الفصل الرابع

خارج المخ

لا يُمكن تعليم شيءٍ جدير بأن نعرفه.

أوسكار وايلد

شومسكي ولعبة التوازن

يبدو أن الباحثين في مجال اللغة توصلوا على مدى العقود القليلة الماضية إلى توافُقٍ في الآراء بأن اللغة قدرة فطرية، ورأوا كذلك أن المعرفة الفطرية تُسهم بقدْر كبير يمكنه أن يفسر لنا قدرتنا على تعلم مثل هذه المنظومة المعقدة للاتصال. وبدهي أن الأطفال يدخلون العالَم ولديهم استعداد سابق لتعلُّم اللغات البشرية، ونعرف أن جميع الأطفال الأسوياء الذين نشئوا في بيئات اجتماعية سوية يتعلمون حتمًا لغتهم المحلية، هذا بينما الأنواع الأخرى ليست كذلك حتى وإن تمَّت تنشئتها وتعليمها في البيئة ذاتها التي نشأ فيها أطفال البشر، ويُبرهن هذا على أن أمخاخ البشر وفدت إلى العالَم مجهزة بشكلٍ خاصٍّ ومحدد لهذه الوظيفة، وطبيعي أن قليلين سوف يُجادلون بشأن هذا المعنى لمصطلح فطري.

ولكن كثيرين من علماء اللسانيات وعلم النفس يقترحون تأويلًا ينبني على أساس القول بتكوينٍ سابق وشامل يفسر هذه الظاهرة نفسها، ويؤكدون أن القدرة الفذَّة للطفل على تعلُّم لغةٍ أُولى إنما هي نتاج «أهلية فطرية للغة»، ونحن نقول — على سبيل المثال: إن شعبًا ما كفء أو أهل لأداء مهارةٍ في هذا المجال، وليس الأمر مجرد إمكانيةٍ أو موهبة يمكن أن تتحقَّق في الواقع في ظل الظروف الصحيحة لذلك؛ إذ إن الأهلية أو الكفاءة مهارة ميسورة، تعلَّمها أو اكتسبها في السابق بشكلٍ طبيعي، وهكذا لنا أن نقول على سبيل المماثلة: إن الكفاءة أو الأهلية الفطرية للُّغة هي قدرة على أداء مهام لغوية مُعينة وكأنما سبق اكتسابها، وإذا صح أن الأهلية لِلُّغة فطرية بهذا المعنى، فإن معرفة اللغة ذاتها تكون — بشكلٍ ما — ماثلة بالفعل في المخ البشري قبل اكتساب المعرفة من أي خبرةٍ بواسطة اللغة، ولكن هل هذا صحيح واقعيًّا؟

يُوجَد دون شكٍّ شيء خاص ما عن المخ البشري هو الذي يُهيئ لنا القدرة على أن نؤدي في سهولةٍ ويسر ما لا تستطيع الأنواع الأخرى أداءه، ولو في أدنى صورةٍ من دون بذل جهد مكثف وتدرُّب فيه قدر كبير من الذكاء والبصيرة، ونحن ليست لدينا فقط القدرة على أن نُبدع ونتعلم بسهولةٍ منظومات رموز بسيطة مثلما هو الحال مع شيرمان وأوستن وجهدهما المُضني للتعلم، ولكننا عند تعلم اللغات نكتسب نظامًا من القواعد شديدَ التعقد، كما نكتسب معجم مصطلحات غنيًّا في فترةٍ زمنية من حياتنا بينما يكون من الصعوبة بمكانٍ تعلُّم ولو مبادئ أولية للرياضيات، وجدير بالذكر أن رسائل عملية كثيرة عن النظرية النحوية فشلت في تقديم تفسيرٍ كافٍ يفسر المعرفة الضمنية التي يبدو أنها متوفرة حتى لطفلٍ في الرابعة من عمره عن لُغته المكتسبة حديثًا، ومن ثم لا غرابة إذ تجد كثيرين من علماء اللسانيات قد رفعوا أيديهم مُستسلمين وهم يصرخون قائلين: «لا بد أن تكون اللغة غير قابلة للتعلُّم.» وزعموا أن الأمر جُملة ليس سوى حيلةٍ سحرية؛ حيث الأرنب (المعرفة النحوية) موجود بالضرورة داخل القبعة (مخ الطفل) منذ البداية، ولكنه موجودة بأية صورة؟ وكيف تأتَّى لها أن تكون كذلك؟ ولكن للأسف، وكما سبق أن رأينا، فإن النظرية القائلة بأن المعرفة الفطرية بالنحو هي ميراث جميع أطفال البشر إنما تؤكد ببساطة الإجابات بشأن هذه الأسئلة الصعبة وتدع الأمر للبيولوجيا التطورية وعلم الأعصاب لتفسير كيفية التوصُّل إلى الإجابات المنشودة. وحريٌّ — قبل التزام العلماء في هذين المجالَين بمصادرهم التجريبية وجهودهم النظرية لصوغ النماذج بُغية اكتشاف مزاعم هذه النظرية — أن نسأل إذا ما كانت مقبولةً ومستساغة بيولوجيًّا، وعما إذا لم تكن هناك بدائل حقيقية؟

