الافتقار للكلمات
إذا كانت المطرقة هي أداتك الوحيدة، فإنك ستميل إلى معالجة كلِّ شيءٍ وكأنه مسمار.
تمرينات ذهنية للعقل
كثيرًا ما نجد أداء مهمةٍ بادية السهولة صعبًا علينا، لا لأنها مُعقدة، بل لأنها تستلزم مهارة، ويحدث أحيانًا — على سبيل المثال — أنك تفتقِد فقط الأدوات المُلائمة للمهمة، إذ ليس مهمًّا مدى سهولة إحكام ربط مسمار قلاووظ إذا كان رأسه مشقوقًا شقًّا مُستطيلًا وليس معك سوى مفك صليبة، ويُمثل هذا أحد مصادر الصعوبة في الأنشطة المادية، ونحن البشر لسنا مُهيئين لأداء عددٍ من المهام التي تؤدِّيها الأنواع الأخرى بسهولة؛ إذ إن باستطاعة أنواعٍ أخرى أن تزهو بنفسها؛ لِما تتمتع به من مظاهر للتكيُّف من مثل الحركة الانسيابية والزعانف للسباحة، أو أن أجسامها تتمتع بأسطحٍ مرنة سهلة الحركة للانزلاق والطيران، أو تمتلك مَخالب تُيسر لها تسلُّق جذوع الأشجار أو تمزيق الضحية، أو لها أنياب حادة لنهش اللحم، وحاولتَ أنت أداء مهمةٍ ما لستَ ملائمًا لها على نحوٍ جيد، ستجد أداءك على أحسنِ الفروض أداءً أخرقَ فجًّا، وكثيرًا ما يفشل.
وليس التعلم عملية عامة شأن أي عملية أخرى؛ إذ يجري التعلم دائمًا في سياق خاص، متضمنًا حواس وثيقة العلاقة، وأنماطًا من الأفعال الحركية، ووسائل مُعينة لتنظيم المعلومات المتضمَّنة، كذلك ليست عملية التعلُّم مجرد تكوين رابطة مع الذاكرة بفعل تأثير التكرار أو التقوية، ولكن التعلم يتضمن فهم ما هو وثيق الصلة، ثم فهم كيفية ترابط المُتغيرات وثيقة الصلة، ويتضمن فرز ما سبق أن تعلمناه وتنظيمه وأحيانًا إعادة تشفيره؛ إذ حين يتعلم الحمام أنَّ نقْر زِرٍّ مُضاء بلون أحمر يكون سببًا في وصول الطعام، وأن نقر زِرٍّ مضاء بلون أزرق سيوقف ضوضاء مُثيرة للانزعاج، فإنها لا تحفظ هذه الروابط فقط في الذاكرة، بل تتعلَّم أيضًا إغفال الكثير مما ليس له صلة: الحديث الدائر في الخلفية، والوقت من النهار، ودرجة حرارة الغرفة، ونقر الحمام المجاور، والروائح المُنبعثة بين الحين والآخر، والأضواء الأخرى والأزرار الأخرى وهيكل القفص، ويعتمد نجاح أو فشل التعلُّم وحل المشكلة على عادات الانتباه، ما الذي نجده لافتًا للأنظار؟ وما الذي لا ننزع إلى ملاحظته، ومدى السهولة التي يُغفل بها المرء أو يُعيد برمجة هذه الميول.
وهناك أيضًا عوامل باطنية تؤدِّي إلى حرف الانتباه، نذكر منها بخاصةٍ تلك التي تنبثق عن خبرات تعلُّم ماضية، ولدينا خبرة مشتركة من آثار مثل هذا النوع من التدخُّل، وتمثل الارتباطات القديمة نوعًا من مخزون الفروض، ونلحظ في مناسبات كثيرة في الحياة الدنيوية أن الأحداث ذات القسمات المشتركة تتولد عنها نواتج متماثلة، وأنَّ التعميم تأسيسًا على أوجه التماثُل بين الارتباطات الماضية وتطبيقها على الحاضر كثيرًا ما يُهيئ لنا طُرقًا مختصرة تنأى بنا عن تبديد أوقاتٍ طويلة في التعلُّم على أساس المحاولة والخطأ، ولكن يحدُث أحيانًا أن تكون التماثُلات السطحية بمجرد مظاهر سطحية، والاستجابات المُتولِّدة عنها خارج المسار المرسوم، فإذا كانت العادات قوية راسخة، فإن فرص المقارنة مع عاداتٍ مختلفة تكون قليلة، أو تكون التغذية المرتدَّة بشأن الاستجابات الخاطئة ضعيفة، ويصبح نسيان القديم لإتاحة فرصة لتعلم الجديد استحالةً عملية، ونتيجة لذلك فإن بعض المشكلات تكشِف عن صعوبة؛ لأنها تقتضي منَّا أن نُفكر بطرقٍ غير نمطية: أن نستنتج ما هو مُفتقَد، أن نُعاود الجهد من النهاية، أن نفترض نقيض ما نريد أن نُبرهن عليه، وهكذا … إلخ، والملاحظ أن الحِيَل والألغاز تُثير حيرتنا لا بسبب تعقدها، ولكن لأن الحل نقيض البداهة، ونلحظ كذلك أن النِّكات تستهوينا إلى أقصى حد؛ ذلك لأنها تقدِّم لنا ذروةً منطقية للحدث شديدة الإغواء بحيث نعجز عن التنبؤ بها سابقًا، كذلك فإن ذروة الحدث ليست فقط غير متوقعة، بل لا بد أن تأتي كأمرٍ حتمي وواضح إذا جاء بعد الواقعة فقط، وتأتي عبارة «آه، الآن فهمت» تعبيرًا عن تراكم عمليات إدراكية بسيطة وتمثل جزءًا من خبرة إعجاب المرء بالخدعة في ذاتها وبأن الخدعة منطقية تمامًا، وكما يحدُث في الحيل السحرية، فإن مفتاح النكتة الجيدة هو حرف الاتجاه، كذلك فإن أكثر أشكال حرف الاتجاه تأثيرًا تكون مفروضةً ذاتيًّا؛ أي من فعل الذات، وإن الطريقة المُتَّبعة طبيعيًّا في التفكير بشأن موضوع النكتة هي تحديدًا السبب في خداعنا.
