعي أن
التخصُّصات الفموية والأذنية، التي خضعت لقيود شاملة وبشكلٍ
ثابت ومُطَّرد من مجتمع إلى مجتمع لها أصل نسبي قديم؛ لذلك نرى
أن تلك الأقل تخصصًا وأكثر قابلية للتغير ربما تبدَّت أهميتها
منذ عهد قريب، ومن ثم فإن الاختلافات في مظانِّ التخصُّص لمختلف
وجوه إنتاج الكلام والتحليل تُمثل دليلًا على اختلاف العصر الذي
تجسدت خلاله في استعمالٍ مُنتظم ضمن الكلام. معنى هذا أن نطاق
القسمات المُميزة وقابليتها للتغيُّر في اللغات الحديثة يمكن أن
يفيدا كدليلَين على قدمِهما وكذا دليلان على بنية اللغات القديمة
حقًّا.
مثال ذلك أن كل ما يتعلق بالإنتاج الفئوي والتخصُّصات في
الإدراك التي تأكدت للكلام تشتمِل فيما يبدو على حروفٍ ساكنة
وليس حروفًا متحركة، ونعرف أن الأصوات اللينة تتداخل معًا
بسهولة في كلٍّ من الإنتاج والإدراك، وكانت من بين آخر مظاهر
التمييز بين صوت الكلام الذي سُجِّل في لغاتٍ صوتية مكتوبة، وهذه
نسبيًّا حرة في التغيُّر في بعض اللغات وقابلة بدرجةٍ عالية
للتغيُّر في تواريخ اللغة واللهجات واللكنات الإقليمية. ويتَّسق
هذا مع الشواهد المُستقلة التي تُوضح أن التغيرات في وضع الحنجرة
داخل الزور سمحت منذ عهدٍ قريب فقط بالنطاق الكامل لإنتاج الحرف
اللين في تطوُّر الهومينيد. وجدير بالملاحظة أن تبايُنات الحرف
اللين في رصيد نُطق الهومو أريكتوس كانت على الأرجح غير كافية
للعمل كقسَماتٍ موضع ثقةٍ للتمييز بين الكلمات، وإنه لهذا السبب
نرى أن التغيرات اللغوية التي حدثت خلال هذه المرحلة في فترة
ما قبل التاريخ عمدت بشكلٍ متصل إلى الانتخاب في ضوء استخدامها
وهيَّأت الحدَّ الأدنى من الانتخاب لأيٍّ من التخصُّصات السمعية
للتعامل معها أيضًا على أساسٍ تصنيفي، بيد أن نطاق التمايزات
شبه الشاملة للحرف الساكن وما يُطابقها من تحيُّزات إدراكية يبدو
أنها نشأت وتطوَّرت نتيجة لذلك تزوِّدنا بدليلٍ عن المُتكلِّمين قديمًا
الذين استخدموا تشكيلةً واسعة النطاق من هذه الإيماءات والحركات
الفمويَّة من أجل التواصل.
وإذا كان ثمة شيء مناظر للغة الإشارة الأمريكية جاء سابقًا
بزمنٍ طويل على تاريخ لغات الكلام، وأفاد كجسرٍ يربط عمليات
الاتصال بين أسلافنا الأُوَل الذين لا يفصحون في النطق
نسبيًّا، فإن لنا أن نتوقع أن فترةً طويلة من التطور البالدويني
قد خلقت تخصصًا لكلٍّ من إنتاج وإدراك الإيماءات والإشارات
اليدوية. ويبدو واضحًا أن هناك إيماءات وإشارات شبه كلية شاملة
مقترنة بالتلميح والتوسُّل والتهديد … إلخ، ولكن هذه أقرب شبهًا
بالاتصالات الإيمائية غير اللسانية عند الرئيسات الأخرى، سواء
من حيث وظائفها المؤسَّسة على الدليل الموضوعي أو في أنواع
العلاقات الاجتماعية التي يُشفِّرونها، وليست مثل أي شيءٍ لساني أو
رمزي. وإن غياب الوسائل الأخرى المُماثلة من استعداداتٍ سابقة
إيمائية تصنيفية ومعيارية يُفيد، عند المقارنة بالتخصُّصات
الكلامية، بأن الغالبية الساحقة من التطوُّر البالدويني للغة قد
أخذ مجراه بالنسبة للكلام، وقد يكون التلميح هو الاستثناء الذي
يُثبت القاعدة. وتكشف هذه الإيماءة الكلية الشاملة عن قسَمات
كثيرة تفيد بأن إنتاجها وتفسيرها خاضعان لاستعداداتٍ سابقة
فطرية، وثمة واقع يتمثل في ظهورها قبل اللغة كشكلٍ قوي للاتصال
الاجتماعي عند الأطفال (وليس عند الرئيسات الأخرى)، ثم تؤدي
لاحقًا دورًا قويًّا للغاية في نموِّ لغة الأطفال، ويُعتبر هذا
بوجهٍ خاصٍّ بيِّنةً وثيقة الصلة تؤكد أنها اتبعت مسارًا تطوريًّا
تكميليًّا مع تطوُّر الكلام، وإن الطريقة التي شحذت بها في لغات
الإشارة اليدوية، ثم أُعِيدَ تسجيلها رمزيًّا لاستخدامها كمعلم
ضميري بالنسبة لبيان الموقع في المكان (من بين استخدامات أخرى
ممايزة لدورها غير اللساني القائم على الدليل الموضوعي)، إنما
يثبت كيف أن مثل هذا الاستعداد السابق عزَّز سهولة دخولها نطاق
الاتصال الرمزي في لغاتِ الماضي التي كانت سهلةً إلى حدٍّ ما من
حيث النطق اللفظي.
وليس متوقعًا أن الاتصال الرمزي في مرحلته الباكرة كان مجرد
لغةٍ أبسط تكوينًا، وإنما مختلفة من نواحٍ كثيرة نتيجة لحالة
قدرات النطق. وتصور بعض الكتَّاب في تأمُّلاتهم أن اللغات الأولى
كانت أشبهَ بمتواليات أو سلاسل من كلماتٍ بدون نحوٍ وفق قواعد
منظمة أو بناء جُمل، وافترض البعض أن الكلام المنطوق بإجهادٍ
وعناءٍ وضعيف في مخارجه وبشكل تلغرافي عند المرضى بحبسة بروكا،
ربما يكون مثالًا جيدًا للُّغة في باكورة عهدها، بيد أن المفارقة
أن القيود على قدرة النطق الأقل طلاقة كانت على العكس سببًا
رئيسيًّا في التعقُّد البِنيوي في اللغات الأولى؛ إذ إن أسلافنا
وبسبب المهارة الأقل في النطق وانخفاض النطاق الصوتي بالقياس
إلى البشر المُحدثين، كانت الفوارق الفونيمية المتاحة لديهم أقل
لبيان فوارق الكلمات، فضلًا عن أن هذه كانت أقلَّ تمايزًا.
وتترتب على هذا نتيجتان مُهمَّتان: الأولى أنها ستزيد فرص التفسير
الخاطئ الناجم عن خطأ تصنيف الأصوات والخلط بين الكلمات
المُتشابهة. ثانيًا: امتلاك عدد أقل من عناصر الصوت يمكن أن
يؤدي في المتوسط إلى استخدام سلاسل أطول من الأصوات لتشكيل كل
كلمة، وسلاسل أطول من الكلمات لكل جملة،
٢١ معنى هذا أن اللغة ستفضي إلى المزيد من التعرض
للأخطاء، مع قلة الكفاءة عن اللغات الحديثة، علاوة على هذا فإن
زيادة طول مُدة النطق ربما ضاعفت من درجة التعقُّد؛ بسبب بطء معدل
النطق. كل هذا من شأنه أن يجعل التفسير أكثر عرضةً لقيود إضافية
وذاكرة قصيرة المدى، وربما توفرت المساعدة بفضل زيادة نوعٍ آخر
من التعقُّد.