وجدير بالذكر أن الفكرة القائلة بأن النحو الكلِّي الشامل universal grammar هو السبيل الوحيد لتفسير القُدرات اللغوية؛ إنما دفع بها ودافع عنها لأول مرة عالم اللسانيات نعوم شومسكي من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا،١ وحفزته إلى دعواه هذه ثلاثة استبصارات أصيلة: أولًا: أنه بيَّن بوضوح أن البنية المنطقية لقواعد النحو أكثر تعقدًا وصعوبةً في تحديدها عما كان يتوقَّع في السابق أي باحث، ومع هذا يبدو أن المُتحدثين العادِيِّين بلُغةٍ ما يعرفون عددًا هائلًا من القواعد النحوية المُعقدة كما يعرفون تطبيقاتها دون أن تكون لديهم أي معرفةٍ صريحة وواضحة عما يعرفون، ثانيًا: دفع شومسكي بأن اللغات وإن بدت في ظاهرها مُتغيرة على نحوٍ لا يُصدقه عقل من على السطح، فإن ثمة منطقًا عميقًا مشتركًا يجمع بينها، أو لنقُلْ بِنية عميقة تتفرَّع عنها قواعد مُحددة تستخدمها كل لغةٍ بفضل نوع من المنطق الاستدلالي، بيد أن هذا يزيد من تعقُّد اكتشاف القواعد؛ ذلك لأن ما هو معروض على من يتعلم اللغة هو فقط ظاهر نتائج تطبيق هذه القواعد، ويتعيَّن استنباط القواعد من هذا التمثيل غير المباشر، ثالثًا: أن تعلُّم منظومة منطقية بمِثل هذه الدقة والتعقُّد يستلزِم خبرة واسعة النطاق من المحاولة والخطأ مع تغذيةٍ مرتدَّة مباشرة. ومع هذا، فإن صغار الأطفال سرعان ما تنمو لديهم معرفة مُتقدمة عن القواعد النحوية وتطبيقاتها في غيابها.
وسار كثيرون بهذه الفكرة خطوات أبعد، ويؤكد هؤلاء أنه مهما اتسع نطاق الخبرة من النوع الذي لا يُطبقه الأطفال، فإنه سيظل غير كافٍ بحيث لا يسمح لأحدٍ باكتشاف القواعد المجردة التي تؤلِّف نحو اللغة الطبيعية، وإذا شئنا أن نعبر عن ذلك بأسلوبٍ آخر نقول: لا أحد بوسعه أن يتعلَّم لغة ما بالطريقة نفسها التي يتعلَّم بها أسماء الرؤساء أو أحرُف الأبجدية أو قواعد القسمة الطويلة، إن النحو شديد التعقُّد، والقواعد التي تكشف عنها الأمثلة المنطوقة إنما تعكس فقط منطقها على نحوٍ غير مباشر. ودفع بعض الباحثين بأن أحدًا — بما في ذلك العالم أو المنطقي — لا يستطيع اكتشاف قواعد النحو استقرائيًّا من نصوص اللغة إلا بالرجوع إلى نحوٍ ما معروف سابقًا.٢ وجدير بالذكر أن هذه الصعوبة الخاصة باكتشاف القواعد، حتى من حيث النظرية، تُلخصها حقيقة أن علماء اللسانيات المُحدثين ما يزالون مُختلفين بشأن تحديد الوصف الشكلي الأكثر ملاءمة لمنظومات القواعد النحوية الطبيعية. والسؤال هو كيف يتسنى لأطفالٍ صغار جدًّا ما تزال قدراتهم التحليلية أقل تقدمًا بكثيرٍ أن يكشفوا — على الرغم من ذلك — وبسرعةٍ كبيرة عن كفاءة كمُستعملين للغة؟ جوهر المسألة إذن هو أن الحجة التي تؤكد وجود نحوٍ كلي فطري إنما هي حجة تُثير الشك؛ إذ هل يمكن أن يكون الأمر على غير هذا النحو؟

