الأصول الرمزية
الفهم البشري مَدين كثيرًا للانفعالات.
الولع بالاتصال
لدينا فكرة إلى حدٍّ ما عما حدث للمخ والجسم خلال عملية نشوء وتطوُّر اللغة، ولدَينا تقرير عن مدى بدء هذا، وكيف نما وتطوَّر في حقبة ما قبل تاريخنا، بيد أنه لا شيء من كل هذا يُجيب على سؤالٍ يؤرقنا كثيرًا، لماذا؟ ترى ما الشرارة التي أشعلت وأطلقت الاتصال الرمزي؟ إذا كان الاتصال الرمزي لم يظهر نتيجة طفرة تطورية في المخ، فلا بد أنه جاء انتخابًا؛ ولكن بأي عوامل في حياة الهومينيد؟ كيف لنا أن نكشف عن سياق هذه الدفعة الأولية إلى هذا الشكل الجديد من الاتصال؟ هل من سبيل لكي نُعيد، من موقعنا الآن، بناء ما حدث في الماضي لنستكشِف القوى التي آثرت مثل هذا التكيُّف التطوري غير المسبوق، أو أن الظروف التي تُشكل الأساس لتلك النقلة الحاسمة من الاتصال تأسيسًا على الدليل الموضوعي إلى الاتصال الرمزي، ومن العقل الحيواني إلى العقل البشري باتت مفقودةً إلى الأبد ولا سبيل إلى تحليلها في اتساقٍ مع اللَّحم والدم والسلوك اليومي لأسلافنا في حفرياتهم؟
ويبين لنا عند مراجعة الأحداث الآن بعد وقوعها أن كلَّ شيء تقريبًا يبدو وكأنه وثيق الصِّلة بعملية تفسير التكيُّف من أجل اللغة، وإن النظر إلى المنافع التكيُّفية للغة أشبه بمن ينتقي قطعة حلوى واحدة فقط من منتجك المُفضل؛ ذلك لأن هناك خيارات كثيرة جدًّا مُقنعة بالاختيار، من بينها، ما أوجه التنظيم الاجتماعي والتكيُّف التي لم تكن لتفيد من نشأة وتطور اللغة؟ ويبين لنا هنا، حسب وجهة نظر الأفضلية أن الاتصال الرمزي كان حتمًا مَقضيًّا؛ إذ يبدو كأن كل شيءٍ يتَّجه إليه، إن كتابة قصة مُستساغة عقلًا يمكن نسجُها في ضوء أيٍّ من المزايا الكثيرة التي يؤثرها الاتصال على نحوٍ جيد: تنظيم أعمال القنص، والمشاركة في الطعام، والاتصال بشأن موارد الغذاء المُنتشرة، والتخطيط للحرب والدفاع، وتمرير مهارات استخدام وصناعة الأدوات، وتقاسُم خبرات الماضي المهمة، وترسيخ الروابط الاجتماعية بين الأفراد، والتعامُل مع المنافِسين المُحتمَلين في مجال الجنس أو مع شركاء الحياة، ورعاية الصغار وتدريبهم وهكذا، وهكذا، وإن هذا النقص الواضح للقيود المفروضة على ما يؤلِّف فرضًا معقولًا هو أحد مصادر الإحباط الذي جعل الباحثين في الماضي أقل ترفقًا تجاه سيناريوهات أصول نشأة اللغة. هل أي ميزة مُهمة هيأتها اللغة بالنسبة للتكاثر يمكن اعتبارها مرشحةً معقولة كمُحرك أول؟ ما الذي يجعل البعض أكثر قبولًا أو أكثر دعمًا أو أكثر تزييفًا من البعض الآخر؟ وعلى الرغم من الكثير من الاستخدامات العديدة للاتصال الرمزي ربما تكون كافيةً لانتخاب ما يدعم التعلُّم الرمزي، ويرتبط بقدرات الكلام، فإنها تفترض شكلًا للاتصال الرمزي هو بطبيعته أرقى من جميع الأشكال السابقة للاتصال الاجتماعي، وهذا تحديدًا ما لا يمكن افتراضه لتفسير أصل نشأة الاتصال الرمزي.
وعلى الرغم من أن اللغات الحديثة تُجسد هذه المزايا المفترضة للاتصال، فإن المنظومات الرمزية الأولى لم تكن وعلى نحوٍ يقيني وفي أفضل الحالات لُغاتٍ كاملة الازدهار والنضج، إننا حتى وإن الْتقينا بها اليوم لن نراها لغات، وإنما نراها وسيلةً للاتصال مختلفة بصورةٍ مثيرة للاهتمام عن اتصال الأنواع الأخرى، وقد تبدو في أقدم صورها مفتقدة الفعالية والمرونة والكفاءة وهي صفات نعزوها إلى اللغة الحديثة، وأحسب في الحقيقة أن التوجُّه الواقعي تمامًا هو أن نفترِض أن المنظومات الرمزية الأولى تتضاءل للغاية من حيث الكفاءة والمرونة بالقياس إلى الثراء والقدرات المُركبة للصيحات الصوتية المنطوقة والعروض الإيمائية بدون أفعالٍ وبدون رموز، تجلت عند أيٍّ من أبناء العمومة الأقربين من الرئيسات، ويبدو على الأرجح أن مَن تعلموا الرمز لأول مرةٍ ظلُّوا زمنًا مُعتمِدين في اتصالهم الاجتماعي على سلوك الصياح والاستعراض على نحوٍ أقرب كثيرًا إلى القردة والقِرَدة العُليا الحديثة؛ إذ لم يكن الاتصال الرمزي سوى جزءٍ صغير من الاتصال الاجتماعي.
بيد أن هذا كله هو نصف المشكلة فقط؛ إذ كما سبق أن رأينا فإنه حتى تعلُّم أبسط العلاقات الرمزية يفرض مُتطلبات ثقيلة الوطأة على الانحياز للتعلُّم المُثير للتساؤل، ويكمن في هذه المقايضة تفسير فشل الاتصال الرمزي الشبيه باللغة في النشوء والتطوُّر لدى جميع الأنواع عدا نوع واحد. إن الشروط المعرفية اللازمة للتعلُّم الترابُطي الكفء هي من نواحٍ كثيرة في صراعٍ مع تلك التي من شأنها تعزيز التعلُّم الرمزي، والملاحظ أن توجُّه الاهتمام إلى الترابُطات الأرقى مرتبة والأكثر انتشارًا والبعيدة عن تلك المؤسسة، على علاقات تلازُم زمانية مكانية، يمكن أن يجعل أشكال التعلُّم الأخرى أقل كفاءةً إلى حدٍّ ما. وحريٌّ أن نُدرك أن من الضروري لتعلُّم الرموز بذل جهدٍ كبير جدًّا لتعلُّم الارتباطات التي لا يحين استعمالها إلا بعد تمام فرز وبيان المنظومة الكاملة للترابُطات المعتمدة بعضها على بعض، أو بعبارة أخرى: لن نجني شيئًا مفيدًا نتيجة طول الزمن في عملية تعلُّم الرمز، ولكن فقط بعد اكتمال مجموعة (بالمعنى المنطقي) من الرموز التي يُحدد بعضها معنى بعض وتجميعها معًا يُمكن استخدام أيٍّ منها على نحوٍ رمزي. وواضح أن معالجة غالبية مشكلات التعلُّم والتوقُّعات والانحيازات التي من شأنها أن تساعد على تعلُّم الرمز، ستكون دون مستوى الكفاءة للغاية بالنسبة لغالبية الأنواع؛ ومن ثم نرى أن كلًّا من صعوبة وكلفة تعلُّم الرمز حالتا دون الأنواع الأخرى وتطوير قدرات رمزية، ولكن فقط إذا ما توفرت مزايا مُهمة للاتصال الرمزي التي تُرجح كثيرًا هذه التكاليف، هنا يمكن أن يحدُث انتخاب بحيث يُفضل كلاهما استراتيجية التعلُّم غير المألوفة التي تُعوِّض انحسار كفاءة الآخرين.
وطبيعي أن هذا الشكل من الاتصال هيَّأَ بالضرورة ميزةً انتخابية مهمةَ للغالبية الساحقة ممَّن استخدموه، ولكن حتى وإن افترضنا أن الاتصال الرمزي بدائي وقاصر للغاية، فإن السؤال بأي الطرق وفَّر هذا الاتصال الرمزي وسيلةً للتكيُّف الذي لم يكن متاحًا مع استخدام أشكال اتصال أخرى، والذي كان بالقياس إلى غيره أكثر تقدمًا وفعالية؟ وحريٌّ أن نُدرك أن أي شيءٍ للاتصال أقل كفاءة بوجهٍ عام ليس بإمكانه أن يترسَّخ إذا ما وفَّر لأصحابه شيئًا مختلفًا؛ أي وظيفةٍ للاتصال لم تكن ميسورة حتى ولو في منظومة أكثر إحكامًا تقوم على الدليل الموضوعي صوتًا وإيماءةً. وإذا سلَّمنا بهذه السلبيات، فما الميزة الانتخابية الأخرى المُمكنة لاستعمال الرمز التي كان بإمكانها أن تقود الهومينيدات لتحمُّل عبء مثل هذه التكاليف؟ ما الفارق الذي يمكن أن يكون مقابلًا يُعوِّض الكلفة الهائلة في الجهد المعرفي وفي الزمن والتنظيم الاجتماعي ونقص الكفاءة؟ إننا لكي نجيب على هذه الأسئلة بحاجةٍ إلى أن نعرف شيئًا عن السياق الذي نشأ فيه أول اتصال رمزي.
والملاحظ أن النمط الأكثر شيوعًا للسلوك الاجتماعي الخاص بالتكاثر بين الثدييات هو نمَط تعدُّد الزوجات؛ ذلك لأن الاستثمار الفسيولوجي والزمني الهائل لدى غالبية الثدييات للحمل والإرضاع يحدُّ من قدرة الإناث ومن فُرَص الحصول على الطعام، وتبذل الإناث أقصى جهدهنَّ التكاثري ليس بإنجاب أكبر عددٍ ممكن من الأطفال، بل بتوجيه أكبر دعم ممكن لكلٍّ من أفراد الذرية، ولكن بالنسبة للذكر، فإن ما يُحدد قدراته التناسلية هو عدد الإناث القابلات للتخصيب اللاتي يمكن تلقيحهنَّ، ولكن من منظور الأنثى، يتعين عليها أن تُدقق للغاية في انتخاب من تقبله زوجًا لها أكثر مما يُدقق الذكر، نظرًا لأن ذكرًا واحدًا فقط هو الذي يُلقحها على الأرجح في كل مرة، كما وأنها ستوجِّه كل جهدِها نحو ذريته، وهذا من شأنه أن يروِّج تطوُّر وسائل معقدة لاستغلال المعلومات عن زوجات الذكر في المُستقبل، وكذا تطوير وسائل الحصول على المعلومات التي يمكن أن تؤثر في اختيار الأنثى، أو بعبارة أخرى: تحاول الذكور توصيل المعلومات التي تُرجِّحها عند الأنثى، كما تحاول الإناث استقبال المعلومات التي تُشكل أساسًا للاختيار من بين الذكور، وتجنُّب أي معلومات خاطئة مُحتملة تعرضها الذكور.
