عقل بالمصادفة
ليس الخطر الحقيقي أن الحواسب ستبدأ تُفكر مثل البشر، بل إن البشر سيبدءون يُفكرون مثل الحواسب.
الحاسوب الآمِن من الفشل
لنتأمَّل معًا إلى أي مدًى يثير انتباهنا أن لا أحد تقريبًا من البشر يفشل في اكتساب، على الأقل، درجةٍ ما من القدرة البدائية اللسانية — الرمزية — حتى إزاء إصابةٍ كبيرة تُصيب المخ قُبيل أو بُعيد الولادة. ونعرف أن الأفراد المُتخلِّفين تخلفًا عقليًّا شديدًا لديهم فقط قدرات نحوية فجَّة وقاموس مفردات صغير، أو أنهم يُبدون صعوبة في نطق الكلمات والجُمل، ولكنهم بوجهٍ عام نراهم ما يزالون يفهمون المحتوى الرمزي للكلمات وللجُمل البسيطة. ولنقارِن هذا بعدم القدرة على تعلُّم الرموز تقريبًا عند الأنواع الأخرى حتى بين الأنواع التي نراها شديدة الذكاء. ولقد استهلَّ الكتاب عرضه بالحديث عن النقص الخطير للمنظومات الرمزية الطبيعية في كلِّ الأنواع غير البشرية، والطاقة المحدودة لاكتساب الفهم الرمزي لدى غالبيتها، وفشل الحيوانات المُستأنَسة — الغارقة في شبكةٍ كثيفة من التفاعلات الرمزية البشرية — في اكتشاف ما يزيد قليلًا من الارتباطات الفجَّة من الكلمات والعبارات. ترى ما دلالات هذا الفارق بين الأنواع والأساس العصبي له؟
لقد أدَّى التطوُّر إلى توسيع الهُوَّة المعرفية بين النوع البشري وكل الأنواع الأخرى، ونراها هوَّةً في اتساعٍ مُطَّرد، وإذا نظرنا إلى كلٍّ من الفشل الكلي تقريبًا لغير البشر والنجاح الكُلي تقريبًا للبشر في اكتساب قدراتٍ رمزية، فإنهما معًا يُشيران إلى أن هذه النقلة تتوافق مع عمليةٍ كبرى لإعادة تخصيص موارد معرفية للمساعدة على التغلُّب على الحواجز الطبيعية لتعلُّم الرمز. وجدير بالذكر أن إخفاقات الأنواع الأخرى في تعلُّم الرمز ليست نتيجة نقص بِنيةٍ ما جوهرية، بينما هي موجودة فقط عند البشر؛ إذ كما سبق أن رأينا أن قردة الشمبانزي في ظروفٍ خاصة يُمكن أن تصِل بها إلى حدِّ فَهم الاتصال الرمزي، وإن كان ذلك عند مستوًى شديد التواضُع على أحسن الفروض. ونلحظ أن الفارق بين الاتصال الرمزي وغير الرمزي يُمكن أن يكون فارقًا مطلقًا في ضوء مبحث الإشارات «السيميوطيقا»، بيد أن الأساس العصبي لميزتنا الرمزية ليست بسبب فارقٍ مُطلق في بِنية المخ، وإنما سببه فقط إعادة تنظيمٍ كمِّي للأجزاء الموجودة، ومع ذلك فإن هذا التحوُّل في النِّسَب اجتاز عتبةً حاسمة للتعلُّم تقف حائلًا بين الارتباطات المبنية على أساس الدليل الموضوعي والمرجعية الرمزية. وعلى الرغم من أن من المُمكن للأنواع الأخرى عبور هذه العتبة عن طريق تعلُّم ونسيان تعلُّم مجموعاتٍ من الارتباطات بالطريقة الصحيحة فإن هذا غير مُرجح بصورةٍ مذهلة، ومع ذلك نجد عند البشر أن عملية إعادة بناء المخ عملت بمنزلة عاملِ حَفْزٍ جعل ما كان وقوعُه أقربَ إلى الاستحالة، إذا بوقوعِه شِبْهُ حتمي.
والمعروف أن أبسط طريقة لجعل شيءٍ ما آمنًا من الفشل هي أن تضع له تصميمًا يتجاوز كثيرًا المُتطلبات الأساسية منه، مثال ذلك أنه لكي تضمن بِنية مادية آمنة تمامًا، يجب أن يكون تصميمها موضوعًا بحيث يتعامل مع أحمالٍ أكبر كثيرًا مما هو مطلوب منها نظريًّا تحمُّله، ومن ثم يتعين بناؤها بحيث يتجاوز البناء مُتطلبات أقصى حملٍ له، وليس الحمل المتوسط، أو في كلمة واحدة: يجب أن يكون البناء مدعومًا بأقصى مما هو مفترض. وأريد أن أذهب إلى أن الدليل التشريحي العصبي على التغيُّر الشامل لنِسَب المخ وكذا الدليل الأنثروبولوجي والطبي العيادي على شمولية تعلُّم الرمز على مدى طيفٍ واسع من الظروف، إنما تُشير إلى أن المخ البشري ذو بِنية مدعومة بأقصى من طاقتها الظاهرة لتعلُّم الروابط الرمزية. إن بنية المخ البشري انعكاس مُسرف — ونكاد نقول كاريكاتوري — للمطالب الخاصة التي يفرضها تعلُّم الرمز. نحن إذن لم نتكيَّف فقط لتعلُّم الرمز، وإنما أيضًا لتعلُّمٍ آمِن من الفشل لكي نتعلم عن طريقِه الرمز.