وإن اختبارات الذكاء، والمشكلات المثيرة للمخ غالبًا ما تتحدى قُدرتنا على التفكير خارج النصوص التي تفرضها الذات على نفسها والتي تتَّصف بالمحدودية الشديدة، ونحن نعتبر من علامات الذكاء سهولةَ إجراء قفزاتٍ منطقية، ونجد في الحقيقة أن التعقُّد نادرًا ما يكون المعيار المؤهِّل لأن نُسمي شيئًا ما عملًا عبقريًّا، وإنما الأصح مدى ما يتَّصف به النهج من إبداعية، وكم الآخرين الذين عجزوا عن إدراكه، وهذا هو السبب في أن بعض الاكتشافات العُظمَى في العديد من المجالات تحقَّقت على أيدي باحِثين من خارج الدائرة الداخلية الضيِّقة من الخبراء الحقيقيين؛ وذلك لأن الخبراء غالبًا ما تمرسوا على النظر إلى مشكلةٍ ما بأسلوب جديد. وها هنا نذكر ما قاله عالم البيولوجيا العظيم توماس هكسلي حين عرَّف نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، فإذا به يصرخ قائلًا: «ما أغباني إذ لم أفكر في ذلك!»، وهكذا نجد أن أفضل إنجازاتنا تكون أحيانًا ضدَّنا.
ولا ريب في أن الصعاب التي تفرضها مشكلةٌ ما هي دالة على كلٍّ من تعقُّدها الذاتي والاستعدادات السابقة لدى المُتعلم لتوجيه الاهتمام والانتباه إلى أهم جوانبها ذات الصلة. ونعرف أن علماء النفس المَعنيِّين بالدراسات المُقارنة ناضلوا منذ زمنٍ طويلٍ لفصل المسائل المُتعلقة بالقدرة العامة على التعلُّم عن القدرات الخاصة للتعلُّم لدى أنواعٍ مختلفة وأصبحوا أكثر اهتمامًا وحساسية بمشكلة فَهم قدرات النوع في سياق بيئة النوع الطبيعية، واكتشفوا اختلافاتٍ متلازِمة في التعلم. وجدير بالذكر أن مربي الحيوانات لاحظوا هذه الأنماط على مدى أجيال؛ إذ هناك سلالات من الكلاب هي الأصلح للرعاة، وكلاب أخرى هي الأفضل للطِّراد والصيد، وكلاب أخرى هي الأنسب للتدرُّب على قيادة مكفوفي البصر. ونكاد نجد دائمًا بدائل متقابلة: استعدادات سلوكية سابقة ملائمة تمامًا لأداء مهمةٍ ما، ولكنها على الأغلب تتناقض مع غيرها، ونجد هذا النوع من التكامُل واضحًا أيضًا في الدراسات عن الآثار الناجمة عن إصابة المخ وتأثيرها في التعلُّم عند الحيوانات. ويكاد يكون مألوفًا أن إصابةً موضعية للمخ بدلًا من أن تُسبب عطبًا شاملًا للمخ إذا بها تُعزز تعلُّم بعض المهام، بينما في الوقت ذاته تُعطِب القدرة على تعلُّم مهامَّ أخرى، ويكشف هذا التعزيز الذي ينطوي على تناقُضٍ ظاهري عن أن التعلم ليس عمليةً موحدة ومتجانسة للمخ؛ إذ إن معدلات التعلُّم رهن النوع ونوعية المهام، كما أنها تعتمد على التوازن الخاص والمُميز للذات بين الاستعدادات السابقة البديلة، معنى هذا أن الفكرة القائلة بأن المرء يمكن أن يكون أفضل أو أسوأ بالنسبة لجميع أشكال التعلُّم هي فكرة تُغفل الطبيعة التنافُسية الأصيلة بين نماذج التعلم المختلفة؛ ذلك أن أفضل الاستراتيجيات الخاصة لتقوية الذاكرة والانتباه لنموذجٍ مُعين من المهام يمكن أن تكون خطأً فادحًا بالنسبة لنموذج آخر. ومثلما أن خبراتنا السابقة ومعارفنا المتراكِمة يمكن أن تُمثل في بعض الحالات عائقًا دون حلِّ مشكلة جديدة، كذلك الحال بالنسبة لإرثٍ تطوري لنوعٍ ما؛ إذ يمكن أن يُهيئه هذا الإرث لمعالجة مشكلات إدراكية معرفية معالجةً صحيحة، على عكس الحال بالنسبة لمشكلات أخرى؛ إذ تأتي المعالجة سيئة، ولهذا نرى أن أفراد نوعٍ ما لديهم استعدادات سابقة لتكيُّفٍ خاطئ بقدْر ما لديهم من انحيازاتٍ فطرية للاهتمام بتفاصيل غير ذات صلة بالمشكلة، وإغفال عناصر حاسمة خاصة بهذه المشكلة.
ويوحي لنا هذا باتباع سبيلٍ آخر ومُغاير تمامًا لدراسة سِر اللغة، هل لنا أن نجد ما يدلُّنا على الطريقة التي يجب التعلُّم بها ولو للغةٍ بسيطة مُلائمة لأنواعٍ أخرى؟ هل يمكن أن تكون المرجعية الرمزية بطبيعتِها نقيض البداهة؟
والقول بأن اللغة، بالمقارنة بأشكالٍ أخرى، هي شكل غير مسبوق في مسيرة تطوُّرية مُطَّردة على نحوٍ طبيعي — هو قول يُوحي بأننا لكي نكتشف ذلك نكون — على الأرجح — بحاجةٍ إلى توجُّهٍ آخر لحل المشكلة. وتتمثل الفكرة الأساسية في «مفارقة اللغات المفتقدة» في أن الصعوبات التي تُواجهها غالبية الأنواع عند تعلُّم اللغة لا تنقص على نحوٍ كافٍ كما يبدو الأمر في ظاهره مهما حاولنا من تبسيط اللغة المطلوب تعلُّمها إلى أقصى حدٍّ ممكن، ويمكن القول بشكلٍ ما: إنهم «لا يُدركون» موضوع مشكلة اللغة. معنى هذا أنها ليست صعبة فقط، بل إنها تتعارَض مع بعض الاستعدادات السابقة الأخرى الراسخة؛ إذ يمكن أن يقتضي الأمر تعلُّم اللغة بوسائل تتعارَض مع استراتيجيات نمطية أخرى للتعلم؛ إذ ما إن يبدأ التعلُّم، ويبدأ إدراك معنى الكلمة أو ما تشير إليه إشارة أو علامةٌ ما — ليس فقط مجرد الإشارة إليها أو استحضارها للذهن عن طريق الترابط، بل الرمز إليها — فإن هذا يستلزم نوعًا من التدريبات الذهنية التي لا تتوفر بشأنها استعدادات سابقة ملائمة في المخ غير البشري. والمُلاحظ أن عددًا قليلًا من الحيوانات المُنتقاة هي التي تهيَّأ لها إدراك العلاقات الرمزية التي حاولنا تعليمها لها على الرغم من تمتُّعها بقدْر كبير من الخبرة الاجتماعية أو التدُّرب الخاص والدعم للحد من القيود المفروضة عليها من حيث مخارج الأصوات، بيد أننا نجد على العكس من ذلك أن الغالبية العُظمَى منها كشفت عن قدرةٍ ملحوظة لاستباق استجاباتنا أو مُحاكاة سلوكنا أو استيعاب ذاكرتها لعددٍ كبير من الترابُطات؛ وهذه جميعها قدرات معقدة ولكنها ليست أبدًا قدرات رمزية.