وغالبًا ما يجري نقل وتلقي المعلومات «في اقتران عرضي» لأنشطة أخرى إلى الحد الذي لا يكون فيه الاتصال الوظيفة الوحيدة، وهذه هي حال سلوك الاقتتال؛ إذ حيث تُوجَد منافسة واسعة النطاق بين الذكور للوصول إلى إناث قابلة للتخصيب يَشيع سلوك الاقتتال والتهديد بين الذكور، وكثيرًا ما يقال: إن هذا النوع مشغول بسلوكياتٍ من «المباراة الدورية». وعلى الرغم من أن المستهدف من عدوان الذكر في هذه الظروف هو إبدال خصمٍ منافس له على المنطقة نفسها أو على القرينة نفسها، فإن الإناث يستطعنَ تعلُّم ومعرفة الكثير عن القدرات البدنية والذهنية للذكور المتنافسة من خلال متابعة المواجهة بينهم، ومن ثم يتسنَّى لهن تحديد اختيارهن تأسيسًا على الأداء. ويمكن أن يكون نجاح الذكر أو قدرته على إقصاء الآخرين من منطقة مُستهدفة، معلومات كافية. وإذا وفرت المنافسة المعلومات اللازمة لتقدير الأنثى، فإن التفاصيل بشأن النتيجة المترتبة على العملية ربما لا تُضيف غير القليل من المعلومات الأخرى المفيدة، وإن النجاح النسبي للاقتتال بين الذكور هو تمثيل — أو دليل موضوعي تحديدًا — للفوارق النسبية بينها، ونتيجةً لذلك يقلُّ إلى أدنى حدٍّ الاتصال المباشر بين الذكر والأنثى بين أفراد النوع القائم على تعدُّد الزوجات والمغرم بالاقتتال إلى حدٍّ كبير، وإذا توفرت للأنثى المعلومات الكافية لتحديد أن ذكرًا ما كان المدافع الأكثر نجاحًا عن أرضٍ ما أو عن مجموعة من الإناث (شيء يمكن أن يكون متضمنًا في السياق الاجتماعي)، فإن أي شيءٍ آخر عن حالته قد لا يستلزِم تفسيرًا حذرًا. وسوف تُواجِه الإناث ضغطًا انتخابيًّا قليلًا لتطوير وسائل خاصَّة تُيسِّر لها المزيد من المعلومات عن الذكور، أو للذكور تزويد الإناث بأي معلومات إضافية عن حالتهم البدنية. ويتضمَّن الاتصال في غالب الأحيان سلوكًا تآزُريًّا خاصًّا بالجماع — شيءٌ يمكن إنجازه بأدنى حدٍّ من التقييم والتحليل، والاكتفاء بالقليل من الاستجابات التلقائية نسبيًّا — ويبدو من منظورٍ بشري أن هذا هو السبب في أن الاتصال الجنسي والجماع بين أفراد نوعٍ يعتمد على تعدُّد الزوجات يظهر في الغالِب في صورة أفعالٍ روتينية مصحوبة بالقليل من التفاعُلات التمهيدية أو المتابعة.
وفي مقابل الحد الأدنى من الاتصال بين الذكور والإناث في منظومات المباريات الدورية، نجد أن الاتصال بين الذكور المُتنافسة في هذه الملابسات يمكن أن يكون واسعَ الاتصال ودقيقًا للغاية، فإذا حدث أنَّ ذكرًا من نوع عدواني يعتمِد على تعدُّد الزيجات بدرجةٍ عالية أخطأ الحكم على شجاعة ذكر آخر وقُدرته البدنية أو رغبته للمخاطرة بإصابةٍ تلحق به فإن النتائج يمكن أن تكون خطرة. ونجد من بين حصاد معركة مُحتملة تلقِّي إصابة لا داعي لها، وإذا كانت الإصابة أو الخسارة حتمية، فإن من الأفضل عدم الدخول في صراع بداية، ما دام هذا من شأنه أن يحدَّ من فُرَص التناسُل مستقبلًا، ولكن إذا كان البديل هو أن التغلب على الخصم مُرجَّح جدًّا، وأن فرصة الإصابة محدودة، فإن الفشل في دخول المعركة سيكون باهظ الكلفة من حيث فرص التكاثر. ويمكن أيضًا لهذه الأسباب أن يكون مفيدًا تزويد الخصم بمعلوماتٍ خاطئة لدفعه إلى الخطأ في الحُكم والتقدير، وقد يكون على العكس من المُفيد مراجعة المعلومات مرةً بعد أخرى بوسائل مختلفة؛ التماسًا لعلاماتٍ تدلُّ على التضارب.
وحين ترتفع درجة كل من المخاطرة التكاثرية والصحية يزداد الضغط الانتخابي لتقديم مستوياتٍ عالية من المعلومات المُضللة للمنافسين، ومن أجل إطالة وزيادة دقة عملية التقييم قبل التورُّط في عملٍ عدواني من أجل تعظيم الفرصة للرؤية من خلال خداع الآخر؛ بغية الوصول إلى تقديرٍ موثوق به عن الناتج المُحتمل، وتؤدي هذه الضغوط التكميلية إلى حالتي تكيُّف خداعي واستشعاري بهدف التصعيد وتجاوز مسار التطور. ويمكن أن يتولَّد عن هذا نوع من عملية «مهرب قصير المدى» يمكن إيقافه في النهاية عندما تبدأ كلفة الآخر المقترنة بالإحكام المُستمر للاتصال في خفض أي قيمة للتفوق ولو قليلًا على منافسيه، أو بعبارة أخرى: إن إضاعة وقتٍ طويل وطاقة كثيرة من أجل إقرار ما إذا كان له أن يهاجم أو يدافع قد يكون سببًا في المزيد من الكلفة من حيث التكاثر وارتكاب أخطاء دورية.
بيد أن مصالح طرفَين هما زوجان محتملان ليست متماثلة تمامًا، ويمكن للذكر أن يواصل تحسين نسله عن طريق خيانة ذكر آخر (الذي سيتولَّى نتيجةً لذلك تنشئة الصغير الذي لا يخصُّه)، وربما تستطيع الأنثى تعظيم كل من الرعاية والخصائص ذات القيمة العالية وراثيًّا عن طريق الْتماس الجماع مع ذكور كثيرة، وتستمرُّ في ذلك إلى أن يبقى لها واحد على الأقل لرعاية صغيرها، ولكن من منظور آخر يبين أن أيًّا من السلوكَين الخادِعَين مكلِّف بالنسبة للتكاثر. إن الذكر المنغمس في علاقاتٍ جنسية أقرب إلى هجر أنثى من أجل غيرها، والأنثى التي تلتمِس علاقة جنسية مع آخر غير زوجها تتسبَّب في جعل زوجها يُنفق الوقت والطاقة لدعم ذرية ذكورٍ آخرين، وإن أي مَيل من هذه الميول التي تسمح لمحاولات الخداع هذه أن تمر دون تحقق أو مراجعة سيتم التخلُّص منها بقوة عن طريق الانتخاب؛ لذلك سوف يؤثِر التطوُّر آليات لتحاشي الوقوع في أسر ذكر غير أهلٍ أو غير موضع للثقة أو غير أمين، ويقتضي هذا المراجعة الدقيقة جدًّا للذكور الذين سيُصبحون أزواجًا، وأن يتم ذلك سابقًا بفترةٍ زمنية مع استمرار المراجعة طوال العلاقة الزوجية الإنجابية. وطبيعي أن الوقاية أفيد كثيرًا من العمل عقب وقوع الحدث اعتمادًا على الاستجابات العقابية بعد وقوع الواقعة، ولذلك أيضًا تُعتبَر المغازلة والتودُّد الفترة الأهم في علاقة تستهدف الوصول إلى تقييم دقيق.
وهكذا فإن الفكرة المحورية في دورة الحياة أين يتم اختيار الذكَر، تتنبأ نظرية التطوُّر بأنَّنا سنجد عنده أعظم إحكامٍ ودقة لسلوكيات التواصُل والآليات السيكولوجية في كلٍّ من النوع الذي تنبنِي حياته على العلاقة الزوجية بين اثنَين، والنوع الذي يعتمِد على تعدُّد الزوجات على الرغم من أن القائمين بالاتصال والرسائل يُمكن أن يختلفوا كثيرًا عن بعضهم، بين هذين الطرفين؛ إذ يُوجَد بين هذَين الطرفَين الكثير من المزيج الأكثر تعقدًا من قواعد التنظيم الاجتماعية الخاصة بالتكاثر التي تُضيف احتمالاتٍ وشكوكًا جديدة، ومن ثم تُضاعف من شدة أثر الانتخاب على إنتاج وتقييم العلامات. ويتَّضح هذا بوجهٍ خاصٍّ لدى أنواع الرئيسات التي تعيش في جماعاتٍ ضخمة من الذكور والإناث مثل الشمبانزي والبابون، ونلحَظ عند هذه الأنواع أن الاتصال بشأن الحصول على أحد الزوجَين واختياره، يتضمَّن، علاوة على ما سبق، ديناميات خاصة بالجماعة، مثل تطوير ودعم التحالُفات بين ذكورٍ أو إناث تعمل في تعاون معًا حتى وإن كانت الجوانب الفسيولوجية الأخرى (مثل الإثارة العالية للرغبة الجنسية المُتصاعِدة والسلوك الشبقي للإناث أثناء الدورة النزوية) تعمل على تقويض هذه العلاقات.
لماذا تسير المُجتمعات البشرية عكس التيار؟
هل يُوجَد أي شيءٍ في السياق الاجتماعي لخيارات الهومينيد الخاص بالتكاثر، ونراه غير عادي بالمقارنة بالأنواع الأخرى، ويُعتبر نمطنا المُميز في التواصل؟ نحن مُضطرون إلى التوجُّه نحو البشر المُحدثين؛ التماسًا لأول المفاتيح؛ نظرًا لأن الدليل بشأن السلوك الاجتماعي لدى أسلافنا هو دليل رهن الظروف فقط في أحسن الأحوال، ولكن على الرغم من احتمال أن نضلَّ بسبب انحيازاتنا القائمة على المحورية البشرية، فإنه قد لا يكون نقطة بداية ليست سيئة، وذلك لأنه من المُرجح أيًّا كان الانتخاب الأول لهذا الشكل الشاذ للاتصال؛ فإنه ما يزال معنا بشكل ما. تُرى ما وسيلة الهندسة الاجتماعية التي اتَّصفت بالقوة الزائدة والخصوصية العالية في تاريخ الاتصال الحيواني التي اقتضت لزومًا شكلًا جديدًا تمامًا للاتصال؟ إن هذه الوسيلة — التي لم يُصادفها أي من الأنواع الأخرى — لم يتمَّ على الأرجح التخلُّص منها بسرعة كبيرة مع التطوُّر التالي لنوعِنا البشري.
- (١)
كل من الذكور والإناث تُسهم معًا عادةً في الجهد من أجل تنشئة الذرِّية وإن كان ذلك يَجري في الغالب في أطُرٍ مختلفة وبوسائل شديدة الاختلاف.
- (٢)
الغالبية الساحقة في كل المُجتمعات من الذكور والإناث تلتزِم بحقوق جنسية حصرية طويلة المدى وقواعد حظر مفروضة على أفرادٍ بعينهم من الجنس الآخر.
- (٣)
يعمدون إلى الحفاظ على هذه العلاقات الجنسية الحصرية على الرغم من أنهم يعيشون وسط جماعات اجتماعية تعاونية، صغيرة الحجم، وكبيرة الحجم، وتضمُّ الكثير من الذكور والكثير من الإناث.
