مثل مادة صنعتها الأحلام
ثلاثون دولابًا تقتسم مع الإطار بناء العجلة، ولكن ثقب الصرَّة هو سر نفعها.
نهايات
يبدو أننا كنوعٍ مهمومون بالنهايات، بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ، ننظم أعمالنا حول استقراءات مُتخيَّلة عن النتائج المترتبة عليها، نصارع عبثًا لفهم احتمالات قرارنا الوشيك بوقف إطلاق النار، وننسج قصصًا بديعة الإحكام في التعبير وما تتضمَّنه من غموض جميل لإشباع حاجتنا لالتماس غرضٍ في نسيج الكون، ولا يسد هذا حاجة واضحة للتكيُّف. إن تطورنا لم يتضمن انتخابًا لإيثار أي شيءٍ مثل إيثارنا هذا الحافز المُلحِّ الدءوب، ومع ذلك يبدو شديد القوة قادرًا على حجب بعض الاستعدادات السابقة التي لا تقاوم والتي هيَّأها لنا التطوُّر، إننا إذا كنا علماء لغة قياسًا على الأنواع الأخرى، إذن فإن الاهتمام بالنهايات هو الدافع الخاص المُفرط القوة الذي لا يقاوم والمُكمل لموهبتنا الفريدة.
يمثل التحليل الرمزي الأساس لمستوًى جديد مُثير للانتباه الخاص بحرية تقرير المصير الذي توصل إليه البشر وحدَهم. إن القدرة على استخدام مرجعية خائلية لبناء نماذج باطنية مُحكمة لمستقبلٍ ممكن مُتعدد ومتنوع، والاحتفاظ بهذه الرؤى المُعقدة في العقل بفضل قوة الذاكرة المدعومة بالمرجعية الرمزية والاختزالات التصويرية، تُهيئ لنا طاقة غير مسبوقة لتوليد سلوكياتٍ تكيفية مُستقلة، وهكذا فإن التجريد اللافت للنظر المأخوذ من خبراتٍ مُحددة على أساس الدليل الموضوعي لقي تعزيزًا إضافيًّا بفضل قُدرة المرجعية الرمزية على انتقاء شذراتٍ من عمليات العالم الواقعي وتنظيمها على نحوِ من يُنظم خارطةً لمسارٍ استدلالي يتنبَّأ بأحداثٍ طبيعية واجتماعية، وندفع مقابل ذلك ثمنًا يتمثل في أن أفعالنا التي نعبر عنها رمزًا يمكن كثيرًا أن تدخل في صراعٍ قوامه الدوافع التي تحثنا على العمل والنابعة من مصادر بيولوجية عيانية ومباشرة. وجدير بالذكر أن الحجج الداعمة للفكرة الكلاسيكية عن حرية الإرادة كثيرًا ما تُردِّد الحديث عن هذه الطاقة لاستخدام العقل (أي المرجعية الرمزية وبناء النموذج) للتغلُّب على الرغبة والإكراه. ويمكن ردًّا على ذلك أن يُقال: إن وصف بعض الأفعال بأنها «حرة» وأخرى ليست كذلك إنما هو تبسيط مُخِلٌّ لما هو في الواقع ليس إلا اختلافًا من حيث درجة قوة عوامل الإكراه المُتنافسة من أجل العمل؛ إذ إن بعض الإكراهات نابعة من مصادر مستقلة ذاتيًّا وهرمونية وبعضها الآخر من إشباعنا الخيالي لبلوغ هدف مُصاغ رمزيًّا، ولكن ثمة معنًى مُهم يكشف عن أن هذه الإكراهات المُتنافسة غير متكافئة.
والإكراهات المُنبثقة عن مصادر فسيولوجية بحتة، أو مصادر فسيولوجية مشفوعة بارتباطاتٍ شرطية يمكن تسميتُها عمليات صاعدة من القاعدة إلى أعلى لإنتاج فعل، وترتبط هذه أكثر بآلية، ومن ثم تكشف عن درجاتٍ محدودة من الحرية وتبايُن تلقائي محدود، ويمكن التنبؤ بها نسبيًّا على الرغم من أن أي عملية للكائن العضوي تكشف حتمًا عن مساراتٍ معقدة من العلِّية، ولكن الإكراهات ذات الصيغة الرمزية الداعية للعمل، فإنها تتسم بقدْر أكبر من التشوش بالمعنى الفني للكلمة، وأكثر عرضةً للتأثر بأية اختلافات بسيطة من الفروض الأولية أو في وسائل تصنيف الخبرات والخاصيَّات رمزيًّا؛ ذلك لأن نماذج الأشياء التي نعبر عنها رمزيًّا — سواء نظريات أو قصص أو حتى مجرد تنبؤات نؤكِّدها عقلانيًّا — تكشف عن بنيةٍ متكررة وليست أحادية البُعد، فضلًا عن المرونة اللانهائية والقُدرة على التجدُّد بسبب طبيعتها التوليفية، وقليلًا ما تصدر أفعالنا عن مركزٍ للنوايا غير المُقيدة والمتحررة تمامًا، فيما عدا نقطة الانطلاق الكامنة والغرَض المُستهدف الذي صُغنا نموذجه الذي يمكن استخلاصُه من بين بدائل شديدة التنوُّع مع فارقٍ بسيط في البداية من حيث القوة الحافزة.
على الرغم من أن تطور الأمخاخ كان متعلقًا بمنظومات لصوغ نماذج والتنبؤ بالأحداث في العالم، فإن تطور القدرات الرمزية لم يؤدِّ فقط إلى تضخم هذه القدرة لكي تتجاوز كثيرًا قدرات أي نوعٍ من الأنواع الأخرى، وإنما أضاف أيضًا ميلًا لصوغ نماذج معكوسة ماكرة. ويبدو أن الطاقة الرمزية اقترنت باستعدادٍ سابق لتمزج نفسها مع ما تصوغ له النموذج، وهكذا بدلًا من أن يرى العالم حقلًا من الأزهار البرية يرى ٢٤٧ زهرة، ونحن بالمِثل لا نرى فقط عالمًا من عمليات فيزيقية وأحداث عرضية وكائنات حية تتكاثر وأجهزة معالجة للمعلومات البيولوجية تُفرز خططًا معقدة واحتياجات، وإنما نرى بدلًا من ذلك عملًا هو من صُنع يدَي حكمة لا نهائية، وإنجازًا لخطة قدسية، وأطفالًا لخالِق، وصراعًا دائرًا بين أهل الخير وأهل الشر، وينتابنا شك مؤرِّق بشأن أي شيءٍ يحدث عرَضًا بالفعل، وتوافق وقوع الحدث ليس مجرد توافُق عرضي، إنه علامة، وسوء طالِع ومرض يُصيب صاحبه لأسبابٍ خارجة وليس مجرد مرض؛ إذ ربما أراد ساحر إيذاء القرية، وحينما نُسَرِّح البصر نتوقَّع أن نرى غاية وغرَضًا، إن كل شيء يمكن أن نراه علامة ورمزًا دالًّا على وعيٍ لخبير عليم نشِط لا تغمض له عين، أو نراه علامة على أحداثٍ أسطورية تقع في الرؤى والأحلام، وراء عالم الشهادة في الكون. ونحن هنا لا نُطبق فقط تأويلات رمزية لكلماتٍ وأحداث بشرية؛ إذ إن كل العالم/الكون أصبح رمزًا.
وهذا دليل على أننا أصبحنا علماء مُستخدِمين للرمز بالمعنى الأعمق لهذا المجاز. نحن لسنا مجرد نوع يستخدِم الرموز، وإنما الكون الرمزي أوقعنا في أسره داخل شبكةٍ لا مهرب منها. إن التكيف الرمزي أصابنا بعدواه، مثل فيروس عقلي، وها هو الآن وبفضل الإلحاح الذي لا يقاوم غرس فينا ما يجعلنا نُحوِّل كل شيءٍ نلتقيه وكل فردٍ نُقابله إلى رموز، وأصبحنا نحن الوسيلة التي يستخدِمها دون شعائر أو رسميات لنشر ذاته في كل أنحاء العالم.