بعبارة أخرى
كيف لشيءٍ ما بسيط بقدر بساطة الكلمة، ويكون على نقيض البداهة وغير مُلائم لكي تُدركه الأنواع الأخرى؟ وهذا سؤال له خصوصيته الذاتية فيما يتطلَّبه من مهارة. إن تفسير طبيعة معنى الكلمة يُمثل تحديًا للمفكرين منذ ما قبل تاريخ الفلسفة المكتوبة، وما تزال المسألة تقتحِم كل مجالٍ معنيٍّ بتفسير عمليات الفكر، ومضت آلاف السنين التي شهدت تسجيل آلاف النصوص، ولا نزال لا نفهم تمامًا أساس العلاقة التي تُغذي وتُثري الكلمات بمعانيها وطاقاتها المرجعية، وإذا شئنا الصراحة التامة نؤكد أننا لا نفهم، بشكلٍ واقعي، واحدة من أهم خبراتنا المألوفة. نحن نعرف كيف نستخدِم كلمةً ما لتعني شيئًا ما وتشير إلى شيء ما، ونعرف كيف نسكُّ كلماتٍ جديدة ونعزو إليها معانيَ جديدة، ونعرف كيف نبتدِع شفراتٍ ولغاتٍ اصطناعية، بيد أننا — مع هذا — لا نعرف كيف عرفنا كيفية عمل ذلك؟ ولا ما الذي نفعله عند إنجاز العمل، أو على الأصحِّ إننا نعرف ماذا على السطح الظاهر لنا؟ ولكننا لا نعرف ماهية العمليات الذهنية التي تنبني عليها هذه الأنشطة، وأقل منها بكثير العمليات العصبية المشاركة واللازمة لذلك، ونظرًا لأن مشكلةً مفاهيمية أساسية ظلَّت دون حلٍّ على مدى أجيال كثيرة، فإن هذه الحقيقة تُوحي بأن ثمة عائقًا يحُول دون فَهمنا لها وأن هذا العائق ليس مجرد صعوبةٍ فنية، إن المشكلة ليست مجرد لُغز صعب، إن المفهوم بقدْر ما يبدو فهمه عصيًّا على الحس البدهي لنا، بقدر ما هو سهل علينا عند الاستعمال.
وثمة موضوعات كثيرة أثارت قدرًا كبيرًا من الجدل والتشوش؛ لذلك قد يصِل بي الحد إلى الظن بأن هذه المسألة ليس مكانها هنا لكي أختارها، وأستهلُّ بها تحليلي لأصل نشأة اللغة عند البشر، أليس في هذا مجازفة للوقوع في المُستنقع الفلسفي حتى قبل أن نبدأ؟ نعم، ولكن ثمة ما يتعين قوله لكي نُحدد بدايةً إطارَ الأسئلة الأكثر صعوبة وحسمًا حتى نتجنَّب السير على غير هدًى.
وعمدتْ عشرات النظريات إلى تفسير الجوانب الكثيرة للعلاقة بين الكلمة ومعناها، وتواصل الحوار والمحاجَّة على مدى قرونٍ بشأن هذه القضايا بين فلاسفةٍ وعلماء نفسٍ وعلماء لسانيات، واحتدم الحوار وبلغ مستوًى جديدًا خلال السنوات الأخيرة بسبب تقدم تكنولوجيا الحاسوب، ومع بزوغ إمكانية لبناء ماكينة «ذكية». وإن ما يُثير فضولي هنا إخفاق الباحثين والمهندسين في أن يضعوا في الاعتبار الطبيعة الاستثنائية لهذا الشكل من المرجعية، أليس من المُحتمل أن افتقاد نظائر للكلمات والجُمَل في بقية العالم البيولوجي له دَور مُهم في تفكيرنا عن المشكلة؟ إذ من بين أجهزة الحساب القوية ذات القدرات الهائلة التي تسكن رءوس الطير والثدييات لا نجد سوى واحدٍ منها فقط هو الذي يستخدِم النمط الرمزي للمرجعية، وهل افتقدنا ما يُلمح إلى طبيعته بسبب إغفالنا لندرته؟
ونجد من بين أسباب هذه الصعوبة التي نُواجهها أننا لا نعرف كيف نتحدَّث عن الاتصال مستقلًّا عن اللغة، نحن ننظر إلى التناظر بين الكلمات والعبارات في صيحات الحيوان، ونبحث لمعرفة ما إذا كانت الإيماءات لها معانٍ، ونرى أن توليف وتتابُع الصيحات والإيماءات بمنزلة إشارة إلى بناء نحوي بدائي، وقد يبدو هذا في ظاهره مجرد امتداد للمنهج المقارن: البحث عن السوابق التطورية لهذه القسمات اللغوية، ولكن ثمة مشكلة نتيجة استخدام اللغة نموذجًا لتحليل الاتصال بين الأنواع الأخرى تأسيسًا على نظرةٍ متأخِّرة إلى ما حدث في الماضي؛ إذ يقودنا هذا إلى معالجة كلِّ أشكال الاتصال الأخرى باعتبارها استثناءً لقاعدة مَبنية على حالةٍ هي ذاتها الحالة الاستثنائية وحدَها والمنحرفة عن كل ما سواها، ولن نجد منهجًا تحليليًّا أكثر فسادًا من ذلك، إن الاتصال الاجتماعي موجود ما وُجِدَت الحيوانات للتفاعل وتتكاثر جنسيًّا، وكذلك الاتصال الصوتي موجود دائمًا ما وُجِدت على الأقل الضفادع وهي تنقُّ بصيحاتِ التزاوج في عتمة الليل، ولكن الاتصال اللساني أو اللغوي فيمكن وصفه بأنه حدث متأخِّر، جاء تاليًا منذ عهدٍ قريب جدًّا، ويُمثل انحرافًا ذا خاصية بنيوية مميزة عن نموذج الاتصال القديم التقليدي. وليس بالإمكان النظر إليه باعتباره نموذجًا ملائمًا وصحيحًا بحيث نُقيِّم على أساسه أشكال الاتصال الأخرى، إنه الاستثناء النادر وليس القاعدة، واستثناء شاذ على غير القياس، ويُمثل هذا انحيازًا للمحورية البشرية نفهم أسبابه؛ بيد أنه يشوش ويطمس أكثر مما يفسر ويوضح، ونرى أنَّ اللغة خاصية مُشتقة، ومن ثم يتعين تحليلها كاستثناءٍ لقاعدةٍ أعمَّ وليس العكس.