والملاحظ في المجتمعات التي تعتمد أساسًا في معاشها على التطواف بحثًا عن الطعام، كما كان حال أسلافنا فيما قبل التاريخ حتى عشرة آلاف أو خمسة آلاف سنة فقط، كانت الفُرَص المتاحة لتراكُم وامتلاك الموارد والدفاع عنها في أدنى مستوياتها، ولهذا فإن الحروب بين الجماعات المنافسة على تعدُّد الزوجات أو دمج الثروات أو السلطة السياسية وغير ذلك لم يكن على الأرجح لها دور مُهم في المراحل الباكرة من الاتصال الرمزي. وثمة قسمة واحدة مُميزة لإيكولوجيا البحث عن الطعام صمدت لارتباطها الخاص بأصول النشأة البشرية، وذلك لأنها ليست خاصية مميزة لغالبية مجتمعات الرئيسات الأخرى ولارتباطها أيضًا الوثيق للغاية بالكثير من المؤشرات الدالة على ظهور سلوكيات شِبه بشرية بخاصة، وهذه القسمة هي التعود على أكل اللحم. وتوجَّهَ باحثون منذ عهد قريب بالنقد الشديد للنظريات الكلاسيكية عن أصول نشأة البشر التي تحدَّثت عن «الإنسان القنَّاص»، وذلك لأنها ركزت بشكلٍ محدود للغاية على أنشطة من يؤلِّفون أقل من نصف أبناء المجتمع، علاوة على وجود حجةٍ مُقنعة يمكن طرحُها. وتعتبِر البحث عن الطعام أقدم تكيُّف تَمثَّل في تعود الهومينيد على استعمال اللحم، ومع هذا ليس بالإمكان إغفال أهمية هذه النقلة الجذرية في إيكولوجيا البحث عن الطعام، وقد تلازَم على نحو شِبه يقيني ظهور أول الأدوات الحجرية منذ ما يقرب من ٢٫٥ مليون سنة مع نقلة جذرية في سلوك البحث عن الطعام؛ بُغية إيجاد وسيلةٍ للحصول على اللحم، ويُحدد هذا بوضوح بدايات تحوُّل الضغوط الانتخابية المُقترنة بتغيُّرات في المخ وثيقة الصِّلة بالاتصال الرمزي؛ وحريٌّ أن نُدرك أن ثمة شيئًا يتعلق بهذا المُركَّب من حالات التكيُّف يعتبر محوريًّا بالنسبة لظهور الإنسان الرامز، ولكن ما هو؟ أحسب أن السبيل لحلِّ هذا اللغز لا علاقة له بالصعوبات المعرفية الخاصة بالقنص، أو استخدام الاتصال أو زيادة الذكاء لصنع الأدوات: إن الشيء المُهم فيما يتعلق بهذه النقلة إلى مصدرٍ جديد للطعام هو ما فرضته من مُتطلبات غير مسبوقة على جماع نسيج التنظيم الاجتماعي للجماعة.
ونحن نعرف أن النساء في مجتمعات الترحال بحثًا عن الطعام يوفرنَ على الأقل قدرًا كبيرًا من السعرات الحرارية مثل ما يفعل الرجال، ولكن امرأة تعول طفلًا صغيرًا تجني قدرًا قليلًا نسبيًّا من الطعام الذي جمعتْه فضلًا عن أنها أضعف كثيرًا في مجال القنص؛ إنها تعاني من ضعف القدرة على الحركة وصعوبة اللجوء إلى أسلوب السرقة، وهي تحمِل طفلًا على كاهلها، ويزيد من القيود عليها خطر الحيوانات المفترسة والباحثين عن الطعام المُنافِسين الذين تستهويهم ذبيحة، ويمكن أن يحولوا انتباههم بسهولة إلى طفل صغير لا حول له ولا طول وضعف القدرة التي تُدافع عنه، ونتيجةً لذلك أصبح بمقدور الرجال الوصول إلى الموارد غير المتاحة للنساء والأطفال، والسؤال: لماذا يُضيف كل هذا أي شروط خاصة إلى التطوُّر الاجتماعي للهومينيد؟
وإذا كان اللحم يوفر عنصرًا ضروريًّا لغذاء من يعيشون على الترحال بحثًا عن الطعام، حتى ولو لتحمُّل أيامٍ عجاف حين تقلُّ موارد الخضراوات، فإن المرأة التي ترتحل بحثًا عن طعام ومعها طفل أو أكثر، ستعجز عن توفير الموارد الضرورية الكافية. وطبيعي في مثل هذه الظروف أن الأمهات اللاتي يَعُلْنَ أطفالًا صغارًا يعتمدنَ جميعًا على القنص الذي يقوم به الذكور لتوفير مصدرٍ مُهم ومركَّز للطعام؛ لاستكمال أطعمةٍ أخرى أمكن جمعُها، ولكن الملاحظ في أي نوع يُسهم ذكوره بدورٍ مُهم في توفير موارد للمساعدة في تنشئة الأطفال، تُوجَد ضغوط انتخابية خاصة للتيقُّن من قَصْرِ الحق الجنسي مع التيقُّن من دور الذكَر مستقبلًا في توفير المؤن اللازمة. وطبيعي أن الأنثى التي لا يسعها الاتكال ولو على ذكَر واحد على الأقل، ستكون عرضةً بدرجة كبيرة لفقد أطفالها بسبب المجاعة والمرض، وكذلك الذكر الذي لا يسعه الاعتماد على حقٍّ جنسي مقصور عليه حصريًّا مع أنثى واحدة على الأقل سيكون من المُحتمَل جدًّا دعم الصلاحية الجنسية لذكورٍ آخرين.
والملاحظ في أغلب أنواع الثدييات أن حق الممارسة الجنسية يكون محددًا، إما وفق المرتبة والمكانة أو المنافسة الواقعة التي تُسفر عن تعدُّد الزوجات، أو يكون من ناحية أخرى ثمرة عملية مغازلةٍ وتودُّد؛ ليرتبط بعدها الاثنان أحدُهما بالآخر، ثم يعتزلان عن الآخرين من أبناء نوعِهما، وتعمد الذكور إلى التهديد والاقتتال مع مُنافسيها جنسيًّا؛ رغبةً في تعظيم الإنجاب وتقليل المُغازلة إلى أدنى حدٍّ وسط الجماعات الاجتماعية المُتنافسة على تعدُّد الزوجات، وتستعرض الذكور نفسها وتُهدد الأفراد أصحاب السطوة، وقد تنخرِط في صراعاتٍ بدنية مباشرة أو اقتتالٍ في محاولة للإطاحة بهم، واكتساب الحق في المُمارسة مع الإناث، ولكن في الأنواع التي يسود فيها الرباط الثنائي بين زوجَين، فإن العُدْوان يُمثل أيضًا وسيلةً لفرض اكتساب الحق الحصري للممارسة الجنسية، وغالبًا ما تكون المعركة مشاركةً بين الجنسَين معًا؛ بغية إقصاء الغرباء المُتطفِّلين من الجنس نفسه بعيدًا. ويمكن هنا أن يشيع تحت هذه الظروف الإقصاء الجنسي على المدى الطويل، بل ربما مدى الحياة، وهكذا نجد أن الميكانيزمات الاجتماعية للحفاظ على الحق الحصري في المُمارسة الجنسية لدى الثدييات الأخرى عامةً وشاملة، وغالبًا ما يكون التهديد بالإيذاء البدني هو السبيل للحفاظ على الحق الحصري للجنس، ويبدو يقينًا أن هذه الحملات الدفاعية والهجومية التي تحفزها رغبات جنسية هي من بين أعنف الأحداث الانفعالية في حياة الحيوانات.
وإن اعتماد البشر على موارد غير ميسورة نسبيًّا للإناث اللاتي يَعُلنَ أطفالًا صغارًا لا يكون انتخابها فقط من أجل التعاون بين أب وأم الطفل، بل أيضًا من أجل تعاون الأقارب والأصدقاء، بما في ذلك كبار السن والشباب ممَّن يمكن الاعتماد عليهم للمساعدة، ومن ثم فإن الاحتياجات الخاصة للحصول على اللحم ورعاية صغار الأطفال في تطوُّرنا الخاص، تُسهم جميعها في الدافع الأساسي من أجل الخاصية الثالثة المُميزة لأنماط التكاثر البشري: الحياة التعاونية بين أعضاء الجماعة ضمانًا لحياةٍ جمعية.
إن أي ذكر — بلغة التطور — ينزع إلى استثمار وقتٍ طويل وطاقة كبيرة في سبيل رعاية طفل وإمداده بالغذاء، لا بد أن يكون — من المُرجح بدرجة كبيرة — أبًا لهذا الطفل، وإلا فإن وقتَه وطاقته سيضيعان لإفادة جينات ذكَر آخر، والنتيجة أن حماية وإعاشة الأطفال دون تمييز لن تدوم أو تستمرَّ داخل فريقٍ اجتماعي حال وجود ذكورٍ مُخصِّبين آخرين في المكان ومَعفِيِّين من مسئولية الإعاشة، ولكنهم بدلًا من ذلك يوجهون كل طاقتهم نحو الجماع. ويُعتبر حجم الجماعة عاملًا مهمًّا؛ لأن فرصة التودُّد والمغازلة تزداد مع زيادة العدد، حتى وإن كانت الغالبية مرتبطة ثنائيًّا، واحتمال المغازلة والتودُّد سوف تترجم إلى احتمال أن يهجر ذكرٌ أنثى بعينِها، ولذلك فإن المعضلة التكاثرية المُكملة والتي تُواجهها الإناث في هذه الأوضاع تُثير حنقًا بالقدْر نفسه.
وتوفر اللحوم في المجتمعات البشرية التي تعيش على الترحال — بحثًا عن الطعام — مصدرًا مركزًا للطعام ميسورًا وموثوقًا به أكثر من الفاكهة من موسمٍ إلى آخر، ولكن الملاحظ تحديدًا أنها حين تكون في غاية الأهمية للأنثى، وذلك وقت الإرضاع فإنها تكون أقل قدرةً على الحصول عليها بنفسها، وإن الأنثى لكي تتهيَّأ لها قدرة للاعتماد على هذا المصدر للطعام، فإنها تكون بحاجةٍ إلى إمدادها بالمُؤن من مصدرٍ موثوق به، أي من فردٍ أو أفراد لا يُرهقهم طفلٌ ما، ذكرًا أو أنثى، ولكنَّ ذكرًا مُستعدًا من قبل لتزويد الإناث بحاجتهنَّ من مؤن ممن جامعهن، لن يكون موثوقًا به، كلما زادت ممارساته الجنسية مع إناثٍ أخريات. وإن التعاون في الصيد والبحث عن الطعام بين جماعاتٍ من الذكور الذين يعمل كل منهم على إمداد أُنثى أو أكثر وأطفال بحاجتهم من المؤن، يستلزم حتمًا أن تعيش جماعات الإناث ويبحثنَ أيضًا عن الطعام في إطار التعاون المشترك أيضًا، ولكن الحياة الجماعية لها سلبياتها لسببين: سبب الجوار مع إناث أخريات نشطات جنسيًّا، وكذلك بسبب احتياجاتهنَّ المتنافسة في الثمار ومن الصيد. وإزاء هذه الأخطار التناسلية الوشيكة يتعين على الأنثى الاهتداء إلى سبيلٍ تكفل لها ذكرًا ما تثِق في قدرته على تزويدها باللحم، وأن تُقلل معه إلى أدنى حدٍّ فُرَصَه للانغماس في المغازلة.
وتضخمت هذه المشكلات أكثر في سياقٍ بدأ فيه الذكور والإناث كلٌّ يبحث عن الطعام مُستقلًّا ومنفصلًا عن الآخر فترةً طويلة من الوقت، وبدا هذا حتميًّا إذا كان الصيد والتطواف الْتماسًا للطعام يُمثلان طريقةً مهمة لتدبير الطعام. وطبيعي أن انشغال الذكور بتعقُّب مصادر اللحم في أرض السافانا لا يحُول دون المُغازلة، ولا يحمي النساء من اختطافهن، ولا يحمي الأطفال من قتلِهم على أيدي ذكورٍ غرباء، كذلك فإن الإناث لا يمكن أن يكُنَّ على ثقةٍ من أن الذكور الذين يعتمدنَ عليهم لجلب اللحم لا يُجامعنَ إناثًا من جماعاتٍ أخرى، ويعطونهن لحمًا كان بالأولى أن يدعم ذريتهنَّ، وهكذا يسير الصيد وتدبير المؤن مُقترنَين معًا، ولكنهما يتسبَّبان في توتر تطوُّري حتمي هو بطبيعته غير مُستقر خاصةً في إطار حياة الجماعة. ويبدو أن آكلي اللحوم الاجتماعيِّين فقط — بالإضافة إلينا — يعيشون بهذه الطريقة.