ولنتأمل معًا واقع أن أفضل وسيلة لتعويض التشوُّش أو التعريض
للخطأ في الاتصال هو الفائض أو الزائد عن الحاجة، ونحن نَميل
إلى تكرار الأشياء وتهجِّي الكلمات المُهمة، وأن نقول الشيء نفسه
بطرقٍ مختلفة أو أن نُضيف إيماءاتٍ أو المبالغة في التنغيم وحجم
الصوت؛ لكي نتغلَّب على التقلُّبات التي تُسببها الغرف المليئة
بالضوضاء أو حالات السهو والانشغال أو المُستمعين المُعاقين أو
غير ذلك من صعوباتٍ في نقل الرسائل. وحريٌّ أن نُدرك أن هذا
الفائض مُدمج ضمنيًّا في بِنية لغوية أيضًا، وإن ممَّا يساعد على
استباق ما سوف يأتي وجود العناصر الصوتية التي يمكن التنبؤ بها
بسهولة، والعلامات النحوية التي يتعيَّن أن تتفق جميعها معًا
داخل الجُملة، وإمكانية التنبؤ بقيود ترتيب الكلمات، وتعتبر هذه
جميعًا عوامل مساهمة مباشرة مع الفائض، بينما أنماط التنغيم
المنظمة وفق القواعد والفواصل والسكنات، والإيماءات والإشارات
هي جميعًا علامات موازية تُزوِّدنا بمفاتيح إضافية من حيث
المساعدة على تقليل الأخطاء التي تستوجِب تفسيرًا إلى أقلِّ حدٍّ
ممكن، وكلما كانت فئة كل كلمةٍ في حالة النطق أكثر قابليةً
للتنبؤ، سواء بسبب علامات إضافية أو بِنية عبارة مُقيدة، قلَّت
الخيارات التي يتعيَّن التمييز بينها.
وهكذا لنا أن نتوقَّع أن الكلام في البدء كان مقيدًا من حيث
ترتيب الكلمات، مَبنيًّا من حزم صغيرة، مدمجًا في نماذج من
الإيماءات غير المنطوقة والأغنى دلالةً مع تنغيمات مُفرطة، وهذا
على النقيض تمامًا من كلام المرضى بحبسة بروكا؛ حيث الكلام
مباشر ومُسطح غير موسوم بعلاماتٍ مميزة وغير مُنتظم في بِنية مُحددة
خلوٌ إلى حدٍّ ما من قواعد منظمة، وهذا وصف أفضل «للغة الأمومة
motherese»، وهو الوصف
الذي نُطلقه كثيرًا على الكلام المسرف (الذي يزخر عادةً
بالإيماءات وغارق في مُخططات أشبه بالطقوس والشعائر)، وهذه هي
اللغة التي غالبًا ما يستخدِمها تلقائيًّا الكبار عند الاتصال
بصغار الأطفال، والمُلاحظ أن العادات الاجتماعية التي تمكن
المرء من نشر كمية الفائض المساعد في التفسير عبر قنوات اتصالٍ
كثيرة في وقتٍ واحد، وتدمج حزمًا كاملة صغيرة من الجُمَل داخل حُزمٍ
أخرى، تفيد في تقليل المتطلبات الاتصالية المفروضة على الذاكرة
قصيرة المدى وعلى مهارة النطق. وحريٌّ أن نُدرك أن المحادثات
اليوم ثاوية حتمًا ضمن علامات ذات طابعٍ شعائري من أجل الترحيب،
أو العزوف أو التعبير عن القبول أو الرفض والإشارة إلى
الأشياء. ويبدو أن من المُستساغ عقلًا القول بأن مثل هذه
الشعائر اللغوية كانت طاغيةً أكثر من ذلك خلال المراحل الأولى
من التطوُّر المشترك للمخ واللغة، وليس بسبب أي استعداداتٍ سابقة
فطرية أعظم شأنًا، وإنما استجابةً لشدة الضغط الانتخابي
الاجتماعي على عادات الاتصال.
وتحقق الإنجاز الأخير المتمثل في النطق الفصيح للكلام، وذلك
على وجه الاحتمال خلال فترة قريبة تتوافق مع ظهور الهومو
سابينس الحديث تشريحيًّا منذ ١٠٠٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠٠ سنة مضت، ومع
هذا الإنجاز فإن الكثير من مظاهر التكيُّف الباكرة التي كانت
يومًا ما جوهرية لتحقيق الاتصال الصوتي الناجح تكون قد فقدت
ضرورتها المُلِحَّة، وطبيعي أن آثارًا باقية لعناصر الدعم التي
كانت يومًا ضرورية وحاسمة باتت الآن على الأرجح تؤلف الكثير من
العناصر شبه الكلية الشاملة المصاحبة للمحادثات العادية في
صورة إيماءات وإيقاعات منتظمة، وربما يسرت بقاءها الاستعدادات
السابقة التي تطورت على مدى زمني طويل، وإن أصبحت اليوم حرة
إلى حدٍّ ما من هذه المتطلبات، وتم الإفادة بها بصور مختلفة،
وأضيفت إلى تشكيلة أوسع نطاقًا من حالات التكيف اللسانية وشبه
اللسانية في المجتمعات الحديثة. والملاحظ أنه بدلًا من
استبعادها نجد أن الكثير من هذه الاستعدادات الحاسمة سابقًا
ربما أسهمت في الفعالية والكفاءة الزائدتَين للاتصال اللغوي؛ إذ
قدمت خيارات جديدة، ولعل مع ميلاد قدرات النطق الحديثة استوعبت
اللغات بالكامل ولأوَّل مرة وظائف كثيرة كانت تدعمها في السابق
نظائر غير صوتية للنطق، وطبيعي أنه مع القوة الإضافية المُتمثلة
في زيادة خاصية التمايز وزيادة سرعة النطق أصبح بالإمكان تعبئة
المزيد من المعلومات في ذاكرة المدى القصير نفسها، كما أن كامل
نطاق الوظائف العملية التي كانت تدعمها في السابق روابط
الاتصالات الآنية الأخرى تم تسجيلها أخيرًا في صورة سلسلة من
العمليات النحوية الخاصة ببناء الجُمَل.
وإن فئة الوظائف شبه اللسانية التي ربما عاشت أطول علاقة
تطورية مشتركة مع اللغة هي تنغيم الكلام؛ أي التغيرات
الإيقاعية، جهارة الصوت volume
والسلم النغمي tonality
للكلام، وهي التي كانت مستخدمة لأمرَين، هما توجيه الانتباه
للعناصر التي يريد المتكلم إبرازها وأيضًا توصيل نغمة انفعالية
ملازمة، ولا بد أن تطوُّر هذه المنظومة من المؤشرات أو الأدلة
الموضوعية ارتبط على نحوٍ وثيق بتطوُّر قدرات الكلام؛ لأنهما معًا
عمليًّا وجهان متقابلان لعملة عصبية واحدة، وسبق أن أوضحنا في
الفصل السابع أن هذه العناصر الإيقاعية في النطق تُشبه منظومات
النداء النمطية من حيث استخدامها لدرجة الشدة، والتكرار
والتغيير النغمي لصوت النطق، وتُشبه أيضًا من حيث احتمال مشاركة
دوائر النطق الطرفية والمخ الأوسط، ونظرًا لأن تحكم قشرة المخ
البشري في هذه المنظومات للمخرجات نفسها إنما تحقق بفضل مجموعة
مباشرة أكثر من الرسائل العصبية التي تتجاوز هذه المسارات
الانفعالية الإثارية، فإن كلًّا من المنظومتَين تكُون من هذه
الناحية موازية ومُكملة للأخرى تشريحيًّا ووظيفيًّا معًا،
ويعملان إلى حدٍّ ما أيضًا وفق جدول زمني مُختلف وإن كان
متزامنًا، ويقع نطق الكلمة في أجزاء أخرى من الثانية، بينما
التغيرات التنغيمية تكتمِل في ثوانٍ من خلال جملة الكلمات
المنطوقة التي تقطعها دورة التنفُّس، ويُعتبر تكامُلهما المتجانس
علامةً على تاريخ انتخابي عريق وثابت، ويمكن أن يكون هذا في
الحقيقة علامةً إضافية تُشير إلى أصول نشأة الانحياز الثابت إلى
أحد الجانبَين للوظائف المُتعلقة باللغة، وسبق أن ذكرنا في الفصل
الثامن أن مواقع إصابات المخ التي تتسبَّب في إصدار كلام غير
منغم aprosodic أو في صعوبات
في تحليل المعلومات العاطفية المسجلة في كلام مُنغم غالبًا ما
تشتمل على قشرة النصف الكروي الأيمن للمخ، مقابلة للنصف الكروي
من المخ الذي تُهيمن عليه اللغة، وأكثر من هذا؛ إذ يمكن أن يحدث
نوع من الموقع المُكمل المقابل كأنه صورة مرآة الشبيه لحالة
غيبية التنغيم في الكلام الشبيهة بحالتي بروكا وفيرنيك. وجدير
بالذكر أن أهمية هذا الفصل الوظيفي أنه يمكن أن يكون بمنزلة
استجابة لإمكانية تدخل تنافُسي بين هاتَين المنظومتَين؛ نظرًا
لأنهما تشتركان معًا في مسار المخرجات (الكلام) ومسار مشترك
للتغذية المرتدة (القدرة على السمع)، وثمة انحياز تطوري سابق،
ربما في صورة الفارق في التناسُب يمين/يسار التوصيلية
connectivity الطرفية
مقابل اللاطرفية nonlimbic في
المخ الذي لم يكتمِل نضجه بعد، والذي يمكن أن يدعم المزيد من
الفصل الموثوق به أثناء النمو بين هذه الوظائف ويُقلل إلى أدنى
حدٍّ من آثار التداخل.