وتهيَّأت لنا وثيقة تأمين تعلُّم الرمز هذه بفضل النمو الزائد نسبيًّا لقشرة مُقدم الفص الجبهي الذي تحققت لوصلاته الهيمنة على العديد من الوصلات العصبية المُتنافسة في كل المخ. وحريٌّ أن ندرك أن المدى غير المعتاد لهذه القسمة المتفاوتة النِّسَب إنما يعكس المبالغة في تصميمه، إنها مفتاح مشكلات التعلم المحورية التي تجعل الارتباطات الرمزية عسيرةً كل العسر على الأنواع الأخرى: تعلم الارتباطات الشرطية من المرتبة الأعلى. بيد أن البناء المدعوم بقوة زائدة لهذه الوظيفة الواحدة له نتائج أخرى؛ إن التحول في الاستراتيجية المعرفية التي تُشكل أساسًا لضمان تعلُّم الرمز تعلو على السطح في سلسلةٍ واسعة من العمليات غير المُترابطة للتعلُّم والانتباه؛ إذ لو كان هذا التكيف المسرِف مجرَّد نموذج حسِّي مُتخصِّص أو مخرجات حركية فطرية مبرمجة سابقًا فإن تأثيراته ربما كانت أكثر تخصصًا في مجالٍ مُحدد، ولكن على العكس فإن هذا التكيف الغريب يتميز بطابعٍ فوق نمَطي، إنه يمدُّ تأثيره إلى الكثير من مجالات التعلم. ولقد تم شحذ ودعم القدرات الرمزية لخدمة وظائف برجماتية واجتماعية أخرى غير تلك التي تم انتخابها مع ظهورها الأوَّلي، وأصبحت هذه في نهاية المطاف «عوامل تقوية» موازية لعمليات تكيُّف المخ لتعلُّم الرمز، ويصدق هذا أيضًا على عنصر الانحيازات العصبية التي جعلت تعلم الرمز عمليةً آمنة من الفشل، وما إن تحقَّق هذا حتى أصبحت هذه الانحيازات مصادر قوية للانتخاب التطوري الاجتماعي وفعَّالة بشكلٍ مُستقل لوظائف في مجالاتٍ جديدة غير ذات علاقة باللغة.
ونحن حين نعرض على أطفال من البشر خيارات مُماثلة سرعان ما يُدرك غالبيتهم الحيلة، ويتعلَّمون اختيار الكومة الأصغر لمنحها (على الرغم من أن صغار الأطفال ممَّن دون العامَين يجدون أيضًا صعوبةً مع المشكلة)، ولكن قردة الشمبانزي تواجِه صعوبة غير عادية لاكتشاف استراتيجية الفوز، ونراها تُكرر اختيار الكومة الأكبر، وتبدو فزعة إذا فقدتها. وطبيعي أن يدفع البعض بأن قردة الشمبانزي ما هي إلا مخلوقات أبعد ما تكون عن الأنانية، غير أن استجابتها الانفعالية تفيد بأن الكرَم ليس الشيء الذي يدور بعقلها. وأرى أن المهمة تُمثل مشكلة؛ ليست أن قردة الشمبانزي تشعر بأحاسيس مُتكافئة التناقُض بشأن الاقتسام، أو أنها عاجزة عن تقييم ما تُريده، كما ربما ليس بسبب أنها تفشل في إدراك النتيجة المُحتملة بعد المحاولات المُتكررة، وإنما بسبب أن وجود مثل هذه الجائزة اللافتة للنظر يقوِّض قُدرتها على استخدام المعلومات المُتضمنة في المنبه ضدَّ نفسها، إنها وبسبب تركيزها الكامل على ما تُريده تبدو عاجزة عن أن تضع نفسها خارج الموقف، إذا جاز لنا أن نقول ذلك، وتخضع رغبتها للسياق العملي الذي يتطلَّب منها أن تفعل النقيض لما تفعله عادةً للحصول على الهدف نفسه. ويُعتبر هذا مناقضًا تمامًا للمألوف لدى الشمبانزي لكي تتعلَّم؛ ذلك لأن الحل غير المباشر يَحجُبه التأثير القوي للغاية للبديلَين اللذَين ينفي أحدهما الآخر. ونلحظ هنا أن طبيعة المُنبه التي تُنبئ بجائزة عالية القيمة تُعزز أيضًا قوة الرابطة المنافسة.
واختبار اختيار نقيض ما تريد، اختبارٌ يحمل كل الخصائص المميزة للاختبارات التي يُمكن أن تكون معايير حساسة لإصابة قشرة مقدم الفص الجبهي عند البشر، (ويعرض أنطونيو داماسيو في كتابه «غلطة ديكارت» حالات عجزٍ مُماثلة عن مقاومة اختبارات قهرية لدى مرضى يُعانون من إصابة مُقدم الفص الجبهي)، ويوضح الاختبار أهمية هذه البِنية للمخ في الانتقال من استجابة عادية وأكثر «طبيعية» إلى استجابة هي النقيض لها، ولكن الأهم أنه يُبين أن هذا يستلزِم التغلُّب على الطابع الانفعالي المباشر لعوامل التعزيز القوية، وكلما كان تعزيز الماضي أكثر قوة والبدائل المُتنافسة أكثر وضوحًا، كانت النقلة أكثرَ صعوبةً مع زيادة الحاجة إلى انحيازٍ لمقدم الفص الجبهي. ويؤكد هذا التكافل المُعقد لجوانب التعلُّم الانفعالية والإدراكية المعرفية معًا، وكذا الدور الاجتماعي الذي تؤدِّيه قشرة مقدم الفص الجبهي في كِلا المجالَين.