وثمة صفة من بين الصفات الجوهرية الشاملة الموجودة في كل ثقافة بشرية هي ما يمكن أن نُسميه النزوع الغيبي الغامض أو الديني؛ إذ لا توجَد ثقافة — في حدود علمي — تفتقد تراثًا ثريًّا أسطوريًّا أو غيبيًّا أو دينيًّا، ولا توجَد ثقافة لا تنذر القسط الأكبر من هذا المشروع التأويلي المُكثف للصراع من السر الشخصي جدًّا للأخلاق. إن معرفة الموت، وإمكانية أن تنتهي خبرات الحياة وهي الإمكانية التي يتعذر تصورها، هي معلومة لا يمكن غرسها في النفس إلا عن طريق التمثيل الرمزي، نعم إن الأنواع الأخرى يمكن أن تُعاني الفقد، وألم الفراق، وقسوة رحيل رفيق عزيز، ولكن بدون القدرة على تصور هذه العلاقة المجردة المُناقضة للواقع (على الأقل للحظة) لا يمكن أن تنشأ رابطة انفعالية مع موت المرء نفسه مُستقبلًا، ولكن هذه الأشياء التي يكتشفها كل الأطفال في الواقع وهم يُطورون قدراتهم الرمزية تُهيِّئ فرصةً تلقائية لتحويل غريزة الفقد والفراق الاجتماعية التي تطورت طبيعيًّا إلى عملية خلق شعور بالتطيُّر وحس بالخوف والأسى وفقد وشيك لحياتنا، وكأننا نتطلع إلى الخلف ونحن في نطاق مُستقبل مُستحيل، ولم تنشأ أي قسَمة مميزة للمنظومة الطرفية لمعالجة هذا الحس العام الخائلي بالفقد والخسارة، وإنني في الحقيقة أتساءل مُتعجبًا: أليس هذا إحدى أسوأ النتائج العرضية للتكيف الخاطئ الناجم عن تطور القدرات الرمزية؟ وما أعظم الجهود التي نبذلها في محاولة لنسيان مصيرنا مستقبلًا بإغراق حالة الحصر النفسي المستمرة بأعمال لا حصر لها تلهينا عن ذلك، أو بمحاولة إقناع أنفسنا بأن النهاية ليست في الحقيقة هي ما تبدو لنا، ومن ثم نحجبها وراء نسيج عجيب نصنعه في صورة تأويلات بديلة عما سوف يحدث في «وطن لم يُكتشَف بعد» قائم على الجانب الآخر للموت.
هذا هو المصدر الذي خلق عبر وسائل عديدة كلًّا مما هو أنبل وما هو أفتك مرضًا في سلوكيات البشر، ويستطيع العقل معتمدًا على هذه التأويلات أن يشحذ القوة لمواجهة خطر الخواء العارض في خدمة القيم والتطلعات المشتركة، بيد أن الجانب المظلم للاعتقاد الديني والأيديولوجيات المُهيمنة هو أنهما كثيرًا جدًّا ما يقدِّمان تبريراتٍ ملتوية من أجل ضمان تعسُّفي للبقاء على قيد الحياة، أو لتدمير الحياة. ويمكن لقدراتهما الرمزية أن تُوقعانا في شبكةٍ من القهر والاكتئاب، ونحن لهذا نحاول عبر أداء الشعائر والطقوس والانقطاع الوسواسي لقضية ما؛ بغية تحقيق شبكة من الأمان النفسي تحمينا من مخاوفنا من حياة الخواء بلا هدف. وجدير بالذكر أن التفاعل بين التطور الثقافي الرمزي والبيولوجيا التي لم تكن قد تأهبت لذلك بعد أن أدَّى إلى خلق بعض المنظومات الرمزية هي من أشد ما عرفه العالم نفوذًا وبُغضًا للنفس، ونعرف أن عددًا قليلًا من المجتمعات أفلتت، إن كانت هناك مجتمعات أفلتت فعلًا، من قبضة معتقدات قاهرة تُغلف سِر الحياة والموت البشرِيَّين الغامضَين اللذَين لا سبيل إلى النفاذ إليهما داخل شرنقة من الرمزية والمعنى. وإن تاريخ القرن العشرين، مثله مثل كل القرون التي تم تسجيلها قبل ذلك، مكتوب بكل الأسى والحزن بحروفٍ من دمٍ سفكته منظومات الرمز التي يستحيل التوفيق بينها، ونحن نتخيل أنفسنا حتمًا كرموز، ومثل علامات لحظات أعمق عن العالم، بيد أن الرموز قابلة لأن تُصبح بلا معنى بسبب التناقُض، وهذا يجعل النماذج البديلة عن العالم أخطارًا مباشرة تُهدد الوجود.
وهذا على نحوٍ شبه يقيني هو أحد القسمات الأخرى المحدودة للذهنية البشرية: خبرة خائلية موجودة أبدًا عن فقدنا لذاتنا، ومع ذلك نحن نعرف أقل القليل عن ذلك الذي نخشى فقده، ربما لو أننا فهمنا هذا الإكراه الرمزي، والوعي الذي يجلبه ملازمًا له، قد نجد هذا الخواء يحتلُّ المركز وأقل قليلًا مما نتصوَّره من تشوُّش واضطراب.
أن نكون أو لا نكون: ما الفرق؟
وجدير بالإشارة أن عددًا من الدراسات الشائقة المؤسَّسة جيدًا على بحثٍ علمي التي تتناول طبيعة الوعي عادت مؤخرًا بهذه الأسئلة إلى بؤرة ضوء الجدل الفلسفي والعلمي الصحيح، والمُلاحظ أن هذه الجهود الهادفة إلى التفكير من جديدٍ في هذا اللُّغز الكلاسيكي حفز إليها الكمَّ المُتزايد من المعلومات الجديدة التي وفَّرتها علوم الأعصاب والحاسوب، وأصبح واضحًا أنه كلما زادت معارفنا عن كيفية عمَل المخِّ وإلى أي مدًى يُماثل أو لا يُماثل هذا تشغيل أجهزة مُعالجة المعلومات التي نصنعها، كلَّما شعرنا أكثر وأكثر أننا على وشك العثور على حجَر رشيد لترجمة الروايات الذاتية عن الخبرة إلى رواياتٍ تجريبية عن العِلل الفيزيائية ونتائجها.
واضح أن جوانب كثيرةً من كل مسألة من هذه المسائل تتجاوز حدود هذا الكتاب، وأيضًا حدود خبرتي، بيد أن المشكلة الأساسية وثيقة الصِّلة خاصة بمشكلة نشأة وأصل اللغة. والحقيقة أنني تناولتُ نشأة اللغة باعتبارها جوهريًّا صورةً مقارنة وتطورية للمشكلة الأساسية، بمعنى أنها تقتضينا أن نوفِّر في آنٍ تفسيرًا ذهنيًّا وتفسيرًا فيزيقيًّا للعبور من أشكال تمثيلٍ أكثر عيانيةً وواقعيةً إلى أشكال تمثيلٍ أكثر تجريدًا. وهكذا نرى أن نهج التناول الذي اتخذتُه إزاء المسألة التطورية يفيد بوجود نهجٍ موازٍ للمشكلة الأساسية: تحليل الأساس الذي يقوم عليه الوعي القصدي في ضوء مستوياتٍ من العلاقات التمثيلية.
وحريٌّ أن نُشير إلى أن التمييز الحادث في الغالب بين مستويات أو أنماط الوعي مُرتبط ارتباطًا وثيقًا بالزعم الديكارتي الكلاسيكي القائل بأن الحيوانات مجرد آلات، بينما البشر لدَيهم عقول وقادرون على الاستدلال العقلي. وطبيعي أن عددًا قليلًا من علماء نفس سلوك الحيوانات قد يوافقون تمامًا على زعم ديكارت؛ إذ يبدو أن قردة الشمبانزي والكلاب وكثيرًا غيرها من الأنواع الاجتماعية الراقية الأخرى تضع في اعتبارها أنماطًا بديلة للعمل، وتستبِق النتائج وتُعطي انطباعًا بالمشاركة بقدْرٍ مُماثل من الخبرات الانفعالية. وإن الفوارق الثانوية في بِنية المخ بين هذه الحيوانات وبين البشر — وحتى هذه وضعت ديكارت في مأزق (خاصةً فيما يتعلق بالغدة الصنوبرية) في محاولته اكتشاف فارق بشري جوهري — لا تُمثل دعمًا يُعزز مثل هذه النظرة التي تعتمِد التقسيم الثنائي. ومع هذا، قليلون هم من يُبدون استعدادًا ليقولوا: إن وعيَ الكلب أو القط من نوع الوعي الذي نعزوه إلى البشر.
