الرموز ليست بسيطة
ضحكَت أليس وقالت: «لا جدوى من المحاولة: ليس بوسع المرء أن يُصدِّق أمورًا مستحيلة.»
وقالت الملكة: «لديَّ الشجاعة لأقول: إن ليس لديك القدْر الكافي من المُمارسة. عندما كنتُ في مثل عمرك اعتدتُ المواظبة عليها نصف ساعةٍ بشكلٍ دائمٍ كلَّ يوم، أما لماذا فذلك لأنني كنتُ أحيانًا أومِن بستة أشياء مُستحيلة قبل الإفطار.»
الطبيعة التراتُبية للدلالة
ولا تُوجَد موضوعات بذاتها هي بطبيعتها أيقونات أو مؤشرات أو رموز، وإنما نحن الذين نؤوِّلها على هذا النحو أو ذاك اعتمادًا على الاستجابة المُترتبة عليها، ولنا أن نقول بعبارة بسيطة: إن الفارق بين العلاقات الأيقونية والقائمة على دليل موضوعي والرمزية، مُشتقة من النظر إلى الأشياء، سواء من حيث شكلها أو علاقاتها المُشتركة مع أشياء أخرى، أو اندماجها في منظوماتٍ من علاقات تمَّ الاصطلاح عليها.
ونحن حين نستخدِم هذه المصطلحات للإشارة إلى أشياء بعينِها من مثل وصف قطعة نحتٍ مُحددة بأنها أيقونة، أو جهاز قياس السرعة نُسميه مؤشرًا أو معطف الفرسان بأنه رمز، فإننا بذلك نُسهم في نوع من الاختزال المُضمر، ونعني بذلك عادة أنه جرى تصميمُها هكذا بُغية تأويلها على هذا النحو، أو أن الاحتمال الأكثر ترجيحًا أن نؤوِّلها على هذا النحو. معنى هذا أن مجرد التشابُه المُثير للانتباه، كمثال، ليس من شأنه أن يجعل شيئًا ما أيقونةً مُمثِّلةً لشيءٍ آخر، ولكن فقط عند تأمُّل قسمات شيء فإنها تستحضر الآخر للذهن، وأن العلاقة بينهما توصَف بالأيقونية بسبب هذا التشابُه، ومن ثم فإن التماثُل، ليس سببًا للعلاقة الأيقونية، كما أن وصف الأيقونية ليس هو العلاقة المادية للتماثُل، إننا هنا إزاء ضربٍ من عمليةٍ استدلالية مَبنية على أساس إدراك تماثُلٍ مشترك. وجدير بنا الإشارة هنا إلى ما يُوضِّحه نقَّاد مفهوم الأيقونية؛ إذ يُقررون أن بالإمكان في الغالِب الأعم اعتبارَ أيِّ شيءٍ أيقونةً مُمثلة لأي شيء آخَر، والأمر رهن غموض التماثُل موضوع التفكير.
ويتجلَّى هذا واضحًا عندما نتأمَّل أمثلةً تسمح لمفسِّرين مُختلفين بتفسير العلامات نفسها بدرجاتٍ متفاوتة، ولنا على سبيل المثال أن نتأمَّل عالم الآثار، إذ يكتشف بعض العلامات المكتوبة بالتفصيل فوق عددٍ من ألواح الطين، سيكون طبيعيًّا أن يفترِض أن هذا النقش نوعٌ من الكتابة البدائية، ولكن الباحث الأركيولوجي الذي لم يتوفَّر له بعدُ دليلٌ مثل حجر رشيد لفك شفرة النقش لا يُمكنه تفسير النقش على اعتبار أنه رموز، ويقنع الباحث الأركيولوجي باستنتاج أن هذا النقش كان قابلًا للتفسير رمزيًّا لدى شخصٍ ما في ماضي الزمان، ذلك أن خطوط النقش تُشبه رموزًا نراها في سياقاتٍ أخرى، ونظرًا لعجزه عن تفسيرها رمزيًّا، فإنه يُفسرها أيقونيًّا. وجدير بالذكر أن بعضًا من أقدم منظومات النقش في حضارات الشرق الأوسط؛ حيث الهلال الخصيب أمكن التوصُّل إلى معناها من خلال سياقاتٍ يسَّرت لنا مفاتيح جديدة لما تُمثله؛ إذ وجد العلماء مجسَّمات صغيرة من الطين عليها علامات محفورة ومُتكررة، ثم تمَّ وضعها في أوانٍ محكمة الغلق ومُرفقة بسلعٍ تجارية مُرسلة من مكان إلى آخر، وتُيسِّر للباحثين من خلال اقترانها ماديًّا بالمصنوعات دليلًا كاشفًا يُوضح المزيد من التفسيرات الخاصة بها، وبدا واضحًا أن عددًا من العلامات المختلفة تُشير إلى عدة مناظر مِن السلع المُرسلة في الشحنة، ربما أرسلها من تسلَّم الشحنة للتأكيد على أن جميع السلع المطلوبة تم استلامها. ولم يعُد الأمر قاصرًا على العلامات الشبيهة بالكتابة ذات الطابع الأيقوني؛ إذ أصبح بالإمكان الآن وضع تفسيراتٍ على أساس الدليل الموضوعي أو تفسيرات رمزية اجتهادية؛ نظرًا لتوفُّر ما هو أكثر من مجرد التشابُه.
يبرهن هذا على صدق واحدةٍ من أهم الاستبصارات الأصيلة والأساسية التي قال بها بيرس بشأن عملية التأويل. يمكن فَهم الفارق بين أنماط المرجعية المُختلفة في ضوء مستويات التأويل، ومن ثم فإن الانتباه إلى هذا الوجه التراتُبي للمرجعية أمر جوهري لفهم الاختلاف في طريقة العلاقة بين الكلمات وصيحات الحيوان، وليست المسألة فقط تتعلَّق بالقُدرة على تأويل العلامة الواحدة بطرُق مختلفة — وهو الأهم — أن هذه التأويلات المختلفة يمكن ترتيبها في نوعٍ من التنظيم الصاعد الذي يعكس كفاءةً سابقة في تحديد علاقات ترابُطية أعلى مستوًى، أو لِنَقُل بعبارة أخرى: إن المرجعية ذاتها ذات بنيةٍ تراتُبية، وإنَّ ثمة أشكالًا للمرجعية الأكثر تركيبًا مَبنية تصاعديًّا ابتداءً من الأشكال الأبسط، ولكن ثمة ما هو أكثر من مجرد زيادة درجة التعقُّد. إن هذه البنية التراتُبية مفتاح العلاقات بين أنماط المرجعية المختلفة، إنني حتى وإن تعذَّر عليَّ إدراك المرجعية الرمزية لعلامةٍ ما، فإنني لا أزال قادرًا على تأويلها باعتبارها دالةً أو مؤشرًا (من حيث علاقتها المشتركة مع شيءٍ آخر)، كذلك إذا أخفقتُ في إدراك أي تطابقٍ مع دليلٍ موضوعي، فإنني لا أزال قادرًا على تأويله باعتباره أيقونةً أي صورة تمثيلية (أي إدراك التشابُه بينه وبين شيءٍ آخر)، ويُفضي تعطيل الكفاءة المرجعية إلى هبوطٍ منتظم في الدرجات من الرمزية إلى الدليل الموضوعي، ثم إلى الأيقونة وليس فقط من الأيقونات المُركبة أو الدلائل الموضوعية، أو الرموز إلى نظائرها الأبسط تكوينًا، والعكس بالعكس، فإن زيادة تعقُّد ودقَّة الكفاءة التأويلية من شأنها أن تعكس ترتيب ونظام تعطل المرجعية التي ذكرناها، مثال ذلك ما يحدُث للأطفال من بني البشر؛ إذ حين يُصبحون أكثر كفاءةً وأكثر خبرة بالنسبة للكلمات المكتوبة، فإنهم تدريجيًّا يُبدلون تأويلات الأيقونية لهذه العلامات بالانتقال إلى مزيدٍ من الكتابة المُعتمِدة على تأويلاتٍ لدليلٍ موضوعي مدعوم بإدراكهم لأوجُهِ تطابُقٍ معينة مع الصور وأصوات الكلام، ومن ثَمَّ يستخدمون في النهاية هذا كلَّه لدعم تعلُّم كيفية تأويل معانيها الرمزية، وهم بذلك يلتزمون مسارًا يُطابق إلى حدٍّ كبير مسار الباحث الأركيولوجي الذي يتعلم حل شفرات مخطوطٍ أثري.
لذلك نحن بحاجةٍ إلى أن نستهلَّ تفسير الكفاءة الرمزية بتفسير ما هو لازم؛ لكي نؤوِّل الأيقونات، ثم نبني على ذلك صاعِدين، ونعرف أن الناس عادةً يُفسرون الأيقونات في ضوء مظهرٍ أو آخر من مظاهر التشابُه بين الاثنَين. ولكن التماثل لا ينتج الأيقونية، إننا فقط وبعد أن نُدرك وجود علاقة أيقونية نستطيع القول بدقة ما رأيناه مشتركًا بين الاثنين، بل قد لا نقول حتى بعد ذلك: إن الخطوة التأويلية التي تؤسِّس لعلاقةٍ أيقونية تكون في جوهرها سابقةً على ذلك، كما أنها تكون سلبية بشكلٍ ما، وشيئًا لا نفعله نحن، ولنا أن نقول إنها فِعل عدَم خلْق تمايز. وليسمح لي القارئ أن أوضِّح ذلك في صورة مثالٍ مُتدرج نزولًا.