هل ذهبْت هنا إلى أن قردة الشمبانزي مثل مرضى البشر ذوي الإصابة في المخ؟ فقط بمعنًى مجازي لا أكثر، نعرف أن قردة الشمبانزي الأصحَّاء لديها فصوص مُقدم الفص الجبهي كاملة النمو وسليمة، وتستطيع حل الكثير من مشكلات كفِّ الاستجابة ومعكوس المنظور المُماثلة لتلك التي تعجز عن حلها أنواع أخرى، إلا أنها على الرغم من ذلك تواجِه مشكلةً صعبة عندما تكون قوة ووضوح البدائل عظيمة. وجدير بالذكر أن هيمنة مُقدم الفص الجبهي الأعظم عند البشر تتجلَّى واضحة فقط عندما يتطلَّب حل مشكلةٍ ما هيمنة أنشطة مُقدم الفص الجبهي؛ بحيث تتفوَّق على الميول البدائلية بما لها من قوة غالبة. ونحن في الحقيقة لا ندرك بعضًا من أقوى وأرفع التعبيرات عن الإنسانية إلا في حالات الأزمات؛ حيث يمكن التغلُّب على أشد الدوافع إلحاحًا على المرء رغبةً في الوصول إلى مكافأةٍ شخصية فورية أو دفاعًا عن النفس في خدمة أهدافٍ أعظم شأنًا، ويكون الانحياز هنا مسألة درجةٍ فقط، ولكن في سياقات مُعينة يمكن لدرجة الانحياز لمقدم الفص الجبهي أن تخلق الفارق بين النجاح والفشل، ويبدو الأمر هكذا في تعلُّم الرمز.
ولكننا أيضًا مثل العالم الأحمق نجد أن هذه النقلة الشاملة في الاستراتيجية المعرفية لها نتائج أخرى عرضية تمتدُّ إلى ما بعد نطاق اللغة.
أبو الهول الكائن اللغز
إذا كان نشوء وتطوُّر اللغة لازَمَ تجديد بناء المخ البشري على مستوًى شامل، إذن لا بد أن تترتب على هذا نتائج مُهمة بشأن نظرية العقل البشري والطبيعة البشرية. ونرى من ناحية أنه إذا كانت اللغة نشأت وتطوَّرت كنتيجةٍ لإضافة جهاز معياري مُحدد الوظيفة إلى المخِّ وأن تأثير هذا الجهاز على المعرفة كان مقصورًا على مجالٍ مُخصص من مثل النحو وقواعد بناء اللغة، نقول: إذا كان ذلك كذلك فإن هناك ما يُبرر لنا التفكير في الطبيعة البشرية باعتبارها مثل طبيعةِ القِرَدة العُليا باستثناء هذا السياق المُضاف، ومن ثم لنا أن نعتبر أنفُسنا شمبانزي زائد النحو. وإذا كانت التغيرات في المخ البشري هي من ناحيةٍ ليست أكثر من نتيجة مُترتبة على زيادة حجم المخِّ مع ذكاء عام، فإن لنا ما يُبرر اعتبار أنفسنا شمبانزي عباقرة، وأن نرى الشمبانزي وكأنها بَشَر بلداء غير مُلائمين. وجدير بالذكر أن كلًّا من هاتَين الصورتَين الساخرتَين عن مكاننا في الطبيعة صادفَتا قبولًا واسع النطاق على مدى السنوات الماضية، وشاعت بين العامة بل وفي الأدبيات العلمية، بيد أن مشكلة إدراكنا وفَهمنا لمكاننا وأين نتلاءم في سياق تطوُّر العقل هي مشكلة أصعب كثيرًا من أيٍّ من الصورتَين. إن العقول غير البشرية ليست مجرد عقول بشرية مطروحٍ منها قدرةٌ خاصة ما، كما أنها ليست سوى عقول بشرية أكثر بلادةً بدرجة كبيرة وعاطلة من المعلومات. إن كِلا الرأيَين يُقلِّلان إلى أدنى حدٍّ مشكلة المقارنة.
والسبب في صعوبة الحالة البشرية هو أننا لا نستطيع الركون إلى منطق اللغة لتفسير ما حدث للمخ، كما لا نستطيع الاعتماد على زيادةٍ تراكمية أُضيفت إلى قسمة عامة نجِدها في الأنواع الأخرى. وهكذا فإننا إذ نعود بنظرنا إلى الماضي لتحليل تطوُّرنا المعرفي الخاص — طرح قدرات نوعية مُعينة أو خفض القدرة العامة للتفكير — فإن العقول الأبسط التي نتصوَّرها نتيجةً تتحوَّل لتُصبح صورًا مُشوَّشة عنا نحن، وأيضًا صورًا بائسةً عن أسلافنا وأقرباء القِرَدة العُليا. وينتهي بنا الأمر بتمثيلٍ خاطئ لعقول الأنواع الأخرى، فضلًا عن عدَم إدراكنا لجوانب الشذوذ الخاصة بنا. ويتمثل الحاصل النهائي في صورة مخلوقٍ خرافي خيالي مثل ذلك الكائن الخرافي في العصور الوسطى المؤلَّف من نصف إنسان ونصف حيوان، له رأس إنسان وجسم حيوان مثل أبي الهول في مصر القديمة.
ومثلما أن المخ البشري انتظم على نحوٍ مختلف، فكذلك الحال بالنسبة للعقل المُنبثق عنه، إن طرق تفكيرنا هي نتيجة طريقةٍ جديدة في استخدام موارد المخ، ومن ثم فإن التطوُّر المشترك للمخ واللغة أعاد وبشكلٍ كامل تكوين بِنية المعرفة من القمة إلى القاعدة إذا ما قُورنت بالأنواع الأخرى. لقد حدث تضخُّم واضح لقشرة مُقدم الفص الجبهي والتحوُّلات الملازِمة له في أنماط الوصلات، وذلك على مدى تطوُّر المخ البشري وأدى هذا إلى إضافة انحيازاتٍ قوية إلى العملية التعليمية، كما عُهد إلى دوائر مُقدم الفص الجبهي عند البشر دورٌ أعظم في الكثير من العمليات العصبية غير ذات الصِّلة باللغة. وعلى الرغم من أن الانتخاب المُكثف كان موجهًا إلى هذا الجانب من العقل والمخ، فإن آثاره الثانوية تشعَّبت أيضًا لتؤثر في إجمالي الإدراك المعرفي عند البشر. وهكذا يتناول البشر عالم المُنبهات الحسِّية والمُتطلبات الحركية على نحوٍ مختلف عن أسلوب تناول الأنواع الأخرى، خاصةً فيما يتعلَّق بعمليات التعلُّم ذات المرتبة الأعلى. وتتجلَّى هذه الفوارق واضحةً حتى حينما لا تكون قدراتنا اللسانية الرمزية مشاركةً في الأمر.