وأكثر من ذلك أن فكرةً فضفاضة عن الوعي تتَّسع للأنواع الذكية نسبيًّا من الثدييات تواجِه مشكلاتٍ حين نشرع في سبر حقيقة الوضع لدى أنواعٍ أكثر بُعدًا من حيث الانتماء لشجرة التاريخ العرقي، هل الجرذان تُبدي وعيًا مُطابقًا لوعي القِرَدة العُليا؟ هل الديدان والحشرات واعية أصلًا؟ وهل سرطان البحر يُعاني ألمًا عند وضعه في ماءٍ مَغلي؟ هل إيذاء قطٍّ أسوأ أخلاقيًّا من إيذاء سمكة؟ وهكذا، وهكذا، ويبدو واضحًا أن الدراسات عن الذكاء المُقارن والوعي المقارن تتداخَل معًا في هذه المسائل. ويبدو أيضًا على نحوٍ شِبه يقينيٍّ أن إحساسَنا الفطري عن مستوى الوعي الذي تحمِله الأمخاخ الأخرى قد أثر على أفكارنا بشأن تطوُّر الذكاء. ماذا نعني بأن «الوعي» وثيق بقضايا التعقد، ونحن نؤمِن عن فطرةٍ أن أجهزة معالجة المعلومات البسيطة يمكن أن تكون «واعية» بقدْر وعي الأجهزة الأكثر تعقيدًا.
يُعيدنا هذا إلى حجَّةٍ جاء ذكرها عدة مرات في هذا الكتاب: إلى أي حدٍّ يمكن دعم تفسير تطوُّر العقل البشري تأسيسًا على زيادة كمية معالجة المعلومات؟ أحسب أن الإجابة واحدة بالنسبة للغة أيضًا، إن سعة المخ لمعالجة المعلومات مسألة مُهمة؛ نظرًا لوجود حدٍّ أدنى مُعين من عدد العمليات التي يتعيَّن أداؤها، وحدٍّ أدنى لشروط الذاكرة لمعالجة المعلومات؛ ولذلك ثمة احتمال بوجود عينة من التعقُّد العصبي دونها تكون العمليات الرمزية غير مُمكنة، ولكن ليس واضحًا أن دخولنا إلى نطاق الاتصال الرمزي تَحدَّد فقط بشرط تجاوز تلك العتبة، وذلك لوجود شروطٍ حاسمة أخرى أيضًا في صورة تنظيمٍ ذي بنيةٍ خاصة جدًّا للتعلُّم وللذاكرة، ودفعت في هذا الكتاب بأن تجدُّد بنية عمليات المعلومات كان له دور مُحدَّد وحاسم لنشوء وتطوُّر الرموز، وأظن بالمِثل أن الاختلاف البشري من حيث الوعي ليس مجرد اختلافٍ كمِّي.
إن الفكرة القائلة بضرورة وجود درجات من الوعي في عالم الحيوان إنما تفيد بأن السؤال: ما الوعي؟ يمكن أن يكون موضوعًا لدراسة تحليلية منفصلة عن السؤال عما إذا كان بالإمكان وجود نطاقات أو أنماطٍ مختلفة من الوعي؟ وثمة أمخاخ لأنواع كثيرة يمكن أن تنبني بحيث تُنتج خبرة واعية ومحدودة. ونجد أوجُه تماثل في البنيات المعمارية العصبية لأمخاخ بشرية وغير بشرية وتُقدِّم دليلًا على أن هذا أمر مُحتمل. والملاحظ أن تلك النظريات المعنية بتطور المخ التي تصوغ الذكاء في مصطلحاتٍ كمية تُفيد أن الفارق لا يتمثل في بِنية عصبية مميزة وخاصة لتوليد الوعي بل هو ببساطة كم عدد الموجود منه. وحسب هذه النظرة يبدو أن من الأفضل أن ننسى الاستعداد السابق لدى الفيلسوف لاستخدام الخبرة البشرية كنقطة انطلاق، وأن يعمد، بدلًا من ذلك، إلى حلِّ مشكلة الوعي بالعمل على الضفادع أو الذُّباب أو الطفيليات؛ حيث الأمخاخ من المُقدر لها أنها أبسط وإن كانت ما تزال قادرة على التمتع بمستوًى أساسي من الوعي. وواضح أن أمخاخ الأنواع المختلفة يمكن أن تدعم كميات مختلفة جدًّا من معالجة المعلومات واختزانها. ويوازي هذا الاعتراف أفكارًا شائعة لدى الحسِّ العام تدور حول السؤال إلى أي حدٍّ نكون واعين في ظل الظروف المختلفة؛ إنني حين أغط في النوم لا أكون واعيًا بأي شيء يحدث داخل الغرفة، وحين أتجنب قراءة صحف أو مشاهدة تلفاز، فإنني لا أكون واعيًا بما يدور «في العالم»، كذلك فإنني حين أُوذي مشاعر إنسانٍ عن غير قصد، فإنني لا أكون واعيًا باحتياجاته أو توقعاته. على الرغم من أن من الأفضل وصف هذا بمصطلح «الإدراك» فإن من الواضح أن الفكرتَين متداخلتان معًا في تفكيرنا بشأن المشكلة، ونسأل: هل الحيوانات التي تدرك أكثر الظروف المحيطة بها هي النوع الذي لنا أن نصفه بالأكثر وعيًا، أو أن الإدراك هو عامل واحد لازم كمُساهم في الوعي؟ يا لها من فوضى معقدة!
ولكن هل البدائل التي فرضتها المقولات أو التصنيفات الفلسفية المعاصرة ونماذج علم المعرفة قادرة على تأخير المدى الكامل للإمكانات، أم أننا — وكما حذَّرَنا ديوي — إزاء بدائل ضمنية لا تُقسم العالم بأسلوب نافع ووحيد؟ أحسب أن ثمة حجةً وسطًا، بيد أنني أشك بأن أي تأخير قائم على التوفيق في ضوء بدائل التقسيم الثنائي للعقل والآلة يمكن أن ينجح في اكتشاف ذلك. إنني أعتقد أنه بدون محاولة معالجة القضايا الفلسفية الأضخم والكثيرة التي تحوم خلف هذه الظواهر، فإن تأويلًا جديدًا للمعرفة الرمزية يمكن على الأقل أن يُساعد على وضع إطار لفرضٍ مُهم ضِمني في كل هذه المناقشات، واضح أن هذه الحُجج مبنية جميعها على فكرة أن الأوجه المختلفة لظواهر العقل أو المخ تتمايز بعضها عن بعض، بأن كلًّا منها يستلزم صورًا من التفسيرات المُتعارضة والحصرية بحيث تنفي بعضها بعضًا، وأعتقد أن المفتاح أو الدليل الهادي — الذي نستخلِصه من النقلة التطورية إلى الرموز — هو ضرورة فهمها على أساس فارقٍ في مستويات العملية التمثيلية.
يقودني هذا إلى اقتراحَين: الأول: أن الشكل المتعارض لأغلب نظريات العقل أو المخ يعكس فشلًا في إدراك الطبيعة التراتبية والطارئة للعمليات المرجعية التي تُشكل أساسًا للعمليات الذهنية. ثانيًا: أقترح أن مظاهر التغايُر الثلاثة المُتضمنة في الحجج الثلاث — عقل/جسم وقصدي/آلي وبشري/حيواني — لا تتصدى جميعها للفارق التصنيفي ذاته، وأعتقد تحديدًا أن مفهومي العقل والقصد بحاجة إلى تفكيكٍ من حيث مستوى التمثيل، وهو ما يقتضي منَّا أن نتناول بشكلٍ مُستقل كلًّا من الوجه الأيقوني، والدليل الموضوعي والرمزي بالنسبة إلى علاقاتها الميكانيكية المشتركة. ويسمح لنا هذا بأن ندرك أن التمييز بين بشري/حيواني مختلف عن الاثنين الآخرَين من حيث إنه يشتمل وحدَه فقط على فارقٍ في القدرة الرمزية ولا يتصدَّى على الإطلاق لقضايا العقل/الجسد. والمُلاحظ أن الحيوانات يمكن أن يكون لها عقول واعية دون أن تُشارك في كل خصائص الوعي البشري، ولذلك فإنني في الختام لا أرى أن تفسير هذه النقلة يتناول صميم مشكلة الوعي، بل إنه قد يغفل بعض المشكلات ذات الصِّلة التي اختلطت به زمنًا طويلًا، ومن ثم فإن فكرتي يمكن أن أعبر عنها بالدعوة إلى دراسةٍ فاحصة جديدة لبعض الدراسات الراهنة التي يَحسُن الاقتداء بها والتي تتناول طبيعة الإدراك المعرفي في سياق هذه التمايُزات التمثيلية.