ولنتأمَّل حالة التعمية كما هو الحال في التلوُّن كعمليةٍ وقائية طبيعية، تُشبه أجنحة الفراشة الموجودة أعلى الشجرة حبيبات ولون لِحاء الشجرة وإن لم تكن مطابقةً تمامًا، ولكن تُمكنها من النجاة حتى لا يلتهمها طائر غير مُنتبهٍ جيدًا لها ويُفسر أجنحة الفراشة على أنها بعض جسم الشجرة. وطبيعي أننا لا نستخدِم مصطلحًا أيقونيًّا بهذا المعنى تمامًا، بيد أنني أظنُّ أن المثال يوضح المعنى الأساسي للمفهوم، وإذا كانت الفراشة أقلَّ قليلًا من حيث البراعة، أو أنها تحركت، أو كان الطائر أقل تنبهًا ويقظةً، فإن أيًّا من الاختلافات بين الفراشة والشجرة التي ستظهر واضحةً من شأنها أن تُشير إلى الطائر، ما يفيد بوجود شيءٍ آخر ليس من الشجرة، ولو كان الطائر في حالةٍ مزاجية تأمُّلية، فلربما تُفكر في وجه التشابُه الطفيف بين نمَط الجناح واللِّحاء ولو لجزءٍ من الثانية قبل أن يلتهِم الفراشة سيئة الحظ، وهنا تكون بعض قسمات أجنحة الفراشة ذات طابعٍ أيقوني من حيث تمثيلها للِّحاء، بغض النظر عن درجة التماثُل لسببٍ واحد وهو أنه كان من المستحيل تمييزها من منظور تفسيرٍ آخر (أي طائر غير مُنتبه).
ما جدوى هذا بالنسبة للصور أو لأي تشابهاتٍ أخرى من مثل التماثيل النصفية أو رسوم الكاريكاتير التي شاع بيننا النظر إليها باعتبارها أيقونات؟ التفسير ليس مختلفًا في جوهره، إن ما يجعله أيقونةً هو ذلك الوجه أو المرحلة من عملية إدراكي التأويلي التي هي ذاتها بالنسبة لأي مُخططٍ وللوجه الذي تصوَّرَه. إنني قد يسعني أن أُفكر بشكلٍ مجرد في أي جوانب المُخطط التي تسببت في هذه الاستجابة، وقد يسعني أن أتحقَّق من أن هذا كان قصد الفنان، غير أن مُخططًا لم تسبق لي رؤيته أبدًا ليس سوى ورقةٍ وقلم، ويمكن أيضًا تأويله على أنه شيء تشرَّبَ قهوة مسكوبة (ويمكن رؤية القهوة المسكوبة وكأنها تُشبه صورةً ما)، وحدثَ ذات مرةٍ أن تصوَّر بيرس أيقونةً وكأنها عند فحصِها عن كثبٍ مصدر مزيدٍ من المعلومات عن خصائص موضوعها الذي تُمثله، معنى هذا أن النظر إلى أحدهما مثل النظر إلى الآخر من بعض النواحي، مثال ذلك أن النظر إلى كاريكاتير يجعل المرء يلحظ ولأول مرةٍ أن سياسيًّا مشهورًا له فكٌّ ناتئ أو خدَّان عريضان، وطبيعي أن التبسيط في رسمٍ بياني أو المبالغة في رسم كاريكاتوري يَستثمر تراخينا التلقائي في الكشف عن أوجه التمايُز وخداعنا لكشف أوجه ترابط جديدة. وهنا — حسب هذا الأسلوب — يُشبِه رسم الكاريكاتور دعابةً ما أو نوعًا من التورية البصرية، كما يُمكن أن يصبح رسمًا تخطيطيًّا ومصدرًا لاكتشافٍ جديد.
صفوة القول: العملية التأويلية التي تتولَّد عنها المرجعية الأيقونية ليست شيئًا آخر غير ما نُسميه بعباراتٍ أخرى الإدراك المعرفي (وهو في الغالِب الأعم معرفة إدراكية حسية وإن لم تكن كذلك بالضرورة)، ويفيد بهذا كله تحليل المصطلح إلى مكوناته التي تعني معرفةً جديدة؛ أي التفكُّر (في شيءٍ ما) من جديد، ونجد أن التمثيل على النهج نفسه هو استحضار شيءٍ ما ثانيةً، وتُعتبر العلاقات الأيقونية وسيلتنا الأساسية أكثر من سواها لاستحضار الأمور مرةً ثانية، إنها القاعدة التي تنبني عليها جميع أشكال التمثيل الأخرى، إنها الأساس أو الأرضية التي تقوم عليها التراتُبية التأويلية؛ إذ يبدأ تأويل العلامة وبِذَا نراها تمثيلًا عن طريق ردِّها (أي تحليلها إلى مكوناتها التمثيلية الأولى) إلى نقطةٍ لا يمكن ردُّها أو خفضها إلى ما هو أكثر من ذلك (بسبب الكفاءة أو قيود الزمن أو بسبب قيود برجماتية)، ومن ثم تجري ترجمتُها في النهاية إلى علاقاتٍ أيقونية، وهذا لا يستلزم بالضرورة أي جهد، ونجد هذا في حالاتٍ كثيرة؛ حيث يتوقَّف الجهد التأويلي، ويُمكن أن تكون مجرد خاتمة لتأويلٍ جديد، أي الحد النهائي للوعي؛ حيث تذوي الخبرة في صورة حشوٍ زائد.
وهذا هو تأويل شيءٍ على أنه علاقة دالة موضوعيًّا، إن الجوار الموضوعي (القُرب أو الارتباط) أو مجرد قابلية التنبؤ بالوقوع المُشترك هي الأساس لتأويل شيءٍ ما على أنه مؤشر أو دليل موضوعي دال على آخر، ولكن، كما هو الحال بالنسبة للأيقونات، فإن هذه الخصائص المادية الموضوعية ليست هي علة العلاقة الدالة موضوعيًّا. ونعرف أن كثيرًا جدًّا مما يمكن لأي شيءٍ أن يقترن ماديًّا أو زمانيًّا بأي شيءٍ آخر؛ بسبب حدوث امتدادٍ وتوسُّع ما للخبرة بالقُرب في الزمان أو المكان، وإن ما يجعل شيئًا ما دليلًا موضوعيًّا على آخر هو الاستجابة التأويلية التي يُشير المرء على هدْيها إلى شيءٍ آخر. ونحن لكي نفهم العلاقة التي تربط التأويلات الدالة موضوعيًّا بالتأويلات الأيقونية يلزم أن يتبيَّن لنا كيف تنبثِق التأويلات الدالة موضوعيًّا عن الكفاءة، ونعرف أن التأويلات الأيقونية يُمكن أن نعزوها في الغالب الأعمِّ إلى عدم الكفاءة التأويلية أو إلى توقُّف إنتاج عوامل شارحة جديدة، ولكن تأويلات الدليل الموضوعي على النقيض تستلزِم شيئًا إضافيًّا. إن الأيقونات في واقع الأمر إنما تنتج عن الفشل في إنتاج مؤشراتٍ حاسمة تُمايز بين الأشياء.
ولنتأمَّل مثال العرَض الدالِّ على حدثٍ ما، مثل رائحة الدخان؛ إنني حين أشمُّ رائحة دخان أبدأ في الشكِّ في أن شيئًا ما يحترق. كيف تسنى لقُدرتي هذه على أن أرى في الرائحة مؤشرًا على شبوب حريق، الأمر المُرجَّح أنها نتيجة تعلُّم؛ لأن لديَّ خبراتٍ من الماضي تفيد أن رائحةً مُماثلة لمراتٍ عديدة أمكن تتبُّعها واكتشاف حريق، وبعد أن تكرَّر الحدث بضع مرات، نشأ اقترانٌ عادي مألوف وأصبحت رائحة الدخان مؤشرًا يدلُّني على أن حريقًا ربما يكون قريبًا مني. وإذا تأمَّلنا عن كثبٍ أكثر، عملية التعلم التي تولَّدت عنها الكفاءة الدالة موضوعيًّا، فإن الدور الحاسم للأيقونات يُصبح جليًّا واضحًا. معنى هذا أن الكفاءة الدالة موضوعيًّا تألفت من مجموعة من العلاقات القائمة بين أيقونات، وأن التأويل على أساس الدليل الموضوعي إنما تحقَّق عن طريق ما أفادت به مجموعة العلاقات الأيقونية في تقدير المُنبهات الجديدة، إن رائحة الدخان التي نشَمُّها تُعيد إلى الذهن خبراتٍ ماضيةً مماثلة (إذ تُمثلها أيقونيًّا). وتطفر كل من هذه الخبرات إلى الذهن بسبب أوجه التماثُل بين كلٍّ منها والحدث الراهن، ولكن ما هو أكثر من ذلك أنَّ الكثير من خبرات الماضي هذه تحمِل أيضًا أوجُه تماثُل أخرى، ولحظَتْ في مناسباتٍ أخرى كثيرة أن شيئًا يحترق كان هو مصدر الدخان، وكانت هذه الخبرات، بهذه الطريقة، أيقونات كلٌّ منها دالةٌ على غيرها.