وهكذا، واتصالًا بما سبق أن اقترحناه بشأن التحليل الرمزي،
فإن الانحياز تجاه أحد جانبي النصفَين الكرويين للمخ ربما لا
يعكس بوضوح الحاجة إلى وضع الكلام تحت سيطرة نصفٍ كروي واحد —
وهو ما ليس قائمًا — بل ربما، وهو الأصح، ميزات عزل وظائف الكلام
الموازية والمتنافسة احتمالًا عن بعضها، إن مخرجات النصف
الكروي الأيمن للمخ الذي ينتج أبطأ تغيرات في ضغط تحت اللساني
subglottal وتوتر عضلة
النطق، والمُخرجات من النصف الكروي الأيسر الذي يُنتج حركات
النطق المنطلقة بسرعة يمكن أن يتراكبا فوق موجةٍ ناقلة أسرع
كثيرًا من النقل الإذاعي، ومن ثم فبدلًا من التحلل في مواجهة
هيمنة التوصيلات العصبية الحركية لقشرة المخ في التطوُّر البشري
نجد أن المنظومات المشاركة في ربط الحالة الإثارية والانفعالية
بالنطق أصبحت أكثر إحكامًا ودقةً مع الكلام، ويُمثل هذا أيضًا
دليلًا قويًّا على الاستخدام طويل المدى لنُطق الكلام خلال تطوُّر
الهومينيد.
الكتابة على الجدار
استخدم أسلافنا فيما قبل التاريخ لُغات لن نسمعها أبدًا،
وتواصلوا فيما بينهم برموزٍ أخرى لم يُقدَّر لها البقاء من
مفرزة انتخاب التحول إلى حفريات، ولكن ما يستهوينا في غياب ذلك
كله أن نستخدم دليلَ الحد الأدنى من الثقافات المادية لفترةٍ ما
قبل التاريخ ونتَّخذها دليلًا موضوعيًّا على حالة التعقُّد الذهني
واللساني لدى أسلافنا، وثمة موقع موثوق به يكاد يرقى إلى مستوى
اليقين بأن أي مجتمعٍ يبني أدوات معقدة، فإنه يملك بالمقابل
بِنية أساسية رمزية صقيلة ومتقدمة، وأنه حيث تختلف الأدوات
والمصنوعات الأخرى من إقليمٍ إلى آخر، يوجد على الأرجح تنوع
مقابل في تراث كلِّ إقليمٍ خاص باستخدام الأداة وموارد الإنتاج،
والتنظيم الاجتماعي، علاوة على هذا فإن المجتمع الذي يخلف
وراءه دليلًا متمثلًا في رموز خارجية دائمة على هيئة رسوم
زيتية أو أعمال نحت أو فقط مجرد رسوم عبثية متواضَع عليها
اجتماعيًّا، مثل هذا المجتمع يتبنَّى على الأرجح وظيفةً اجتماعية
لهذا النشاط، وفي كلمة موجزة نقول: إن المصنوعات الأثرية هي
إحدى المنافذ القليلة التي يُمكن أن نلمح من خلالها إنجازات
وأعمال النشاط «الذهني» لمجتمع ما قبل التاريخ.
المشكلة هي أن هذا المنطق لا يَصحُّ معكوسًا؛ إذ على الرغم من
أننا نستطيع أن نستنتج من المصنوعات اليدوية الحد الأدنى من
مُتطلبات الظروف الاجتماعية لإنتاجها، لا نستطيع أن نستنتِج،
بالقدر نفسه من السهولة، من غيابها افتقاد ظروف اجتماعية معينة،
فضلًا عن أننا لا نستطيع يقينًا أن نستنتج أن إمكانية إنتاجها
غير متوفِّرة. وجدير بالذكر أنه قبل القرن العشرين اعتقد
الكثيرون أن الشعوب في المُجتمعات التي ما تزال تستخدم
تكنولوجيا الأدوات الحجرية للصيد والزراعة والحرب هم أيضًا
أكثر بدائية من الناحية البيولوجية عن شعوب أوروبا أو آسيا،
وهذا جزء مُكمل لوهم المركزية الأوروبية أثناء حقبة الاستعمار
واستخدمته أوروبا لتبرير العديد من مظالمها ابتداءً من الإبادة
العرقية وحتى الرقِّ والعبودية، وسرعان ما أدرك علماء
الأنثروبولوجيا في مطلع القرن العشرين أن الواقع التكنولوجي
لمجتمعٍ ما ليس أساسًا للتنبُّؤ بتعقُّد لغته أو ثرائه الرمزي الذي
يغتني به تراثه، والملاحظ بوجهٍ عام أن الإنسان المتوسط في
مجتمع ما ربما يتمتَّع تقريبًا بالقدْر نفسه من المعلومات
اللسانية والثقافية «في رأسه أو رأسها»؛ إذ لا توجد أي لُغات
بدائية بمعنى اللغة الأبسط والأكثر بدائيةً من حيث البنية، ولا
حتى في النصوص المكتوبة قديمًا، والملاحظ أن الأطفال الذين
يفدون من مجتمعات ما تزال تستخدِم تكنولوجيا الأدوات الحجرية
يُمكنهم التكيف مع مجتمع صناعي حديث، وأن يستوعبوا تراثه الفكري
بسهولةٍ تُضارع أقرانهم المولودين في المجتمع نفسه، وليس الأمر
مقصورًا فقط على أن افتقاد التراث المادي الأركيولوجي أو قلَّته
يُخبرنا بالقليل عن النطاق المُحتمل لثقافة «عرضة للضياع»، بل
إنه لا يقول شيئًا عن طاقة هذه الثقافة، ولكنه بدلًا من ذلك
يُعتبر معلمًا للدلالة على مجموعة متنوعة من المُتغيرات
الإيكولوجية والتاريخية التي اختارت التزامًا بالقيمة
الاجتماعية من إنتاج موضوعاتٍ رمزية قابلة للبقاء زمنًا
طويلًا.