وجدير بالذكر أن علماء الإدراك المعرفي تحاجُّوا طويلًا بشأن ما إذا كانت «لغة الفكر» هي في نهاية الأمر أكثر شبهًا بقواعد عمل حاسوب، أم أكثر شبهًا بعمليات تجميع صور، إن خبراتنا الشخصية عما يجري في العقل خلال الفترات القصيرة حين نمشي من مكتبٍ إلى آخر أو نغسل الأطباق أو غيرها تفيد بأن الرأيَين صواب؛ ذلك أن العقل زاخر بأنواع كثيرة من الموضوعات الذهنية، هذا فضلًا عن أنها تتداخل وتمتزج بعضها ببعض، على نحوٍ شِبه متجانس، ومن ثم فإن الحُجَج التي تضع الصور الذهنية و«الحسابات» الرمزية باعتبارها «أكوادًا» بديلة أو مكملة للعمليات الذهنية إنما تُخطئ الهدف، وهو أن هذه ليست عمليات تمثيلية على مستوى واحد، إنها واجهات آنية لعملياتٍ تمثيلية على مستويَين مختلفَين يعتمد أحدهما على الآخر بوسائل خاصة.
إنني أشك في أن ما هو مُفتقد وما هو موجود في هذا التشبيه لا يتوافق مع الفارق بين العقل والآلية، إن العقول تنبثق عن أفعال وأنشطة الآليات، وإن أيًّا من طرفَي هذا الجدال العصري غير مُهيَّأ لإنكار أن ثمة رابطة بينهما، كما أن أيًّا من الطرفَين ليس راغبًا في تبنِّي تفسير اثنَين، وبدلًا من ذلك، ودون عرضها صراحةً على هذا النحو، فإن الاختلاف الذي أبرزته وأكَّدته هذه التجربة هو اختلاف بين عمليات التمثيل القائمة على الدليل الموضوعي، مدخلات تُشير إلى مخرجات، ولكنه غافل عن حقيقة أن مَن هم في الخارج يفسِّرون العلامات التي ينقلها إلى الداخل وإلى الخارج على أساسٍ رمزي، وأريد أن أضع تأويلًا جديدًا لهذا التشبيه ليس باعتباره موجهًا إلى مشكلة الوعي بالمعنى العام، بل موجهًا تحديدًا إلى مشكلة تتعلَّق بتلك الجوانب الخاصة بالوعي البشري التي لها أساس رمزي: القصد العقلاني، والمعنى، والاعتقاد، وهكذا … إلخ.
ونحن لكي نرى بوضوحٍ أكثر التمايُز بين الدليل الموضوعي/الرمز الموجود ضمنًا في هذه المشكلة يمكن أن نُغير قليلًا في القصة؛ إذ بدلًا من تتبع — عن طريق الاستظهار — قائمة من قواعد البحث الإنجليزية التي تشوِّش حقيقةً التمايز، تخيل أن الرجل داخل الغرفة الصيفية قد تعلَّم أنماط تلك السلوكيات عن طريق المحاولة والخطأ نتيجة تلقِّي صدمةٍ بسبب إجاباتٍ خاطئة وتغذية بالإجابات الصواب، ولا أعتقد أن هذه التعديلات تُغير من هدف سيرل، ولكنها توضح مدى سطحية الرواية الإجرائية للمعالجة الرمزية في حقيقتها. نحن لسنا حتى بحاجةٍ إلى أن نسمح للرجل داخل الغرفة بالحصول على قواعد أو تعليمات تُوجِّه عمله؛ إذ يمكن أن نُبدله بسربٍ من الحمام المُدرب، ونعرف أن الفرضية التي يعتمدها أصحاب النظرية المادية المُتحررة من أثقالها أنه مع توفر العدد الكافي من الحمام المُهيأ لكل الإمكانيات المحتملة، وقد تعلمت كل منها بطريقة صحيحة إتمام عملياتها بشأن بدائل الأحرف الصينية، فإنها بذلك يمكن القول بأن كلَّ ما تعمله جمعيًّا هو معالجة لغوية، حتى وإن كانت كل حمامةٍ منفردة لا تعرف حرفًا صينيًّا؟ وإن خصائص استجابة كلِّ حمامةٍ يُمكن تحديدها بالدقة في ضوء القواعد الإجرائية للعمل، ونجد في الحقيقة أن بالإمكان إبدال كلِّ حمامة بحاسوبٍ مجهز بآليات مدخلات ومُخرجات ملائمة ليجري هذا العمل وفقًا لقواعد الإجراءات الخاصة بالعمل.
إن ما أراه خطأ في هذا الوصف المجازي للعقل باعتباره عمليةً إجرائية وفقًا لقواعد مُحددة هو أنه يخلط بين الخريطة وبين الإقليم، أي بين معالم الدليل الموضوعي لنقاطٍ في عملية والعملية ذاتها، إن العلامات ومعالجتها ما هي إلا أجزاء من العملية الرمزية. لقد تم تجريدها من أسسها الأيقونية والدليل الموضوعي، ثم استبعاد هذه الأسس بسبب انعزال الفاعل داخل الغرفة، وتأسَّست المرجعية الرمزية بفضل العلاقات بين منظومة علاقات علامة وعلامة ومنظومة علاقات علامة وموضوع. غير أن جدران الغرفة الصينية تجعل التأويل الرمزي مُستحيلًا؛ لأنهم جعلوا من المُستحيل على الرجل أن يكتشف أي علاقاتٍ بين منظومة علامة وعلامة في الكتاب الذي حصل عليه ومنظومة علاقات العلامة والموضوع؛ إذ إنهما غير متاحَين له، لقد تم اختزال الرمزي إلى الدليل الموضوعي (وهذا لا يختلف عن الباحث الأثري الذي يتأمَّل بعُمق كتابة قديمة دون أن يملك مفتاحًا للترجمة)، وإن العلاقات الوحيدة المتاحة هي العلاقات المشتركة بين المُنبهات المُتمثلة في حروفٍ طباعية وحدَها.
ومن الأهمية بمكانٍ أن نوضِّح أن هذه العلاقات في حدِّها الأدنى تُمثل فقط دليلًا موضوعيًّا لفاعلٍ من البشر أو الحيوانات في تجربة الفكر هذه، ذلك لأن علاقات العلامة والعلامة ليست بأي حالٍ من الأحوال مؤسَّسة بطبيعتها الأصلية أيضًا على الدليل الموضوعي، وإذا كان دور الشخص داخل هذه الغرفة جاء إنجازه بدلًا من ذلك عن طريق برنامجٍ ما، فإنني سأدفع بأن المرجعية القائمة على الدليل الموضوعي غائبة، وإن وضع إنسانٍ داخل الغرفة يؤكد الحجَّة الأقوى بأننا حتى وإن خوَّلنا الطاقة التمثيلية لشخصٍ في هذا الوضع سنظلُّ نرى أن الطاقة الناجمة ليست رمزية، وواضح أن سيرل يعني هذا كنموذج للتمييز الأشمل بين الوعي واللاوعي (أو العقل والآلية)، وهذا ما أُوثِرُ وصفه كفارقٍ بين العمليات المرجعية وغير المرجعية بعامة، ومن المُهم الإبقاء على التمايز بين هاتَين المشكلتَين: مشكلة الرمز ومشكلة المرجعية بعامة، وثمة شيءٌ واحد يجعل مشكلة الرمز عسيرة ألا وهو المَيل إلى الخلط بين الاثنين، وهذا هو ما فعله ديكارت عندما وصف سلوك الحيوان بالآلة فقط، وعلى الرغم من اعتقادي بأننا قد نكون على مشارف تفسير مشكلة الرمز، فإننا بعيدون عن الوصول إلى إجابةٍ بشأن مشكلة المرجعية وتفسير التمايز بين الوعي واللاوعي؛ لذلك أرجو الآن أن نقنع بالتفكير في المشكلة الأبسط، ونرى إذا ما كان في الاستطاعة اكتشاف كيف يمكن لحلِّ هذه المشكلة أن يُضيف بصيرة نافذة إلى المشكلة الأكثر أساسيةً كنتيجة لذلك؟
لذلك لا يُمكن أن تكون المرجعية الرمزية خاصيةً جوهرية ذاتية، وإنه لهذا السبب يمكن لسيرل الزعم بأن لا سبيل لوجود استراتيجيةٍ «إقصائية» بوسعها أن تختزل العمليات القصدية (ولنقرأها «رمزية») إلى برامج عصبية. إن مصدر المرجعية الرمزية ليس أبدًا داخل المُخ، وهذا هو السبب أن مِن العبث البحث عن أساسٍ للوعي الرمزي في جوهرٍ من مستوًى أدنى مرتبط فقط بالمخ، أو أن نستحضر قوانين فيزيائية خاصة تقوِّض الطابع الحتمي للآليات العصبية، بغيةَ تفسير الوعي القصدي، وهكذا فإن المرجعية الرمزية ليست مُشتقَّة من أي شيءٍ خاص بالمخ على نحوٍ مُحدد، بل من نوعٍ خاص من العلاقة يمكن أن تبنِيَه.