وواضح أن غالبية أكلة اللحوم يضطلعون بتدبير قدْر كبير من الطعام. ولكن لأن الصيد عملية قتلٍ تستلزم جسمًا كامل النُّضج نسبيًّا، ويستغرِق تعلُّمه وقتًا طويلًا ليكون المرء كفؤًا، ثمة فترة طويلة في حياة أكلة اللحوم التي يعيش فيها الصغير مُعتمدًا في بقائه على حليب الأم إلى أن يشبَّ عن الطوق، ويكون فيها صغيرًا جدًّا؛ لكي يقوى على القنص لنفسه، ولهذا فأنواع كثيرة تُخفي صغارها داخل أوجارها وتصطاد هي الطعام؛ لتعود به لإطعام صغارها، ويُشبه هذا إلى حدٍّ ما وضع الطيور في أعشاشها، ونجد لدى بعض أنواع آكلات اللحوم، أن الذكور والإناث ترتبِط معًا رباطًا ثنائيًّا، ويبقى أحدُهما في وكره (وغالبًا الأنثى) بينما يبحث الآخر عن صيد؛ ليعود ببعض اللحم الباقي لزوجه في الوكر ولذريتهما. هذا بينما في حالاتٍ أخرى حيث يمكن إخفاء الصغير في أمانٍ فإن الأنثى التي تعيش وحدَها يُمكنها أن ترعى صغيرها حتى يكبَر دون أي مساعدة إضافية من ذكَر، وهذه الحياة التي تعتمِد على أمٍّ مُفردة شائعة بين بعض القطط الضخمة من مثل الفهد الصياد والنمر، ولكن يُوجَد أيضًا الكثير من الأنواع اللواحم التي تنخرِط في صيدٍ جماعي تعاوني. وطبيعي أن الصيد جماعات يُهيِّئ إمكانيةً لاستخدام مدًى أوسع من استراتيجيات الصيد، وكذا مدًى أوسع من الفرائس من حيواناتٍ كثيرة بما في ذلك حيوانات أضخم من المُفترس ذاته، وتشتمل فئة اللواحم الاجتماعية الكلاب البرية، والذئاب والضباع والسباع وغيرها، ويتعين توفُّر شروط تكاثُرية وإيكولوجية مُعينة من أجل الصيد التعاوني وتدبير الطعام بحيث يُعزز بعضها بعضًا لخلق نمط تكاثري مُستقر وتطوري. ويمكن توضيح ذلك ببعض الأمثلة.
والأُسُود نوع معروف جيدًا لدى الصيادين الاجتماعيِّين، غير أن التعاون وتدبير المؤن تقوم بهما أساسًا الإناث داخل جماعةٍ مترابطة على نحوٍ وثيق (أخوات وخالات وبنات العم)، ويمكن أن يتعاون اثنان من الذكور، ونادرًا ما يكونون ثلاثة، في الاضطلاع بأمر جماعة الإناث وصغارهنَّ لحمايتهنَّ من الذكور الآخرين، ويدافعون عنهنَّ ضد المُتطفِّلين الغرباء، ولكن دورهما ضئيل من حيث توفير مؤَن الصغير، ولكن الإناث يمكن أن يتولَّينَ بالتناوب أمر البقاء مع الأشبال بينما كبار الإناث الباقية تتعاون في الصيد. ويمكن توفير بقايا الصيد لإطعام ذرية أنثى أخرى، ولكنها وثيقة القُربى، ويمكن تبادل هذه العلاقة في الواقع ما دامت كبار الإناث تلِد ورعاية الأم ليست مُشكلة. ونظرًا لأن المصالح التناسُلية مشتركة بين الإناث اعتمادًا على الرابطة العشائرية ولأن العضوية داخل الجماعة دائمة على مدى الحياة، فضلًا عن الدفاع المشترك بالتبادُل وإطعام الصغار؛ لذلك يكون الذكور لا علاقة لهم برعاية الذرية إلا من ناحيةٍ واحدة.
وتقضي ذكور الأسود وقتًا طويلًا وتُخاطر كثيرًا بحياتها دفاعًا عن الجماعة ضد الذكور الأخرى؛ لأن المُغتصِبين سيقتلون الأشبال على أرجح تقدير. ونعرف أن قتل الأطفال يجعل الإناث المُرضعات يعدنَ سريعًا إلى الدورة النزوية مع ضمان أن الذكور لن تدافع عن أشبالٍ ليست أشبالها؛ ونظرًا لأن الذكور لا تُوفر أي مؤن ذات قيمة للأشبال، ولدَيها مصلحة مشتركة في الدفاع عن الأنثى، فإن التعاون بين اثنَين أو حتى ثلاثة ذكور في الدفاع عن الجماعة يكون أمرًا يُفضِّله التطوُّر ما دام كلٌّ منها له فرصة متساوية بشكلٍ ما مع الآخر في الزواج. وتدعم المصالح التكاثرية المشتركة تطوُّر السلوك التعاوني بين الذكور وبين الإناث لأسبابٍ مختلفة، وطبيعي أن قدرة الإناث على مدِّ الأشبال بالطعام دون مساهمةٍ من الذكر يُلغي قيمة اليقين من الرعاية الأبوية، ومن ثم يُقلل من الأثر المدمر المُحتمل الناتج عن المنافسة بين ذكرٍ وذكرٍ للإشباع الجنسي داخل الفصيل.
ولكن ذكور الكلاب البرية والذئاب فهي على عكس الأسود؛ ذلك أنها تقوم بدورٍ رئيسي في إمداد الصغار بالمؤن حتى وإن لم تكن هي أبًا لأي من الجراء، وهناك أسباب يقينية تُبرر رعاية ذرية الآخرين في مثل هذه الظروف، وقد تبدو هذه استراتيجية تناسُلية غير مُستقرة إذا ما نظرنا إليها فقط على مدى شريحةٍ زمنية واحدة صغيرة، ولكن الملاحظ أنه عند شيخوخة الزوجَين ويحلُّ محلهما صغارهما، فإن غالبية الأفراد ستتهيَّأ لها فرصة الإنجاب والتكاثُر. وإذ تفعل ذلك، فإنها سوف تتمتَّع بمنافع دعم الجماعة وما يُهيئه لها من قدرة على رعاية وتنشئة صغارها على نحوٍ أفضل من أن يؤدي ذلك زوجان أو أنثى وحيدة، ويستخدم كلٌّ من الذكور والإناث من هذه الأنواع «استراتيجية» للتكاثُر تتَّسم بقسمة واحدة مشتركة ومُماثلة لتلك التي تستخدِمها ذكور نظام تعدُّد الزوجات، وهو نظام الدورات؛ إذ بسبب المنافسة الشرسة بين ذكرٍ وذكر، فإن ذكور الأنواع التي تعتمِد كثيرًا على تعدُّد الزوجات لا تتَّصل بالإناث إلا لفترةٍ قصيرة جدًّا متأخِّرة من عمرها بعد بلوغها ذروة القُدرة القتالية، ولكنها خلال هذه الفترة القصيرة قد تُحقق نجاحًا كبيرًا في قُدرتها التناسُلية.
والملاحظ أيضًا أن الحياة الاجتماعية للكلاب البرية وللذئاب يمكن أن تُحقق دعمًا تطوريًّا إضافيًّا عن طريق الانتخاب العشيري، الذي يتم في صورة سلوك «المعاون في العش»، ويتحقَّق هذا على أفضل وجهٍ عندما يكون الأفراد القائمون على توفير الطعام أشقاء لصغار الأطفال التي يُطعمونها. وإذا كانت فُرَص نجاح التكاثر ضعيفةً بسبب الفرد نفسه، فإنه يعهد به إلى الأبوين لأدائه بنجاح. ولا تُغادر الذرية قصد التكاثر مُستقلةً إلا حين تبلغ درجة كافية من النضج تتوفَّر لها فيها إمكانية حماية منطقتها الخاصة للعيش والتكاثر وحماية الجماعة الاجتماعية، وكذا حين تقلُّ مزايا البقاء في المكان، وتقل الفوائد التي تعود عليه منها، أو حينما تتضاءل فرص وراثة مكان المبيت.
ونعرف أن الكلاب البرية صيادة في غاية الكفاءة والمهارة داخل القطعان الكبيرة، وأنه حين تشيخ الذكور والإناث ذَوُو القدرة المُهيمنة على التكاثر، فإن الصغار تحل بديلًا عنها؛ حيث أصبح بالإمكان أن تحصد منافع الهيمنة داخل القطيع. والملاحظ أنه على الرغم من أنها لم تتناسَل على مدى سنواتٍ من حياة البلوغ، فإنها ما إن تحين لها الفرصة للتناسُل حتى تحقق نجاحًا كبيرًا وتلد صغارًا كبار الحجم، وفرصتها للبقاء حتى سنِّ النضج جيدة جدًّا ما دام توفَّر لها الدعم من مجموع القطيع. وهكذا يكون بإمكانها، وخلال فترةٍ قصيرة، تعويض سنوات «صبرها» السابقة، وإذا توفرت كميات كبيرة من فائض اللحم، فإن هذا قد يُفيد الأفراد للانفصال عن القطيع الأساسي وتشرع في تكوين قطيعٍ مُستقل، بدلًا من الاستمرار في توفير طعامٍ لذريةِ آخرين أو لأقارب.
وإن هذه الاستثناءات ذات الدلالة المهمة للقاعدة التي تقول: «إن تدبير الذكر مؤن الصغار حصري بالتبادل في الجماعة كبيرة الحجم والتعاون الاجتماعي.» تفيد في توضيح المبادئ الأساسية التي تنبني عليها هذه العلاقات؛ إذ إن حياة الفريق ومسئولية الذكر عن الطعام يُمكن أن يحدثا معًا، ولكن فقط في الحالات التي يكون فيها حق ممارسة الجنس للتكاثر محدودًا تمامًا وواضحًا دون لبس، مثلما هو الحال في الحياة الاجتماعية للحيوانات آكلة اللحوم. ولن نجد نمطًا ثابتًا للمساومة ما لم يكن هذا المبدأ مصونًا بشكلٍ ما، وكثيرًا ما نجد — حتى في هذه الحالات — أن المؤن يُوفرها، بشكلٍ ثابت، الأشقاء أو إناث ذوات قرابةٍ أكثر مما يُوفرها آباء مُحتملون.
حل رمزي
يتعيَّن علينا أن نفهم في هذا السياق نفسه من نظام التكاثر الاجتماعي تطوُّر القنص بين أسلافنا الأوَّلين من الهومينيد، نعرف أن الأنواع الأخرى من الرئيسات تأكل اللحم، ونعرف أن كلًّا من قردة البابون والشمبانزي تقتنِص وبشكلٍ دوري صغار الحيوانات ذات الحوافر أو صغار القردة وتأكُلها، علاوة على أن قردة الشمبانزي تشترك في عمليات صيد تعاونية، وهو ما تم توثيقه بانتظام، وتضم عمليات القنص فريقًا من الذكور التي تزحف مُتخفية عن عمد؛ لتُحاصر قردًا سيئ الحظ وتسدَّ عليه كل السبل لتحول دونه والهرب، ثم تقترب رويدًا رويدًا إلى أن يستطيع أحدها أن يُمسك بالحيوان ويقتله، أو يشلَّ حركته إلى أن يلحق به الآخرون، ولكن سلوك الشمبانزي في الصيد مُختلف كثيرًا عن سلوك البشر ممَّن يعيشون على القنص وجمع الثمار من ناحيتَين رئيسيتَين: أولًا: إن جميع الصيادين البشر يقتلون فريستهم ويسلخون جلدَها مُستعينِين في ذلك بأدوات، ولكن الشمبانزي تكتفي بقوتها الجبارة لشلِّ فريستها وتقطيعها، وتستعين بأنيابها الطويلة الحادة لإصابتها إصابات قاتلة، وينهش لحمَها ويلتهمها، ثانيًا: اللحم الذي يحصل عليه الصيادون من الذبيحة نادرًا ما يلتهمونه كلَّه في موقع القنص، بل يفصلونه عن الجلد ويحملونه عائدين لاقتسامِه مع الأمهات والصغار وغيرهم ممَّن لم يشاركوا مباشرةً في عملية الصيد، وتهتم الشمبانزي بما يمكن تسميته الإمداد بفضلات الذبيحة للإناث والصغار، كذلك فإن تلك الإناث وصغارهن ممَّن كانوا بجوار موقع الفريسة أثناء الْتهام اللحم هم فقط من ستكون لديهم فرصة لأخذ نصيبٍ منها، ويسمح الذكر عادةً لأنثى يعرفها بأخذ ما تبقَّى مما لا يرغب فيه.