وثمة مشكلة أخرى مُتعلقة بسابقتها وهي مثيرة للحيرة بوجه خاص
فيما يختص بآثار العصر الحجري؛ إذ إن المصنوعات اليدوية التي
نعثر عليها هي عيِّنات منحازة للغاية من الآثار المادية للثقافة،
فضلًا عن أن ما بقي محفوظًا هي أنواع مُعينة فقط في بيئة
بعينِها، وطبيعي أن العوامل الرئيسية التي تُحدد ما تم العثور
عليه وما يختفي منها بعد عشرات الآلاف أو ملايين السنين هي مدى
هشاشة أو القابلية للاندثار من المواد وطبيعة البيئات التي
تخلَّفت فيها، معنى هذا، بعبارة بسيطة، أن الأدوات الحجرية هي
المحفوظة في سجلِّ الحفريات دون الأدوات الخشبية أو الجلدية، أو
أن الرسوم الملونة المرسومة على جدران الكهوف أو أعمال النحت
من حجر أو عاج هي التي بقِيت، بينما النقوش المرسومة على
الأبدان أو الملابس أو المنحوتات الخشبية وغيرها لم يحفظ
التاريخ لنا منها شيئًا. وحريٌّ أن ندرك أيضًا أن غالبية
مجالات استخدام الرموز في المجتمع حتى مع استثناء اللغة، لم
تتجسَّد لنا في أي مادة، ولكنها تجسَّدت في الاحتفالات والعادات
والقواعد التي تحكم الحياة اليومية، وإن ما نعرفه عن غالبية
المصنوعات اليدوية هو أن الغالبية الساحقة مصنوعة من مواد
قابلة للاندثار، وهذا صحيح بوجه خاص بالنسبة للشعوب الطوَّافة
بحثًا عن الطعام، وهم رُحَّلٌ دائمًا من مكانٍ إلى آخر، ومن ثم
فإن الغالبية الساحقة من جهودهم الإبداعية، مثلها مثل الكلمات
التي تكلمت بها شعوب ما قبل التاريخ أثمرت نتائج اختفت معهم أو
بعدهم بقليل، وهكذا يتعيَّن علينا، مثلما هو الحال في الكثير من
المشروعات العلمية، ألا ننسى الحكمة التحذيرية، وهي أن «عدم
وجود برهان ليس دليلًا على عدم وجود الشيء».
ولنتخيَّل معًا النظرة البائسة عن مجتمعات أقزام إفريقيا التي
يمكن أن نصوغها من خلال عظامهم ومصنوعاتهم الحجرية فقط دون شيءٍ
آخر (مع استبعاد تلك الأشياء المستعارة من خارج مجتمعاتهم)،
إننا هنا سنفقد الثراء المُذهل لحياتهم الشعائرية، ولن نعرف
شيئًا عن لُغاتهم المعقدة، ولن ندرك شيئًا عن استخدامهم للسموم
الطبيعية في أعمال النقص، ولن ندري شيئًا عمَّا استحدثوه من آلات
موسيقية مُحكمة ولا عن تراثهم وتقاليدهم الموسيقية، وهذا قليل
من كثير من أمور أخرى سنظلُّ جاهلين بها، وطبيعي أن بساطة مجموع
أدواتهم بالمقارنة بأدوات المجتمعات الزراعية، والمجتمعات التي
تستخدم أدواتٍ معدنية قد يستنتج منها عالم الأنثروبولوجيا
المَعني بالمُستقبل أن ثمة هُوَّة معدنية كُبرى تفصل هذه الشعوب
عن غيرها من الشعوب المعاصرة الأخرى، ونظرًا لتوفر الأسباب
التي تدعونا إلى الظنِّ بأن هذا الشعب الصغير مُهيأ تمامًا
للاختفاء كشعبٍ متمايز في المستقبل القريب؛ لهذا يمكن لنا أن
نتصوَّر هذا العالم الأنثروبولوجي المَعني بالمستقبل وهو يفسر
اختفاءهم في ضوء مصنوعاتهم المحدودة وأمخاخهم صغيرة الحجم.
ويرى في هذا ما يعني أن حالتهم العقلية الدونية هي سبب
استئصالهم على أيدي عناصر من الهومينيد أكثر تقدمًا منهم
بيولوجيًّا.
ونعرف في هذه الحالة أن مثل هذه الاستنتاجات مُخطئة تمامًا.
إن شعب الأقزام في غابات وسط إفريقيا متساوون معنا في كل صغيرةٍ
وكبيرة من الناحية الفسيولوجية والعقلية، وإن الاختلافات في
الثقافة المادية غير القابلة للاندثار هي فقط نتيجة لانحيازٍ
خاصٍّ بالعينات موضوع الدراسة. ويمكن الدفع بأن هذا التكيف
الثقافي المُميز تحديدًا هو الأمثل إلى حدِّ أنه، وعلى خلاف
الاستخدام المُدمر لهذا الموئل
habitat الذي حدث باسم
«التنمية»، وفي إطار تكيف الأقزام، يبدو إجمالًا الأكثر
توازنًا مع النسَق الإيكولوجي
ecosystem، ومن ثم الأكثر
ملاءمةً واستدامة.
وأهمية هذه الدراسة لتفسير المعطيات الأركيولوجية هي أن
المصنوعات الفنية اليومية ليست مؤشرات موثوقًا بها بشأن
القدرات الذهنية، كما أن نقص المصنوعات لا يُشير إلى نقص
إمكانية إنتاجها، وهناك من يستدلُّ على التعقُّد الفكري والثقافي
من مصنوعاتٍ فنية يدوية محفوظة في أنواعٍ مختلفة تمامًا، تعيش
أسلوب حياة ليس له — على وجه الاحتمال — نظير واضح في سجل مبحث
الأركيولوجيا، بيدَ أنه حتى هذا لاستدلال أكثر عرضةً للخطأ من
الذي تقترحه هذه التجربة بشأن فِكر الأقزام، وحريٌّ بنا أن
نتحلَّى بقدْر أكبر من الحذر والتريُّث في نزوعنا إلى تفسير ما لا
نراه، ولهذا يحرص علم الأنثروبولوجيا الحذِر على الالتزام
بالشعار القائل: إن التأمُّلات الوحيدة الأحق بالدعم هي تلك التي
تنطلِق من المصنوعات الفنية اليدوية إلى ما تقتضيه هذه من حيث
الأُطُر والسياقات الداعمة (المادية والاجتماعية معًا) وإلى ما
تتضمَّنه وحدَها بشأن استخداماتها المُحتمَلة. ونعرف أن الاستدلال
من المصنوعات الفنية اليدوية المُفتقدة غير مسموح به إلا في
سياقات شديدة الخصوصية.
ولنا في حالة شعوب ما قبل الزراعة أن نكون على يقينٍ تامٍّ فيما
يتعلق بإدخال سلوكيات مقترنة بأدوات خاصة مثل صنارة صيد السمك
أو الحاربون وهو رمح لصيد الحيتان، ولكننا لا نستطيع أن نعرف
ما إذا كان صحيحًا أم لا أن رسوم الكهوف والمنحوتات العاجية هي
أقدم أشكال الفن التمثيلي، وليس بالإمكان أن نُحدد بدقة تاريخ
بدء استعمال القنص أو التغذِّي على اللحم، بيد أن النقطة التي
يمكن أن نكون على ثقةٍ من أنها موجودة بالفعل يمكن استدلالها من
أول ظهور أدوات مُصممة لقَطع اللحم: أدوات حجرية حادة تم شحذها.
ونستطيع أيضًا الدفع بأنه قبل توفر هذه الأدوات كانت مثل تلك
الأنشطة أقل كفاءة، وكذلك بفضل مزيد من الاستقراء نستنتج أن من
المُحتمَل أنها كانت عنصرًا أقل ضرورة وحسمًا من أجل بقاء
الهومينيدات الأسبق (هذا إذا كان لهم وجود فعلًا).
والملاحظ إغفال هذه المحاذير في غالب الأحيان عندما يتعلق
الأمر بالتفكير في تطوُّر اللغة والذكاء عند أسلافنا، وحريٌّ
الإشارة إلى أن افتراض أن «الأدوات البسيطة تعني عقولًا بسيطة»
هو غالبًا الافتراض المُضمَر الذي يمثل المبدأ المُعتمد، ونتيجةً
لذلك كثيرًا ما يجري تفسير التغيُّر والتبايُن التكنولوجي على أنه
دليل على تقدُّم ثقافي وبيولوجي، وعلى العكس أيضًا يجري تفسير
عدم التغيُّر التكنولوجي في الغالب على أنه انعكاس لحالة عدم
التقدم، وهذا التفسير المبني على وجهة نظرٍ حديثة قائمة على
محورية التقدم تُعطي مفادًا سلبيًّا بما يعني الركود.