والضحك والنشيج صوتان بشريَّان فطريَّان متمايزان تمامًا عن تلك الصيحات التي تصدُر عن الأنواع الأخرى، ويتصفان بقسماتٍ مميزة لا تتغير عند جميع الأسوياء من البشر، ويبدو أن البرنامج الحركي لكلٍّ منهما، مثله مثل البرامج الحركية لغالبية أصوات الرئيسات يعتمِد على دوائر متمركزة في المخ الأوسط وفي جذع المخ، كما أن الاثنَين ينشطان أساسًا عن طريق تكويناتٍ طرفية في مقدم المخ، وهذان هما أول أصوات اجتماعية تصدُر عن الأطفال وتستحث استجاباتٍ لدى الآخرين وتُعبر بدرجة عالية عن حالاتٍ انفعالية، كذلك لهما تأثير مُعْدٍ بدرجة عالية في السياقات الاجتماعية سواء بين البالِغين أو وسط صغار الأطفال في دُور الحضانة، وتعني كل هذه القسمات أن الاثنَين تمَّت صياغتهما بفعل ضغوط انتخابية كبيرة لأداء الوظائف الاجتماعية المعروفة لنا.
والضحك والنشيج من أوضح الصيحات البشرية، وكلاهما مُستقل عن الوظائف اللغوية، ويمكن أن يقدِّما لنا مفاتيح لفهم سياق نشأة وتطور اللغة. ونعرف أن الضحك مُعْدٍ اجتماعيًّا لدرجة كبيرة، وسواء حدث الضحك «الاجتماعي» تظاهرًا أم قسرًا فإنه يصدُر على نحوٍ متكرر في كثير من السياقات الاجتماعية، وتُشير هذه القسمات إلى أن الضحك كان له دور مُهم في الحفاظ على تلاحُم الجماعة والهوية أثناء مرحلة رئيسية من مراحل تطور الهومينيد. وثمة مفتاح آخر مُهم وهو أن كلًّا من البكاء والضحك لهما دور مُهم في الاتصال الاجتماعي بين صغار الأطفال مع المسئولين عن رعايتهم قبل نشوء اللغة لدى الأطفال بعد ذلك بفترةٍ طويلة، وأعتقد أن من المُفيد معلوماتيًّا للغاية أن هذين الصوتَين يتضمَّنان أنماط تنفُّس عكسية: تنفس مُتقطع في شهقات (نشيج) مقابل تنفُّس متقطع (زفرات) ضحك. ويُشير هذا إلى أن تشكل صوتيهما تم انتخابه بالنسبة لكلٍّ منهما مع الآخر؛ نتيجة انتخابٍ تقاطعت معه أشكال وسيطة مُلتبسة، ومن ثم لا بد أن هذين الصوتَين قاما بأدوار مهمة جدًّا في الاتصال الاجتماعي؛ بحيث تَمايز أحدهما عن الآخر تمامًا واستقلَّا تمامًا عن منظومات الكلام. ويبدو أن لكلٍّ منهما تأثيرًا قويًّا في تلاحم الجماعة وتقوية وانتشار الخبرة الانفعالية المشتركة. ونعرف أن الاثنَين يظهران في الطفولة الباكرة قبل أن يكون بالإمكان استخدام اللغة بزمنٍ طويل، وهذه حقيقة واقعة تُمثل دليلًا واضحًا على أنهما ربما على الأقل جزئيًّا أدَّيا أدوارًا حاسمةً في تجسيد الهُوَّة في الاتصال الاجتماعي على مدى الفترة المُمتدة قبل أن يُصبح المخ قادرًا على التعامل مع المُهمة الصعبة المُتمثلة في اكتساب الرمز، ولكن حدوثهما ممتدٌّ أيضًا حتى الكبر، ويفيد في انطلاق بعض الاستجابات التي يعرفها البشر لتحقيق اندماجٍ اجتماعي أكثر كثافة.
ولكن ثمة بعض القسمات الفريدة التي تلازمت مع التطوُّر المشترك لهذه الصيحات البشرية مع اللغة، وما أدَّت إليه هذه من تغيراتٍ في المخ. إن النشيج صوت له نظائر كثيرة غير بشرية خاصة عند صغار الحيوانات عند انفصالها عن أُمهاتها، كذلك فإن وظيفته الاجتماعية والضغوط الانتخابية القوية التي تُشكله تصدق بالتعادل على كلٍّ من البشر وغير البشر، بيد أن ما يُثير الفضول أن النشيج البشري مرتبط أيضًا عند الجميع بالفقد والخسارة وليس فقط بالخوف والعزلة. ونعرف أن الأسى انفعال طرأت عليه يقينًا مُبالغة وتعديلات بتأثير المعرفة الرمزية، بسبب قوة الترميز لمساعدة التمثيل الذهني لسيناريوهات ماذا لو؟ إذ ما أشد الألم لفقد عزيز؛ لأننا نستطيع أن نتصوَّر كيف تكون الحياة لو أنه بقي معنا على قيد الحياة؟
ويتميز الضحك أيضًا بهذا المزيج نفسه الجامع بين التلازمات اللغوية وغير اللغوية، ونعرف أهمية دور الضحك والابتسام كوسيلتَين لتقوية الرابطة الاجتماعية من خلال التفاعل بين أحد الأبوَين والطفل، ولكن دلالة شيوع دمجهما في أحاديث الكبار ما تزال أقلَّ وضوحًا، وإن كانت على الأرجح مُماثلة لتلك، وإن دور الضحك كعلامة مداعبة خاصة في حالة السخرية يُمكن أن يُعطينا إلماعةً بشأن دور تطوري أقدم عهدًا، ولكن قدرة النكات وغيرها من أشكال المزاح على استثارة هذا الصوت النمطي هو القسمة الأكثر إثارة للفضول والدهشة دون غيرها؛ إذ فضلًا عن أنها ليست وظيفة تحت أي ضغطٍ انتخابي، فإنها أيضًا تطورت، على وجه الاحتمال كلازمةٍ عرضية لتلك الوظائف الاجتماعية الأخرى، ورابطة ما مكتسبة مُصادفة للدلالة الرمزية الخاصة التي تؤلف المزحة.