وبعد، لماذا أوقعتُ نفسي في خضم هذه المشكلة لكي أضع اسمًا جديدًا لاستخدامات الإدراك الحسي واللغة التي هي شائعة وراسخة في المجالات الأخرى؟ هل القضية هي إبدال كلمة «إدراك حسي» بكلمة «أيقونة» وإبدال «التعلُّم» بالترابُط بكلمة دليلٍ موضوعي؟ لا، إن الأيقونات والمؤشرات الدالة موضوعيًّا ليست مجرد آليات، بل هي قسمةٌ مميزة لعلاقاتها الكامنة بأشياء ماضية أو مستقبلية أو بعيدة أو مُتخيلة. وطبيعيٌّ لا يجري تمثُّل هذه الأمور الأخرى ماديًّا من جديد، وإنما نتمثلها افتراضيًّا مرةً ثانية عن طريق توليد استجاباتٍ إدراكية ومكتسبة مثل تلك التي تتولَّد لو كانت موجودةً فعلًا، وحسب هذا المعنى فإن العمليات الذهنية ليست أدنى تمثيلًا من عمليات التواصُل الخارجية، كما أن عمليات التواصل ليست أقلَّ ذهنيةً في هذا المجال، ويجري اختزال التمثيل الذهني إلى اتصال باطني.
إذن، ما الفارق بين هذه العمليات الإدراكية المعرفية التي لا خلافَ عليها والتي تُشكل أساس الأيقونات والمؤشرات الدالة الموضوعية وبين نوع العمليات المعرفية التي تُشكل أساس الرموز؟ يصدُق هنا أيضًا المنطق التراتُبي ذاته؛ إذ مثلما أن المؤشرات الدالة الموضوعية مؤلَّفة من العلاقات بين الأيقونات، كذلك فإن الرموز مؤلَّفة من علاقاتٍ بين المؤشرات الدالة موضوعيًّا (والأيقونات أيضًا بالمِثل)، ولكن السبب في أن هذه خطوة صعبة هو أن العلاقة المُضافة ليست مجرد علاقة ترابُط.
العتبة الرمزية
الفكرة الشائعة هي أن الترابط الرمزي يتشكل حين نتعلَّم أن نُزاوج صوتًا أو إشارةً مطبوعةً بشيءٍ آخر في العالم، ولكن تأسيسًا على ما نحن بصدد استحداثه وتطويره نرى أن هذا هو ما نُعنى به حين نتحدَّث عن الارتباط الدالِّ موضوعيًّا. إن الكلمة (المرتبطة أيقونيًّا بأحداثٍ ماضية لها مخارج نطق مماثلة) والشيء (المُرتبط أيقونيًّا بأشياء مُماثلة في خبرات الماضي)، والارتباط بينهما فيما مضى يُهيئ للكلمة إمكانية استحضار الشيء في الذهن. وحسب هذه النظرة فإن الترابط بين كلمة وما تُمثله لا يتمايز بالضرورة عن نوع الترابُط الذي نشأ عند حيوانٍ في صندوق سكينر؛ إذ إننا، كمثالٍ نستطيع أن نُدرب فأرًا على إدراك الترابط بين سماع صوت كلمة «طعام» وإسقاط الطعام فوق صينية، ويكتسب المُنبه الشرطي قوةً مرجعية في هذه العملية؛ إذ يُمثل للحيوان شيئًا ما عن حالة الجهاز، إنه مؤشر أو دليل موضوعي عن إمكانية الحصول على الطعام في صندوق سكينر؛ أي عرض دال على حالة الصندوق. ويمكن للكلمات أيضًا أن تؤدي أدوار الدليل الموضوعي، ويجري استخدامها لهذا الغرَض أحيانًا وحدَها مع أدنى قدْر من المحتوى الرمزي، ولنتأملْ كمثالٍ استخدام الكلمات الوظيفية من مثل «هناك» أو صيحات التعجُّب «آه»، أو حتى أسماء الأعلام مثل «جورج واشنطن»، وتستمدُّ هذه المرجعية بفضل ارتباطها المتفرِّد بسياقاتٍ فردية مُحددة أو موضوعات أو مناسبات أو ناس أو أماكن أو ما إلى ذلك، وتستعصي على جهودنا لتحديدها كأسماءٍ أو أفعال نمطية.
ونعرف أن أحد المؤشرات الدالَّة على أن شخصًا ما يفهم معنى كلمةٍ جديدة هو بيان ما إذا كان بمقدوره أن يستخدِمها في جملةٍ جديدة أو سياقٍ مُغاير، وإذا كانت الكلمة الجديدة جرى تعلُّمها باعتبارها فقط جزءًا من عبارةٍ مُجملة غير قابلةٍ للتجزئة أو صِيغت وفقًا لسياقٍ محدَّد دون سواه، فليس لنا أن نتوقَّع استخدامها استخدامًا صحيحًا في سياقٍ غير سياقِها، ولكن القُدرة على استعمال كلمةٍ استعمالًا صحيحًا في سياقاتٍ مُتباينة مع وضوح ما يُفيد الفهم الرمزي لا يُمثل بالضرورة دليلًا مقنعًا على فهمها، وتُشبه القدرة على تحويل الاستعمال إلى سياقٍ جديدٍ تحويل التوجُّه المعرفي. ونُدرك في الحقيقة أن البحث عن قسمات التوجُّه المعرفي المشترك بين السياقات الكثيرة التي يمكن استعمال الكلمة ذاتها فيها إنما هو أسلوبٌ مُفيد لصواب تحديد المعنى، وإذا حدث وعرف شخصٌ ما هذا فقط — أي عرف أي عبارة بذاتها تُحقق هدفها في سلسلةٍ من السياقات الكاشفة عن قسماتٍ متماثلة أو علاقات اجتماعية مُتماثلة — فإنه قد يستطيع بالمِثل خداعنا ليُقنعنا بأنه فهم المعنى تمامًا، ولكن حين نكتشف أنهم حققوا ذلك عن طريق نقل عناصر مُتماثلة من سياقٍ إلى آخر، فإن لنا أن نستنتِج أنهم لم يفهموا حقًّا وفعلًا الكلمة أو دورها في السياق حسبما تصورناه أصلًا. معنى هذا أن فهمهم للمعنى كان فهمًا أيقونيًّا أو فهمًا لها كدليلٍ موضوعي ليس غير. وهكذا فإن القدرة على نقل الدالات المرجعية من اتجاهٍ عقلي إلى آخَر يُمثل خاصية مميزة للرموز، ولكن، هل يُمثل هذا الأساس لمرجعيتها؟
ويُسمِّي علماء النفس نقل ترابُطات مُنبهٍ ما إلى آخر مُماثلٍ له «تعميم المُنبه»، كما يسمُّون نقل نمط للتعلُّم من سياقٍ إلى سياق آخر مُماثل نقل أو تحول «اتجاه عقلي مُعين في التعلُّم». وكثيرًا ما يحدُث خلط بين هذه الأشكال الأكثر تعقدًا من الارتباط القائم على الدليل الموضوعي وبين الترابُطات الرمزية، إن تحوُّل التعلم من منبهٍ إلى منبهٍ أو من سياقٍ إلى سياق إنما يحدُث كنتيجةٍ عرضية للتعلم، وهذه في الحقيقة ليست صورًا للتعلم؛ إذ ينبني الاثنان على إسقاط شرط أحد المُنبهات على آخر، وينبثق كلٌّ منهما بشكلٍ عفوي مُستقل؛ نظرًا لوجود قدْر من اللبس والإبهام دائمًا إزاء معرفة المُحددات الجوهرية للمُنبه الذي يتعلَّم المرء ربطه بنتيجةٍ مترتبة عليه، سواء مرغوب أو غير مرغوب فيها؛ إذ التعلُّم دائمًا استقراء تقديري من بين عددٍ محدودٍ من الأمثلة وتطبيقه على أمثلة مستقبلية، ونادرًا ما يُهيئ هذا أساسًا للاختيار من بين كل تنوعات المُنبه المُمكنة. ويجري تعلم هذه المنبهات المحتملة بشكل عرضي أيضًا ما دامت المُنبهات الجديدة تكشف عن قسماتٍ مشتركة مع المجموعة المألوفة من المُنبهات المستخدَمة في التدرُّب، ولم يتبيَّن أن من بينها ما يتعارَض معها، وكثيرًا ما يتمُّ عرض النماذج النفسية لهذه العملية وكأن المفحوص تعلم القواعد اللازمة لتحديد العلاقات الترابطية، ولكن حيث إن هذا مؤسَّس على علاقة أيقونية، فليست هناك قائمة ضمنية بالمعايير التي تم تعلُّمها؛ ولذلك يكون الحصاد هو الفشل في التمييز لبيان أيها تم استبعاده صراحةً عن طريق التدرُّب.
وتبدو الكلمات الدالة على أنواعٍ من الأشياء إنما تُشير إلى مجموعاتٍ كاملة من أشياء بينها تماثُل فضفاض من مثل تلك التي يربطها بعضها ببعض المُنبه التعميمي، ولكن الكلمات الدالة على كيف وخصائص الموضوعات إنما تُشير إلى أنواع القسمات التي تُشكل غالبًا الأساس للمنبِّه التعميمي، ويمكن تدريب الحيوانات على إنتاج العلامة نفسها عند عرضها مع أنواعٍ مختلفة من الأطعمة أو الأشجار أو حيواناتٍ أليفة مع أي فئةٍ أخرى من الموضوعات التي تشترك فيما بينها في صفاتٍ مادية حتى وإن كانت صفاتٍ غير ظاهرة بوضوح للعيان (مثل جميع الثدييات ذات الحافر)، ونجد بالمثل أن صيحة الاستغاثة التي تُطلقها قِردة الفرفيت عند ظهور النسر يمكن تعميمها للإشارة إلى كل الطيور المُفترسة إذا ما اقتحمت بيئاتها، وإن تصنيف هذه المدلولات المُشار إليها في مجموعاتٍ لا يتم على أساس معايير رمزية (على الرغم من أننا يمكن من خارج أن نُطبق عليها معاييرنا الرمزية)، وإنما على أساس التداخُل الأيقوني الذي يُفيد كأساسٍ لمرجعيتها المشتركة من حيث الدليل الموضوعي، ويُمكن أن يُسهم تعميم المنبِّه كبنيةٍ جوهرية للمجالات التي تُشير إليها الكلمات ولكنه يُمثل فقط عنصرًا فرعيًّا من مكونات العلاقة وليس هو المُحدد لمرجعيتها.