وظهرت هذه المشكلة عقب جهود كثيرة لاستقراء الدليل الثقافي
المادي الذي خلَّفَهُ أسلافنا بشأن قدراتهم اللغوية، مثال ذلك
يمكن تتبُّع الهومو أريكتوس خلال سجل حفري مُمتد على مدى ١٫٥
مليون سنة، ولكن علماء الأركيولوجيا حددوا خلال هذه الحقبة
الزمنية مجموعةً شِبه مستقرة نسبيًّا من أنماط الأدوات وتقنيات
صناعة الأدوات على مدى سلسلةٍ مُمتدة من التاريخ والموائل في كل
أنحاء العالم القديم، ورأوا في مقابل هذا الاستقرار الظاهري
وخلال المائة ألف سنة الأخيرة من تاريخ وجود هومو أريكتوس على
الأرض أن هناك مظاهر تقدُّم مُتزايدة السرعة في وسائل صناعة
الأدوات وتنوُّعًا مُتناميًا في أنماط الأدوات، وغالبًا ما فسَّروا
ذلك على أنه بَيِّنة شاهدة على نوع من الركود المعرفي في عصر هومو
أريكتوس ضمن تاريخ الهومينيد، ثم حلَّ محلَّه وتاليًا له تقدُّم
سريع في الهومو سابينس، ولكن جزءًا من هذه النظرة ربما يكون
نتيجةً لمشكلة مُضللة، إن الأدوات التي تم العثور عليها في جنوب
شرق آسيا، وساد اعتقاد في البداية بأنها ترجع تاريخيًّا إلى
المرحلة الأخيرة من سكان أريكتوس عكست نمطًا تقليديًّا للمراحل
الأولى في إفريقيا، وظهرت في إفريقيا مواد أكثر تقدمًا في هذه
الفترة المتأخرة نفسها، بيد أن التأريخ الجديد خلال عهدٍ قريب
للحفريات الآسيوية يُشير إلى أنها قديمة مثلها مثل حفريات أقدم
هومو أريكتوس الإفريقي، ويبدو واضحًا أن أبناء الهومو أريكتوس
امتدَّ زمانهم على مدى العالم القديم من إفريقيا إلى جاوة خلال
فترة لا تتجاوز مائة ألف سنة من بعدِ أول ظهورٍ لهم في إفريقيا،
وعندما ساد الظن بأن هؤلاء السكان من شعوب هومو أريكتوس كانوا
أكثر حداثةً من نظرائهم الأفارقة، ظهر أن الأدوات التي تم
العثور عليها في آسيا وبدت أدواتٍ بدائية تُفيد انتفاء تقدمٍ
تكنولوجي على مدًى زمنيٍّ طويل جدًّا، ونجد أن بعض أدوات هومو
أريكتوس في مرحلةٍ لاحقة والمصنوعة من زجاجٍ بركاني تم تشكيلها
بوسائل لتقطيعها إلى رقائق وهي وسائل اشتملت على مراحل عدة
وأدوات قاطعة، وهي مختلفة تمامًا عن تلك التي تم العثور عليها
مع بداية تطوُّر هذا النوع، وتبيَّن أيضًا وجود مظاهر تكيُّف
تكنولوجي أخرى لا تظهر إلا في مراحل متأخرة من تطوُّر هومو
أريكتوس، ويبدو من المُحتمل، من ظهور مواقد النار التي تُشبه
المدفأة والمكتشفة في إفريقيا وأوروبا والصين، أن أبناء هومو
أريكتوس في المرحلة الأخيرة من حياتهم استخدموا أيضًا النار،
وهكذا يبين لنا أن التقارير عن الركود الذهني عند هومو أريكتوس
مبالَغ فيها أيضًا.
وجدير بالذكر أن معدل سرعة التغيُّر والتبايُن في المصنوعات
الفنية للهومو أريكتوس، قد يتضاءل كثيرًا بالقياس إلى تلك
التي أعقبته قرينة جماعات الهومو سابينس، ولكن هذا لا يكفي
كدليلٍ على أن الأريكتوس قد بلغ مستوًى مستقرًّا أو «درجة» ثابتة
من التطوُّر الذهني، الذي ظلَّ ثابتًا ولم يأفُل إلا مع وصول الهومو
سابينس فيما بعد، وحقق الهومو أريكتوس تكيفًا ناجحًا عالي
المستوى، ودعمته في ذلك عن يقينٍ بنيةٌ مركبة من ثقافة رمزية
سمحت لهم بتنظيم النسل والعمل والتعامل الاجتماعي مع قدْر من
الكفاءة والمرونة غير معروفة عن أي نوعٍ سابق. وطبيعي أن كان
الاتصال الرمزي بحُكم طبيعته أمرًا جوهريًّا لنقل المعلومات
بشأن تفاصيل البقاء التي كانت مَعلمًا خاصًّا ومذهلًا للموائل
التي هزموها واحتلُّوها، وكانت تكنولوجيا أدواتهم الحجرية مظهرًا
لتكيُّف ناجح للغاية وذلك جزئيًّا بسبب أنها احتاجت تعديلًا
ضئيلًا للنجاح في مختلف الموائل على الرغم من التباين الشديد
فيما بينها ابتداءً من المناخ دون الاستوائي وحتى المناخ دون
القطبي. ولم تستلزِم أعمال النقص والذبح أدواتٍ مختلفة تمامًا
لموائل مختلفة أو لأنواعٍ مختلفة من الفرائس؛ إذ إن ما يقتل أو
يقطع اللَّحم في مكانٍ ما سيَصلح للشيء نفسه في مكانٍ آخر، وإذا نجح
في مهمته فلن يحتاج إلى تعديل، وإن هذه التكنولوجيا المشتركة
في صناعة الأدوات ربما اقترنت بتنوُّعٍ كبير ومُهم في التقاليد
الثقافية واللسانية، واعتاد أبناء الهومو أريكتوس خلال
امتلاكهم الأرض واستقرارهم على استخدام تكنولوجيتهم الحجرية
والرمزية للتكيُّف مع طائفة متنوعة من الموائل، وتطورت أحجام
أمخاخهم بحيث ضارعت بعض البشر العاديِّين الموجودين اليوم، ونلحظ
الآن أن التأريخ الأكثر دقةً وضع بعض الآسيويين من أبناء هذا
النوع في فترة زمنية سابقة، ويبدو أيضًا أنه ظهر آنذاك اتجاه
واضح نحوَ توسُّع حجم المخ مختلف عن التجمُّعات الأولى وكذا
الأقرب عهدًا من الأريكتوس، ولا شك في أن أمخاخهم والأشكال
الرمزية لاتصالهم كانت تتطوَّر معًا حتى وإن كانت الأدوات التي
كانوا يستخدمونها لم تتقدَّم بالمعدل نفسه. وعلى الرغم من أن
أشكال الاتصال الرمزي المُستخدَمة من قبل هؤلاء ربما لم تتحسَّن
بأي معنى من معاني التحسُّن في خط بسيطٍ ومستقيم، فإنه من المرجح
أن ساد تنوع واضح وكبير من تجمع سكاني إلى تجمُّع آخر، كما حدث
تغير مُهم يُمايز بين الهومو أريكتوس في مرحلته الباكرة عن
مرحلته المتأخِّرة. ترى هل لنا أن نُسمي اتصالهم الرمزي «لغة»؟ هل
كانت لغة كلامٍ منطوق؟ الإجابة على هذين السؤالَين هي يقينًا:
نعم ولا في آنٍ واحد؛ لأن الاتصال الرمزي لم يكن مقصورًا على
وجهٍ واحد من الاتصال الاجتماعي تمامًا مثلما هو الحال في
المجتمعات الحديثة. وطبيعي أن التباينات الإقليمية ربما آثرت
التأكيد على الرموز الصوتية المنطوقة لدى تجمع سكاني، والتأكيد
على الأشكال الإيمائية لدى تجمُّع آخر، ولكن كما سبق أن رأينا
ثمة عدد من الأسباب للظن بأن الاتصال المنطوق لم يكن مستقلًّا
ذاتيًّا ومحكمًا في مجتمعات «أريكتوس» مثلما هو الحال في
المجتمعات الحديثة.