وعلى الرغم من أننا قد نعتبِر اللحم مصدرًا لطعامٍ مضمون للشمبانزي، فإنه في جوهره ومن منظور الذكور إمداد ذو كلفة، وهو في أفضل الأحوال مصدر مُتقطع غير دائم ولا يُعتمَد عليه بالنسبة للإناث والصغار، وقد يتَّضح هذا أكثر عندما نتأمَّل اختلاف أسلوب الشمبانزي في القنص واقتسام اللحم شركة في الظروف المختلفة. والملاحظ أن القنص ربما يزداد في أوقات نقص الأغذية الأخرى ولكن درجة الاقتسام والشركة يُمكن أن تنقص أيضًا خلال تلك الأوقات.
وتعكس الأدوات الحجرية بوضوح فارقًا تشريحيًّا مهمًّا بين العصر الأول للهومينيدات وبين الشمبانزي الحديثة؛ إذ إن الهومينيدات في عصرها القديم كانت بغير أنيابٍ ضخمة طويلة، وهذه تُمثل حالة من التكيُّف غير العادية بالنسبة للرئيسات؛ إذ إن غالبية الرئيسات لها أنياب بارزة تستخدِمها للتهديد والقتال، وأيضًا إلى حدٍّ ما في الدفاع عن نفسها ضد الحيوانات المفترسة. ويصدق هذا حتى على الأنواع التي يسود بينها الرباط الثنائي في الزواج مثل الجيبون، والسؤال: لماذا انخفضت أو قصرت تمامًا أنياب كل الأسلاف الأُوَل للهومينيد بما في ذلك الإنسان الجنوبي الذي تميز — كما يبدو — باختلاف الشكل بين الجنسَين مثل الرئيسات التي يسود بينها تعدُّد الزوجات، سريعة الغضب، والتي تعيش اليوم؟ الاتفاق محدود فيما يتعلق بهذا السؤال، ذهب البعض إلى أن ذلك يُمثل نقصًا للمنافسة والاقتتال بين الذكور، أو ربما يُمثل تحولًا إلى استخدام اليدين والقبضتَين والأسلحة الخشبية. ويبدو أن نقص المنافسة بين الذكور سبب غير مرجَّح في ضوء الاختلافات الواضحة إلى أقصى حد؛ من حيث حجم جِسم الذكر بالقياس إلى إناث الإنسان الجنوبي؛ حيث إن هذا مؤشر ثابت على الانتخاب الجنسي من ناحية قدرة الذكر على القتال في المنافسة للحصول على زوجة، كذلك فإن الحجة القائلة بأن الأنياب حلَّت محلها أدوات قتال أفضل تبدو هي الأخرى قاصرة عن تقديم تفسيرٍ كافٍ شافٍ. ونحن حتى وإن تظاهرنا بأن قبضات الأيدي والعِصيَّ كانت أسلحة أفضل من الأنياب التي تخترق اللحم، على أساسٍ أسلمَ وأكثر أمانًا لاستعمالها عن بعد، فإنها لن تُنتخب إزاء هذا الخط الدفاعي الأخير الرهيب؛ إذ لماذا يتخلَّى إنسان يستخدم العنف عن سكِّينه ويُبدله بعصًا ما دام يستطيع استخدام الاثنَين؟ إن الأنياب لم تذو، وإنما لا بد أنها انخفضت كثيرًا بفعل الانتخاب الطبيعي.
يبدو من المُرجح أن أسلافنا من الإنسان الجنوبي فقدوا الأنياب الضخمة؛ لأنها أفيد كثيرًا في الأكل وليس القتال، وهذا ما تفيد به نظرة إلى طبيعة بقيةِ الأسنان عند هذه الأنواع، والقسمة الأخرى غير العادية في أسنان الهومينيدات، الأول هو أضراسها القوية المُغطَّاة بمينا ثقيلة، إن هذه الأسطح الطاحنة الضخمة التي يدعمها فكَّان قويَّان — خاصة لدى النوع الأضخم من الإنسان الجنوبي — يعكس في الغالب الأعم تكيفًا لمضغ أطعمةٍ من ألياف أو صلبة تستلزِم استعدادًا قويًّا لمضغٍ طويل قبل هضمها. معنى هذا أنهم كانوا يأكلون أشياء مثل الدرنات أو الحبوب أو حتى القشور والبذور، وإذا افترضنا أن هذا كان الغذاء الرئيسي إذن، فإن الحفاظ على أنياب ضخمة قاطعة ويتعين شحذُها، وتتطابق مع نظيرتها العُليا والسُّفلَى عن فتح وغلق الفك، فإن هذا يفرض مشكلةً خطرة. إنها ستؤدي إلى خفضٍ كثيرٍ للحركة الجانبية للفك، وهي حركة ضرورية للطحن الجيد، كذلك فإن المضغ المُستمر من شأنه أن يؤدي إلى تآكُل الأنياب، وربما أيضًا زيادة في فرص الإصابة الذاتية أو تقرُّحات الفم في مناطق احتكاك الأنياب، وليس مهمًّا كيف تنظر إليها ولكن الأنياب الضخمة وأسنان الطحن الضخمة لا تتماثل معًا في غالب الأحيان. ونعرف أن الأنواع القليلة من غير الرئيسات القادرة على العمل بكلٍّ من الأنياب الضخمة واستراتيجية طحن الطعام تنمو أنيابها إلى الخارج وإلى الأمام (مثل الفيلة والخنازير)، ولكن يبدو أن هذا لم يكن خيارًا لأسلافنا، وهذا من حُسن حظنا، والخلاصة أن الأنياب انخفضت على الرغم من منافعها للعدوان والدفاع.
والشيء اليقيني أن الإنسان الأول حين انتصبت قامته كانت قد حدثت نقلةٌ من التعوُّد على استخدام الأسنان إلى استخدام اليدَين والأشياء أثناء العدوان بين ذكرٍ وذكر، وكذا في الدفاع على مدى حقبة تطور الإنسان الجنوبي، ولكن كانت هذه على الأرجح استجابةً إزاء قصر الأنياب وليس سببًا لها، ومع ذلك فإن زيادة التعوُّد على استخدام اليدَين في مجالات الاستعراض العدواني والقتال البدني، خاصةً إذا تضمَّن الاستعانة بأشياء (وهو ما نلحظه أيضًا بين الشمبانزي)، فإن هذا يُرجِّح أكثر مع اطرادِ هذا الأسلوب التعوُّدَ أيضًا على استخدام الأدوات في النبش؛ بحثًا عن طعام، وكذا في القنص وفي المنافسة بين بعض الذكور وبعضها، ونجد في الواقع أن الإنسان الجنوبي بعد أن فقد الأنياب الضخمة أصبح يعتمد على اللحم بدرجةٍ أقل حتى بالقياس إلى الشمبانزي، ومن ثم أصبحت الأدوات الحجرية الوسيلة الوحيدة لاتخاذ موطنٍ ملائم؛ حيث يُمثل اللحم مصدرًا جوهريًّا للطعام.
وتشير الأدوات الحجرية الأولى إلى نقلةٍ في اتجاه غذاءٍ يحتوي على قدْر أكبر من اللحم، سواء توفَّر له عن طريق القنص أو جزئيًّا من خلال التطواف بحثًا عن طعام (أو سرقته من آخرين)، ولكن لماذا نقلة تضمَن مزيدًا من اللحم؟ ماذا يعني ذلك؟ نعود لنقول: إن الشمبانزي التي تعيش على الترحال بحثًا عن طعام أو صيدٍ يمكن أن نجد لديها ما يُلمح إلى الإجابة، وسبق لنا أن أشرنا إلى أن هنا بعض الشواهد على أن سلوك الشمبانزي في الصيد يزداد عندما تندُر الأطعمة الأخرى؛ أي أن اللحم مصدر بديل للطعام الذي يمكن إبداله بطعامٍ من الأطعمة المُفضلة مثل الفاكهة، إنه أحد عناصر استراتيجية إطعام مركبة ومُتغيرة. ونعرف أن الشمبانزي من القوارت؛ أي الحيوان الذي يقتات على كل شيء نباتي وحيواني: إنها تأكل أوراق الشجر والحشرات وبراعم النباتات والحبوب والقشور وأنواع القصب طوال الفترات المختلفة من السنة وفي مناطق مختلفة، وأحسب أن القشور والبذور هي الأقل تفضيلًا في المرتبة، وهي مصدر ضئيل القيمة الغذائية، ولم تكن لتَتَّجِه إليها إلا حين ندرة الأطعمة الأخرى، وربما كانت تفيد بسدِّ الجوع وليس لقيمتها الغذائية. وليس واضحًا في الحقيقة كم الثمن الباهظ من حيث السعرات الحرارية لاستخراج هذه المواد الغذائية في ضوء الطاقة المُستنفدة في سبيل اكتشاف واستخلاص ومضغ وهضم الأغذية النباتية، ولكن العائد قليل على نحو شبه يقيني إذا لم يكن بُدٌّ من الحفاظ على هذه الاستراتيجية لأكثر من شهر أو شهرين.
ويبدو أيضًا أن سلوك الشمبانزي من أجل الصيد يزداد أثناء الفصول العجاف، ولكن اللحم هو المُفضل حال توافُره لدى الذكور دون الحصول على الأطعمة الأخرى الأقل تفضيلًا، ونتيجةً لذلك كانت الإناث وصغار الأطفال هم على الأرجح الأكثر تضرُّرًا أثناء هذه الفترات، ولكن من وجهة نظرٍ تطورية، فإن توجيه المؤَن عن قصدٍ حين تقلُّ الموارد إلى أنثى بعينِها وذُريتها، ستكون له بعض الفوائد المحدودة للذكور إذا كانت تتشكَّك في أبوَّتها. ومع ذلك نجد لدى الشمبانزي شواهد تدلُّ على أفضلية المشاركة مع الإناث، مع الظن أن هذا يُمكن أن يزيد من فُرَص الجماع مستقبلًا بين الذكر الذي يقتسِم وبين تلك الأنثى، ويمكن أن ييسر هذا سبيلًا ما لتدبير الطعام وإن كان بأسلوبٍ غير مباشر بغضِّ الطرف عن الأبوة، كما يفيد ثانيًا في المنافسة بين الذكور حين صراعها على أنثى. وطبيعي أن مثل هذه الاستراتيجية الأنانية لها كُلفتها من حيث معدلات الوفيات للأطفال، بيد أن الكلفة الفردية الجينية/ التكاثرية عند تبنِّي استراتيجية غير أنانية تضع حاجزًا يحول دون تحقيق نمطٍ أكثر فعالية، ولكن هذه المعادلة قابلة للتغيير إذا كانت الندرة أشدَّ قسوة وأكثر كلفة، أو إذا أمكن الاهتداء إلى طريقة موضع ثقة أكثر للحصول على غذاءٍ عالي القيمة مثل اللحم.