وينطبق هذا المنطق نفسه على تحوُّل التوجُّه العقلي للتعلُّم، مثال ذلك تعلُّم اختيار الشيء ذي الشكل الشاذِّ من بين ثلاثة؛ حيث يوجد اثنان أكثر تشابهًا أحدهما بالآخر دون الثالث؛ إذ إن هذا يمكن أن يساعد في عملية التعلم لتمييز الشذوذ الذي يتضمن أصواتًا؛ ذلك أن المفحوص يتعرَّف على الطابع الأيقوني لمُهمتَي التعلُّم باعتبار كلٍّ منهما مهمةً متكاملةً بدلًا من الاكتفاء بتحويل الاستجابة المُقترنة بها على أساس أوجه تماثل المنبه. وهذا الارتباط أكثر تعقدًا، من حيث البنية التراتُبية، عن تعميم المنبه؛ تعلُّم نمط تعليمي، ولكنه مع ذلك ما يزال ارتباطًا على أساس الدليل الموضوعي، وقد تحوَّل إلى منبهٍ جديد عبر التأويل الأيقوني. وهنا يظهر هيكل سياق التدرُّب الجديد وكأنه أيقونة لهيكلٍ سابق، مما يسمح للمفحوص أن يُحدد العناصر المناظرة بين الواحد والآخر، وليس هذا بالارتباط الذي يسهُل أداؤه كثيرًا، كما أن غالبية الأنواع (بما في ذلك البشر) سيفشلون في اكتشاف الطابع الأيقوني الذي يُمثل القاعدة لذلك عندما تكون البيئة ومُنبهات التدرُّب والاستجابات النوعية اللازمة وعوامل الدعم مختلفة بعضها عن بعض تمامًا حين يتغيَّر سياقُها من سياقٍ إلى آخر.
وثمة شيئان مُختلفان على نحوٍ حاسم بشأن العلاقات بين الكلمة ومرجعها عند مُقارنتها بتحوُّل استخدام الكلمة إلى سياقاتٍ جديدة. أولًا لكي تثبت علاقة قائمة على الدليل الموضوعي لا بد أن تتوفَّر علاقة مشتركة زمانًا ومكانًا بين الكلمة وموضوعها، وإذا ما انقطعت العلاقة المشتركة (مثال ذلك أن الفأر لم يعد يحصل على طعام عند دفع الرافعة حال سماع صوت كلمة «طعام»)، فسوف يتم نسيان الرابطة عمليًّا (انطفاء)، كما أن قوة هذه الكلمة القائمة على الدليل الموضوعي التي تُحقق الإشارة إلى الموضوع ستفقِد أثرها، ويصدُق هذا على المؤشرات أو الأدلة الموضوعية بعامة؛ إذ لو انطلقت رائحة تُشبه رائحة الدخان مع عدم وجود أي شيءٍ يحترق، فإنها سوف تبدأ في فقدان قوتها الدالة في إطار هذا السياق، ونحن نذكُر الصبيَّ الذي صاح «الذئب، الذئب» في حكاية خرافية تحمل الاسم نفسه؛ إذ إن وظيفة الدلالة الموضوعية لاستخدامه لكلمة «ذئب» فقدت دورها بسبب افتقارها إلى الرابطة التي تربطها بذئابٍ حقيقية حتى وإن بقِيَت المرجعية الرمزية، وهكذا تبقى المرجعية الرمزية شِبه مستقلة عن أي روابط مشتركة، وواقع الأمر أن الرابطة المادية بين كلمةٍ ما وموضوع مرجعي يمكن أن تكون نادرة الحدوث، بل تكاد تكون مستحيلةً مثلما هو الحال بالنسبة إلى الملائكة وحيوان وحيد القرن والكواركات. معنى هذا أن الرابطة القائمة على أساس دليل موضوعي لن تستمر في البقاء مع علاقة ضعيفة جدًّا.
وهذا الفارق الثاني هو الذي يُفسر في النهاية الأول، نحن لا نفقد الروابط القائمة على الدليل الموضوعي للكلمات، على الرغم من غياب العلاقات المشتركة مع الماصدقات المادية؛ ذلك لأن إمكانية هذه الرابطة محفوظة ضمنًا في الروابط الثابتة بين الكلمات، وإنه بفضل هذا النوع من المرجعية المزدوجة إلى الأشياء وإلى الكلمات الأخرى (أو على الأقل إلى بدائل دلالية أخرى) تنقل الكلمة المعلومة اللازمة لانتفاء الموضوعات المُشار إليها. وجدير بالذكر أن ازدواج المرجعية كامن في التمييز التقليدي بين إدراك المعنى والمرجع؛ تُشير الكلمات إلى موضوعات (المرجع)، وتُشير الكلمات إلى كلماتٍ أخرى (إدراك المعنى)، ولكننا نستخدِم المفاد أو المعنى الذهني لالتقاط المرجع وليس العكس.
والعلاقة المرجعية بين الكلمات — حيث إن الكلمات تشير على نحوٍ نسقي إلى كلمات أخرى — تشكل منظومة من علاقات أعلى مرتبةً تسمح بأن تكون عن علاقاتٍ خاصة بالدليل الموضوعي، وليست مجرد أدلة موضوعية في ذاتها، ولكن هذا أيضًا هو السبب في أن الكلمات بحاجةٍ لأن تكون في سياقٍ من كلمات وعبارات وجُمل أخرى حتى يتحدَّد لها مرجع واضح وثابت، ولهذا يمكن القول: إن قوتها ذات الدلالة الموضوعية موزعة في العلاقات بين الكلمات. ونستمدُّ المرجع الرمزي من الإمكانات والاستحالات التوليفية، ولهذا نعتمد على التوليفات لكي نكتشفه (أثناء التعلم) وكذلك لاستخدامه (أثناء الاتصال)، وهكذا فإن الصورة المُتخيلة عن لغةٍ غير بشرية للحيوانات مؤلَّفة من كلماتٍ مستقلة بعضها عن بعض، ولكن تعوزها مظاهر الانتظام الحاكمة للتوليفات المُمكنة إنما هي في آخر المطاف تناقُض اصطلاحي.
وليس واضحًا تمامًا وبشكل مباشر كمُّ المتضمَّن من المعلومات الإقصائية وإن تبيَّن فيما بعد أنها كثيرة، وحريٌّ أن نُفكر في هذا للحظةٍ واحدة من منظور الشمبانزي الساذج، ويبين لنا حتى من خلال منظومةٍ من ستة رموزٍ في المفردات المصورة، وهي منظومة غاية في البساطة والنحو التوليفي لمُفردَتَين مُصورتَين أن الشمبانزي بصدد احتمال عملية فرز من ٧٢٠ متوالية على الترتيب (٦ × ٥ × ٤ × ٣ × ٢ × ١) أو ٦٤ زوجًا مُحتملًا في وضعٍ ترتيبي، وأنتج التدريب أربعةَ أمثلةٍ فقط من النماذج الأولية المستقلة بعضها عن بعض، وعلى الرغم من أن كلَّ قردٍ من قردة الشمبانزي يمكن أن يبدأ بتخميناتٍ كثيرة بشأن الكلمات، فإن هذا على الأرجح لن يكون في صورة قواعد عن فئاتِ التوليف الجائزة وغير الجائزة، وإنما قد تكون عن الأعداد المُحتملة من المفردات المصورة التي يتعيَّن الضغط عليها من حيث مواضعها في اللوحة أو ألوانها أو أشكالها التي يُمكن أن ترتبط بموضوع الإثابة، وهكذا. ومع التسليم بهذا القيد، شرح القائمون بتجارِب في إنجاز منهجٍ مُهم للتدريب، وانبروا بوضوحٍ لتدريب قردة الشمبانزي على معرفة أي العلاقات غير ذات صلةٍ وأي التوليفات غير ذات أهمية، ويُمثل هذا مشكلة مهمةً تواجِهُ كلَّ مَن يعمل على تدريب حيوانٍ أليف. إذ إنك لا تستطيع تدريب الحيوان أولًا على ما لا يجب، إلا إذا صدر عن الحيوان بدايةً سلوك غير مقبول، وهنا يمكن توقيع العقوبة عليه مباشرةً أو على الأقل لا تُقدم له الإثابة المطلوبة (مشكلة الرابطة المشتركة مرة ثانية)، ولهذا تدرَّبت الشمبانزي أولًا على إحداث ترابُطات غير صحيحة (مثل الخطأ في معرفة مكان المُتغير ذي الصلة في لوحة المفاتيح)، ثم الامتناع صراحةً عن الإثابة على هذه الأخطاء، بينما تُقدم الإثابة على الاستجابات الأخرى الصحيحة، وأصبح من المُمكن بفضل مُخطط تراتُبي مُعقَّد للتدريب يشتمل على آلاف المحاولات، تعليمها العمل على الاستبعاد التدريجي والمُنظم لكلِّ احتمالات الترابطات والتوليفات غير الصحيحة من بين حفنة المفردات المصورة القليلة، واستطاعت الحيوانات مع نهاية هذه العملية التوصُّل إلى المفردات المعجمية الصحيحة مع كل محاولة.