لنتأمل اللهفة التي يتابع بها البشر المعاصرون الألغاز والاكتشافات العلمية والروايات البوليسية والفكاهة والبهجة، التي يشعرون بها مع التوصُّل إلى حل. ولعلَّ من أوضح الخبرات تعبيرًا عن ذلك تلك القصة المتواترة والمشكوك في صحتها عن أرشميدس الذي خرج عاريًا يعدو في الشارع وهو يَصيح «أريكا … أريكا»؛ أي وجدتُها، وجدتُها، إن الانفعالات الإيجابية المُقترنة بمِثل هذه الاستبصارات تتضمَّن ما هو أكثر من عملٍ معرفي، وإن هذا التعزيز الذي هو أصيل وطبيعي من أجل إحراز إعادة إثبات وتسجيل ما هو مألوف يمكن أن يُمثل جزءًا مهمًّا من التكيُّف الذي يدفع فِكرنا إلى الانحياز لمتابعة هذه النتيجة. ونعرف أن صيحةً ربما جاء انتخابها أساسًا لأداء دورها في صورة عرض «لإعادة تشفير» أفعال عدوانية مُحتملة ضمنًا على أنها مزحة اجتماعية ودية، وإذا بها تقع «أسيرة» عملية إعادة تشفير مُماثلة متضمنة في دعابة واكتشاف، ونلحظ هنا في كِلتا الحالتَين أن الاستبصار والمفاجأة ومحو الشكِّ هي عناصر حاسمة، ويبدو ثانيةً أن هذه القسمات المميزة للفكاهة تتضمَّن وظائف لمقدم الفص الجبهي التي تسمح بتراكُب ترابُطات متنافية. ولعل «انطلاق» الضحك مِثله مثل التخلُّص المفاجئ من استجابةٍ آلية مقموعة، يعكس التحلُّل من تحكُّم مقدم الفص الجبهي، ويبين أن الرابطة بين نمط عملية معرفية وصيحة نمطية حدث لافت للنظر لغرابته، وربما يعكس التحكُّم الزائد لقشرة المخ في توليد الصيحة.
لا يوجد عقل جزيرة مستقلة
نحن البشر، وبفضل قدراتنا الرمزية، نملك جهازًا جديدًا عالي المستوى للتمثيل، الذي لا يقتصر عمله على إعادة تشفير الخبرات وتوجيه تكوين المهارات والعادات فقط، بل يوفر لنا أيضًا وسيلةً لتصوير قسماتٍ مُميزة لعالم لا يدخل في خبرات أي مخلوق آخر، ألا وهو عالم المجردات. إننا لا نعيش فقط حياتنا في العالم الفيزيقي ومجتمعنا الاجتماعي المباشر، بل نعيش أيضًا في عالم من قواعد السلوك والمعتقدات عن تاريخنا وآمالنا ومخاوفنا مما يتعلق بمُستقبل نتصوَّره، وهذا العالم تحكمه مبادئ مختلفة عن أي شيء تم انتخابه لتصميم الدائرة العصبية؛ مما كان في أحقاب ودهور التطوُّر الماضية. نحن لا نملك مناطق مخ تكيفت خصوصًا للتعامل مع الفيض الهائل من الخبرات الواردة من هذا العالم، وهي تلك فقط التي تكيفت للحياة في عالم عياني من المدركات الحسية والأفعال المادية؛ إذ إن هذه المنظومات العصبية عملت بحكم طبيعتها قسرًا وتبذل أقصى ما تستطيع للتوافق مع عالم غريب، وتُعيد تسجيل مدخلاتها في أشكالٍ أكثر ألفة. وترتَّبت على ذلك نتائج إعجازية ومروعة معًا.
وها نحن الآن في عصر ما بعد التحليل النفسي أصبحنا، ويا لَلأسى، نعي بامتدادٍ إشكالي لهذه المشكلة: أصبحنا في الغالب لا نعرف حتى أنفسنا، نحن لم ننسَ فقط الكثير عن ماضينا، بل إن سيجموند فرويد أقنعنا بأنَّنا كثيرًا ما نُخطئ كلَّ ما يتعلق بذكرياتنا ومعتقداتنا عن أنفسنا (وهذه نظرة لا يؤمن بها حتى غير الفرويديين، على الرغم من الاختلاف بشأن سبب وتفسير الخطأ)، وإن الفكرة القائلة: إن ثمة عملية لاشعورية «تعيد تحرير» ذكرياتنا الخاصة لإخفاء صدماتٍ في الماضي تجعلنا نشكُّ حتى في خبرتنا المباشرة عن النفس، أو بعبارة أخرى: إذا كانت خبراتنا الذهنية يُعالجها تصوُّر مُغاير، فإن هذا يعني أن لا شيء اسمه معرفة مباشرة؛ وتأسيسًا على هذا فإن مشكلة تصور الخبرة الذاتية لآخر، ومشكلة تصوُّر خبرة المرء نفسه الذاتية ستعتمِدان معًا على طبيعة العمليات التمثيلية المشاركة، وليست المشكلة ما إذا كانت معرفةٌ ما هي تصوُّر تمثيلي ومعرفة أخرى هي معرفة مباشرة وغير تمثيلية، وإنما المشكلة على الأصح هي ما نوع التمثيل المَعنيِّ، وما المعرفة التي يزوِّدنا بها هذا التمثيل عن عقولنا وعقول الآخرين؟
وإذا كان الفكر والخبرة عمليتَين خاصَّتَين بالمعلومات، إذن فإن مشكلاتٍ تمثل العقول الأخرى، وتمثل عقولنا نحن، هي في نهاية المطاف مشكلة واحدة؛ إذ إنَّ كِلا الشكلَين من المعرفة هما رهن القدرات التأويلية للشخص أو للحيوان؛ ولهذا السبب، وكما رأى ديكارت، فإن الفارق بين البشري وغير البشري من حيث القدرات التمثيلية يندرج حتمًا ضمن مشكلة معرفة العقول. وإذا كانت القدرات المرجعية الرمزية مقصورة جوهريًّا على البشر، فسوف يكون لذلك في الحقيقة دلالاته الضمنية المُهمة بالنسبة للعقول البشرية والحيوانية التي تتجاوز الاتصال وحده.