مثال آخر للتقدير الاستقرائي النزق من المصنوعات اليدوية
البشرية إلى العقول البشرية، وقد كان له دور رئيسي في النظريات
التي تؤكد على أن نشأة الكلام ترجِع إلى تاريخٍ قريب، نعرف أن
سيناريوهات كثيرة عن أصول نشأة اللغة ركَّزت على المرحلتَين
الوسطى والأخيرة من العصر الحجري القديم upper
Paleolithic والتي تقع ما بين ٤٠٠٠٠
و١٥٠٠٠ سنة مضت، واعتبرتها الدليل الأهم على أول استخدام
للرموز، وتُمثل الثقافات القديمة
paleocultures في هذه
الحقبة تغيرًا رئيسيًّا في أنواع وضروب المنوعات التقنية
والثقافية، وتشتمل أيضًا على أول بيئةٍ باقية توضح شيئًا
مُشابهًا للفن التمثيلي، ورُؤِيَ أن هذَين المؤشرَين معًا في
دلالتهما على تقدم ثقافي من نوع أقرب إلى المعايير الحديثة،
إنما هما في رأي أصحاب هذه النظرة دليل على ختام ثورة كبرى في
القدرة الرمزية لهؤلاء الناس، ثورة أبدعها «اكتشاف اللغة
المنطوقة».
والقول باكتشافٍ متأخر للكلام يتطابق أيضًا مع مزاعم قديمة
ترى أن شعوب النياندرتال افتقرت إلى القدرات الكلامية الصوتية
الحديثة (ونخصُّ بالذكر بعضًا من المزاعم المتطرفة، التي تقول:
إن شعب النياندرتال كان عاجزًا عن اللغة)، وثمة بَينة عرضية
خاصة بِبِنية الجهاز الصوتي عند أبناء النياندرتال رأى فيها
باحثون كثيرون ما يُفيد بأن قدراتهم الكلامية ربما كانت أكثر
محدوديةً من قدرات البشر المُحدثين، ولكن لأن الانفجار الأكبر
لثقافة العصر الحجري الحديث وقع فقط مع نهاية احتلال
النياندرتال لأوروبا، وبدا أنه وإلى حدٍّ كبير كان مقصورًا على
الأقرب شبهًا بالهومو سابينس الحديثين، بدا مُستساغًا اعتبار
هذه النقلة نقلةً من شعبٍ إلى آخر، ومن تكنولوجيا الأدوات إلى
تكنولوجيا أخرى، ومن فترةٍ بدون بينة على الفن التمثيلي إلى
فترة بها هذا الفن يُحفِّزه تغير كبير إلى حدٍّ ما في نقل
المعلومات، ولكن تحديد الزمان والمكان اللذين تمَّت فيهما النقلة
وارتباطهما بتغيُّرات في شعوب الهومينيد خضع أيضًا للمراجعة في
فترة قريبة. وجدير بالذكر أن البشر المحدثين ليسوا تطورًا عن
النياندرتال، كما أن الربط بين الأدوات المُتغيرة والمتقدمة
وبين البشر المُحدثين تشريحيًّا والأدوات النمطية الأبسط بالبشر
الأقدم عهدًا ليس دقيقًا ولا بسيطًا تمامًا، وحريٌّ أن نُدرك أن
الصورة الكلاسيكية عن إنسان النياندرتال الأعجمي والهمجي
الموضوعة مقابل صورة جنس الكرو ماجنون المُتقدمة من حيث الثقافة
والنطق لا يوجد دليل يدعمها ويؤكدها بشكلٍ مقبول.
ونحن الآن بصدد مُكتشفات أحدث عهدًا وتأريخ أكثر دقة، وتوضح
كلها عن يقينٍ أن حفريات البشر المُحدثين تشريحيًّا تسبق
تاريخيًّا الكثير من حفريات النياندرتال، وإن لم تكن في
أوروبا، وتم العثور على بَيِّنات عن تكوين وجهٍ أكثر حداثة
تشريحيًّا في حفرياتٍ من كهوف في إفريقيا ويرجع تاريخها إلى ما
بين ٧٥٠٠٠ و١١٥٠٠٠ سنة مضت، ويضعهم هذا في الإطار الزمني نفسه
مثل بعضٍ من أقدم حفريات النياندرتال، كذلك تم الكشف في الشرق
الأوسط عن بقايا تشريحية من العصر الحديث في كهفٍ في قافجية
Kafzeh ربما ترجع إلى
٩٠٠٠٠ سنة، ويُطيح هذا الكشف تحديدًا بالرأي القائل: إن شعب
النياندرتال هم أسلافنا، وذلك لأن بقايا مجاورة له من بقايا
نياندرتال في كهف كيبارا
Kebara لا يزيد عمرها عن
٦٠٠٠٠ سنة. أو بعبارةٍ أخرى: إن كِلا النمطَين من البشر المحدثين
عاشا في المنطقة نفسِها من الشرق الأوسط كما أن أيًّا منهما لم
يستخدِم أدوات العصر الحجري القديم أو أنتج رسومًا جدارية أو
منحوتات.
وكثيرًا ما يفسر الباحثون اندثار شعب النياندرتال منذ ما بين
٣٠٠٠٠ و٣٥٠٠٠ سنة مضت في ضوء النظرة التقليدية الكلاسيكية
المنافسة من أجل بقاء الأصلح: إحلال نوع أرقى محلَّ نوعٍ أدنى،
ولكن الأنواع الأدنى الحديثة تفترض تشريحيًّا بأنها متفوقة
عقليًّا، وأنها تملك قدراتٍ لغوية معقدة وأدوات أكثر تعقدًا.
وثمة افتراض على النقيض يرى أن النياندرتال تكيَّفوا مع المناخ
العاصف في المنطقة دون القطبية خلال العصور الجليدية الأخيرة؛
حيث ساد الاعتقاد بأن القوة والقدرة على التحمُّل أهم من الذكاء
والاتصال، ويُفيد هذا السيناريو أن الشعوب ذات التكوين التشريحي
الحديث من المفترض أن انعقد لها النصر في إطار منافسة
إيكولوجية مع شعوب النياندرتال؛ بسبب قدراتهم المتفوقة في
الاتصال، مكَّنتهم من التكيُّف بكفاءة أكبر مع المناخ القُلَّب في
أوروبا مع انحسار طبقاتِ الجليد. ويَبين واضحًا وبشكلٍ عفوي مدى
إغواء النظرة القائلة: إن شعوب النياندرتال تحللت بسبب تدنِّي
وضعهم العقلي وافتقارهم إلى لغةٍ حديثة، وامتلاكهم لأدواتٍ أبسط
حالًا، ويركن أصحاب هذه النظرة إلى شعورهم بالاعتداد بأنفسهم
مع تصوُّر أن شعوب الكرو ماجنون الأرقى ثقافيًّا وعقليًّا هزموا
الهمَج البُكم؛ حيث الذكاء ينتصِر على الحياة القائمة على القوة
والقدرة على التحمُّل؛ ذلكم هو نوع التفسير الذي حفز ميزيا لاندو
إلى التحذير من نزوعنا إلى قراءة الشواهد الحفرية من خلال عدسة
أسطورة كبرى.