ولكن هل التدرُّب على محو الأخطاء حقق هدفه؟ عمد القائمون على التجارب، لاختبار هذا الفرض، إلى تقديم عددٍ قليل من مفردات غذائية جديدة تتوافَق مع مفردات مصورة جديدة، ورأوا أن قردة الشمبانزي إذا تعلمت قاعدة السائل/الصلب، وتكونت لديها فكرة بأن المفردة المصورة هي لمفردة جديدة، فإنها حينئذٍ يمكن أن تتعلَّم بسرعةٍ أكبر، وهذا ما حدث بالفعل؛ إذ استطاعت شيرمان وأوستن الاستجابة على نحوٍ صحيح في المرة الأولى، أو لنقُلْ بعد بضعة أخطاء قليلة فقط بدلًا من إجراء مئات المحاولات كما كان الحال في السابق؛ ترى ما الذي حدث وأدى إلى هذا الاختلاف؟ إن ما تعلَّمَته الحيوانات لم يكن فقط طائفةً من الترابطات الخاصة المُميزة بين المفردات المصورة والأشياء أو الأحداث، وإنما تعلمت أيضًا طائفة من العلاقات المنطقية بين المفردات المصورة، وعلاقات الاستبعاد والاحتواء، ولعلَّ ما هو أهم من ذلك أن العلاقات الخاصة بالمفردات المصورة صاغت منظومةً كاملة تُحدِّدُ فيها كلًّا من الظهور المشترك الجائز أو الممنوع من المفردات المصورة في السلسلة نفسها (ومن ثم أيضًا كلًّا من البديل الجائز والممنوع لإحدى المُفردات المصورة مع أخرى غيرها)، واكتشفت أن العلاقة القائمة بين مفردةٍ مصورة والشيء المُقابل لها هي دالَّة للعلاقة التي بينها وبين المفردات المصورة الأخرى، وليست فقط مجرد دالةٍ على الظهور المُترابط لكلٍّ من المفردة المصورة وموضوعها في الخارج، وهذا هو جوهر العلاقة الرمزية.
وعند نقطةٍ ما قرب نهاية التدرُّب نلحظ أن المجموعة الكاملة من ترابطات الدليل الموضوعي التي تمَّ عرضها صراحةً وتعلَّمَتها قردة الشمبانزي قد أعادت تسجيلها في عقولنا فيما يختصُّ بنمطٍ ضِمني من الترابُطات سبق وزْع الدليل عليها على امتداد مجموعة المحاولات كلها، ترى هل عملية إعادة التسجيل هذه تُحدِث حال تعلُّمِها كلَّ مجموعةِ علاقات التوليف/الاستبعاد داخل مجموعة المفردات المصورة؟ أحسب أنه لا. حاول أن تتخيَّل نفسك للحظةٍ في موقفها، لقد وصلت توًّا إلى النقطة التي لم تعُد ترتكب فيها أخطاء، فما استراتيجيتك؟ ربما تُحاول جاهدًا تذكُّر أي الأشياء المحددة أثمرت وأيها لم يُثمر وأنت ما تزال عند مستوى الترابُطات الثنائية واحدة بواحدة، والمشكلة هنا صعوبة تذكُّر كل التفاصيل، وأن ما تحتاج إليه هو مُعِينات تُعينك على تنظيم ما تعرفه؛ نظرًا لوجود احتمالاتٍ كثيرة، ولكن خلال بحثك الباطني تكشف أن ثمة مصدرًا آخر للزيادة عن الحاجة وللانتظام بدأ في الظهور أمامك، علاوة على الانتظامات الفردية الخاصة بالمُنبه والاستجابة: العلاقات بين المفردات المصورة! ونلحظ أن هذه الأنماط من الزيادات أقل كثيرًا جدًّا من الخليط المشوَّش المؤلَّف من ترابطات فردية تُحاول أنت متابعة مسارها، ولم تكن هذه الانتظامات ظاهرةً للعيان في السابق؛ لأن الأغلاط حجبت أي علاقةٍ منظومية أساسية، ولكن أمَا وقد أضحت ظاهرةً للعيان، لماذا لا نستخدِمها كمُعيناتٍ إضافية للذاكرة لكي تُساعد على تبسيط عمل الذاكرة؟ ونظرًا لاضطرار شيرمان وأوستن إلى تكرار محاولاتٍ خالية من الأخطاء مراتٍ ومراتٍ فقد أصبحا كذلك مُدرِكَين لشيءٍ لم يكونا ليلحظاه بدون ذلك، ألا وهو وجود منظومة وراء ذلك كله، ويصبح بإمكانهما استخدام هذه المعلومة الجديدة، معلومة عمَّا تعلَّمَتاه بالفعل، لكي تُخفف كثيرًا من حمل الذاكرة الذي نشأ بفعل الترابطات الكثيرة المتكررة، وهكذا يكون بمقدورهما الآن نسيان العلاقات المشتركة الفردية ما دام بإمكانهما تتبُّع مسارها عبر قواعد المفردة المصورة مقابل مفردة مصورة.
إن ما أذهب إليه هنا هو أن التحوُّل من التنبؤات الترابطية إلى تنبؤات رمزية هو بداية تحول في استراتيجية التذكر أو إعادة التشفير أو التسجيل، وهذه وسيلة لتفريغ الذاكرة العاملة من عبء التفاصيل الزائدة، وذلك بإدراك انتظام أعلى مستوى وسط خليطِ الترابطات، وهذه حيلة بوسعها إنجاز المهمة ذاتها دون الاضطرار إلى الحفاظ على كل التفاصيل في الذهن. ولسوء الحظ نادرًا ما تُهيئ الطبيعة مثل هذه المنظومات المنطقية المُحكمة التي يمكن أن تساعد على تنظيم ترابطاتنا. وحيث إنه لا تتوفر فُرَص كثيرة لاستخدام مثل هذه الاستراتيجيات، فإن انتفاء مثل هذه العملية ليس ميسورًا بكثرة، ونحن مُضطَّرون إلى إبداع منظوماتٍ اصطناعية لها مثل هذه الخصائص المُلائمة، وتتمثل النقطة الحاسمة في أن مثل هذه الطائفة من العلامات حين تكون ميسورة فإنها تُهيئ الفرصة لحدوث تحوُّلٍ في استراتيجية الذاكرة، وهو ما يؤدي إلى تحول جذري في نمَط التمثيل، بمعنى أن ما يعرفه المرء بأسلوبٍ ما يجري تسجيلُه من جديدٍ بأسلوب آخر، أي يجري تمثيله وبيانه على نحوٍ جديد، معنى هذا أننا نعرف الترابطات ذاتها ولكننا نعرفها أيضًا بأسلوب مختلف، ولك أن تقول: إننا نعرفها عن طريقين من أسفل إلى أعلى تأسيسًا على الدليل الموضوعي، ومن أعلى إلى أسفل على أساسٍ رمزي، ونظرًا لأن هذا التشفير الجديد ينبني على علاقاتٍ رفيعة المستوى، وليس التفاصيل الجزئية الفردية، فإنه غالبًا ما يبسط بدرجةٍ كبيرة مشكلة الذاكرة ويضاعف كثيرًا جدًّا من إمكانات العرض التمثيلي، ونجد على القدر نفسه من الأهمية ذلك الكمَّ الهائل الذي تيسَّر من المعرفة الضمنية. ونظرًا لأن القواعد التوليفية لا تُسجل موضوعات بل أساليب ربط الموضوعات بعضها ببعض، فإن الرموز الجديدة يمكنها أن تتجسد على الفور وتتآلف مع غيرها تأسيسًا على معرفة مستقلة بشأن ما ترمز إليه.