يبدو أن النتائج المُترتبة على ذلك لا مناص منها، إذ كانت المعارف النحوية لا يمكن اكتسابها عن طريق التعلُّم الاستقرائي في سنِّ الطفولة إذن فإن معرفة قواعد النحو (التي نحوزها جميعًا بعد بضع سنواتٍ قليلة) لا بد أن مصدرها مصدر آخر، وإذا كان اكتساب هذه المعرفة لا يعتمد على الخبرة، إذن فاللغة — وهذه مفارقة — لا بد أنها موجودة سابقًا في صورةٍ ما قبل الخبرة، لا بد أنها ميسورة كمكنز يتضمَّن كل القواعد الجاهزة فرضًا (معروفة فطريًّا) التي بحاجةٍ فقط إلى مقارنتها بالمدخلات المتاحة، وتم الالتزام بتلك القواعد الفطرية التي تتنبَّأ بِبنية اللغة موضوع الخبرة بينما أغفلوا ما دون ذلك.

وهذه حجة لازمة، ولكن النحو الكلِّي الفطري هو البلسم وإن كان أشد قسوةً من المرض، إنه يقدم لنا افتراضات عامة شاملة عن المخ والتطوُّر ليست أقلَّ مصداقية من الزعم بأن الأطفال المُتعلِّمين ذَوُو ذكاءٍ خارق.

ويعمد مُنتقدو نظرية النحو الكلي إلى الاختلاف معها بدعوى أنها تُمثل افتراضاتٍ واهية عن سياق تعلم اللغة، مفهوم ضيق عن التعلم كاستقراء، مع الزعم أن خبرة اللغة لا تقدم تغذيةً مرتدة. إن الأطفال لا يغتذون فقط متتاليةً من مدخلات كلامٍ ومُضطرون إلى استكشاف القواعد المجردة لما يُنتجونه، وإنما خبرة الأطفال اللغوية ثاوية في سياقٍ اجتماعي ثري ومُعقد، وهو سياق يزودهم بسبلٍ كثيرة تُيسر لهم تغذيةً مرتدة اجتماعية عملية (برجماتية)، علاوة على هذا فإن تفاعُلات اللغة التي يشارك فيها صغار الأطفال كثيرًا ما يبسطها لهم الكبار، ويجري تضخيم قسماتٍ مُعينة لكي تبدو أكثر وضوحًا. والخلاصة أن هؤلاء النقاد يؤكدون أنه لا تُوجَد مفارقة ما بحاجة إلى تفسير، ومن ثم فإن نظريةً عامة عن التعلم ربما تكون كافية. وصحيح تمامًا كما يؤكد الواقع أن الأطفال يتعلَّمون اللغة في وسَط اجتماعي ثري، بيد أن الزعم أن التعلُّم وحدَه يمكن أن يفسر هذه القدرة، أمر يفرض تساؤلات كثيرة شأنه شأن نظرية المعرفة الفطرية. ونحن لا يسعنا إغفال تلك الفجوة الواضحة والهائلة التي تفصل ما يُنجزه الأطفال بسهولة عما لا تستطيعه أنواع أخرى شديدة الذكاء، بل نُظُم التعلم الاستقرائي المتقدمة، وهذا أمر لا مناصَ منه ما دام صغار الأطفال محدودين جدًّا في جوانب أخرى من قدراتهم التعليمية. إننا بحاجة إلى مواجهة المفارقة بشكلٍ مباشر، ومن ثم لا بد أن يتوفر نوع ما من الاستعداد السابق للغة، ولكن ما نوعه؟ وأين؟ هذان سؤالان يتعيَّن أن يجيب عنهما أيٌّ من النهجَين وليس تجنُّبهما.