وليس القنص بالنسبة للشمبانزي استراتيجية رئيسية للحفاظ على الكفاءة التناسُلية لمواجهة النقص الكبير في الطعام أثناء مواسم الجفاف، وسبب ذلك أنه غير متاح بقدر متساوٍ لكل من الذكور الكبار والإناث والشباب والأطفال؛ إذ إن القنص أو التطواف بحثًا عن اللحم يمكن أن يوفر استراتيجية قابلة للدوام؛ لضمان البقاء على قيد الحياة خلال مواسم الجفاف إذا ما (١) نسبة النجاح المُتوقعة والمنتظمة عالية جدًّا؛ و(٢) أن يكمل اللحم الغذاء اللازم للإناث المرضعات وأطفالهن. والملاحظ أن مصدر الطعام التكميلي المتاح أغلب الأحيان للذكور الكبار أو للإناث اللاتي تجاوزنَ سِنَّ التخصيب، لن يقدم غير القليل أو لا فائدة منه من حيث القدرة التناسُلية لمستهلكيه، إذا كان القصد أن الأفراد القادرين على التخصيب يُعانون من معدَّل وفيات عالٍ.
وواضح أن الحصول على اللحم كمصدر للطعام يُمثل استراتيجية أفضل للبقاء على قيد الحياة في أوقات شُحِّ الأطعمة التقليدية من التحوُّل إلى أطعمة فقيرة غذائيًّا مثل البذور والقشور وأوراق الشجر، كما تفعل قردة الشمبانزي الحديثة، ولكن هذا لا يكون مُمكنًا إلا إذا توفَّرت طريقة للتغلُّب على المنافسة الجنسية المُقترنة بشكوك الأبوة. ويمكن تلخيص المُعضلة فيما يلي: يجب على الذكور الصيد تعاونيًّا ضمانًا للنجاح؛ لا تستطيع الإناث القيام بأعمال الصيد بسبب أعباء الحمل المُستمرة، ومع ذلك يتعين أن يكون اللحم في متناول تلك الإناث التي يحُول ضعفها عن الحصول على اللحم بشكلٍ مباشر (الإناث التي تعول وتعيش بصبحة صغارها)، وذلك إذا كانت ضرورية بشكلٍ حاسم كغذاءٍ يكفل البقاء، ويتعيَّن أن يأتيها من ذكور، ولكنها لن تحصل عليه بأي وسيلة، وإنما فقط وسيلة تضمَن على نحوٍ يقيني أن توفير الطعام رهن قيمة تناسُلية لمن يزوِّدها به، يتعين أن تتوفر للإناث الأسباب التي تكفل لها الحصول على اللحم لصغارها، ولكي يحدث هذا يجب أن تحافظ الذكور على علاقات الرابطة الزوجية، وأيضًا لكي يتحقق هذا لا بد أن يتوفر للذكور ضمانة بأنها تُطعم ذريتها هي، وهكذا يبين لنا أن المشكلة الاجتماعية الإيكولوجية التي فرضها الانتقال إلى استراتيجية البقاء المدعوم بإضافة اللحم هي أن لا سبيل للانتفاع بها بدون بنية اجتماعية تكفل علاقة زوجية لا لبس فيها وحصرية، وأن تكون عادلة بما فيه الكفاية، لضمان دوام التعاون عن طريق مصالح تناسُلية مشتركة أو متوازية، وإن هذه المشكلة يمكن حلُّها رمزيًّا.
وحريٌّ بنا ألا نغضَّ من قيمة ودور ما يمكن أن تُمثله الرسائل الرمزية؛ إن بالإمكان أن نُعبر بالإشارة ودون الرجوع إلى مرجعية رمزية مُستخدِمين وسائل أيقونية أو الدليل الموضوعي عن أي شيءٍ تقريبًا أو أي أحداثٍ أو حتى عن صفاتٍ بذاتها للأشياء أو الأحداث، ونحن كلَّما نظرنا بعناية أكثر إلى السلوكيات الاجتماعية للرئيسات، وجدْنا مزيدًا من الأمثلة للصيحات والإيماءات التي تُفيد في الإشارة إلى أنماط بعينها من الأشياء والأنشطة، وتشتمل هذه على صيحات النذير التي تُمايز بين أنماط الحيوانات المفترسة، وصيحات الطعام التي تمايز بين أنماط الطعام والكثير من الإيماءات والأصوات الأقل درامية التي تُحدد هوية صاحبها ومكانه الاجتماعي والنوايا السلوكية، وإن الشيء شبه المؤكد أن الأفراد الذين اقترنوا بعضهم ببعض زمنًا طويلًا داخل جماعة واحدة يبرعون في تفسير الإيماءات الطفيفة والحركات أو صفات مخارج الأصوات من واحد إلى آخر، وذاعت بيننا تقارير تُحدثنا عن قُدرات الأنواع الأليفة على تمييز الحالات الانفعالية لأصحابها. وربما تكفي لمحة سريعة إلى قدرات هذه الأنواع لتفسير الانفعالات التي من النوع ذاته، وأكثر من هذا أنه حتى السلوكيات الاجتماعية المُتآزرة معًا من مثل سلوكيات الصيد تبدو منظمةً بسهولة شديدة على أساس قدرات الحيوان على أن يتعلَّم كيف يستبق عادات الآخر من سلوكه، ولكن ثمة أشياء يصعب تمثيلها بدون رموز، إن الاتصال على أساس الدليل الموضوعي يمكن فقط أن يُشير إلى شيء آخر بفضل رابطة ملموسة بجزء من، أو كل هذا الشيء حتى وإن لم يكن له أساس أكثر من التوافُق العادي. وعلى الرغم من وجود عالم واسع من الأشياء والعلاقات القابلة للتمثيل غير الرمزي، فإن أي شيءٍ يمكن في الحقيقة أن يَمثُل أمام الحواسِّ لا يتضمن مرجعية مجردة أو شيئًا غير ملموس، وإن هذا القيد التصنيفي هو الرابطة بين الشكل الشاذ للاتصال الذي تطور لدى البشر والسياق الشاذ للسلوك الاجتماعي البشري.
كيف تم الوفاء بهذه الشروط داخل الجماعات الاجتماعية الأولى للهومينيد؛ بغيةَ الحفاظ على نمَط تقابُلي حصري للعلاقات التناسُلية واقتسام الطعام؟ جدير بالذكر أنه في ضوء ما نعرفه عن الأنماط الاجتماعية للرئيسات الأخرى يمكن افتراض أن تلك الجماعات كانت مُستقرة نسبيًّا وعلى المدى الطويل؛ حيث كان الأفراد يعرفون بعضهم بعضًا، وأنهم في أدائهم لحياتهم اعتمدوا على التعاون، إما على إناثٍ قريبات و/أو ذكور ذوي قربى، ولكن ماذا عن تحديد أيهم يلتزم بالقاعدة وأيهم لا يلتزم؟ نرى أنه حيث تتضمن العلاقة اقتسام الطعام شركةً، فإن العلاقات تكون متماثلة ومباشرة؛ إذ إما أن يكون الطعام جاهزًا ومُحددًا أو لا، ولكن في حالة العلاقات الجنسية فقد لا يكون واضحًا تمامًا ما الذي يجعل قردًا ميسورًا وآخر غير ميسور إن لم يكن ذلك في صورة حضورٍ مادي وتقبُّل واضح أو خطر الإيذاء.
وكيف توفر حق الاقتران بزوج على أساس الغيرية التبادُلية؟ نرى من الناحية الجوهرية أن كل فردٍ له حق التخلِّي عن إمكانية الوصول إلى غالبية الزوجات المُحتملات؛ بحيث يمكن للآخرين أن يجدوا سبيلَهم إليها مقابل تضحيةٍ مماثلة. إن الميزان التناسُلي يجب أن يكون متوازنًا بحيث تتوفَّر لدى غالبية الذكور والإناث فرصة مُحتملة متساوية إزاء حق التكاثر أو المؤَن (بالتقابل) على مدى العمر حتى يكون النهج التعاوني في توفير المؤن استراتيجية مستقرَّة، ولكن إذا لم يتوفَّر مَعلم واضح ومُتفق عليه تمامًا يُحدد الحق في الجنس المسموح به وغير المسموح به، والاقتسام غير الملائم والملائم عند اقتسام موارد الطعام، فإن السؤال كيف يُمكن لأيِّ امرئٍ أن يُحدد من هو الغشاش ومن ليس كذلك؟ وكيف يعرف المرء من المُلتزِم مع مَن؟
الشرط الأول إذن هو ضرورة توفُّر وسيلة لتمييز العلاقات الجنسية الحصرية بطريقةٍ معروفة لدى جميع أبناء الجماعة، إن الحق الجنسي وما يُقابله من الْتزامٍ بتوفير الموارد ليس مجرد عاداتٍ سلوكية، إنها لا تكون أكثر أو أقلَّ من أنماطٍ معروفة ومتوقَّعة أو مجرد تنبُّؤات بشأن السلوكيات المُحتملة مستقبلًا. معنى هذا أن الحق الجنسي وصفة لسلوكيات المستقبل، ويَبِينُ واضحًا أن لا سبيل إلى تمثيلها والتعبير عنها بدليل موضوعي أو بالذاكرة، ولا يمكن أن يُحددها أي دليل موضوعي بالمكانة الاجتماعية الراهنة أو الحالة التناسُلية. وأكثر من ذلك أنه حتى رفض أو تجنُّب النشاط الجنسي إنما يُشير فقط إلى حالةٍ راهنة وليس تنبؤيًّا بالضرورة، وإن العروض الظاهرية الدالة على الجنس أو الزواج، لا يمكن أن تُشير إلى ما يمكن أن يكون عليه الأمر ولا ما ينبغي أن يكون عليه، ومن ثم فإن هذه المعلومات يمكن التعبير عنها رمزيًّا فقط، وإن العلاقة الزوجية في النسب البشري هي في جوهرها وعْد أو على الأصح طائفة من الوعود يتعيَّن إشهارها علنًا، وهذه لا تُحدد فقط أي السلوك مُحتمل مستقبلًا، إنما، وهو الأهم، تُحدد ضمنًا أي السلوكيات المُستقبلية مسموح بها؟ وأيها غير مسموح بها؟ أي أيُّها نعرفها بأنها خداع ويُمكن أن تفضي إلى الانتقام.
والمشكلة الثانية هي كيفية التحقُّق من وضمان موافقة الآخرين ممَّن يُمكن أن يشملهم الأمر، سواء كغشَّاشين مُحتملين أو كدعمٍ ضد الغش، إن الذكَر لكي يُحدد أنه صاحب حقٍّ حصري في الجنس، ومن ثم فإن أُبوته مؤكدة، يستلزِم أن يقدم الذكور الآخرون ضمانًا ما بشأن سلوكهم الجنسي مُستقبلًا، كذلك بالمِثل فإن الأنثى لكي تُقلع عن الْتماس مؤن من ذكورٍ كثيرين تحتاج إلى أن تكون على يقينٍ من الاعتماد على ذكَر فردٍ واحدٍ على الأقل، وليس ملتزمًا إزاء إناث أخريات على نحو يمكن أن يحُول دون تزويدها بما يكفيها من موارد. والملاحظ أنه على خلاف الرابطة الزوجية بين أنواعٍ يبقى الذكر والأنثى فيها مُنعزلَين عن أي منافِسِين جنسيِّين مُحتملِين نجد أن تأسيس رابطة جنسية حصرية في إطار اجتماعي ليس مجرد علاقة بين فردَين، ونجد في حالة الأزواج من الجيبون الموجودين مُتجاورين في منطقةٍ واحدة أو الرابطة الزوجية بين الطيور التي تُعشش بجوار بعضها أن ثمة وجهًا واحدًا للحفاظ على علاقة الزواج الحصرية، التي قد تستلزِم أن تحرص الأنثى جاهدةً على منع الإناث الأخريات، كما يعمل الذكر جاهدًا على منع الذكور الأخرى ممَّن يُمثلون منافسين جنسيِّين، وهذا لا يكون موثوقًا به إلا حين يميل الزوجان إلى البقاء في المجاورة نفسِها، ولكن في حالة الهومينيدات؛ حيث يكون الذكور مُنغمِسين في نشاط يقتضيهم البقاء بشكلٍ منتظم بعيدِين عن الإناث للتفرُّغ للصيد؛ فإن هذا النوع من دفاع الذكر ليس كافيًا، ومن ثَم يلزم أن يكون بوسع الذكور والإناث معًا الركون عن ثقةٍ إلى وعدِ الزوج، وربما الأهم من ذلك الاعتماد على مساندة وتهديدات الذكور والإناث الآخرين ممن يؤلفون طرفًا في التنظيم الاجتماعي ولدَيهم ما يخسرونه إذا ما انتهز فردٌ فرصة، وارتكب عملًا جنسيًّا لا يُغتفر.