وإن معالجة أصوات وإيماءات الحيوانات باعتبارها فئات دُنيا من اللغة ليس من شأنها فقط أن تعكس اتجاهات متوالية السوابق التطورية، بل إنها تقلب رأسًا على عقب تبعيتَها الوظيفية أيضًا، ونحن نعرف أن الاتصال غير اللغوي لدى الحيوانات الأخرى شيء واضح ومُكتفٍ بذاته، وليس بحاجةٍ إلى دعمٍ لغوي للمساعدة على اكتساب هذه اللغة أو تفسيرها، ويصدُق هذا حتى على الأصوات البشرية من مثل النشيج أو حركات الوجه عند الابتسام، ولكن على العكس من ذلك، إن اكتساب اللغة يعتمِد بشكلٍ حاسم على الاتصال غير اللساني بكل أنواعه بما في ذلك الكثير مما تحددت خصائصه نظريًّا ونظائره غير البشرية، وليس هذا فحسب، بل إن الاتصال غير اللفظي واسع النطاق يُمثل عنصرًا جوهريًّا كدعامة للاتصال اللغوي اليومي. وجدير بالذكر أننا في المحادثات وعمليات العرض والشرح نستخدِم الكلمات ونستخدِم معها على نطاق واسع التنغيم والإشارة والإيماءات والتفاعُلات مع الأشياء والناس بهدف إزالة اللبس عن رسائلنا المنطوقة، ولكن مع الحدث التاريخي المُتمثل في اختراع الكتابة، ومعه فقط، حظِيَت اللغة بقدْر جزئي من الاستقلال عن هذا الدعم غير اللساني، وتُمثل اللغة في سياق ما عداها من أنماط الاتصال، نسلًا تابعًا يتَّصف بقسماتٍ غاية في الغرابة.
ولكن إذا كانت اللغة قد نشأت وتطوَّرت بعد مُضيِّ مئات ملايين السنين من النجاح بأنماطٍ غير لسانية من الاتصال الصوتي، وباتت الآن تُحقق وظيفتها بفضل وجودها فقط، فإن هذا الرأي من شأنه أن يُحذرنا من أن نعكس العلاقة ومعاملة اللغة باعتبارها المعيار الذي نقيس عليه الأشكال الأخرى. إن اللغة لم تكن تجاوزًا ولا بديلًا عن أشكال الاتصال الأخرى، ولكن اللغة نشأت وتطوَّرت في توازٍ وتلازُمٍ مع الصيحات والإيماءات واعتمدت عليها. والحقيقة، ربما أن اللغة والكثير من أشكال الاتصال البشرية غير اللسانية تطوَّرت معًا على نحوٍ مشترك (علاقة دينامية سوف نُناقشها فيما بعد)، وهذا ما يؤكِّده واقع يتمثَّل في استمرار بقاء نظُم فطرية للصياح والإشارات تُضارع ما هو متاح للرئيسات الأخرى، ونراها موجودة جنبًا إلى جنبٍ مع اللغة عندنا نحن البشر، ويظهر لنا التكامُل فيما بينهما والتمايز إحداهما عن الأخرى أيضًا من واقع أن كلَّ الصيحات والإشارات تَنتج عن مناطق في المخ مختلفة وليست مشاركة في إنتاج الكلام وفهم اللغة، (وسوف نعرض تفاصيل هذه الاختلافات في الفصول ٨–١٠)، وإن هذه النظائر البشرية المناظرة للصيحات والإشارات الفطرية لدى الأنواع تُقدِّم من نواحٍ كثيرة أفضل مصدرٍ لعمليات الحدس الخاصة بهذا الفارق؛ إذ — على سبيل المثال — من سوف يشقّ على نفسه ويفكر في إمكانية النظر بشكلٍ ما إلى الابتسامات، والعبوس، والضحكات، وأصوات النشيج، والأحضان، والقُبلات، وكل ما عدا ذلك من اتصالاتٍ غير لسانية عامة وشائعة بين البشر باعتبارها كلمات دون بنية نحوية؟
اللغة لا تنفرِد بالدلالة ذاتها؛ إذ إنها شاملة في كل اتصالٍ بين الحيوانات، وأكثر من هذا أن أي عرضٍ يُمكن أن يُشير إلى شيءٍ آخر غير ذاته وغير حالة الجسد الذي نتج عنه هذا العرض، ولنأخذ كمثالٍ الضحك عند البشر: عرَض دالٌّ على أن صاحبه في حالة سرور بالغ، ويُعتبر الضحك مثالًا مُمتازًا لصيحة بشرية فطرية، (وسوف أعود في فصولٍ تالية إلى تحليل كلٍّ مِن تطوُّر وفسيولوجيا هذا الصوت)، وهذا الصوت شأن غيره من الأصوات يلزم أن يكون ناتجًا عن قصد، وغالبًا ما ينفجر تلقائيًّا حتى وإن حاول المرء كتمانه إذا كان السياق الاجتماعي يستلزم منه ذلك، ونحن كثيرًا ما نلجأ إليه كوسيلةٍ للتعبير عن مشاعر أثارتها فينا دعابة أو موقف اجتماعي مُثير للحرج، ولكن الضحك يُشير أيضًا إلى أمور أخرى، مثال ذلك حين يدخل شخص ما إلى قاعة ويجد من فيها يضحكون، فإن هذا يُشير إلى أن من المُحتمل أن الحضور سمعوا أو رأوا شيئًا مُثيرًا للضحك في الخارج، قبل دخوله، ويُشير الضحك هنا إلى الشيء الآخر الذي أثار الضحك، ويُحدد الضحك بعض الخصائص التي ربما تكشف عن حقيقة السبب، إنه يقينًا ليس مصدر أسًى، ولا هو مشهدًا مثيرًا للاشمئزاز أو النفور، وليس خطرًا حقيقيًّا … وهكذا، إنه يُصنف الحدث الذي أثاره من خلال ما يُفيده الضحك لنا عن حالة الضاحك، ويُشير إلى فئة مُحددة من الخبرات التي من شأنها أن تُثير الضحك، ولكن حريٌّ أن نلحظ مدى اختلاف الدلالة عن الحدث ذاته عندما يتوقف شخصٌ عن الضحك، ويقول: «سمعتُ للتوِّ دعابة عظيمة.» وتشير صيحات التحذير إلى موضوعاتٍ على نحوِ ما يشير الضحك، وليس كما هو الحال بالنسبة للكلمات.