مثال ذلك: نمط الموجات الكهرومغناطيسية تعكس شيئًا وتدخل الشبكية ونمط الإشارات العصبية التي تتشعَّب عبر دارات المنطقة البصرية في المخ، ويُمثل الاثنان جزءًا من السلسلة العلِّية التي تنبني عليها خبرات اللَّون، إن اللون ليس جزءًا من الشيء ذاته، ولا هو مجرد شبَح ذهني، وإنما شيء جوهري في هذا الموضوع يُعاد تمثيله في نمَط موجات الضوء، ثم يُعاد تمثيله في نمَط الإشارات العصبية، ولكن يُعاد تمثيله أيضًا في الخبرة الذاتية بالضوء، لا توجَد هنا قفزة من شيءٍ مادي إلى شيءٍ ذهني في هذه العملية، إن كلًّا من المنظور المادي والمنظور الإدراكي المَعرفي يصوغان من جديدٍ العلاقات من حيث الشكل بين نقاطٍ مُتعاقبة وآنية داخل عملية، وأؤكد هنا أن هذه العلاقات الشكلية يمكن أن تكون إما أيقونية أو قائمة على الدليل الموضوعي أو رمزية، وذلك في مراحل ومستويات مختلفة من العملية.
وإذا كان الوعي تمثيليًّا بالحتم إذن يلزم عن هذا أن أي تغيُّر في طبيعة طريقة تمثيل المعلومات من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى تغير في الوعي، ومن ثم فإن الوعي بتمثيلاتٍ أيقونية سوف يختلف عن وعيٍ بتمثيلات الدليل الموضوعي، وهذا سيختلف بدوره عن الوعي بتمثيلاتٍ رمزية، علاوة على ذلك ما دامت أنماط التمثيل هذه ليست بدائل على مستوًى واحد، وإنما علاقاتها بعضها ببعض تراتُبية مع طبيعة مكوناتها، فإن هذا لا بدَّ أن يصدُق أيضًا على أنماط الوعي هذه، إنها تكون تراتُبية متداخِلة في بعضها؛ حيث تُمثل ظروفٌ بعينها في المستويات الأدنى من الوعي شروطًا سابقة لانبثاق وعيٍ مع كل مستوًى أعلى.
وجميع الأجهزة العصبية تدعم عمليات التمثيل الأيقونية والدليل الموضوعي دون اعتبارٍ للحجم والتعقد، إنها مكونات أساسية للتكيُّف، وأحسب إلى حدٍّ ما أن كل جهاز عصبي حيٍّ يُبدي وعيًا بالنسبة للتمثيلات الأيقونية المَبنية على دليلٍ موضوعي التي يمكن دعمُها. وهذا مجال محدود جدًّا بالنسبة للبعض، وإن طاقتها التفسيرية سوف تُحدد طاقتها بالنسبة للوعي، معنى هذا أن الفوارق بين الأنواع في هذا الصدد ليست كيفيةً بل كمية، ونلحظ في الأنواع ذات الأمخاخ الأكثر تعقدًا أن الحالات التمثيلية تكون أكثر عددًا وأكثر تنوُّعًا، ومِن ثم فإن لحجم الإثارة مدًى أوسع، كما أنها ستندمج عبر إشاراتٍ تُغطي نطاقًا أكبر في الزمان والمكان معًا، وطبيعي أن إحصاءات الأعداد الكبيرة والفوارق الهائلة في الحجم لها أسلوبها في جعل الفوارق الكمية تبدو فوارق كيفية، ولذلك يكون من السهل تصوُّر أن الفارق البشري هو فارق من هذا النوع، زيادة كمية كبيرة من حيث الطاقة، ويمكن القول: إنه كذلك إلى حدٍّ ما، إنه ليس الفارق الوحيد ولا حتى الأهم.
ونحن لكي نصِل إلى تقييمٍ للسبب الذي من أجله أصبح البشر قادرين على إدراك حالات وعيٍ غير مسبوقة في تاريخ التطوُّر، لن نكون بحاجةٍ إلى حلِّ لغز الوعي ذاته، لسنا بحاجة إلى فهم الآلية التي تُشكل أساسًا لحالات الوعي لكي نُدرك أنه نظرًا لأنها مؤسسة على التمثيلات، فإن أي فارقٍ في القدرة التمثيلية بين الأنواع سوف يُترجَم إلى فارقٍ في القدرة على الوعي بأنواع مختلفة من الأشياء. والملاحظ أن السِّمات الشكلية لتفسير العملية — سواء أيقونية أم دليل موضوعي أم رمزية — سوف تُحدد عناصر عالم وعي الكائن الحي؛ لذلك فإن ظهور شكلٍ غير مسبوق من التمثيل والتمثيل الرمزي، ومع أنه ليس هو أصل منشأ الوعي فإنه أنتج وسطًا للوعي غير مسبوق، وهذا لا ينفي الوعي الخاص بكل جنسٍ لأفراد الأنواع الأخرى. إنه ينفي فقط وجهًا محددًا للوعي وهو المؤسس على القدرات الرمزية. إن أمخاخنا تتقاسم منطق تصميمٍ مُشترك مع أمخاخ الفقريات الأخرى، ونحن أيضًا نتقاسم كل جوانب الوعي هذه التي تتحقق عبر التمثيل الأيقوني، والدليل الموضوعي الذي تعيشه الأنواع الأخرى، ونظرًا لأن العلاقات المرجعية الأيقونية والقائمة على الدليل الموضوعي موجودة ضمنًا ومكونات جوهرية للمرجعية الرمزية، فإن أنماط الوعي التي تعيشها الأنواع الأخرى تُمثل قاعدة جوهرية للوعي بالعالَم الرمزي، نحن نعيش الجزء الأكبر من حياتنا الواقعية في النطاق الذاتي الذي نتقاسَمه أيضًا مع الأنواع الأخرى، ولكن خبرتنا بهذا العالم ثاوية في العالم الرمزي الأوسع بشكلٍ كبير.
وتعمل اللغة كنوع من الشفرة المشتركة لترجمة خصائص جوهرية مُعينة من الذكريات والصور بين الأفراد ممَّن كان متاحًا لهم اكتساب الخبرات كلها في الآن ذاته، وهذا مُمكن لأن المرجعية الرمزية تنزع أي رابطة ضرورية تربِطنا بالخبرة الشخصية الذاتية وبالأفكار الذاتية التي تدعمها في نهاية الأمر، ويسمح هذا الفصل للأفراد بتوفير ذكرياتهم الخاصة الأيقونية والمؤسسة على دليلٍ موضوعي لإعادة ترسيخ هذه العلامات ضِمن تمثيلات جديدة أيقونية، وقائمة على الدليل الموضوعي أثناء عملية التأويل، وهنا تكون خبرتي المُتصورة والانفعالية استجابةً للأحداث المعروضة في عملٍ روائي منفصلة ومتمايزة عن خبرة وانفعال أي شخصٍ آخر، على الرغم من أن جميع القرَّاء سيتقاسمون فهمًا رمزيًّا مشتركًا لها، وإن «المسافة الذاتية» التي تفصلنا عن موضوع التمثيل تُضفي على عمليات الفكر حريةً تمثيلية لا يُوفرها الاستحضار المباشر لخبراتٍ متخيلة.