وثمة إمكانية أخرى غالبًا ما كان مصيرها الإغفال، وهذا هو الموضوع الذي نعتزم استكشافه على مدى الجزء الباقي من هذا الفصل، أعتقد أن شومسكي وأتباعَه كشفوا عن حلٍّ لِلُغز محورٍ عن تعلم اللغة، بيد أنهم قدموا إجابةً تضع العلة موضع المعلول؛ إذ يؤكدون أن مصدر الدعم الأول لاكتساب اللغة لا بد أنه نشأ من داخل المخ؛ استنادًا إلى فرضٍ مُضمَر يفيد بأن لا إمكانية للقول بمصدرٍ آخر، ولكن ثمة بديل آخر: القول بأن الدعم الزائد لتعلُّم اللغة ليس منوطًا بما هو في مخ الطفل، وربما بما هو في أمخاخ الآباء والأمهات أو المُعلمين، بل ماثل خارج المخ، في اللغة ذاتها. وليسمح لي القارئ — لكي أوضح ما أعنيه — أن أستهلَّ بتقديم قياسَين مطوَّلين للتشبيه، وأعتقد أنهما يُصوران مشكلة مُماثلة، وسوف أبدأ بقياسٍ خاصٍّ بالحاسوب (الكومبيوتر).

«… وهكذا سوف يبين لك لماذا عام ١٩٨٤م لن يكون مثل عام ١٩٨٤م.» بهذه العبارة اختتم إعلان تجاري تليفزيوني حائز على جائزة، وشاهدَه ملايين الأمريكيين في يناير (كانون الثاني) من عام ١٩٨٤م. كان هذا إعلانًا عن كومبيوتر شركة أبل ماكينتوش، الذي تم عرضُه على الهواء مباشرةً، ثم توارى ليُصبح جزءًا من تاريخٍ مضى بعد أن أبلغ رسالته. صورت أبل جمهورًا منومًا مغناطيسيًّا مؤلفًا من بشر فاغرين أفواههم دهشةً وعيونهم تُحدق في الفراغ، مع شاشة ضخمة عليها صورة شخصية «الأخ الأكبر» في رواية جورج أورويل وهو يترنَّم بدُعابته بشأن الهيمنة العالمية والخير لجميع البشر، ونرى فتاة تعدو حاملةً مطرقة ضخمة عبر دهاليز التكنولوجيا المتقدمة، ووسط الحشود الذين غلبت عليهم حالة من الخدر، ودارت حول نفسها وسط الجمهور، ثم طوَّحت بالمطرقة لتضرب الشاشة وتصطدم بوجه «الأخ الأكبر» فتتبدَّد حالة التنويم.

إن ما كانت تُعلن عنه شركة أبل ليس حاسوبًا جديدًا، بل عن نهجٍ جديد في استخدام الحاسوب، إن الشركة التي نقلت الحاسوب من جراج السمكري إلى البيت المُتوسط إنما كانت ترفع الحجاب كاشفةً عن حاسوب «صديق للإنسان الذي يستعمله»، ونعرف أن الحواسب قبل ذلك كانت ماكينات يتعيَّن عليك بذل الجهد لفهمها، وكان لزامًا عليك لكي تُنجز لك ما تريد أن تستخدِم منطقها هي؛ منطق شفرات البرنامج، علاوة على استخدام عددٍ لا نهائي من الأوامر والأسماء المُتنوعة، التي صيغت في أحرفٍ مختصرة مثل دوس Dos أو بيوس bios أو سي دي CD أو مقطعات لفظية مختصر مثل txt وcmd وbak، وإن كان أكثرها أدوات تشغيل نحوية يستخدِمها المبرمج، وإذا حدث أنك لم تكتب على نحوٍ صائبٍ الخط الشفري أو لم تعرف بشكلٍ جيد وضع الأبعاد الصحيحة أو الترتيب أو تسلسُل الأوامر، فإنك ستقف حائرًا عاجزًا وأنت تُحاول فهم ما الذي حدث لجهد اليوم السابق.