وأخيرًا وجدت مشكلة العقول الأخرى سبيلها ضمن دراساتٍ عن السلوكيات الاجتماعية للحيوانات، ويعبرون عنها في الغالب بمصطلح «نظرية العقل»؛ أي نظرية عما يدور في عقل الآخر. والمسألة أساسًا هي ما إذا كانت الحيوانات تعرف أن هناك شخصًا ما وراء خبرتها الإدراكية الحسِّية عن الآخرين، هل الحيوانات تتصرَّف اجتماعيًّا على أساس ما تتصوره هي عن أن الآخرين يفكرون فيه؟ وأن تتوفر «نظرية عقل» بهذا المعنى غير الفلسفي يعني توفُّر تصوُّر ذهني عن الخبرة الذاتية للآخرين، وأُجريت تجارب مبدعة عديدة في محاولةٍ لاختبار ما إذا كانت الحيوانات تتعمَّد السلوك؛ استجابةً لما استنتجت أن الآخرين يعرفونه أو يشعرون به أو يرغبون فيه، ولا غرابة في أن النتائج غالبًا ما يتعذَّر تفسيرها.
ويا له من سؤالٍ صعب أن نُجيب عليه تجريبيًّا؛ لأن من الممكن لحيوانٍ ذكي ومُدرك حسيًّا أن يتعلم استباق سلوك الآخر في استجابةٍ لظروفٍ مختلفة بغضِّ النظر عن أي نموذجٍ يوضح لماذا تستجيب بالطريقة التي تستجيب بها، ومن ثم تُعطينا انطباعًا خاطئًا عن تصور سببٍ ذهني يتعارض مع مجرد حدوث استجابةٍ مشروطة ودون تحليل. وإن هذه الصعوبة التجريبية هي نظير المشكلة التي الْتقيناها قبل ذلك بشأن تحديد ما إذا كان سلوكًا مرجعيًّا ما هو سلوكٌ رمزي أم مجرد سلوك قائم على دليل موضوعي. والمسالة الموازية ليست مسألة سطحية؛ إذ إن كلتَيهما تتعلَّقان بنمط التصور؛ إذ هل تصور السلوك المتوقع من الآخر مُرتبط بالمزاوجة بين أمثلة سابقة للاستجابات وبين ظروف مُماثلة أم مرتبط ببعض التصوُّرات الإضافية المتعلقة بالكيفية التي حدثت بها هذه الاستجابات بسبب (أو أُعيد تسجيلها باعتبارها) خبرات خفية عن الآخرين؟
وإذا صرفنا النظر عن افتراض وجود مُكون فطري خاص ﺑ «نظرية العقل»، فإن السؤال كيف يمكن أن ينتج مثل هذا التصور الذهني؟ أو بعبارة أخرى: ما الشيء الضروري لكي نفسر المعلومات عن سلوك الآخر باعتبارها تمثيلًا أو تصورًا لعقل الآخر؟ إن طبيعة هذا التصوُّر ستكون رهنَ ما إذا كان المرء قادرًا فقط على تفسير أنماط السلوك باعتبارها دلائل موضوعية لميولٍ سلوكية مُستقبلية، أم أنه قادر أيضًا على تفسيرها كدلائل موضوعية للحالات الذهنية. وطبيعي أن افتقاد الأنواع غير البشرية لقدرات المرجعية الرمزية من شأنه أن يقصرها على تصوُّر روابط بين المُنبهات بما في ذلك سلوك الآخرين، وإن هذه العلاقات يمكن أن تكون مُتعددة ومعقدة وتزود الحيوان بألفةٍ واسعة النطاق مع الاستعدادات السابقة للآخرين. وثمة احتمال بأن غالبية المعارف السلوكية الخاصة جدًّا التي نكتسِبها عن الأصدقاء وأبناء الأسرة هي من هذا النمط.
ويبدو من غير المُحتمل بالنسبة للأنواع الأخرى أن تسلك بدون أن تتوفر لديها تصوُّرات رمزية وفق نظرة عن عقول الآخرين، ناهيك عن المشاركة في تصوُّرات عن خبرات الآخرين، ونعرف أن المشاركة في النوايا والمصالح والاهتمامات والأهداف والانفعالات المشتركة هي الوسيلة الأكثر فعاليةً لتآزر السلوك وتوفر القدرة على تصور واستباق استجابات الآخر الذهنية والانفعالية الذي يُمثل أداةً فعالة وقوية في التعامل الاجتماعي. وإذا ما كنت على صوابٍ فيما يتعلق بالمُعضلة الاجتماعية التكاثرية التي أفادت كدافعٍ أولي لتطوُّر الرمز، إذن فإن القدرة الذهنية على تمثُّل عقول الآخرين تعتبر إحدى الدالَّات الأساسية بالنسبة لصياغة الرمز.