تَعقُب مهمة الفرز هذه مهمة ثانية تستلزِم من قردة الشمبانزي أن يربط كلًّا من مفردات الطعام المميزة بالمفردة المصورة نفسها (التي وصفها المُجربون خطأً بالطعام)، وكذا ربط كل مفردةٍ من الأدوات بمفردةٍ مصورة أخرى (أداة)، واستلزمت هذه المهمة بداية من قردة الشمبانزي توسيع نطاق ترابطاتها السابقة مع الخانات؛ بحيث تشمل مُنبهَين آخرين إضافِيَّين؛ أي المفردتين المصورتَين. وعلى الرغم من أن كلَّ القردة الثلاثة تعلمت أداء المهمة بطريقةٍ بسيطة وأدَّت عدة مئاتٍ من المحاولات لإنجاز التحول، فإن شيرمان وأوستن استطاعتا بعد ذلك، وبشكلٍ تلقائي أن تُعيدا تسجيل هذه المعلومة بطريقةٍ لم تستطعها لانا، وتأكد هذا بالدليل، كما هو الحال في المهمة السابقة عندما تمَّ إضافة مفردات جديدة للطعام والأدوات؛ إذ وجدت شيرمان وأوستن في هذا إضافةً تافهةً واستطاعتا بسهولةٍ تخمينها دون حاجةٍ إلى أن تتعلَّم شيئًا جديدًا تعرف به أي مفردةٍ مصورة هي الصواب، ولم تفشل لانا فقط في توسيع نطاق تصنيفها الفئوي إلى المفردات الجديدة، بل بدا أن جِدة الحدث والأخطاء أدَّت إلى ظهور نوعٍ من الشك الذي يُكذِّب الظن، وتسبَّب في التخلِّي عن تدرُّبها السابق خلال اختبارٍ تالٍ. وإذا كانت هذه المهمة تُشبه في ظاهرها مهمة الفرز، فإن تناقُض النتائج يؤكد أن ثمة فارقًا حاسمًا أفسد استراتيجية التعلُّم الأساسية التي استخدمتها لانا بدايةً مع تفضيل إعادة التسجيل الرمزي الذي استخدمته كلٌّ من شيرمان وأوستن، وربما يرتبط الفارق بواقعِ أن مهمة الفرز اشتملت على ربطٍ مادي — مكاني بين العلامة والموضوع — بينما اشتملت علامة المفردة المصورة على توافق زماني فحسب، وبدت لانا وكأنها لا تستخدِم هذه الصفات الأساسية لحلِّ المهمة؛ إذ إن كل مفردةٍ مصورة عن موضوعٍ ما كانت بالنسبة لها معلومة أو مُعطًى مستقلًّا، ومن ثم لا تحمِل أي معلومةٍ عن ترابُطات أخرى.
ونجد في المقابل أن شيرمان وأوستن نتيجة لخبرتهما مع منظومة رمزٍ سابقة أعادتا تسجيل هذه الروابط الجديدة بين المفردة المصورة والموضوع في فئتَين رمزيتَين جديدتَين حلَّتا بديلتَين عن الارتباطات المُفردة، واحتاج تعلُّم الارتباطات الأولى التي تربط بين واحدٍ وارتباطات كثيرة إجراء مئاتِ بل آلافِ المحاولات، وسبب ذلك أنهما بدأتا الجُهد بدون علاقةٍ منظومية في رصيدهما الذي ما يزال قليلًا من المفردات المصورة للدلالة على مرجعية عامة بشأن «الطعام» أو «الأداة». ومن ثم كان لزامًا اتباع الأسلوبِ الصعب لتعلُّمها على أساس الدليل الموضوعي إن جاز لنا أن نقول ذلك، ولكن ما إن تعلَّمَتا هذه الترابُطات حتى تميَّزتا وأصبحتا كفؤًا لأداء منطقٍ آخر أرفع مستوًى، وما إن تم اكتشاف ذلك حتى أصبحتا قادرتَين على استخدام هذا المنطق للتعميم وصولًا إلى ارتباطاتٍ جديدة، وهكذا فإن توفُّر عملية التشفير الرمزي أتاح لهما، بدلًا من أداء مئات أو آلاف المحاولات تجاوز المزيد من المحاولات بفضل زيادةٍ هائلة في كفاءة التعلُّم، وهكذا عرفت القردتان شيئًا لم يسبق لهما أن تعلَّمَتاه بشكلٍ واضح وصريح، معنى هذا أنهما اكتسبتا نوعًا من المعرفة الضمنية كناتج فرعي تلقائي لإعادة التسجيل الرمزي.
محو ما سبق تعلُّمه من خبرة
إذن المشكلة بالنسبة لمنظومات الرمز أنها تشتمل على الكثير جدًّا من كلٍّ من التعلم والنسيان أو محو التعلم، وهي العملية التي لا بد أن تحدُث حتى قبل أن تتاح ولو علاقة رمزية واحدة. ونعرف أن الرموز لا يتأتَّى اكتسابها في وقتٍ واحد كما هو حال الارتباطات الأخرى عند تعلُّمها، إلا بعد أن يتأسس ويترسخ مرجع لمنظومة الرمز؛ إذ لا بد أن يتمَّ أولًا اكتساب منظومةٍ كاملة منطقيًّا من العلاقات القائمة بين طاقم علامات الرمز، وذلك قبل أن يتحدَّد أي ارتباطٍ بين أي علامة رمز واحدة وموضوعٍ ما، وتحدث خطوة التعلُّم قبل إدراك الدالة الرمزية، وتنبثِق هذه الدالة فقط من داخل منظومة، إنها ليست مغروسة في أي زوجٍ مفرد من العلامة والموضوع، ولهذا السبب يكون عسيرًا أن تبدأ، ويستلزِم تعلُّم علاقة رمزية: أولًا: تحقيق مجموعة كبيرة من الارتباطات وثباتها في العقل معًا بينما تختبر في الوقت نفسه الأنماط التوليفية المُحتملة الخفية في علاقاتها الأرفع مستوى. وجدير بالذكر أن عدد التوليفات المُحتملة هائل جدًّا، حتى مع مجموعة صغيرة جدًّا من الرموز؛ لذلك فإن فرز أي التوليفات مُجدية، وأيها غير ذلك، يستلزِم اختبار وتذكُّر عددٍ كبير من الاحتمالات.
ولعل أهم قسمة مميزة لعملية التحول في استراتيجية التعلم التي تعتمد عليها المرجعية الرمزية هي أنها في الحقيقة لا تستغرق وقتًا، أو لنقُلْ على الأصح لا تستغرق وقتًا أطولَ من وقت عملية الإدراك الحسي. وعلى الرغم من أن الترابطات السابقة التي سيجري في النهاية تسجيلها من جديدٍ في منظومةٍ رمزية ربما تستغرق وقتًا وجهدًا كبيرَين من أجل التعلم، فإن إعادة التسجيل الرمزي لهذه العلاقات لا يتمُّ تعلُّمها بالطريقة نفسها، وإنما يتعين بدلًا من ذلك اكتشافها أو إدراكها بمعنًى ما من خلال تأمُّل ما هو معروف سابقًا، أو لنقل بعبارةٍ أخرى: إنها نمط ضمني يتعيَّن إدراكه داخل العلاقات القائمة بين الترابُطات المؤسسة على الدليل الموضوعي، ويعني الإدراك هنا ربط علاقة شيءٍ ما جديد بشيءٍ معروف في السابق، كذلك فإن الترابطات الكثيرة المتكافلة التي ستُشكل في النهاية عقد الاتصال في مصفوفة علاقات الرمز والرمز؛ يجب أن تكون قائمة بحيث يتسنى لأي منها أن يُشير رمزيًّا، ومن ثم يتعيَّن تعلم كلٍّ منها قبل إدراك دالَّاتها الترابُطية الرمزية، ويتعيَّن تعلُّمها كعلاقاتٍ إشارية فردية مُعتمدة على الدليل الموضوعي. وجدير بالذكر أن عملية اكتشاف الرابطة الرمزية الجديدة هي حدث بنائي جديد، يُعيد البناء على نحوٍ جديد؛ بحيث إن الترابُطات التي تعلَّمها المرء سابقًا يراها فجأة في ضوءٍ جديدٍ ويتعين إعادة تنظيمها من حيث علاقاتها بعضها ببعض. وطبيعي أن عملية إعادة التنظيم هذه تستلزم جهدًا ذهنيًّا لقمع طائفة من الاستجابات الترابطية لصالح استجاباتٍ أخرى متفرعة عنها. وإن اكتشاف العلاقة الرمزية الأعلى مرتبةً ليس خطوة تعليمية إضافية، وإنما مجرد ملاحظة التوافُقات على مستوى المنظومة والقائمة ضمنًا من علاقات العلامة والعلامة وعلاقات الموضوع والموضوع، التي سبق أن راكمها التعلُّم بالدليل الموضوعي. وحريٌّ أن نشير هنا إلى أن ما يمكن أن نُسمِّيه بصيرة رمزية إنما تحدُث في ذات اللحظة التي نغضُّ الطرف فيها عن استراتيجية ترابطية ونُمسك بأخرى أعلى مرتبةً لكي توجه بحثنا الذاكري.
ولا ريب في أن قدرة شيرمان وأوستن على اكتشاف المرجعيات الرمزية المجردة الخاصة بكلٍّ من «الطعام» و«الأداة»، إنما تزوِّدنا بمنظورٍ جديد بشأن الفارق بين الترابطات القائمة على الدليل الموضوعي والترابطات الرمزية. ولنتأمل الصراع المُحتمل بين علاقات المفردة المصورة والموضوع، الذي تعلمَتاه سابقًا وبين هذه الطائفة الجديدة من الترابُطات. وطبيعي لو أن الترابطات السابقة المُكتسبة لديهما لم تدعمها سوى العلاقات المشتركة التي تولَّدت من خلال وقوع الإثابة عند الربط بين المفردة والموضوع، فإن إعادة المزاوجة من جديدٍ بين الموضوعات ذاتها ومفردة مصورة جديدة من شأنها — حسب ما هو متوقع — أن تفضي إلى انطفاءٍ جزئي أو كُلي للرابطة السابقة، ومن المُمكن أن يزود هذا قردة الشمبانزي بعلامات دالة سياقية جديدة يُمكِّنها من أن تُقرر أي استراتيجيةٍ لها أن تستخدِمها من بين الاستراتيجيات الترابطية المتنافسة؛ (أي الاكتفاء بعمل محاولات دون البدائل الأخرى المتاحة)، ومن ثم نتعلم ونحتفظ بالاثنَين معًا، ولكن على الرغم من هذا ستظلُّ هناك آثار مُترتبة على التداخُل؛ (إذ إن الترابُطات السابقة يمكن أن تتدخَّل مع كلٍّ من التعلم الجديد لارتباطات جديدة، وكذا مع التحوُّل بينها إلى سياقات مختلفة)، ولكن لسوء الحظ ليست لدينا البيانات اللازمة لتقييم ذلك، بيد أننا نستطيع أن نستنتج من تحوُّلات التعلم عند أوستن وشيرمان، وكذا من احتفاظهما فيما بعد بالارتباطات الرمزية السابقة — أن كلًّا من الانطفاء والتداخُل لم يكن مشكلةً ذات بال، وعلى الرغم من أنه لم يتم اختبار ذلك صراحةً وبوضوح خلال هذه السلسلة من التجارب، فإننا نتوقَّع أن هذا سوف يُمايز بين شيرمان وأوستن وبين لانا، والشيء المؤكَّد أن الضعف السريع الذي تجلَّى في أداء لانا عند إضافة مفرداتٍ جديدة إنما يُشير إلى مثل هذه النتائج.