وتعتبر التمثيلات أو التصورات الرمزية جزئيًّا قائمة على تفسير خارجي؛ إذ إنها مشتركة بين الناس، هذا على خلاف تفسير الأيقونات والأدلة الموضوعية (إذ هذه عملية شخصية مُتفردة ومعزولة داخل كل مخ)، مثال ذلك أنه على الرغم من أن كلًّا منَّا يقدم تفسير الكلمات والعبارات التي نسمعها ونستعملها لحظةً بلحظة فإن أحكامنا وضغوطنا الضمنية التي تُحدد تفسير كل فردٍ مُستمدَّة من مجتمع الشخص الذي يستعمل الكلمات والعبارات، كما أن المرجعية الرمزية المُترتبة على ذلك تكون موضع ثقةٍ بقدر تطابُق التفسير مع تفسيرات الآخرين؛ لنتخيَّل أن ريب فان وينكل شخصية فيلم واشنطن إيرفنج استمرَّ في نومه السحري قرونًا عدة (أو أهل الكهف، المُترجم)، إنه عند اليقظة لن يفقد اتصاله الثقافي، بل سيجد نفسه دائمًا وأبدًا يُسيء تفسير معنى الكثير من الكلمات والعبارات التي ما تزال تحمل جرسًا مألوفًا إلى أُذنَيه ويتحدث بها كلُّ مَن حوله؛ إذ إنَّ اللغة تتطور، كما أن المعاني وأنماط الاستعمال تَحيد كثيرًا عن الأنماط القديمة، ولكن المرجعية تبقى بفضل الاستمرار دون دقَّة المعاني التي كانت في الماضي؛ ذلك أن المرجعية الرمزية هي في آنٍ دالة على كل شبكة العلاقات المرجعية، وكل شبكة المُستخدِمين الممتدَّة في الزمان والمكان، إنها تبدو كأن القوة الرمزية للكلمات هدفها أن تفرِض مُستخدميها، وإذا كانت الرموز في نهاية المطاف تستمدُّ قوتها التمثيلية من مجتمعٍ بذاته في زمنٍ بعينه، وليس من الأفراد، إذن فإن الخبرة الذاتية الرمزية بالوعي لدى الشخص تكون رهن المجتمع إلى حدٍّ ما، إنها عارية أو قرض، إن منشأها ليس الدماغ، وليست كذلك مُتضمنة في جماع خبراتنا الواقعية.
إن الوعي بالذات بهذه الطريقة يشتمِل ضمنيًّا على الوعي بالذوات الأخرى، والوعي لدى الآخرين يمكن تمثله فقط من خلال المرجعية الخائلية الناشئة عن طريق الرموز، وإن الذات التي هي مصدر خبرة المرء بالقصدية، والذات التي تحكم بنفسها مثلما تحكم بالآخرين على اختياراتها الأخلاقية، والذات التي تقلق بشأن رحيلها الوشيك عن العالم، هذه الذات هي ذات رمزية، ويا لها من سخريةٍ ختامية أن الرموز تزوِّدنا بالمرجعية الخائلية لا الفعلية الواقعية، وهي التي تنبعث منها هذه الخبرة بالذات، إن هذه الخبرة الواقعية التي لا سبيل إلى إنكارها هي حقيقة خائلية.
ونلحظ أن هذا — وعلى نحوٍ غريب — يُعيد تأكيد حدسٍ راسخ صادف حضورًا في كلِّ العالم على مدى العصور، وهذا هو الاعتقاد بوجود روحٍ بغير جسد أو روح زائرة خالدة تُحدد ذلك الجزء من الشخص الذي ليس من البدَن ولا يمكن ردُّه إلى العالم المادي. وإن قدرتي على تقييم المرجعية الرمزية غير قابلة للرد إلى مرجعية دليل موضوعي أو مرجعية أيقونية، وإنني أستخدِم المرجعية الرمزية لترسيخ وتأسيس تفسيري على الرغم من أنه يعتمِد أيضًا على هذَين النمطَين للمرجعية اللذَين هما من مستوى أدنى، وحريٌّ أن نُدرك أن المرجعية الرمزية مُستقلة أيضًا عن أي عملية تفسيرية بذاتها، وتحتفظ بمرجعيتها ثابتة على الرغم من التفسير في ضوء عمليات أيقونية ودليل موضوعي مختلفة أشد الاختلاف داخل مختلِف العقول. إن طبيعتها الخائلية مع ذلك هي المجال الرمزي للوعي الذي نُوحِّدها به، والذي منها نشأ حِسُّنا بالفاعلية وضبط النفس، وهذه النفس ليست في الحقيقة أسيرة عقلٍ أو جسمٍ وتستمد وجودها من الخارج؛ من العقول الأخرى ومن الأزمنة الأخرى، إنها جزء ضِمني من كلٍّ أكبر، وإنها بقدْر إسهامها أيضًا في تكوين الذوات والعوالم الخائلية الأخرى، يكون وجودها الخائلي حاضرًا مُستقلًّا عن وجود المخِّ أو البدن الجزئي الداعم لها، وقد يبدو هذا نوعًا من اللاتجسُّد الضحل الذي يبدو باهتًا بالمقارنة بالتصوُّرات الغامضة عن «خبرة خارج الجسد»، وهي أشبه بالتراث الذي يُخلفه المؤلفون الموسيقيون ذواتهم في موسيقاهم، أو ما يُورِّثه المعلمون العظام لتلاميذهم، بيد أن هذا الجانب الرمزي للذات هو — مع ذلك — مصدر خبرتنا الباطنية عن حرية الإرادة والفعالية.
وحريٌّ أن تعرف أن الموضوعات الرمزية المُجردة، مثل فرضية فيثاغورس، تُوجِّه تصميم وبناء عددٍ لا يحصى من المصنوعات البشرية كل يوم، وأن تخيل ظروفٍ مناقضة للواقِع مثل ذلك الذي يمكن أن أفعله لو أنني المرء الذي التقى صدفةً بمشهدٍ لحادثة، وكان يمكن أن يحثَّني هذا على الالتحاق بتدريب خاص بالإسعافات الطبية الأولية، وربما أيضًا إسعاف ضحية لحادثٍ ما، وأكثر من هذا أن العوالم المُتخيَّلة — الأوليمب مثوى الشهداء في الفردوس، الجحيم، السماوات، العالم الآخر — تؤثر في سلوك الناس في عالم الأرض. وغير خافٍ في الحقيقة كيف أن الإيمان بإرادةٍ عُليا معصومة كان من أقوى الأدوات التي صاغت أحداثًا تاريخية؛ إذ كان لهذه التمثيلات الذهنية المجردة فعالياتها الفيزيقية. معنى هذا أنها تستطيع — وهو ما تفعله — تغيير العالم، إنها حقيقية وواقعية مثل قوة الجاذبية أو تأثير قذيفة.
إن العتبة الرمزية — كما سبق أن شاهدنا — ليست أصيلة في الفارق بين البشري وغير البشري؛ إذ من الممكن عبورها إلى حدٍّ ما بوسائل كثيرة مختلفة من جانب أنواع كثيرة. معنى هذا أنَّنا لسنا النوع الوحيد الذي يُمكن أن تكون له مثل هذه «الروح الزائرة» إذا ما استخدمنا العبارة الرشيقة لوليام بطلر ييتس، لقد كان حدثًا داروينيًّا عارضًا، أو معجزة من الطبيعة أدَّت إلى ظهور هذه القدرة مرةً واحدة واستمرَّت هذا الزمان المُمتد، بيد أنها هيَّأت لكلٍّ منَّا فرصة المشاركة؛ لكي يستحضر «أرواحًا» جديدة في العالم، ليس عن طريق التناسُل، بل بالسماح لنفوسنا الرمزية الخاصة بالتقاسم المشترك مع البشر الآخرين، وربما مع حيوانات أخرى، أو حتى ربما من خلال مصنوعات فنية من إبداعنا.
اختراع العقل من جديد
إن الحاسوب الموجود على مكتبي الذي يتمثل هذه الملاحظات وأنا أطبعها ليس لدَيه وعي أوَّلي، ناهيك عن القدرة على فهم العلاقات الرمزية، إنه لا يفهم لا الأيقونات ولا الدليل الموضوعي؛ لأن بِنيته المعمارية المعلوماتية بنية سلبية ومنغلقة في جوهرها، ولكن ليس السبب المادة المصنوع منها، وأشكُّ في أنه حتى جهازي الذي يعمل بسرعة ٨٠ ميجاهرتز، وهو البديل الإلكتروني البطيء عن الورق والقلَم يمكن أن يُشغِّل برنامجًا قادرًا على الكشف عن أقلِّ قدْرٍ من وعيٍ أولي، أو توليد قدْر ضئيل من التمثيلات الأيقونية أو المؤسَّسة على دليلٍ موضوعي على الرغم من السهولة الكبيرة التي يُدير بها برنامجًا قادرًا على العمليات الرمزية، وإن مفتاح حل هذه الأحجية ليس في الآلة ذاتها، بل في مسار تدفُّق الأنماط خلالها.