وجدير بالذكر أن مشكلة التقمص الوجداني هي مشكلة مشاركة في الانفعالات، وعلى الرغم من أن اللغة يمكن أن يكون لها دور في توصيل ما يتعلَّق بالحالة الانفعالية للمرء، فإنها أقل كفاءة بكثيرٍ كوسيلةٍ لنقل الانفعال من أشكال الاتصال الأخرى العديدة غير اللفظية التي تطوَّرت لهذا الغرَض تحديدًا. إن نغمة الصوت ووضع الجسم وتعبير الوجه والأصوات المُخصصة لذلك من مثل الضحك والبكاء، هذه كلها أدوات أقوى بما لا يُقاس لنقل الحالة الانفعالية، وإن هذا النوع من الاتصال هو على الأقل مُتطور لدينا مثلما هو متطور لدى الأنواع الأخرى، كما أننا نحن البشر — كما لاحظ كثيرون — أقل اتصالًا في الغالب بالحالات الانفعالية للآخرين عن الأنواع الأخرى مثل حيواناتنا الخاصة الأليفة، ونحن نُعلي من قيمة المُمثلين الذين يؤدون أدوارهم بمهارةٍ لسبب مُحدد، وهو أنهم يجعلون كلمات المسرحية تُجسد العلامات غير اللفظية التي بوسعها أن تُطلق ارتباطنا الانفعالي الذاتي؛ لذلك يُمكن أن نرى أن تطور اللغة أسهمَ فقط وعلى نحوٍ متواضع مع القدرة على التقمُّص الوجداني، بل يمكن حتى أن يتداخل معها. وتواتيني الرغبة في الدفع بأن تطوُّر القدرات اللغوية يسير خطوةً بخطوة بحذاء انحسار الحساسية الانفعالية والتقمص الوجداني، بيد أن هذا يَعتبر اللغة فقط مجرد وسطٍ لتوصيل انفعال، ولكن ثمة أيضًا ما هو وثيق الصِّلة بالموضوع وهو أن اللغة — باعتبارها المنظومة الرمزية الأكثر تعقدًا — تهيئ لنا وسطًا لبناء تمثيلاتٍ رمزية معقدة من الانفعالات.
وإذا ما تتبعنا التراتُبية الهرمية التمثيلية نستطيع أن نُحدد ثلاث طرق يمكن من خلالها للحالات الانفعالية للأفراد أن تتناغم بعضها مع بعض: أولًا: يمكن أن تجري الاستجابة من خلال محاكاة (أيقونية) تلقائية؛ ثانيًا: يمكن أن تأخذ شكل ردِّ فعلٍ إزاء منبهٍ عرضي مشترك (دليل موضوعي)؛ ثالثًا: يمكن أن تتمَّ في صورة تَمثُّلٍ لحالة الآخر (رمزي).
وسبق أن رأينا مثالين مألوفَين للتقمص الوجداني ناتجَين من خلال محاكاةٍ تلقائية، وهما عدوى الضحك والنشيج. ونلاحظ أنه حتى الأطفال حديثو الولادة داخل الحضانات يُبدون هذه الآلية المُتمثلة في التقمص الوجداني. ونعرف أن الضحك والنشيج ليسا مجرد دلائل موضوعية نمطية تطورت معبرة عن حالةٍ انفعالية، وإنما هما أداة لتحقيق تآزر بين انفعالات جماعة اجتماعية. وهذا نوع من التناغم المؤسَّس سابقًا خلال التطور. وواضح أن هناك أوقاتًا تكون فيها حالة التلقِّي لمن يقوم بالتفسير غير مُلائمة لإنتاج استجابةٍ متناغمة، ولكن على الرغم من ذلك، فإن الميل لتوليد الاستجابة (التي تغلبها انفعالات متصارعة) يزوِّدنا بتفسير.
وإن القدرة على تأويل سردية ما على أنها نوع من خبرة زائفة غالبًا ما تستلزم توليد صورة ذهنية خيالية مُعقدة. وحريٌّ أن ندرك أن الصور الذهنية القوية المقابلة يمكن أن تَستثير شحنةً انفعالية بديلةً تُمكنها من أن تبزَّ وتتفوق على المنبهات الحسية الجارية، كما تُثير حوافز أصيلة للتحكم في الاهتمام والانفعال، ويسفر هذا عن نوعٍ من الخبرة الانفعالية الخائلية. ونلحظ أن قوة الصور الذهنية لكي تكون بديلًا عن إثارة الإشارات الحسحركية تعتمِد على نحوٍ مضاعف على قدرة نشاطِ مقدم الفص الجبهي على الهيمنة على منظوماتٍ أخرى؛ بسبب شرط الحفاظ على الآثار المُتبقِّية في الذاكرة مُرتبطة وإن كانت متعارضة.
يفيد هذا بأن قدراتنا المعرفية الاجتماعية في أقصى صورها يمكن أن تنبثق بشكلٍ عرضي من انحيازات التعلم والانتباه المُرتبطة بانحياز مقدم الفص الجبهي، التي جعلت صوغ الرموز نهجًا طيعًا سهلًا؛ لذلك وعلى الرغم من أن الصياغة الرمزية لحالةٍ انفعالية أقل مصداقية للاعتماد عليها والتنبؤ بها، فإن بإمكانها توليد تقمُّص وجداني أكثر عمقًا واكتمالًا من أي وسيلة أخرى. ولكن للأسف له أيضًا جانب مُظلم آخر وهو أن صورًا أخرى للتقمُّص الوجداني لا تتحقَّق، وأن قدرة المرء على تصور معاناة آخر عن طريق استقراء الخبرة الذاتية للمرء نفسه، هي أيضًا مصدر أكثر المُمارسات البشرية كراهيةً وازدراءً. وإذا كنا نلحظ أن الكثير من الأنواع الأخرى تؤذي وتُهدد بعضها بعضًا ابتغاء أهدافٍ فردية، فإن البشر على الرغم من ذلك هم الكائنات الوحيدة التي يُمكنها تصوُّر التعذيب وخطر الموت كوسيلةٍ نحو نهايةٍ ما. ونرى في الحقيقة أن التهديد بإلحاق المعاناة والقسوة بعزيز إنسانٍ آخر هو الأقوى تأثيرًا دون كل مظاهر القسر الأخرى.