وتمثل القدرة على تذكُّر عددٍ كبير من الارتباطات — التي من المُحتمل أن تكون متنافسة فيما بينها — قوة إضافية للمرجعية الرمزية المُتفرعة من التحول الحادث في الاستراتيجية الذاكرية إلى علاقات العلامة والعلامة، وتزداد نتائج المنافسة مع زيادة أعداد الفئات الارتباطية المتشابكة في العلاقات النمطية للمرجعية القائمة على الدليل الموضوعي، ولن يكون الاختيار من بين البدائل أيًّا كان استخدامها هو وحده مصدر التشوش، بل لأنها كانت متنافسةً فيما بينها من أجل التعزيز، ومن ثم فإن كلًّا منها سيُضعف ارتباط الآخرين. وعلى الرغم من أن بعض نتائج التدخل تُعنَى أيضًا باستخدام الرمز، وكثيرًا ما تكون سببًا في أخطاء لاستعادة الكلمة وفي إجراءات التحليل، فإن هناك تأثيرًا معارضًا من حيث العلاقات التنافسية؛ ذلك أن مجموعاتٍ متنافسة من العلاقات الترابُطية المتداخلة على مستوى الدليل الموضوعي تجري ترجمتُها إلى فئاتٍ دلالية من مرتبةٍ أعلى داعمة بعضها لبعض على المستوى الرمزي، وتتحول هذه إلى مصادر لفائضٍ ترابطي بحيث يدعم كل منها الآثار الذاكرية للآخر، وهكذا تُعزز عمليًّا بعضها بعضًا بدلًا من إضعاف قوة الترابط.
ويساعدنا هذا على تفسير مصدر اللاصق الترابطي الإضافي بين الكلمات وما تُشير إليه، وعلى الرغم من أن علاقات الترابط بين العلامة والموضوع ليست متاحةً بشكلٍ مُطَّرد وثابت لمُستخدم الرمز، وهي نادرة في الحقيقة، فإن افتقاد الدعم الترابطي يجري تعويضه بأكثرَ من المطلوب من خلال العدد الكبير من الترابطات الأخرى المتاحة عن طريق علاقات العلامة والعلامة التي تتوفر رمزيًّا في موقعها المتوسِّط. وجدير بالذكر أن هذه الترابطات بوضعها المنفرد هي ترابطاتٌ ضعيفة نسبيًّا؛ نظرًا لانخفاض معدل الوقوع المُشترك لأيٍّ من العلامتَين في السياق نفسه؛ بيد أنها ليست فقط ترابُطات بين واحدٍ إلى واحد. إنها ترابطات واحد إلى كثيرٍ وكثير إلى واحد، تنسج علامات الرموز معًا في شبكةٍ منظومية من علاقات الترابط، ويكتسب النمط قدرًا مُعينًا من التشابُه الشكلي المسجل مع العلاقات القائمة بين الموضوعات والأحداث في العالم. وتشترك معًا روابط الدليل الموضوعي في علاقات تداخُل مشتركة كثيرة وضعيفة فيما بينها، ونتيجةً لذلك فإن كل ارتباط قائم على الدليل الموضوعي يكتسب دعمًا ذاكريًّا من عددٍ من الترابطات الأخرى؛ لأنها مُتعددة التسجيل في الذاكرة، علاوة على هذا فإن قواها الترابطية مُجتمعة تجعلها أقوى على ممانعة الانطفاء؛ بسبب نقص العلاقات المشتركة الخارجية التي تربطها بالموضوعات أكثر مما هو الحال بالنسبة للترابُطات المفردة القائمة على دليلٍ موضوعي، وهكذا فإن المرجعية الرمزية ليست وحدَها علاقة مُنتشرة، بل أيضًا دعمها للذاكرة، وهذا هو السبب في أن تعلُّم الأسباب الرمزية الكامنة وراء وحدات المعلومات التي نكتسبها عن طريق التعلُّم الاستظهاري توفر مثل هذا العون الضخم في التذكر، هذا وإلا كيف لنا بدون ذلك أن نستعيد دون جهدٍ وبسرعةٍ كبيرة آلاف الكلمات المُختلفة التي نستخدمها كل يوم أثناء عمليتي الكلام أو الإنصات؟
وهذا ما تؤكده بالنسبة لمعنى الكلمة العديد من البحوث الاستكشافية لعلم النفس العصبي في المجال الدلالي (السيمانطيقي)، إن السمع أو التذكر أو استخدام كلمةٍ ما يمكن أن يكون مصدرًا لنتائج استهلالية دافعة لما يأتي تاليًا من تذكُّر أو تطابق لكلماتٍ أخرى ضمن فئات متداخلة؛ مثال ذلك سماع كلمة «قط» يمكن أن تكون حافزًا لمهام تالية للذاكرة تشتمل على «كلب» أو «حيوان». ولعل ما هو أهم من ذلك حقيقةً أن هذا أيضًا ينتقل إلى الترابُطات القائمة على دليل موضوعي والمُشتملة على هذه الكلمات أيضًا، وإن تلقِّي المرء لصدمةٍ كهربية بسيطةٍ كلما سمع كلمة «قط» يمكن أن تجعله يتعلَّم أن تتولَّد لديه تلقائيًّا وفي الوقت نفسه علاقات ربط عضوية مشتركة للاستجابة للجهد الحادث (من مثل تغير في معدل ضربات القلب أو في الاستجابة الجلفانية [الكهربية] للجلد) حال سماعه لهذه الكلمة تتكرَّر في أذنَيه. ولكن ثمة استجابة أخرى مماثلة وإن كانت أقلَّ حدة سوف تتولد أيضًا كلما سمع كلمة مثل «كلب» حتى وإن لم تقترن هذه الكلمات بأي صدمة، وسوف تتولَّد استجابة أقل درجة كلما سمع المرء كلمة مثل «مواء» أو «حيوان» على نحو يؤكد الترابطات بين المفردات (كلمة – كلمة) وعند الاستجابة لكلماتٍ مُماثلة في الجرس، مثل «نط» بدل «قط» على نحوٍ يؤكد ظواهر تعميم المنبه، ويبين بوضوح أن كل هذه العلاقات الترابطية المميزة دخلت في علاقات بعضها مع بعض من خلال العلاقة الرمزية، ونظرًا لأن كلًّا منها يُثير شبكة ترابطية تتداخل مع شبكة الكلمة المشروطة بالصدمة، فإن التنشيط المشترك يدفع إلى رفع مستوى حافزٍ مقترن أيضًا بالصدمة. ويبدو أن مدى كلٍّ من التداخُل الرمزي والدليلي الموضوعي تجمعه رابطة مشتركة بمدى التحول، وعلى الرغم من تماثُله مع تعميم المنبه فإنه مختلف عنه بوضوح، وجدير بالذكر أنه لا توجد مُحددات تنبيهٍ مشتركة تُميز «كلب» عن «قط» أو عن «سيارة»، لا يتولد عنها استعداد أوَّلي مُماثل، وينعكس الفارق أيضًا في حقيقة وجود تحول مستقل إلى الكلمات ذات الجرس المُشترك مثل «أقة» و«دقة»، وتعتبر الترابطات الجرسية ظواهر حقيقية لتعميم المنبه كما توضح أيضًا بعضًا من تحول الاستجابات الفسيولوجية.
وهذا التناظر بين النتائج المُشتملة على قسمات المُنبه المشترك والقسمات الدلالية (السيمانطيقية) المشتركة يوضح لنا أن المخ يختزِن ويستعيد كلًّا من الترابُطات الرمزية وغير الرمزية كأنها نوع واحد، وتمامًا مثلما أن احتمالات الوقوع المُشترك والاستبعاد في السياق الواحد تُحدد قوى ترابُطات المُنبه، فهذا أيضًا ما تفعله هذه الإحصاءات في اللغة من حيث التأثير في قوى ترابُطات الكلمة.
ونلحظ أثناء تعلُّم الأطفال للغة ظهور ظاهرة العتبة زمنًا طويلًا مُتمثلة في نمو المفردات وطول الجُمل، وطبيعي أن مفردات اللغة وطول العبارة هما مُتغيران مرتبطٌ أحدهما بالآخر من زاويتَين: الأولى كلما زاد عدد الكلمات التي يعرفها الطفل، زادت عملية الربط بينها، بيد أن هذا لا يتمثَّل ببساطة في جُمل أكبر؛ ذلك أن إنشاء جملةٍ أطول في اللغة البشرية لا يتحقق فقط من خلال الجمع بين المزيد والمزيد من الكلمات، وإنما يستلزم الأمر استخدام علاقاتٍ تراتُبية لقواعد اللغة، وكذا أساليب نحوية لتكثيف وتضمين الجُمل المحورية الواحدة في الأخرى، معنى هذا أن حصيلة المفردات ليست فقط بحاجةٍ إلى النمو والزيادة، بل لا بد أن تتنوَّع أنماط الكلمات، أو بعبارةٍ أخرى: إن الاكتشاف المنتظم لفئاتٍ نحوية جديدة لا بد أن يتبعه وبسرعةٍ ملء هذه الفئات بمفردات مُعجمية جديدة بديلة.