والملاحظ في المجتمعات البشرية أن انتهاء العلاقة الجنسية الحصرية أو حتى الخطر الناجم عنها يؤدي غالبًا إلى سرعة العودة إلى أعمال الانتقام العنيفة. وعلى الرغم من أن هذه التفاعلات المتوازية الشائعة في السلوكيات الاجتماعية لأنواعٍ ثديية أخرى تعيش نظام تعدُّد الزوجات، فإن المقارنة هنا قاصرة؛ ذلك أن الغيرة الجنسية ربما تكون امتدادًا للجذور نفسها لدى البشر والأنواع الأخرى، ولكنها عند البشر تتضمَّن شيئًا أكثر تجريدًا من مجرد سلوك التهديد. وعلى الرغم أيضًا من شيوع الانغماس في الملذَّات الجنسية غير الشرعية والمغازلة والهجر كنتائج مُترتبة على المنافسة الجنسية في الأنواع الأخرى، فإن الزنا أكثر من ذلك، إنه ينطوي على خيانة، وليست هناك خيانة بدون اتفاقات صريحةٍ أو ضمنية، ونحن لا نجد في كل المُجتمعات تقريبًا أعمالًا انتقامية مقترنة بخيانة الأمانة الجنسية فقط، بل نجد أيضًا نتائج مُترتبة عليها يفرضها المجتمع. ونلحظ أنه حتى إذا لم تكن في المجتمع قوانين صريحة وعقوبات نرى أن المجتمع يُهيئ مجالًا لمن يَعتبرهم ضحايا الخيانات الزوجية لارتكاب أعمالٍ عنيفة كان يمكن منعها بوسيلةٍ أخرى.
وطبيعي أن تأسيس مثل هذه العلاقات الاجتماعية الجنسية لا يتحقَّق عن طريق الاتصال بالدليل الموضوعي فقط؛ أي عن طريق منظومات صيحات الحيوانات وأوضاعها وسلوكياتها الاستعراضية مهما كان مستواها من التقدُّم والتعقُّد، ومع ذلك فإن الاتصال الرمزي حتى في أبسط أشكاله البدائية يُمكنه الوفاء بهذه الحاجة؛ وليست ثمة ضرورة لشيءٍ بين الاثنَين سوى بضع أنماطٍ من الرموز وبضع فئات من العلاقات التوليفية فقط. وحريٌّ أن نُدرك أنه بدون الرموز التي تُشير، على سبيل الإشهار ودون لَبس، إلى علاقاتٍ اجتماعية مجردة بعينِها وإلى توسُّعها مستقبلًا بما في ذلك التعهدات والتحريمات المُتقابلة أقول: بدون ذلك ما كان بإمكان الهومينيدات الإفادة بميزة المورد الحاسم الميسور للصيادين بحُكم عادتهم. إن الحاجة إلى مَعلم يُميز هذه العلاقات الغيرية بالتقابل (وأنانية بالتقابل) إنما ظهرت على سبيل التكيُّف إزاء حالة عدم الاستقرار التطورية المُفرطة التي أصابت اتحاد أو توافُق النشاط الجمعي للصيد/والبحث عن الطعام، وتدبير الذكر للمؤن اللازمة للزوجات والذرِّية؛ تلكم كانت المشكلة التي لم يكن لها من حلٍّ إلا عن طريق استخدام الرمز. لقد كانت الثقافة الرمزية هي الإجابة على مشكلةٍ تناسُلية التي لا يحلُّها سوى الرموز فقط: القاعدة الضرورية لتمثيل عقدٍ اجتماعي.
بدايات الشعائر
ليس مصادفةً التزامن التقريبي فيما قبل التاريخ البشري بين أول زيادةٍ في حجم المخ، وأول ظهور للأدوات الحجرية للصيد والذبح، وكذلك الانخفاض الكبير في الفوارق بين شكلِ الجنسَين. إن هذه كلها تغيُّرات مُعتمدة بعضها على بعض، وهي أعراض لعملية إعادة بناء أو تجديد أساسي لتكيُّف الهومينيدات التي تمثلت نتيجتها في صورة تغيُّر مُهم في إيكولوجيا التغذية، وتغيُّر جذري في الهيكل الاجتماعي، وتغيُّر غير مسبوق (تطوري في الحقيقة) في القدرات التمثيلية. وجدير بالذكر أن أول رموز على الإطلاق جرى التفكير فيها، أو إظهارها أو النطق بها على وجه البسيطة، إنما نبتت وظهرت من هذه المُعضلة الإيكولوجية الاجتماعية، ولهذا نرى أنها ربما لم تكن تُشبه كثيرًا الكلام، واقتضت أيضًا على الأرجح تعقدًا واضحًا للتنظيم الاجتماعي؛ لكي تجعل أمخاخ القِرَدة العُليا القاصرة مهيَّأةً لفهم معانيها كاملةً.
وواضح أن نجاح القردة شيرمان وأوستن وكانزي في اكتساب قدرة على استخدام المرجعية الرمزية بطريقة محدودة، يؤكد أن مخًّا بشريًّا حديثًا ليس شرطًا جوهريًّا سابقًا للاتصال الرمزي. ونعرف أن قدرة الشمبانزي التي تعلَّمت قليلًا من الرموز في المعمل قد استفادت من وجود الباحِثين الذين تفانوا في وضع سياقٍ تدريبي مُحكم، ولكن الهومينيدات الأُوَل الذين استخدموا الاتصال الرمزي كانوا وحدَهم دون مساعدة ولم يتلقَّوا دعمًا من خارج سوى أقل القليل، كيف إذن تسنَّى لهم النجاح وهم لا يملكون سوى أمخاخ تُشبه أمخاخ الشمبانزي وحققوا تلك النتيجة الصعبة؟ كيف نشأت بيئة اجتماعية تلقائية تتوفَّر فيها وسائل الدعم الضرورية للتغلُّب على المهمة الصعبة والمُعقدة على نحوٍ هائل والمُتمثلة في تعليم العلاقات الرمزية لأفرادٍ لم تكن أمخاخهم فقط غير مُستعدة، بل مُمانعة لتعلُّمها؟ إن الانتقال إلى ثقافة رمزية وليدة ربما بدأ في صورة نوباتٍ وبدايات متقطعة مع محاولات تطورية لا حصر لها على طريقة المحاولة والخطأ قبل تحقُّق شيءٍ من الاستقرار، ولا بد أن حدث بعض التطوُّر الاجتماعي المُكثف وهو المسئول عن خَلق مثل هذا السياق، ولكن ما نوع هذا السياق؟ هل شروط ومُتطلبات دعم نقل الرمز في مجتمع للقردة العُليا أمر غير عادي للغاية؛ بحيث إن تطوُّرها التلقائي ضرب من السذاجة الشديدة؟
وإن هذا الجانب من الكثير من الأنشطة الشعائرية غالبًا ما نُدركه بشكل صريح واضح كوسيلة لمساعدة المشاركين على اكتشاف «المعنى الأسمى» الذي لولا هذا لكان معنًى دنيويًّا، بينما يدعم في الوقت نفسه تضامُن الجماعة، وهكذا فإن الكثير من الأنشطة الشعائرية، ابتداءً من الأصوات المُتكررة، وحتى احتفالات البلوغ من شعائر وطقوس الانتماء للجماعة تأخذ صراحةً شكلَ عملية اكتشاف رمزٍ مثالي. وطبيعي أن غالبية الأنشطة الشعائرية في جميع مجتمعات البشر المُحدثين، تجري في خدمة أفكار ومؤسسات رمزية معقدة، ويجري توظيفها عن وعيٍ ذاتي لقدرتها على تقديم العون لتحديد علاقات اجتماعية مجردة، وتلقين عاداتٍ محددة من الأفكار والأفعال. وحسب هذه النظرة فإنها ليست نماذج جيدة لأقدم الشعائر الرمزية، بيدَ أنها تُوضح لنا إحدى الطرق الرمزية التي تؤسِّس بها المجتمعات بعضًا من أصعب تعاليمها الأخلاقية. ونرى أن من الإنصاف بوجهٍ عامٍّ هنا أن نستخلِص أنه كلما كانت المشكلة الرمزية الاجتماعية أكثر صعوبة — سواء بسبب صعوبات مفاهيمية أصلية أو بسبب حدة القوى الاجتماعية الموازية التي يلزم توسُّطها — زادت ضرورة الوسائل ذات الطابع الشعائري لتأسيس استجاباتٍ رمزية مُلائمة.
وتأكيد مرجعية رمزية يماثل تأسيس مرجعيةٍ رمزية في البداية. تشير الرموز إلى علاقات بين الأدلة الموضوعية، ويجري تعلُّمها بالعمل أولًا على تأسيس هذه الروابط الخاصة بالدليل الموضوعي، كذلك فإن إعادة تأكيد المرجعية الرمزية موضع الشك، لكي تكون على أرضٍ صلبة، يستلزِم بالمثل عودةً إلى الدلائل الموضوعية التي تم البناء عليها؛ لذلك فإن السؤال هو: ما منظومة الدلائل الموضوعية التي يُمثلها السِّلم؟ المؤشرات الدالة على أن أبناء الجماعات ليسوا أعداء، والمؤشرات الدالة على أنهم لن يشاركوا في سلوكٍ عنيف حتى وإن حانت الفرصة المواتية لهم، ثم ربما أيضًا المؤشرات الدالة على أنهم مُقتنعون بالتعاون بعضهم مع بعض. ونعرِف أن الدلائل الموضوعية على خلاف الرموز هي جزءٌ مما تُشير إليه، وهذا يجعلها موضع ثقةٍ بطريقةٍ غير متوفرة للرموز.
ونرى في حالة عملية جماعة يانومامو لإقرار السِّلم أن ثمة شعيرة تفصيلية تُهيئ الأدلة الموضوعية اللازمة، وتُعرف هذه الشعيرة باسم «الوليمة»؛ ذلك أن المُضيفين الراغبين في السِّلم يُعِدُّون وليمة، وعندما يحلُّ موعد وصول ضيوفهم وقد ارتدَوا ملابس الحرب مُشهرين أسلحتهم، يضع المُضيفون أسلحتهم جانبًا، وينحني الرجال إلى أمام فوق أرجوحاتٍ مُعلقة في انتظار قدوم الضيوف ودخول قريتهم. يدخل الضيوف وهم يرقصون ويغنُّون ثم يتحلَّقون حول المعسكر وقد وقفوا في مواجهة كلِّ واحد من المُضيفين، ثم يتهدَّدونهم بطريقةٍ شعائرية، ويرفع كل منهم فأسًا أو يرسُم قوسًا وسهمًا، ويجب على المُضيفين الوقوف ثابِتين دون حراك؛ بحيث لا يبدو خوف أو ملاحظات استفزازية، ويتكرَّر هذا الموقف عدة مرات لفترة موجزة (دون أن تتفجَّر العداوات الكامنة في صورةٍ عنيفة) وبعد ذلك تجري الأدوار نفسها بصورة عكسية، ينحني الضيوف ويُخفون أسلحتهم بينما المُضيفون تحلقوا حول المعسكر يرقصون ويُهددون بطريقةٍ شعائرية ضيوفهم، أخيرًا وبعد أن يتضح أن لا شيء يُثير الشك أو الضغينة، يمكن أن يتباعد الجمعان أحدُهما عن الآخر، ويقدِّم المضيفون الطعام لضيوفهم، بعد ذلك يمكن أن يغني الجميع معًا، ويتبادلوا السلع أو حتى يرتبوا زيجات.