وإن بعض القسمات الحاسمة التي تُميز الأشكال العفوية (غير القصدية) للاتصال عن أشكال الاتصال القصدية، هي خاصية مميزة للضحك. يزوِّد الضحك الآخرين بمعلوماتٍ عن الحالة الذهنية للضاحك وعن التاريخ القريب، ولكنه أيضًا له تأثيره المباشر أكثر من ذلك يتمثل في نوعٍ من الدفع إلى الضحك على نحوٍ لا يُقاوَم، ونحن نعترف بذلك في الغالب الأعم؛ إذ نقول: إن الضحك مُعدٍ، وإذا حدث وجلس المرء في قاعةٍ تغصُّ بضاحكين، سيجد من العسير عليه ألا يضحك هو الآخر، حتى وإن لم يكن سبب ضحكهم واضحًا له تمامًا، ونظرًا لما يتَّسم به هذا الدافع الغريب من قوةٍ تم تصنيع جهازٍ آلي ينبعث منه ضحك اصطناعي (من مثل صندوق الضحك أو شريط الضحك المُستخدَم كخلفيةٍ في التلفاز)، وذلك لحث المشاهدين على الضحك على الرغم من إدراكهم أنه ليس ضحكًا حقيقيًّا، وحتى نضع الملح على الجرح فيما يتعلق بإحساسنا بالسيطرة على النفس، نجد أن الضحك المصطنع يدفعنا عمليًّا إلى الشعور بأن الأمر مُثير للضحك نتيجةً لسماعنا له، وجدير بالذكر أن هذه القوة اللاإرادية الدافعة إلى الضحك نجِدها قاسمًا مشتركًا بين الكثير من الإشارات الاجتماعية الفطرية، من بينها النشيج، وتكشيرة الوجه … إلخ. ويتناقض هذا على نحوٍ صارخ في الاتصال اللغوي العادي الذي لا نجِد فيه هذا النزوع لتكرار الحدث كصدًى لحدث آخر مُماثل؛ إذ إننا لا نُكرر كالببغاء ما سمعناه من شخصٍ آخر، بل إن مثل هذه الاستجابة تُثير ضجرًا غير مُعتاد، وكم هو غريب وغير طبيعي أن يدخل امرؤ قاعةً الحضور فيها يردُّدون بعضهم كلام بعض كأن كلًّا منهم صدًى للآخر، وبالطريقة نفسها حين يأتي الضحك صدًى لضحك الآخرين، ولعلَّ هذا هو السبب في أنَّ بعض الممارسات الشعائرية التي تستخدِم مثل هذه الأنماط في استخدامات اللغة تكون في آنٍ واحدٍ مثيرة للقلق وقوية؛ اعتمادًا على إحساس المرء بما إذا كان مُتضمنًا فيها أم مُستبعدًا.
لذلك، وفي ضوء ما سبق، فإن مثال صيحة التحذير لقرد الفرفيت تُمثل دليلًا زائفًا. إن الدلالة ليست هي الفارق بين الكلمات وصيحات التحذير؛ إذ يمكن أن يُشيرا معًا إلى أشياء في العالم، ويمكن أن يُشيرا معًا إلى حالات باطنية، ولكنَّ ثمة فارقًا، هذا الفارق هو مصدر القطاع الأكبر من سوء الفهم بشأن طبيعة الاتصال اللساني مُقابل غير اللساني، إنه فارق من حيث نوع الدلالة، ونحن نَميل إلى الخلط بين أشكالٍ مختلفة من الدلالات بعضها مع بعض، أو بدلًا من ذلك أن نفصل الاتصال الدلالي مقابل غير الدلالي، بدلًا من أن نعرف أن أنماط الدلالة يمكن أن تختلف، ويمكن أن تعتمِد بعضها على بعض بوسائل معقدة، وليس لنا أن نعقِد الأمل في عمل مقارناتٍ ملائمة بين أشكال الاتصال البشري المختلفة ناهيك عن عمل مقارناتٍ بين اللغة البشرية وأشكال الاتصال المُغايرة لدى الأنواع الأخرى؛ إذ لا نستطيع ذلك ما لم نتخلَّص من هذا الخلط ونكتشف مكونات هذا الاختلاف بالدقة والتحديد.