وجدير بالذكر أنه في كل مرةٍ يجري اكتشاف مجموعةٍ منطقية جديدة بين طائفةٍ من العلامات، وهذا من شأنه، بحكم الضرورة، أن يخلق نمطًا أو أكثر من الفراغات الموضعية التي يُمكن ملؤها من فئة حرةٍ من الرموز، ويُحدد كل فراغ كلًّا من الفئة الدلالية والنحوية. وحريٌّ أن نتذكَّر أن شيرمان وأوستن حين اضطُرا إلى تعلم وضع تسجيلٍ جديد لمفردات الطعام في ضوء الفئة الدلالية للطعام من المرتبة الأعلى، استطاعا إضافة مفرداتٍ جديدة إلى «معجم» مفرداتهما المصورة، ولكنهما مع ذلك كان لا بد أن يواصلا لعمل المزيد من الجهد، ولم تفدهما بشيءٍ معرفتهما السابقة بالتحديدات الرمزية للأطعمة المُتمايزة فيما يتعلق بأنماط تقديم الطعام، ولنا أن نقول أكثر من ذلك: إنها كانت سببًا لحدوث تداخُلات؛ نظرًا لأن الأطعمة نفسها أضحت الآن مرتبطةً بمفرداتٍ مصورة مختلفة، ولكن نعود لنقول: إنه ما إن ثبت وترسخ هذا الترابط الرمزي الجديد حتى تكون إضافة مفردات جديدة — كما ثبت بالدليل — أمرًا غير ذي بال ولا تشتمِل عادةً على أخطاء.
ونلحظ في منظومة الرمز الصغيرة التي تعلَّمَتها في البداية كل من شيرمان وأوستن أن القسمات الدلالية «السيمانطيقية» المتضمَّنة في الاحتمالات التوليفية القليلة المُتاحة كان بالإمكان تحديدها في ضوء الصُّلب مقابل السائل والطعام مقابل تقديم الطعام، ولقد كان اكتشاف قواعد التوليف هو مفتاح اكتشاف هذه القسمات الدلالية (السيمانطيقية)، كما نجد على العكس أن هذه القسمات الدلالية خلقت الأساس لإضافة رموزٍ جديدة دون حاجة إلى أن تتعلَّم ثانيةً العلاقات المشتركة، وإنما كان كل المطلوب هو توفُّر معرفة سابقة عن الموضوع لكي يتسنَّى عرضها ثانيةً بالنسبة لقَسَمة أو أكثر من القسمات الدلالية وثيقة الصلة حتى نعرف ضمنًا المرجعية والاحتمالات التوليفية لعلامةٍ ما، ويمكن للمنظومة — مع البدء بأي قسمةٍ محورية أولية — أن تنموَ بسرعة على مراحل متكررة، وتُمثل كل مرحلة نقلة رمزية جديدة يتعين أن تبدأ بتعلُّم متراكم تأسيسًا على الدليل الموضوعي، ولكن الخبرة الماضية بشأن تكوين الرمز، وكذا توفر منظومة ضخمة من القسَمات — يمكن أن تزيد من سرعة هذه العملية.
خلاصة القول إذن، ليس بالإمكان فهم الرموز على أنها مجموعة من العلامات دون بِنية منظومية تُشير على نحوٍ منظم إلى مجموعة من الماصدقات المشار إليها في الخارج؛ ذلك لأن الرموز لا تُمثل فقط أشياء في العالم، بل تُمثل أيضًا بعضها بعضًا. ونظرًا لأن الرموز لا تُشير مباشرةً إلى الأشياء في العالم، وإنما تُشير إليها بشكلٍ غير مباشر عن طريق الإشارة أو الإحالة إلى رموزٍ أخرى؛ لذلك فإنها ضمنًا كيانات توليفية تستمدُّ قواها المرجعية بفضل مواضع مُحددة داخل منظومةٍ أو نسقٍ منظم من رموزٍ أخرى، ثم إن اكتساب كلٍّ منها بداية وكذا استعمالها فيما بعد يستلزم تحليلًا توليفيًّا، ونعرف أن بِنية المنظومة كاملة لها طوبولوجيا أي صيغة وصفية دلالية (سيمانطيقية) مُحددة هي التي تُحدِّد سبل الرموز في تعديل الوظائف المرجعية بعضها لبعضٍ داخل التوليفات المختلفة، وإنه بسبب هذا الأساس المنظومي لعلاقات المرجعية الرمزية نجد أن أيَّ مجموعةٍ من العلامات لا يُمكنها أن تكون لها دلالاتها الرمزية ما لم تتوافَق المجموعة كاملة مع مبادئ شاملة مُعينة لعملية التنظيم، وتنبثق المرجعية الرمزية من أرضية عمليات مرجعية غير رمزية، وذلك فقط لأن علاقات الدليل الموضوعي بين الرموز مُنظمة على نحوٍ مُحدد لكي تشكل مجموعة مغلقة منطقيًّا تُحدد معالم التخطيط من رمزٍ إلى آخر، وتسمح هذه الطبيعة المحددة للمنظومة الأرقى من الترابُطات بأن تحلَّ محل الدعم المرجعي (القائم على الدليل الموضوعي) الفردي الذي تم استثماره سابقًا في كل رمزٍ داخل في عملية التكوين، وإن هذه المنظومة من العلاقات بين الرموز تُحدد معالم الوضع التخطيطي المرسوم والمُميز الذي يتعيَّن أن تلتزم به جميع العمليات التي تدخل فيها هذه الرموز؛ بغية الاحتفاظ بقوَّتها المرجعية. وجدير بالذكر أن البنية الضمنية في الوضع التخطيطي لعلاقات الرمز والرمز ليست موجودة قبل المرجعية الرمزية، بل تظهر إلى الوجود وتؤثر في توليفات الرموز مع لحظة بنائها لأول مرة، كذلك فإن قواعد التوليف المُتضمنة في هذه البنية يجري اكتشافها مع بداية الظهور التدريجي للتوليفات الجديدة، ونتيجة ذلك يمكن اكتشاف قواعد جديدة لتكون بمنزلة شروط طارئة لمواجهة مشكلاتٍ توليفية جديدة، ويحدُث هذا بالطريقة نفسها التي تحدُث عند اكتشاف قوانين رياضية جديدة متضمنة في المعالجات الجديدة لعمليات رياضية معروفة مقدمًا.
والملاحظ أن النظريات المجردة عن اللغة التي صيغت في ضوء القواعد المُحتملة لتوليف علامات غير محددة في مسلسلات نراها غالبًا ما تفترض ضمنًا عدم وجود قيدٍ على منظومات لقواعد توليفية مُمكنة نظريًّا، وبدهي أن المسلسلات الاعتباطية المؤلفة من علاماتٍ بلا تفسير واضح لها ليست ذات مرجعية، ومن ثم فلا قيود حاكمة لها، بيد أن الاستخدام الرمزي للعلامات يُقيده كل من استخدام العلامة وكذا استخدام العلامات الأخرى بالنسبة إلى العلامات التي تحدَّدت في ضوئها. معنى هذا أن سلاسل الرموز المُستخدَمة للاتصال ولإنجاز غاياتٍ محددة لا بد أن ترث كلًّا من القيود الأصلية لمرجعية الرمز والرمز وكذا القيود التي فرضتها المرجعية الخارجية.
وثمة نوعٌ من التنظيم التوليفي الصارم يمثل ضرورةً منطقية لأي منظومةٍ للمرجعية الرمزية؛ إذ بدون إطارٍ نحوي صريح وبيان تخطيطي تأويلي ضِمني لن يكون بالإمكان إنتاج لا معلومات رمزية واضحة لا لبس فيها ولا اكتساب رموز، ونظرًا لأن المرجعية الرمزية نظامية في جوهرها، لن يكون بالإمكان أي ترميز — أي صياغة رموز — بدون علاقات منظومية، ولهذا فإن البِنية النحوية هي قسَمة متكاملة ومُكملة للمرجعية الرمزية، وليست شيئًا مضافًا إليها أو منفصلًا. إنها المنطق التوليفي الأعلى مرتبة، أي النحو، الذي يصون وينظم المرجعية الرمزية، ولكن الكيفية التي ينتظم بها نحو بذاتها ليست خاضعة بقوة لهذا الشرط، وقد تكون ثمَّة حاجة لتوفُّر قواعد توليفية محكمة، غير أن هناك عددًا وافرًا مُحتملًا قد لا يظهر دائمًا في اللغات الطبيعية. وجدير بالذكر أن هناك عوامل أخرى كثيرة لا بد أن تُوضَع في الاعتبار بُغية فهم لماذا أنماطٌ بعينها فقط من المنظومات النحوية هي المستخدمة عمليًّا في اللغات البشرية الطبيعية، وكذا فهم كيف نستطيع نحن تعلُّم منظومات القواعد الناتجة عن ذلك على الرغم من تعقدها على نحوٍ يفوق الخيال.