٢٢
وحريٌّ أن نُشير إلى أنه خلال الفترة التي عاشها النياندرتال
في أوروبا شاعت أدوات ترجِع إلى ما يُسمَّى الصناعة الموستيرية
للأدوات الحجرية،
٢٣ وهي صناعة مشتركة مع شعوب أسبق لهم تكوين تشريحي
للبشر المُحدثين، مثلما انتشرت في أنحاء أخرى من العالم من
بينها الشرق الأوسط، وبعد أن ذهبت ريح النياندرتال وغابوا عن
الوجود حدث تطوُّر لأنماطٍ من أدوات أكثر تقدمًا، فضلًا عن بداية
ظهور الفن المُعمر، ولكن هل هذه نتيجة عرضية عابرة أو أن هذا
الفارق هو مناط الاختلاف؟ إن هذه الأدوات المُعقدة والمتنوعة
ظهرت لأول مرةٍ في شمال إفريقيا قبل ذلك بعشرات آلاف السنين،
وانتشرت بعد ذلك فقط عبر أوروبا في مسارٍ من الشرق إلى الغرب
قرينة الشعوب ذات التكوين التشريحي الحديث، بينما كانت شعوب
النياندرتال على الطريق إلى زوال. وليس واضحًا ما إذا كان هذا
التغير التكنولوجي هو السبب أم مجرد حدث لازَم اختفاء شعوب
النياندرتال وأن هذه الشعوب لم تكن قط بمنأًى عن هذا الانقلاب
في التحديث الثقافي، ولدَينا الآن دليل واضح يربط بين فترة
لصناعة الأدوات والمصنوعات الفنية اليدوية تُسمَّى الفترة
الشاتيلبيرونيان
Chatelperonian،
٢٤ وبين آخر بقايا شعوب النياندرتال في فرنسا منذ ما
يقرب من ٣٤٠٠٠ سنة مضت، وتشتمل هذه المصنوعات الفنية على أنماط
أدوات مُتنوعة، صناعة غنية بالعظام والعاج، مع زخرفات فنية
بلورية بارعة،
٢٥ ولكن كل هذا يجعل من الصعوبة بمكانٍ الدفع بأن ثمة
أدوات أفضل وثقافة أكثر تقدمًا ميزت واحدةً من هاتَين المجموعتَين
البشريتَين القريبتَين من العصر الحديث، وهي علَّة الاختلاف بين
توسُّع هذه واندثار تلك، علاوة على ذلك فإن الوضع يُثير الشك في
الفرض القائل: إن المسئول عن هذا الإحلال والإبدال هو دونية
مفترضة في القدرات اللغوية لشعوب النياندرتال.
وإذا نظرنا إلى الأمر في ضوء علم الأعصاب سوف نرى أن المُرجح
أن شعوب النياندرتال كانوا مُحدثين بكل معنى الكلمة، وأكفاء
مُتساوين معنا ذهنيًّا؛ كان حجم المخ لديهم يعلو بقدْر طفيف عن
القيم الحديثة المعروفة، وقامة أصغر قليلًا، ولهذا لنا أن
نستنتج أن النِّسَب الباطنية لتكوينات المخ لديهم كانت مُتسقة مع
السعة الرمزية المكافئة للبشر المُحدثين تشريحيًّا،
٢٦ ولهذا أيضًا نرى أن ثمة مبالغة في الحجة الزاعمة
أن الجهاز الصوتي عند شعب النياندرتال لم يكن ملائمًا تمامًا
لتوليد كلام يتميَّز بالصوت الحديث مع إغفال الفرض الذي يحدثنا
عن بدائيتهم، علاوة على بعض الاستقراءات المُثيرة للشكِّ فيما
يتعلق بترميم الجماجم. وتوفَّر لنا دليل تمثَّل في اكتشاف العظم
اللامي (عظم في قاعدة اللسان) لواحدٍ من النياندرتال، وبعد
تحليل المظاهر الخارجة المُرتبطة بالعظم (التي تُشير إلى وضعها
النسبي داخل الحنجرة) تبيَّن لنا أنه ربما كان لديهم جهاز صوتي
أحدث مما كان الظنُّ سابقًا،
٢٧ بيد أننا حتى لو قبلنا نتائج عمليات الترميم
الأكثر تطرفًا التي ترى أن حنجرة النياندرتال في موقعٍ مرتفع
كثيرًا داخل الحنجرة، سوف نجد من الصعوبة بمكان الشكَّ في أنه
توفَّر لديهم جهاز اتصال رمزي مُعقد مثله مثل مُعاصريهم ذوي البنية
التشريحية الحديثة.
لقد كان شعب النياندرتال ضربًا محليًّا من ضروب شعوب الهومو
سابينس القدماء المَعزولين جغرافيًّا والقائم على تقاليد
الاستيلاد داخليًّا؛ بسبب قلة أعدادهم، وحسب هذا المنظور نجد
أوجه تشابُهٍ واضحة بين النياندرتال المندثرين وبين اندثار كثيرٍ
من الشعوب الأصلية القريبة منَّا تاريخيًّا على مدى تاريخ عمليات
الاحتلال في العالَم القديم، وأيضًا التوسُّعات الاستعمارية قريبة
العهد في العالم الجديد والمناطق الاستوائية. ولعل أقرب مثالٍ
موازٍ لذلك نجده في حالة الانحسار السريعة جدًّا للسكان
الأصليين في الأمريكتَين عقب كولومبوس. وعلى الرغم من الفهم
الشائع وهو أن الفاتِحين قتلوا الشعوب الأصلية في الحروب التي
دارت بين الفريقَين، فإن هذا يُفسر عمليًّا جزءًا فقط من حالة
الإبادة العرقية الجماعية التي أعقبت ذلك؛ لقد كان المرض هو
المُذنب الحقيقي منذ البداية؛ إذ تفيد التقديرات أنه على مدى
القرنَين الأولين من بعد الاتصال، أباد المرض الوافد من أوروبا
ما بين ٨٠ و٩٠ بالمائة من السكان الأصليين الذين لم تكن لديهم
مناعة ضد هذه الأمراض الغريبة عليهم، وتكرر الأمر على النمط
نفسه في كل أنحاء المعمورة خلال عصر احتلال القوى الأوروبية
للمُستعمرات، وكانت الخسائر في الأرواح أعلى بكثيرٍ بين سكان
الجُزُر من مثل شعوب هاواي، وذلك بسبب عُزلتهم التناسُلية
نسبيًّا والتزاوج الداخلي.
ونعرف أن العالم المحيط بحوض البحر المتوسط شهد على مدى آلاف
السنين هجراتٍ واسعة وغزوات حربية، وعلاقات تجارية بعيدة المدى،
وموجات مُتكررة من الأوبئة، ونتيجةً لذلك عرف الأوروبيون وعلى
مدى أحقابٍ طويلة انتخاب المقاومة للأمراض الوافدة الواحد تلوَ
الآخر من قارات عديدة، التي تسبَّبت في انتشار الأوبئة بينهم،
ولم يتمتع نسل هؤلاء الأوروبيين بالمناعة التي قاومت هذه
الأمراض نتيجة اختفاء مَن افتقروا إلى القدرة على مقاومة المرض
فقط، بل بفضل دعم وفرة التنوُّع الجيني الناتج عن التبادُل واسع
النطاق للجينات بين السكان، ولكن حين تفِد هذه الأمراض نفسها
جملةً إلى سكانٍ أقلَّ عددًا وأكثر انعزالًا، ويعتمدون على
التزاوج الداخلي فيما بينهم، فإن هذه الأمراض تفتِك بهم وتحصدهم
وباءً إثرَ وباء؛ حيث تجد الأوبئة عائلًا في أضعف حالات
المقاومة، إذن لم يكن الأمر تفوقًا للعقل الأوروبي، ولا حتى
التكنولوجيا الأوروبية، وإنهما هما اللذان مهَّدا الطريق
لأوْربةِ العالم الجديد، بل تاريخهم السكاني كجزء من منظومة
جينية واسعة ووبائية أكبر وأوسع انتشارًا في العالم
القديم.
وإن هذه التراجيديا التاريخية تحمل أوجُه تشابُهٍ كثيرة مع
التفاعل بين شعوب نياندرتال وجور «الاستعماريين» المُحدثين
تشريحيًّا من الجنوب إلى الشرق، كانت شعوب نياندرتال متناثرة
في جماعاتٍ سكانية صغيرة، وربما كانوا معزولين جينيًّا عن بقية
الهومو سابينس على مدى ما يقرُب من مائة ألف سنة، قبل هذا
الاتصال في أوروبا، لقد كانوا مُحاطين بشعوبٍ حديثة البنية
التشريحية الذين امتدُّوا من جنوب إفريقيا إلى الشرق الأدنى وإلى
أجزاء من آسيا، ولكن أثناء هذه الفترة القصيرة نسبيًّا بدأ
هؤلاء الغرباء في الانتقال إلى داخل أوروبا. وسواء دارت رحى
حروبٍ أم لا، أو منافسة على الموارد أو التجارة، أو تعايش سلمي
أو حتى تفاعل اتَّسم بالاختلاط والتزاوج بين الطرفين، فإنه بدا
على نحوٍ شِبه يقيني أن مآل مستودع النياندرتال الجيني إلى زوال
منذ اللحظة الأولى للاتصال، ولسنا هنا بحاجةٍ إلى الحديث عن
تفوُّق أو عن الأصول الثقافية لكي نفسر ما حدث.