مشكلة المرجعية
ولعل التعرف على هذا الفارق بالدقة والتحديد لم يكن أكثر صعوبةً عما هو عليه في الدراسات التي حاولت تعليم الأنواع الأخرى استخدام اللغة، وليس هناك من يشكُّ في أن الببغاء حين يردِّد: «طير جميل» أنه يعرف حقيقة أن هذه الأصوات من المُفترض أن تشير إلى مظهره (أو لأي طائرٍ آخر)، لقد تعلم محاكاة صوت الكلمات، هذا كلُّ شيء بالنسبة له، لقد اعتاد أحيانًا في الماضي أن يتلقَّى مكافأة على توليد هذه الجُملة (حتى ولو بالعائد الغريزي مُحاكاة صوت كما تفعل بعض الببغاوات في البرية) ويردِّده الآن تلقائيًّا، ولكن ماذا لو علَّمناه أن يقول: «بسكوتة» وتلقى قطعة بسكوت هدية مع كل مرةٍ يُردد فيها الكلمة؟ من المفترض أنه إذا أراد بسكوتة سيُردد الكلمة، هل ثمة اختلاف في هذا؟ وهل لنا أن نقول الآن: إنه يعرف معنى الكلمة؟
نعود فنقول: إنه بالإشارة إلى تفسير الصيحة أو الإيماءة بأنها هي «المعنى» إنما يكشف عن الانحياز اللغوي المُتحجِّر الذي ينوي عليه تحليلنا للاتصال؛ إذ على الرغم من أن الكلمات والجُمَل لها معانٍ، إلا أن ثمَّة شيئًا غريبًا عند قولنا: إن الضحك له معنًى، ولكن القول الأدق هو أن ضحك الشخص يُشير إلى شيءٍ ما، سواء عن الشخص وأيضًا عن السياق، وحريٌّ أن نقنع بالقول: إنه يعني شيئًا (إلا إذا التزَمْنا عبارة مجازيةً فضفاضة) وفق ظروفٍ خاصة حال استخدامه كعلامةٍ مُتفق عليها سابقًا: مثال إشارة لشخصٍ ما للدخول إلى القاعة، وننزع هنا أيضًا إلى القول: إنه يُشير إلى اللحظة الصحيحة للدخول، وليس معناه «ادخل».
وجدير بالذكر أن فلاسفة عديدين من المَعنيِّين بقضايا اللغة والعقل أسَّسوا فكرهم على هذه الرؤية النافذة الأصيلة، ويدفع أحد الآراء الكلاسيكية بأن المفاد (المعنى الذهني الباطني) يجري استخدامُه لتحديد الدلالة والمدلول أو الماصدق، ويتَّسق هذا مع الحسِّ المشترك المُتمثل في البصيرة النافذة التي ترى أن ما تُشير أو تدلُّ عليه كلمةٌ ما هو نتاج فكرةٍ مُتضمنة فيها ونستحضِرها من الذهن، وهنا تبزغ أسئلة واضحة: ماذا نعني بالفكرة في هذا السياق؟ وكيف يُحدد هذا الدلالة؟ ثمة تأويلات مقترحة «للفكرة» تشتمِل على صورٍ ذهنية، وترابُطات بين منبهٍ، ومنبه، شيء أشبَهُ بقاموس تعريفات أو دليل موسوعة معارف، أو قوائم مراجعة «لقسمات» أو صفات الموضوعات. ويمكن لكل منها أن يكون له دور ما، ولكن كيف يمكن لمِثل هذه الموضوعات الذهنية أن تستخرِج الموضوعات المادية الخارجية أو أن تظلَّ — إذا ما فعلت — مشكلةً فلسفية شائكة.
ولكن من المهم الإشارة إلى أن صيغةً من هذا المنطق أكثر دقةً ربما تُفسر تطوُّر حلقة ربطٍ بين صيحات النذير والحيوانات المفترسة، وبين خبرات الضحك والهزل عبر تاريخ تطوُّري بيولوجي. ويُبرهن هذا على أن الدلالة بوجهٍ عامٍّ لا تستلزم مفهومًا واعيًا أو معنًى لتحديدها، ولكن بينما يمكن لابتسامةٍ أن تكشف فقط عن هذا الجانب من الدلالة، يبدو أن الكلمات تكشف عن هذا وعما هو أكثر منه، بعبارة أخرى: يمكن أن يكون للدلالة نوع من الطابع التراتُبي، وإن طريقتنا التي نشعر فيها في الغالب الأعم بحاجةٍ إلى إيماءات غير لفظية للوصول إلى معنى الأشياء أو لتفسير ما يجول في ذهننا إنما هي انعكاس آخر لما نراه من اعتماد دلالة الكلمة على أشكال للدلالة أكثر أساسية.
معنى هذا ضرورة توفر المزيد من المصطلحات الأكثر تعقدًا حتى نشرع في التمييز بين طريقة الكلمات في الدلالة على الأشياء مقابل الضحك وغير ذلك من إشارات غير لغوية. نحن بحاجةٍ إلى مصطلحات تنفُذ إلى أساس دلالة الكلمة التي يمكن أن تكون دلالة الكلمة مُشتقَّة منها كحالةٍ خاصة، ما دامت هذه هي الطريقة التي تطورت بها وتتطوَّر بها في كلٍّ منَّا. إن الكلمات ليست مجرد أصوات، أو تشكيلات بالحبر على الورق، أو ضوء على شاشة الحاسوب، وإن ما يُضفي على هذه الأشياء من الجوامد في أصلها قدرة على الإشارة إلى أشياء أخرى هي عملية تأويلية، والتي هي جزء حاسم (وإن لم تكن كلَّ شيء) يجري داخل الرأس، وطبيعي أنني إذا كنتُ عاجزًا عن إحداث استجابةٍ تأويلية رمزية ملائمة إزاء كلمة أجنبية غير مألوفة، فإنني أستطيع الاكتفاء فقط باستخدام حدَثٍ مشترك مادي لتخمين الأشياء أو الأحداث التي يمكن أن تكون وثيقة الصلة بما قيل. وواضح أن ما يُمايز قدرة كلبٍ على إدراك نوع ما للدلالة من إحدى العبارات وبين قدرة شخصٍ على الوصول إلى ذلك الإدراك وإلى ما هو أكثر منه إنما هو نتاج شيءٍ إضافي تولَّد داخل رأس الشخص؛ لذلك من المُمكن أن مثل هذا النهج في تناول المشكلة أن يفيد في تحديد وجه التمايز.