وإن القاعدة التطورية الخفية للعقل تتبع بالحتم طريقة بناء المخ في الأول، وسبق أن رأينا أن المنطق التصميمي للأمخاخ هو منطق دارويني مع كل خطوة: فرط الإنتاج والتبايُن والمنافسة والانتخاب. ونجد في النهاية أن هذه العمليات البيولوجية تتخلَّلها المعلومات التي تفيض عبر الجهاز العصبي وتُنبئ الأمخاخ مُستخدمةً معالجتها هي للمعلومات؛ أي تنشأ بجهودٍ ذاتية إذا جاز التعبير، ويعتبر منطق التصميم هذا مفتاحًا لفهم كيفية تحوُّل قدراتنا الوظيفية في تطوُّرنا نحن، وأيضًا كيف توزع الوظائف الرمزية واللسانية نفسها في أمخاخنا حين يكتمِل نُضجها، ولا مَدعاة للاستغراب؛ إذ نعرف أن هذا المنطق نفسه هو أساس المعالجة السوية للمعلومات التي تَتمُّ في كل مللي من الثانية والمستمرة لتحقيق ملاءمة البرنامج العصبي مع العالم.
ولكن بناء جهاز معالجة رمزية لدَيه وعي أوَّلي ليس بحاجةٍ إلى أن نُعيد باختصار الطريق المليء بالتعرُّجات والآلام الذي عبره البشر وصولًا إلى هذه القدرة. إن تطوُّر القدرات الرمزية لدى نوعِنا يُمثل حدثًا نادرًا استثنائيًّا لسببٍ واحد فقط، وهو الطريقة التي انحاز بها الانتخاب الطبيعي إلى تطوُّر المخ مقابل كل ما حدث في أي وقت، ونرى أن القدر الأعظم الذي حدَّد بنية المخ البشري كان متاعًا تراكَم على مدى هذا المسار المتعرِّج قبل تطوُّر الاتصال الرمزي، وقد يكون ممكنًا — عند تصميم جهازٍ رمزي اصطناعي — أن نأخذ مسارات كثيرة مختصرة لتجنُّب الكثير من المتاع التنظيمي الذي ساد فيما قبل الرمز، والذي حملته الأمخاخ البشرية وصولًا إلى هذه العملية، حقًّا إن المعالجة الرمزية في نطاق مبسط للغاية — التكيف مع «بيئة محدودة من الإشارات المُمكنة» — قد لا يستلزم أي درجة قريبة من مخزون المعلومات الشاملة والقدرة الاسترجاعية التي يستخدمها العقل البشري، والملاحظ أنه لا الطاقة الذاكرية ولا معدل التعلم أعاق تطوُّر هذه القدرة لدى سلالاتٍ أخرى؛ إذ إن هذه الطاقات — في الحقيقة — كانت إلى حدٍّ ما مصدر إعاقة، وحريٌّ أن نُدرك أن الطاقات الرمزية يمكن أن تكون في متناول أجهزة حاسوبية أقل تعقدًا من تلك الموجودة حتى لدى أبسط الثدييات ما دامت منحازةً بقوة إلى خصائص التحليل الرمزي، وكانت منظومة الرمز عند أدنى حدٍّ من التعقد.
وجدير بالذكر أن هذا النوع من العقل هو شيء ليست لدَينا معه أي ألفة: معالج رموز بسيط، وقد يبدو غريبًا وشاذًّا، بيد أن متلازمة أعراض وليامز تُقدِّم لنا مثيلًا لهذا النوع من الطريق المختصر إلى القدرات الرمزية. ولنتذكر أن هذه الحالة الشاذة الوراثية ينتج عنها أفراد يُعانون من إعاقات ذهنية شديدة في نواحٍ كثيرة، ولكنهم أصحَّاء نسبيًّا بالنسبة لقدرة لغوية معينة. والملاحظ أن قاموس مفرداتهم ليس متدنيًّا إلى حدٍّ كبير، كما تفيد مقاييس ذكائهم المُنخفضة، ونجد أن باستطاعتهم تكوين روابط معجمية معقدة وتحليلات نحوية على نحوٍ لافت للأنظار، ولكن فهمهم المعجمي (رمز – علامة إلى رمز – علامة) تدعمه قاعدة معتدلة في أدنى حدٍّ لها من الأيقونات والأدلة الموضوعية، وهو ما تؤكِّده قُدرتهم الضعيفة على فهم العلاقات العملية المشتركة للكلمات والجُمَل، ولنا أن نتوقَّع هذا في صورة أكثر مبالغةً من جهاز من صنع الإنسان قادر على التعلُّم الرمزي: ليس روابط صماء واقعية جدًّا (مؤسسة على الدليل الموضوعي) بين علامات ومرجعياتها كما هو الحال تمامًا عند أغلب الحيوانات، بل نجد العكس بشكل ما، إن التمثيل الرمزي مع أدنى حد من الدعم الأيقوني والدليل الموضوعي يمكن أن يكون إبداعيًّا، مثمرًا إنتاجيًّا ومعقدًا، ولكنه في الغالب الأعم فارغٌ ودورانيٌّ من حيث المرجعية؛ أي مجرد ألعاب لغوية بحتة، ومع هذا توجد سياقات كثيرة قد نجد فيها هذا أداة نافعة.
إذن، والأمر كذلك، هل من المُهم أن يكون لدينا أو لا يكون تفسير كامل عن الوعي ما دام بالإمكان تحققه بدون ذلك؟ هل ثمة ما هو أكثر من وجود قيمة جمالية، وإشباع فضولٍ عميق نستمدُّه من الإلحاح للوصول إلى فهمٍ نظري للعلاقة بين الآلية والعقل؟ وطبيعي أن الْتماس مخرج من المتاهة الفلسفية التي تُمثلها مشكلة العقل يمكن أن يساعد كثيرًا في وضع تصميم وهندسة ماكينات ذكية، بيد أنني لا أعتقد أن هذا هو السبب الأكثر إلحاحًا لمتابعة القضية، نحن عمليًّا سوف نضطر إلى إصدار أحكام تُمايز بين المحاكاة والشيء الواقعي الحقيقي؛ أحكام أخلاقية، ترى هل سنعرف متى عبرنا هذا الخط؟
يعود بنا هذا مرة ثانية إلى لغز الخبرة الذاتية، ومدى استطاعتنا لمعرفتها لدى آخر، وجدير بالذكر أن مسألة ما إذا كان بالإمكان وجود وسائل غير ذاتية لتحديد وجود الوعي قد شغلت الفلاسفة طويلًا، وسبق أن رأينا أن هذا السر الغامض أفضى بنا إلى أعقد المشكلات وأشدها إثارةً التي واجهت ديكارت في تأملاته الشكِّية عن طبيعة العقل: كيف يتسنى لنا التأكد من وجود عقول أخرى في العالم؟ وأحسب أن أسلوبًا أكثر واقعية لطرح هذا السؤال أن نسأل: ما إذا كان بالاستطاعة أصلًا أن نتقاسم حقيقة خبرات ذاتية على نقيض الاكتفاء بمجرد تخيُّل أننا نفعل ذلك، ونذكر أنه في فترة أقرب من ذلك تصدى اختبار تورنج لمسألة موازية للبحث عما إذا كان بالإمكان تحديد أن آلة لها ذكاء، ومن ثم يمكن إعادة الصيغة الديكارتية لاختبار تورنج على النحو التالي: كيف لي أن أعرف إن كان برنامج حاسوبي واعيًا؟ إن كثيرين من علماء الحواسب لا يكفُّون عن الجدل في إطار هو من نواح كثيرة مجرد إعادة صياغة حديثة لمشكلة ديكارت، والمسألة في اختبار تورنج هي ما إذا كان جهاز حاسوب يمكن أن يقدم إجابات على استعلامات لا يمكن تمييزها عن تلك التي قد يطرحها شخص في ظروف مماثلة، نحن في الصيغة الديكارتية لاختبار تورنج يمكن أن نسأل الفاحص أن يحكم بما إذا كان المجيب واعيًا أم لا ويجيب عن قصد أم لا.