إن أفضل وأسوأ ما يعني أن أكون بشرًا ظهر مع فجر القدرات الرمزية؛ إذ ربما أن بطء تطوُّر هيمنة مقدم الفص الجبهي تَلازَم مع بطءٍ موازٍ في نمو القدرة على النفاذ إلى داخل عقول الآخرين. ويبدو أنه في محاذاة قوة تنظيم التكاثر حول اتفاقاتٍ مفروضة جماعيًّا بشكلٍ قسري مع توقعات بأن يتحقق ذلك بالتقابل، أسهمت تلك القدرات الأخرى وبالحتم في انتخاب إعادة بناء العقل البشري، واقترنت الزيادة المُطَّردة في طاقة القدرات الرمزية بزيادةٍ مُطَّردة في القدرة المتقدمة لصوغ نموذج للعالم الذي مكَّنتنا الرموز من تصوره. ونحن عادةً لا نُقر بمسئولية صغار الأطفال والحيوانات عن عجزهم عن وضع مشاعر الآخرين في الحسبان؛ ذلك لأننا وبشكلٍ فطري نعترف أن قدراتهم ما تزال محدودة لا تستطيع أداء المُمارسات الذهنية اللازمة لذلك، وهذا أيضًا ما نُقره بالنسبة لمن يعانون من حالاتٍ مثل التوهم الذهاني وعجزهم عن صوغ نموذج لمنظور «الآخر» على نحوٍ يفي لإصدار حكم مؤسَّس على معلومات.
بيد أن الموقف الأخلاقي ليس أصيلًا ذاتيًّا في الطبيعة البشرية؛ إذ لا يمكن أن يكون فطريًّا؛ نظرًا لاعتماده على تَمثُّلٍ رمزي، وأعتقد أنه ليس ممتدًا بجذور مباشرة إلى السلوك الاجتماعي «الأبسط» للأنواع الأخرى. وحريٌّ أن نُدرك أن الاستعدادات السابقة المُشذبة والمُخصَّصة للسلوك التعاوني أو لرعاية الآخرين، قد تطورت لدى كثيرٍ من الأنواع الاجتماعية، وليست بحاجة للاعتماد على تأمُّل رمزي لاستباق النتائج الاجتماعية المُترتبة على تصرفات المرء، وإن المعاملة الاجتماعية المَبنية على التنبؤ بتصرفات الآخرين والقيود المفروضة التي يُمكن أن تؤدي إلى نتائج سلبية، يمكن أن تنبني على قدراتِ تعلُّمٍ غير رمزي وتخيُّل ذهني. وطبيعي أن عشرات ملايين السنين من التطوُّر الاجتماعي خلقت مخًّا له منظومة إثارة شديدة الحساسية لكلٍّ من العلامات الاجتماعية المقدرة سابقًا والمُتلقية. وعلى الرغم من احتمال وجود فوارق مُهمة بين الأنواع من حيث الملاءمة مع نُظم التأثير الاجتماعي التي تحفز سلوك الترابط وتقدير المكانة واللعب والعدوان والإرضاء، فإنه يبدو من غير المُحتمل أن يكون المخزون البشري قد أضاف أو أزاح عناصر من هذه المجموعة.
معنى هذا أن الاعتبارات الأخلاقية هي شيء مُضاف إلى فئة مُعقدة من الاستجابات الاجتماعية الانفعالية التي ورثناها، وأن التكوينات الرمزية عن الحالات الانفعالية لدى الآخرين، واستجاباتهم الانفعالية المُحتملة إزاء تصرفاتنا مستقبلًا هي نظير لوسيلةٍ حسِّية جديدة بكاملها تُغذي منظوماتنا القديمة المُخصصة للاستجابة الانفعالية الاجتماعية. وهذه القدرة على تنشيط انفعالاتنا، بفعل خبراتٍ خائلية ساعدت الرموز في صياغتها، ربما تجعلنا نحن النوع الوحيد الذي يُعاني بداخله صراعًا حقيقيًّا بين حالاتٍ انفعالية آنية، ومن ثم لا غرابة في أننا كثيرًا ما نشعر وكأننا قد فقدنا الصِّلة بمُحيطنا الاجتماعي وأقل إدراكًا لحالة الإثارة عند الآخرين من إدراك حيواناتنا الأليفة في المنزل. ولا غرابة أيضًا في أننا كثيرًا ما نشعر وكأن حياتنا أضحت غير طبيعية ونغبط الحالة الأبسط في الاتصال بالعالم الفيزيقي الذي نتصوَّر أن الحيوانات الأخرى تعيش فيه، ونجد أنفسنا بسهولةٍ ننوء بعبءٍ ثقيل وتشوش الفكر؛ بسبب قدرتنا على خلق كثيرٍ من عوالم ماذا لو؟ والاستجابة إليها وأحسب أن هذا ربما يفسر أيضًا قابليتنا للتعرُّض لسلسلة من الأوضاع المرضية النفسية التي تتطابق ظاهريًّا فقط مع ما يمكن أن تُعانيه أنواع أخرى.
ومن ثم فإن القدرة على توليد نماذج عن الحالات الانفعالية للآخرين، وعلى ممارسة كبح أو اتخاذ موقفٍ بالنسبة إليهم إنما يجب الكشف عنها من خلال معالجة الرموز، وهذا من شأنه أن يجعل مثل هذه التفسيرات مشروطةً باكتمال النضج والخبرة، بل وبالقدرات المعرفية لدى الناس، ونحن تلقائيًّا نُعلي من قدْر من هم أكثر ذكاءً وأكثر تعليمًا وأكثر خبرةً، ونولِّيهم مكانة أخلاقية رفيعة، كما نكون أكثر رغبةً في أن نبرئ الأطفال بل المُراهقين من الشك، وسبب ذلك أننا نعرف أن هذه النظرات النافذة الرمزية تستلزِم بعضًا من التحولات غير البدهية في المنظور وعمليات إعادة تسجيل أيٍّ من الأنشطة الرمزية، وغنيٌّ عن البيان أنه حين نفكر في هذه المشكلات المعرفية في ضوء سياق الخيارات التي يمكن أن تكون في صراعٍ مع المصالح الذاتية المباشرة، هنا يبدو واضحًا لماذا ضبط النفس الملتزم أخلاقيًّا عمل يجمع بين كونه غير شائع وهشًّا في آنٍ واحد.