إذن، ما بعض الأدوات الشارحة للكلمات؟ لعلَّ النظرة الأكثر شيوعًا بشأن معنى الكلمة هي تلك التي ترى أن الكلمة يجري تأويلها حال تولُّد صورةٍ ذهنية عن شيءٍ ما تُشير إليه الكلمة، مثال ذلك صورة كلبٍ مألوف لدى المرء لهذا الكلب، أو لشخصٍ يقذف كرة البيسبول إلى «رامي الكرة»، وعلى الرغم من أن الصورة التخيُّلية الذهنية سبق مُعالجتها باعتبارها نوعًا من حواديت الجان لنزعةٍ استبطانية، فإنها في السنوات الأخيرة أضحت مفهومةً باعتبارها خبرة لها روابط عصبية وسلوكية واضحة، وإن المواقع «النسبية» المُميزة لموضعٍ متخيَّل أو لحجمِه أو شكلِه أو حركته في الصورة الخيالية أو غير ذلك من التغيُّرات يمكن أن يكون لها تأثير مباشر على مثل هذه العوامل، مثل الزمن والجهد اللازمَين لتدبُّر هذه القسمات، وأي أجزاء من المخ مشاركة في ذلك، بيد أن الصورة الذهنية المُتخيلة (أو العملية العصبية التي تؤلِّفها) ما هي إلا نوع من الاستجابة التأويلية التي يُمكن أن تتسبَّب فيها الكلمة، وربما لا تكون هي الاستجابة التأويلية الأهم.
ولكن على الرغم من أن تولُّد صورة ذهنية قد لا يكون نتاجًا حتميًّا لفهم كلماتٍ بعَينها، فإن الوسيط ليس هو ما يُميز الدلالة الرمزية، كذلك يُمكن أن تكون الصورة الذهنية العمل التأويلي الأولي في العديد من العمليات غير الرمزية للدلالة، مثال ذلك شمُّ رائحة ظربان أمريكي أثناء السير داخل الغابة يمكن أن يُولِّد في الذهن صورة ذهنيةً لرائحةٍ نتِنة، وهو ما يمكن أن يحدث لكل مَن سبق له أن عايش رائحة نتِنة مُماثلة، ولكن كلبًا لديه خبرة أكثر أو صاحب كلبٍ ربما يجِد أن الرائحة تتسبَّب في استجابة اشمئزاز ونفور من شأنها — مثل الصورة الذهنية — أن تُسهم في العلاقة الدلالية. معنى هذا، وعلى المِنوال نفسه أن الرائحة تُشير إلى الحيوان نتيجة صورة ذهنية، هنا الرائحة بالنسبة لكلٍّ من الإنسان والكلب اكتسبت هذه الدلالة من خبراتٍ خاصة برائحة مُماثلة في الماضي، بيد أن جروًا ساذجًا أو صغيرًا ليست لديه هذه الخبرة الماضية لتكون أساسًا للتفسير، فإن الرائحة لن تكون بالنسبة له سوى رائحةٍ نفَّاذة. وطبيعيٌّ أن مجرد قراءة هذه الكلمات يمكن أن يستحضر إلى الذهن صورةً بصرية ما أو صورة رائحة مُماثلة، يؤكد هذا أن الشيءَ ليس هو الذي يُفضي بنا في النهاية إلى الدلالة، ولا الصورة المشتركة التي استحضرها الذهن هي التي تُحدد الفارق بشأن طرق الكلمات والروائح في اشتقاق دلالتها، وإنما على الأصح كيفية تَولُّد هذه الاستجابات، ولكن بالنسبة لهذه الكلمات، ثمة ما هو أكثر، ثمة أدوات شارحة إضافية حاسمة من حيث القدرة الرمزية، كما نجد قدرًا كبيرًا من التعلم الإضافي قد تدخَّل لكي يجعل إنتاجها ممكنًا.
وعندي أن هذه التجربة تثبت الطبيعة البسيطة والميكانيكية لهذا الشكل من الدلالة، كذلك كيف أن قسماتها الرئيسية — الترابُطات المكتسبة عن طريق التعلم، والتعسفية، والدلالة، وانتقال المعلومة من فردٍ إلى آخر — ليست كافية لتحديد الدلالة الرمزية. إن أي طالب جامعي من النُّبهاء يُمكنه أن يكتب برنامجًا موجزًا للحاسوب أو أن يُنشئ جهازًا ميكانيكيًّا بسيطًا بديلًا عن الحمام. ومع هذا فإن منظومةً مؤلفة من عشرات الإشارات المرتَّبة في مثل هذه العلاقات المتداخلة لتربط الواحدة بالأخرى، ومتصلة بالأحداث والموضوعات ذات الاهتمام عند الجميع، يمكن أن تكون منظومة اتصالٍ قوية فعالة، وثمة احتمال أن جزءًا مهمًّا من الاتصالات المُستخدمة بين كثيرٍ من الحيوانات ذات المرتبة الاجتماعية العالية إما أن يكون متوقفًا كليًّا أو جزئيًّا على استخدام الإشارات بهذه الطريقة، وليس مهمًّا إن كان اكتسابها جاء عن طريق التعلُّم وعلى نحوٍ تعسفي مثلما هو الحال بالنسبة للإشارات التي تعلمها الحمام، أو كانت فطرية ومرتبطة ماديًّا بحالة إثارة. ونعرف أن الكثير من قطعان الحيوانات في البرية تكشف عن سلوكياتٍ اجتماعية مُتغيرة حسب الأقاليم، وتكشف في اتصالاتها عن الكثير مما اكتسبته عن طريق التعلُّم وانتقل عن طريقها من فردٍ إلى آخر عن طريق المحاكاة والترابط، بيد أن مثل هذا النظام ليس مجرد كلمات بدون بناء نحوي.
وتشتمل الصيحات الفطرية على شيءٍ ميكانيكي، وكذا على سلوكيات مكتسبة بالتعلُّم القائم على الاستظهار، ولدينا في الخبرات الخاصة بالتعلم حسٌّ بالفارق بين ما تعلَّمناه عن طريق الاستظهار وبين ما نقول عنه «نفهم». مثال ذلك ما يحدث في مراحل مختلفة من تعلُّم الرياضيات؛ إذ غالبًا ما نجد أنفسنا نتعامل مع رموزٍ وأعداد وفق تعليماتٍ مُعينة لها خصائص مميزة، وعلى الرغم من توصُّلنا إلى الإجابة الصحيحة إذا ما التزمنا بالتعليمات بدقة، فإننا نعرف في النهاية ماذا فعلْنا دون أن نعرف ما الذي فعلناه؟ إذ ليس لدَينا وضوح بشأن المفهوم. وأجد عمليًّا أن هذه الخبرة أصبحت أكثر أُلفةً بالنسبة لي نتيجة استخدام أجهزة الكومبيوتر والآلات الحاسبة، حتى إنها أصبحت الآن مُكمِّلاتي الصناعية التي لا غِنَى عنها. إنني أطبع حزمة من الأعداد وأنتقي بضع عملياتٍ حسابية، ويستعيد الذهن سلسلةً من القيم والرسوم التخطيطية. وعرفتُ ذات يومٍ لماذا أنتجت عملياتٌ بعينها النتائج التي أصل إليها الآن بعد عدة نقراتٍ على لوحة المفاتيح؛ إذ تعلمتُها بالطريقة الصعبة الجافة، أي الاستظهار، إلى أن اكتشفت الدلالة، بيد أن القسط الأكبر من هذا الدعم يكاد يكون قد زال من الذاكرة، ولم يتبقَّ لي غير معرفة أنه بالضغط على أزرارٍ مُعينة حسب ترتيبٍ مُحدد أصل إلى ما أنا بحاجةٍ إليه ولم أعد أُقلِق نفسي بالسؤال: لماذا.