وعلى الرغم من أن هذه الأحداث القريبة نسبيًّا تُمثل أسرع
التغيرات وأكثرها حسمًا في كل العصر الحجري، فإنه لا يُوجَد أي
انتقال بيولوجي واضح مُتلازم معها، حدث هذا في إطار سكان أوروبا
الذين تكيَّفوا، فيما يبدو، مع مواطن أكثر تخصصًا للقنص وجمع
الثمار — إذ بدءوا في استخدام موارد حيوانية دون الاكتفاء فقط
بقطعان الحيوانات ذات الأظلاف التي اغتذى عليها الهومينيد منذ
فجر تكنولوجيا الأدوات الحجرية بما في ذلك صيد الأسماك والفقمة
وحيوان الماموث وغيرها. وثمة احتمال أنهم عانوا من الآثار
المترتبة على نجاحهم؛ حيث أدى القنص الفعال تدريجيًّا إلى
استنفاد تلك الموارد التي تخصَّصوا تحديدًا في استغلالها، وتوجَد
باختصار مجموعة مُحتمَلة من العوامل التي تُشكل أساسًا لذلك
التغير والتبايُن السريعَين في التكنولوجيا: تغيرات في
الإيكولوجيا، سواء نتيجةً لتغير المناخ وأيضًا نتيجة للنشاط
البشري ذاته. وهذا الأخير أصبح على نحوٍ شبه يقيني القوة
المُهيمنة أكثر من الآن فصاعدًا، وكم هو عسير أن نفترض التوافُق
العرضي عند الحديث عن هذا التوسع للسكان ذوي البنية التشريحية
الحديثة والظن بأنه نذير بحلول عصرٍ قريب من انقراض الحيوانات
الضخمة من مِثل عمالقة عصر الجليد من الماموث والدب الكسلان.
وإن هذه التحولات وما ترتب عليها من تحول إلى الزراعة في الشرق
الأوسط ربما يعكسان معًا دينامية مماثلة: الحاجة إلى التكيُّف مع
تغيراتٍ بيئية لا عودة عنها وقعت جزئيًّا قبل عمليات التكيف
البشري، وهذه نظرة عن «التقدم» الذي لا يعتبر تحسُّنًا عالي
القدر والقيمة؛ حيث الوضع النهائي حتمي لا رجعة عنه، وحالات
التكيف الناجحة للغاية إلى حدِّ أنها أضحت مُدمرةً لنفسها، وهي
تحوير آخر للقول المأثور «الحاجة أمُّ الاختراع»، وليس لنا بوجهٍ
عامٍّ أن نستحضر التطور البيولوجي باعتباره علةَ التجديد
التكنولوجي الثقافي، بينما العمليات الديموجرافية والإيكولوجية
كافية لتفسير التغيرات، وعلى النقيض ليس لنا أن نفترض أن
الاستقرار النسبي لحالات التكيف التكنولوجي تسبق تطورًا
بيولوجيًّا مُستمرًّا.
وإن أول رسوم على جدران الكهوف، وأول أعمال النحت التي ظهرت
خلال هذه الفترة تُعطينا يقينًا أول تعبير مباشر لعقلٍ رامز
مُستخدِم للرمز. إن التعبيرات التي لا سبيل إلى تفنيدها عن
العملية الرمزية التي بوسعها أن تنقل تراثًا ثقافيًّا غنيًّا
من الصور، وربما تنقل أيضًا قصصًا من جيلٍ إلى جيل، وإنها أيضًا
أول دليل ملموس عن رصيد مخزون من المعلومات الرمزية خارج المخ
البشري، وتُمثل معلمًا للتغير في بِنية الثقافات البشرية على
الأقل إلى المدى الذي تُمثل فيه دليلًا على استخدام الوسائط
الإعلامة media التي بقِيَت لنا
حتى الآن، بيد أنها ليست ملازمة لأي «تقدم» في البيولوجيا
البشرية أو علم الأعصاب البشري، وربما لا تُوضح بالدليل أصول
نشأة الاتصال الرمزي أو حتى لغة الكلام المنطوق. وربما أن
فعالية الأدوات الجديدة التي أدَّت إلى استنفاد مصدر غذائي كان
مُستدامًا في السابق، وأجبر هؤلاء الناس على اكتشاف بدائل حاسمة
دعمتها ابتكارات لأدوات جديدة، وربما تغير إيكولوجيا البحث عن
الطعام أدى إلى تغيُّر أنماط حجم الجماعة و/أو نظام البقاء
والسُّكنى؛ الأمر الذي هيأ للناس الفرصة لتراكُم ونقل أشياء أخرى
دون الاكتفاء بالأدوات، أو ربما أيضًا التفاعُل بين السكان
الأفارقة والأوروبيين المَعزولين أطلق حافز التغير في استجابةٍ
لعملية تبادُل المعلومات والتكنولوجيا، أو ربما وجود وسَط مثل
العاج أو الاستخدام المُنتظم والمعتاد للكهوف في مناخٍ أكثر
برودةً هيأ وسطًا دائمًا للتعبير لم يكن متاحًا قبل ذلك؛ أو
ربما توفَّرَ مصدرٌ ثري للعب هيأ للناس فرصة اللجوء إلى اليدَين مع
توفُّر المزيد من الوقت.
ليس الهدف من ذِكر هذه البدائل البرهنة على أن هذا البديل أو
ذاك وثيق الصلة بالأمر، بل ليُفيد كعاملِ تَذكِرة يُذكرنا بأن
أسلافنا لم يكونوا مُتجِهين حتمًا وعن عمدٍ إلى الرسم والنحت
والمصنوعات اليدوية شديدة التنوُّع والمزدانة بزخارف. وإن ظهور
هذه الأشياء منذ فقط بضعة آلافٍ من السنين إنما كان على الأرجح
انعكاسًا لتغيرات إيكولوجية عرضية والتوصُّل إلى وسائل إعلام
«ميديا» أقدر على البقاء من القول إنها مؤشر على حدوث ثورةٍ ما
في الاتصال. والملاحظ في الحقيقة أن مِن المُحتمل أن الكثير من
الوقائع التي نراها مظاهرَ للتقدُّم حين ننظر إليها من واقعنا
الراهن، إنما كان استجاباتٍ يائسةً إزاء تدهورٍ بيئي نتج أصلًا عن
النجاح البشري ذاته في جهود البحث عن الطعام، ومع ذلك وعلى
الرغم من أن ابتكار الأيقونات المُعمرة ربما لا يُشير إلى أي
ثورةٍ في البيولوجيا البشرية فإنه كان استهلالًا لطَور جديدٍ
للثورة الثقافية — ثورة أكثر استغلالًا لأمخاخ وكلام البشر
كأفراد، وثورة أفضت إلى عملية حديثة حاسمة يمكن أن تثبت بوضوح
لا مزيد عليه أنها غير مستدامة في المستقبل البعيد — وليس
بالإمكان التنبؤ بما إذا كان النظر إليها مُستقبلًا وبعد وقوع
الحدث باعتبارها تقدمًا أم لا، أو أنها مجرد نزوعٍ قصير المدى
لا رجعةَ عنه ومُدمر لذاته في تاريخ تطور الهومينيد، ولكن رؤيتنا
لعملية التقدم هذه المدمرة لنفسها، وإشارتنا إلى عملية تكيُّف
الهومو أريكتوس للبحث عن الطعام باعتبارها «ركودًا» يمكن أن
تكون سخريةً ختامية من جانب التطوُّر مستقبلًا.