لقد أثبتت المنافسة بين مُصممي برامج اختبار تورنج أن بالإمكان خداع الناس في هذا الصدد على الرغم من أن بإمكانهم بوجهٍ عام أن يبرزوا ويتفوَّقوا على أغلب البرامج، وهذا يُعيدنا إلى سؤال ديكارت، هل بإمكان برنامج أن يخدع كل الناس في كل الأوقات ولا يكون مع ذلك لا ذكيًّا ولا واعيًا؟ ونسأل بالمثل: هل الشخص ليس إلا برنامجًا متطورًا طبيعيًّا، ويعاني من أوهام عن وعيٍ قصدي في ذاته ولدى الآخرين؟ نظرًا لأن المعلومات المتاحة لتقييم ذلك مباشرة ورهن الظروف والملابسات، إلا أن بالإمكان نظريًّا أن يخدع برنامج كل فردٍ بما في ذلك نفسه، ونجد إجابة ساذجة على السؤال تشي به تجربة الفكر البسيطة التي تفحص ملايين وملايين اللقاءات والحوارات بين الناس وتجميعها في حاسوب هو الأكبر من نوعه؛ لتكون بمنزلة لوحة بحث عن الأسئلة الممكنة والإجابات الوثيقة الصلة. والملاحظ من حيث المبدأ أن توفر بيانات كافية من خلال اللقاءات السابقة بين ناس حقيقيين وقوى حاسوبية كافية للتخزين والبحث من خلالها بدا أن بالإمكان دائمًا خداع حتى أكثر السائلين علمًا وحذقًا، ويحدُث ذلك دون أي وجه شبهٍ مع الوعي أو الوعي الأوَّلي، وهذا هو لُبُّ النقد الذي قال به سيرل.
وإذا عمدنا إلى توسيع طبيعة «الاختبار» قليلًا ربما نهتدي إلى طريقٍ يقودنا إلى ما وراء هذا المأزق، إن اختبار سيرل «عن الأسلوب الإجرائي مجردًا» هو دليل لمعرفة أي معلومات تتعلق بالإجراءات غير كافية، وإن فهم طريقة بناء العمليات التأويلية الرمزية واختلافها عن ذلك يمكن أن يهيئ لنا اختبارًا لما هو كافٍ بغض النظر عن الإجابات الناتجة (وهذا مهم لأن البشر المجيبين في اختبار تورنج يمكن أن يخطئوا في تقدير الحواسب التي لا عقل لها)، ونحن في الحياة اليومية نتجنب المعضلة الديكارتية بمجرد الاعتراف بأن الناس الذين نعيش بينهم هم ببساطة مثلنا ماديًّا، ونفترض أن هذا يعني أن لديهم عمليات فكرية مثلنا، وأنهم أيضًا أشخاص لديهم وعي وذكاء وعقول، ولكن ديكارت وتورنج عزفا عن هذا الطريق المختصر: إنه من حيث المبدأ ليس دليلًا أكثر مدعاةً للثقة من المعلومات التي يُقدمها اختبار تورنج، إن السائل في اختبار تورنج ممنوع عليه معرفة ما إذا كانت الإجابات تصِله من ذاتٍ بشرية أو من جهاز إلكتروني، ولكن ليس مهمًّا أن نسأل ما إذا كان الناتج المُخرج هو حاصل ذكاء واعٍ أم لا، بيد أنني أعتقد أن المعلومات عن أسلوب بناء الجهاز (مثل معرفة أنه يشترك في أسلوب البناء مع ذات بشرية أخرى) يمكن أن تكون مفيدةً وحدَها.
ونحن لسنا بحاجة فقط لأن نعرف هذا لكي نُقدِّر ما إذا كانت أجهزتنا الحاسوبية تفكر أم لا، إن الكثير من معضلاتنا الأخلاقية المعاصرة غير قابلة للحل بسبب عجزنا عن التفكير بوضوح بشأن التمييز بين العقل وما ليس بعقل، وحالات الوعي واللاوعي، وحدود اكتمال وتميز الشخصية، وثمة قضايا مثل الإجهاض والقتل الرحيم وحقوق الحيوان وادِّعاء الجنون في دُور العدالة الجنائية، ورعاية المُصابين بتخلف عقلي شديد، وهذا قليل من بين الظروف والملابسات التي ترغمنا على اتخاذ قرارات أخلاقية بدون توفر معرفة كافية عن هذا الواقع الوثيق الصلة إلى أقصى الحدود، وتُثير هذه الحالات تساؤلات إشكالية عن متى يبدأ شخصٌ ما ومتى يُنهي وجوده؟ وأي جوانب في وظيفة المخ جوهرية لتمييز اكتمال نضج الشخصية؟ ومِمَّ تتألف العقلانية البشرية؟ وإلى أي مدًى تتقاسم الحيوانات الأخرى خبرة الوعي الذاتي؟ ليس من الواضح أنَّ فهم هذه التمايزات من شأنه أن يجعل أيًّا من خياراتنا أيسر، بيد أننا نعرف النتائج على أقل تقدير.
قال ألبرت أينشتين ذات مرة ملاحظة هي: «إن أكثر مظاهر إعجاز الكون هو عدم قابليته للفهم»، وهذا أيضًا أحد أكثر أمور العلم إثارة للقلق: قدرته على كشف حجاب السر الغامض، فقط لكي يحل محل ما كان يومًا سحريًّا وإعجازيًّا يعمل كساعة منتظمة بلا عاطفة، وطبيعي أن فهم أساس الوعي البشري يعطي إشارة الاستسلام النهائي لثورة كوبرنيكية طالت معاركها حتى انتزعت مرحليًّا مكاننا المتميز في الكون، ترى ما النتائج الأخلاقية والجمالية بالنسبة لنا إذا كان الوعي وطاقة الخبرة الذاتية وفيما بين الذوات بالنفس قسمات مميزة يمكن دمجها في الآلات؟ ترى هل هذه الخبرة من شأنها بشكل ما أن تبخس من قيمة خبرتنا الذاتية بالنفس؟ هل من شأنها أن تقلل من القيمة الأصيلة التي نعزوها للكائنات الواعية حين نعرف أن بالإمكان إنتاجها من السيلكون والسلك؟
نحن من ناحية، مثلنا مثل جمهور من المستمعين راغب عن الاستماع إلى شرح لدعاية لم يدركوا معناها؛ إذ نخشى من أن هذا الواقع المحتمل غدا على نحو شبه يقيني أنه يحد كثيرًا من معنى الخصوصية الذي نشعر به إزاء الوعي الأولي، يبدو وكأن شيئًا من حرمة وقداسة بناء الشخصية سوف يبتذل أو ينتهك إذا ما قُدر لنا النجاح في تفسير كيفية عمله، وكيف ظهر إلى الوجود ولكن حريٌّ بنا أن نلحظ أنه بدون هذه المعرفة ننتج الآن بكميات ضخمة وعيًا جديدًا أيًّا كان الأمر متمثلًا في الحرية للجميع للنمو السكاني بعيدًا عن أي ضابط، إن عقيدتنا الأثيرة إلى نفوسنا فيما يتعلق بخصوصية الوعي البشري لم تمنعنا من التعامل دون مبالاة مع الناس وكأنهم أدوات مهملة أو سقط متاع، ولكن من ناحية أخرى كم هو قدر عدم الاهتمام الذي سوف توليه لسوء معاملة الأجهزة الواعية التي تنتجها المصانع على نطاق واسع؟ السؤال المطروح علينا هو ما إذا كنا سنشرع في التعامل مع الناس مثلما نتعامل مع الحواسب غير الواعية، أم أن المصير هو أن نعامل الحواسب الواعية مثلها مثل الناس؟
وثمة إمكانية أيضًا هي أنه مع توفر معارف أكثر دقة بشأن أساس وطبيعة الوعي سوف نكتشف بلسمًا لعلاج مشاعر القلق والخوف التي تزايدت في المجتمعات الغربية منذ أن بدأنا الشك في ثنائية ديكارت التي تفصل بين العقل والجسد، نحن قد نفهم الوعي البشري باعتباره إضافة خارجية إلى عالم — بدونه — هو عالم مواتٍ يزخر بآليات تعمل منتظمة كالساعة، وقد نكشف أننا نحن أنفسنا آليات مما يعني ضمنًا أن لا وجود حقيقيًّا لنا على الأقل كأشخاص ذوي قصد، ولهم حق تقرير المصير، كما كنا نظن عن أنفسنا ومن ثم أن لا أحد هناك كذلك، ولكن اكتشاف كيف تعمل هذه الآليات ربما يكون هو الشيء الضروري لتقويض هذا الاعتقاد الثابت، وإن كشف القناع عن مصدر الخبرة الذاتية وراء الوعي البشري؛ مما يوضح على الأرجح كيف يمكن إسقاط العمليات الذهنية من التفسيرات المادية، وإنما على العكس توضح أكثر كيف كانت متضمنة فيها، وقد يساعدنا هذا على معرفة أن الكون ليس في نهاية المطاف الساعة التي تعمل بانتظام عمياء بلا روح، ونحاف أن نكون نحن بعضًا منها، بل هو على العكس قلب وليد وعقل ناشئ في بدء التكوين.