وهذا هو عين حدسنا الفطري بشأن الكلمات. إن الأطفال إذ يُحاولون التأثير في أصدقائهم (أو الباحثين يُحاولون التأثير في زملائهم) ربما يُكرِّرون عبارةً اصطلاحية سمعوها في محادثة ما دون أن يعرفوا على وجه الحقيقة ماذا تعني؟ وغالبًا ما تؤتي ثمارها إذا وردت في سياق صحيح، وما دام ليس هناك من يسأل أسئلة كثيرة ولكن التطبيق محدود النطاق، ونعرف أن من بين سبل تعلم معانٍ جديدة هو استبيان حقيقة السياق الصحيح، بيد أن معرفة خمسة أو ستة سياقات لعبارةٍ واحدة ليس من شأنها أن تُغيِّر الطبيعة السطحية الظاهرة للدلالة، كذلك فإن تعلم المزيد والمزيد من السياقات الصحيحة لا يؤلِّف في ذاته فهمًا للمعنى أو المَغزى وأهميته، ومع ذلك فإننا حين نعرف معنى العبارة فإن مشكلة تذكُّر جميع السياقات التطبيقية تُصبح غير ذات صلة، ويمكن في الوقت نفسه أن نرى مباشرةً عددًا لا حصر له من السياقات الجديدة باعتبارها صحيحةً وملائمة، وإن ما نجِده فيما بين هذَين البديلَين ليس مجرد زيادةٍ كمية، بل تغيُّرٌ جذري في استراتيجية الإدراك المعرفي.
ولكنَّ ثمة إدراكًا بأن جميع الأمثلة من غير اللغات التي ناقشناها تتضمَّن بالضرورة درجةً من الترابط، وهو ما يُمثل مفتاحًا مُهمًّا؛ إذ لو أن الببغاء لم يعُد يحصل على طعامٍ كلما ردَّد «بسكوت»، أو لو أن الكلب لم يعُد يسمح له صاحبه بالخروج عندما يتشمَّم بأنفه أُكرة الباب، فإنهما في النهاية سيتوقَّفان على الأرجح عن إصدار هاتَين الإشارتَين، وإذا حدث كلما هممتُ بالخروج من البيت أن قلتُ لكلبي: «هل تريد طعامًا؟» فإنني أشكُّ في أن الأمر سيحتاج إلى وقتٍ طويلٍ منه لكي يعكس عاداته القديمة في التفسير، كذلك لو حدث أن اختفت الحيوانات المفترسة التي تفترِس قردة الفرفيت في إفريقيا فإن التطوُّر في المستقبل سوف يشهد اختفاء صيحاتِ النذير لقردة الفرفيت من مخزونها (أو ربما يجري توظيفها لغرَضٍ آخر)، إن كل شيءٍ رهنُ ترابط مُستقر نسبيًّا مع ما تُشير إليه لكي تُشير إلى المطلوب.
ولا يصدُق هذا على الكلمات، أو ليس بالطريقة نفسها؛ إذ لو أن استعمالنا للكلمات أخفق في التطابُق بطريقةٍ ما مع الأشياء الموجودة في بقية العالَم، فسوف يقلُّ استعمالها لقلة فائدتها، ولكن ثمة شيئًا غريبًا فيما يتعلَّق بهذا التطابق عند مقارنته مع كلٍّ مِن المثالَين السابقَين؛ إذ لو أن استخدامي لكلمة «ظربان» هدفه الإشارة إلى حيوانٍ بعينه، واستمر استعمال الكلمة مقترنًا بهذا الكائن حال وجوده، واستُعمِلت الكلمة ولو بنسبةٍ مئوية ضعيفة من عددٍ من المرات (أو بعبارة أخرى، إذا كان لا بدَّ من توفر علاقة مادية)، إذن فإن الاقتران كان لا بد أن ينطفئ منذ زمنٍ طويل؛ ذلك أن الاقتران المكتسَب عن طريق التعلُّم يضعف أكثر فأكثر ما لم يدُم حدوث المُنبهات المشتركة بدرجةٍ قوية إلى حدٍّ ما، إنني نادرًا ما وجدتُ نفسي بصحبة أفرادٍ من هذا النوع، لو قُدر لي تحمُّلها، ومع ذلك أراني أتحدَّث عنها كثيرًا، وعلى الرغم من ذلك ليس لديَّ انطباع بأن قوة الرابطة الدلالية بين الحيوانات والاسم أقل تأثيرًا من الرابطة بين كلمة «إصبع» وإصبعي من لحمٍ ودمٍ الموجود دائمًا، ثمة نوع ما من التطابُق بين الكلمة والموضوع، ولكنه لا ينبني على أساس علاقة ترابُط مادي.
ونحن لكي نفهم هذا الفارق نحتاج أن تكون لدينا قدرة على وصف الفارق بين الاستجابات التفسيرية القادرة على إدامة الترابُطات بين كلمةٍ ودلالتها، بغضِّ النظر عما بينها من ترابط في الخبرة، وبغضِّ النظر كذلك عن الترابُطات التي تحدُث عن طريق الاستظهار التي تترسَّخ أو تنحلُّ وفقًا لما تُمليه الخبرة، ونحن حين نفسر معنى ودلالة كلمة أو جُملة، فإننا نُنتج ما هو أكثر مما يصدُر عن الببغاء حال طلبِه بسكوتة أو ما يصدُر عن الكلب عند تفسيره لأمرٍ صدر إليه، وهذا «الشيء الأكثر» هو ما يؤلِّف أهليَّتنا وكفاءتنا الرمزية.