وطبيعي أن التعلُّم الرمزي كان صعبًا مفاهيميًّا بالنسبة لنوع الهومينيد ممَّن لها مخ القِرَدة العُليا إلى حدٍّ كبير، وهو ما كان لدى أول مُستخدِمي الرمز، علاوة على هذا فإن المعادل الجنسي للحرب هو المُعضلة الاجتماعية التي تحتاج إلى حلٍّ حاسم، وينبغي أن نبني عدم الثقة في استجاباتنا العاطفية الجنسية في ضوء التطوُّر، ونعرف أن الخيانة أو الشك في المغازلة تُعتبر في كل أنحاء العالم سببًا رئيسيًّا للعُنف والقتل، وهذا هو جزاء الحياة في سياق حياة تناسُلية غير مُستقرة؛ ولهذا نجد من ناحية أخرى أن المصطلحات البسيطة التي تؤسس العلاقات التناسلية التي تمثل لبَّ المجتمعات البشرية تتطلَّب من حيث المعرفة والمخاطر المُتضمنة توفُّر عمليات بنائية شعائرية رفيعة المستوى، ويعتبر الدعم الشعائري أيضًا جوهريًّا لضمان أنَّ جميع أفراد الجماعة يفهمون العقد الجديد المُلزم، وأنهم سوف يسلكون وفقًا له، ومع التسليم بالمشكلات المعرفية والاجتماعية، لا غرابة إذ نجد أن الرموز الاجتماعية الأولى التي استهدفت تأسيس الأدوار التناسُلية، تمَّ صَوغها في ضوء برهان شعائري غير مباشر، أي نقض النقيض.
وتخدم شعائر الزواج والبلوغ هذه الوظيفة في غالبية المجتمعات البشرية، (هذا على الرغم من أن المجتمعات الحديثة تُبدل الكثير من هذه الشعائر الرمزية الاجتماعية العيانية بشعائر تشريعية ودينية أكثر تجريدًا)، ونلحظ أن بناء الرمز المُستخدَم في هذه الاحتفالات ليس مجرد مسألة تأكيد علاقات رمزية بعينها، بل يتضمن عمليًّا استخدام الأفراد والأفعال كعلاماتٍ رمزية، ويعاد تحديد الأدوار الاجتماعية ونسبة الأفراد صراحةً إليها. إن الزوجة أو الزوج أو المُحارب أو الحمو أو كبير العائلة، هم جميعًا أدوار رمزية، وليسوا أدوارًا تناسُلية، ومن ثم يتم تحديدهم بالنسبة إلى منظومةٍ كاملة من الأدوار الرمزية البدائلية أو التكميلية. ونجد المكانة الرمزية مُطلقة وهذا على عكس المكانة الاجتماعية لدى أنواع أخرى؛ إذ هي علاقة في تغيُّر بدرجةٍ أو بأخرى، وتتحدَّد الأدوار الاجتماعية، مثلما هو الحال في كل العلاقات الرمزية داخل سياق منظومةٍ كاملة منطقيًّا من التحوُّلات المُمكنة، ولهذا السبب فإن جميع أفراد جماعة اجتماعية ما (وكذا أي آخرين غرباء مُحتملِين) يحمل علاقةً رمزية ضمنية عندما يُغيِّر أي واحدٍ منهم مكانته.
وإنه باستثناء هذه العمليات الشعائرية التي تستهدف صوغ علاقاتٍ رمزية اجتماعية نجد أعراضًا للعملية ذاتها (موضوعات متبادلة، وشم الأبدان … إلخ) يمكن استخدامها لما لها من دلالةٍ رمزية، وهكذا فإن العلامات التي حقَّقت غرضًا خاصًّا بدليل موضوعي ضمن صوغ رمز شعائري يُصبح رمزيًّا بسببه. إن دقات الناقوس، وملابس الاحتفالات والندوب الشعائرية هي أدلة موضوعية على المشاركة في نقلةٍ رمزية، ومن ثم يمكن أن تصبح رموزًا للعلاقة نفسها. ومع التسليم بالطابع العالمي الشامل للزواج البشري وما يُلازمه من شعائر واحتفالات يبدو من المعقول أن نتخيَّل ملامح للبنية المنطقية الأصلية للشعائر الرمزية الأولى ما يزال يتردَّد صداها في زيجات الرجال والنساء اليوم.
لهذا من المرجَّح أن أقدم أشكال الاتصال الرمزي لم تكن لغة شبيهة بالكلام أو الإشارة اليدوية، وتضمنت على نحوٍ شبه يقيني نطقًا؛ أي أصواتًا خارجة في موازاة إيماءاتٍ وأنشطة وأشياء شعائرية/مُتواضَع عليها؛ بحيث تمثل جميعها مزيجًا غير متجانس من الأدلة الموضوعية التي تحولت إلى رموز، وبدأ كل منها يعتمد بشكلٍ نسَقي على الآخر؛ بحيث تحدد في مجموعها فئةً مغلقة من أنماطٍ محتملة للعلاقات. وثمة احتمال بأن الترميز الصوتي في أول وأقدم المراحل كان له دور متواضع بسبب نقص التحكم الحركي النازل إلى أن زاد حجم المخ. ومن المُحتمل أيضًا أن معادلات الكلمات لم تكن متاحة قبل الهومو أريكتوس. ونظرًا لأن هؤلاء الأفراد كانت لهم أمخاخ بدأت تقترب من النطاق الحديث فقد كانوا — وعلى نحوٍ شِبه يقيني — يتمتعون بدرجةٍ من المهارة الصوتية التي استخدموها بطريقةٍ رمزية، وإن ما دفع هذا التحول إلى كلامٍ لم يكن فقط القيود على سهولة استخدام الأشياء والأداء والإيماءات اليدوية، بل أيضًا التأثير التقابُلي لتضخُّم قشرة المخ استجابةً لمُتطلبات تعلُّم الرمز والنتائج المُترتبة على المرونة اليدوية والصوتية، وكانت رموز الأشياء المادية محصورة في استعمالاتٍ وسياقات مُحددة إلى أقصى حد — مثل استخدامها كأيقوناتٍ أو مياسم مادية — وتنزع إلى الإبقاء على رموز الأداء المُعقد قاصرة استخدامها في سياقات شعائرية مُتخصصة. وطبيعي أن التطور الاجتماعي للاتصال الرمزي تم اختياره في ضوء منظومات الرمز التي استلزمت استخدام العلامات (موضوعات أو أفعال، كلٌّ يُمثل رمزًا مفردًا) التي يتعذر إنتاجها أو توليفها في نطاقٍ واسع من الظروف. ويعتبر الكلام حتى تلك اللحظة الأقل خضوعًا للقيود في هذه الوسائل ومُهيَّأ ليحلَّ محلَّ منظومات العلامات عن طريق التطوُّر الاجتماعي وحدَه مع تخفيف قبضة القيود العصبية. ومن المتوقع أن التطور المشترك المعقد للانتخاب الاجتماعي الذي آثر النطق علاوةً على الشروط اليدوية المعرفية لاستخدام الأداة وتعلُّم الرمز، أوضحت دون شكٍّ أن رموز النطق لم تكن لتنتظر لكي تتفجَّر على المشهد التطوري في وقتٍ متأخِّر من العملية، ولكن الاحتمال الأكبر أن التحوُّل التدريجي تجاه منظومات الرمز المنطوق والاكتفاء الذاتي المُطَّرد — اللغات — كان يستلزمُ دائمًا وأبدًا استخدام قُدراتنا على النطق الواضح إلى أقصى الحدود.
ولكن حريٌّ ألا نغفُل عن حقيقة أن الرموز ما تزال وثيقة الارتباط وعلى نطاق واسع بالممارسات الثقافية والمتعلقات شبه الشعائرية. وعلى الرغم من أن الكلام بوسعه نقل الكثير من الأشكال من المعلومات مستقبلًا عن أي دعمٍ موضوعي، فإنه كثيرًا ما نجد في الممارسة مظاهر دعم مادية واجتماعية متوقفة على السياق وتؤثِّر فيما يجري توصيله. وما يزال اكتساب اللغة يعتمد على التنظيم الشعائري وتقسيم سياق اكتساب الرمز على الرغم من أن الدعم الحاسوبي الذي ينفرد به الطفل البشري يُهيِّئ إمكانيةً لإنجاز هذه العملية دون تعليم غير مباشر لجميع الرموز والتوليفات المُمكنة في المنظومة.
يزودنا هذا بدائرة مُكتملة، وذلك لإعادة التفكير في الجانب الآخر من المفارقة التي بدأنا بها هذا الكتاب: غياب اللغات البسيطة عند الحيوانات والبشر؛ إذ إن لُغات البشر تعقَّدت على نحوٍ هائل، وإن كان من السهل تعلُّمها واستخدامها، ولم يكن تطور اللغة نتيجةً لمجرد التغلب على المشكلة الرمزية، ولكن حل هذه المشكلة فتح مجالًا جديدًا كاملًا من مشكلات التكيُّف التي تعتمد كلها على الاتصال الرمزي الناجح والكفء، ووضح أن هذا الميراث المُمتد من التطور المشترك لم يُسفر فقط عن اتصالٍ رمزي أصبح أكثر يسرًا وكفاءةً، بل إن هذه التيسيرات في المهمة ضاعفت الرهان؛ بحيث أضحى لازمًا لزومًا مُطلقًا تحقيق المزيد أبدًا من الكفاءة والاستخدام الفعَّال أكثر على الدوام للاتصال الرمزي، وعلى الرغم من تعذُّر الإجابة على مشكلة أصول نشأة اللغة تأسيسًا على الانتقال من البسيط إلى المُركَّب، أو من الأقل ذكاءً إلى الأكثر ذكاءً، فإنه بات واضحًا أن النتيجة هي معًا تعزيز مُذهل للقدرات العقلية وأهلية واضحة لاستخدام نمط اتصال شديد التعقُّد.
وإن أصول نشأة أول اتصال رمزي لا علاقة لها من حيث طبيعتها باللغة في ذاتها؛ إن غالبية الدقائق والتفاصيل المميزة للغات الحديثة لها أسباب تطورية أخرى في فترة لاحقة، وواضح أن الدراسة التي أعرضها هي مجرد دراسة عن الظروف التي استلزمت أولًا وأساسًا مرجعيةً رمزية، والتي تم انتخابها لهذا الغرض على الرغم من الصعوبات والخسائر الكبيرة المترتبة على إنتاجها وصَونها جمعيًّا. وجدير بالذكر أن الجزء الأكبر من قصة هذا التاريخ التطوري الوسيط المُمتد على مدى أكثر من ٢٫٥ مليون سنة منذ نشأة اللغة، وحتى وقتنا الراهن ما يزال بحاجةٍ حتى لتصوُّره بشكلٍ واضح، ولكن وضع الأسباب والنتائج التطورية في ترتيبٍ صحيح، فضلًا عن التحديد الدقيق لعلاقات الترابط التشريحية لهذه النقلة هي شرط سابق لكي نضع صورة العملية في حقيقتِها دون ظاهرها، ومفتاحنا إلى ذلك هو المنظور التطوري المشترك الذي يعترف بأن تطور اللغة لم يحدث لا داخل ولا خارج المخ، وإنما في الساحة المُشتركة بين الاثنَين؛ حيث العمليات التطورية الثقافية تؤثر في العمليات التطورية البيولوجية.