ولقد كان الجميع في عام ١٩٨٤م يعرفون أن الحواسب ماكينات شديدة التعقيد للغاية بحيث لا يفهمها غير المهندسين والفنيين فقط، ومن ثم فإنك لكي تستخدِمها يتحتَّم عليك التدرُّب أو تحصيل خبرةٍ أو قضاء وقتٍ طويل لقراءة أكداس من الكُتيِّبات الإرشادية، ولكن المعلم الروحي في شركة أبل راودته فكرة مختلفة؛ فكرة استعارها من فريق شغَلَته أحلام تتعلَّق بالحاسوب تواترت وتجمعت على مدى السنوات السابقة في مشروعٍ بحثي لشركة زيروكس، وتتمثل الفكرة في جعل التفاعُل مع الحاسوب أمرًا بدهيًّا، ومن ثم فبدلًا من بذل الجهد لفهم كيفية الوصول إلى برنامج أو ملف معلومات لكي يُنجز ما تريده، لماذا لا نُمثلها في صورة صور لموضوعاتٍ مألوفة، موضوعات خائلية على شاشة مصنوعة بحجمٍ صغير على سطح مكتب؟ ولماذا بدلًا من استخدام الأوامر والشفرات للتحكُّم فيما يحدُث في البرامج لا نعمل على ترتيب المنظومة؛ بحيث يمكن تنشيط البرامج وتعديل البيانات عن طريق معالجة هذه الموضوعات الخائلية وكأنها موجودة بالفعل على سطح المكتب بشكلٍ واقعي؟ ويُمثل هذا بطبيعة الحال ميلاد الحواسب الشخصية ذات الأسطح التفاعلية «للموضوع الموجَّه»، وهكذا أصبح بالإمكان بدلًا من أن أتصفَّح أكداسًا من الكُتيبات الإرشادية التي تتعذَّر قراءتها، أُجري تجارب وأتعلم عن طريق المحاولة والخطأ في بيئة تُفيدني فيها كثيرًا تخميناتي الحدسية، والملاحظ أن شركة أبل ربما لم تلغِ «الأخ الأكبر» (الأزرق)، ولكن اليوم القليل من الحواسب الشخصية ومحطات التشغيل تنقُصها الأيقونات والويندوز وأجهزة التحديد، وتلاءمت عمليات تشغيل الحاسوب، وأصبحت ميسورة بالنسبة للكثيرين من الناس، ولذلك أصبح الناس بغير حاجةٍ ملحة لبذل جهدٍ كبير للتلاؤم مع الحواسب.

مع التسليم بتعقُّد اللغة وجدَّتها المتطورة يمكن للمرء أن يتخيل أن ابن العامَين يُواجه طائفة مُعقدة على نحوٍ يفوق التصور من قواعد بناء اللغة وآلاف الكلمات، ويُشبه حاله هنا حال المبتدئ في التعامُل مع الحاسوب، إذ يواجِه علاماتٍ لا تقبل الخطأ C> وهو خاوي الوفاض لا يملك أي كتيباتٍ إرشادية تُساعده على فرزها، ويبدو أن هذا هو الغرض الضِّمني وراء دعاوى أنصار نظريات المعارف النحوية الفطرية؛ إذ لو كانت اللغة مُبتدعة وأُقحِمت علينا نحن المستخدمين التعساء فقد يكون ثمة ما يُبرر لنا تصورها «غير صديقة أبدًا للمستخدِم»، وهنا في هذه الحالة قد يكون ضروريًّا توفر كتيب إرشادي للتعليمات مدمجًا للعمل مباشرةً، ولكن هذا من شأنه أن يعكس العلاقة الفعلية، ونعرف أن القيود والضوابط الهندسية لعمليات تشغيل الحاسوب ليست مثل أي عمليات معلومات نُجربها. إن نظم التشغيل وبرمجة اللغات تُقيدها متطلبات بناء الآلة أكثر من متطلبات القدرة التعليمية، ولكن اللغات تطورت بالنسبة للمخ البشري، وليس وفقًا لمبادئ تعسفية أو ضوابط وقيود هندسية، وثمة حاجة إلى قليل من التوافُقات، وإن المشكلة التي يواجهها طفل يتعلم لغةً أولى لن تكون مناظرةً لمشكلة يواجهها مبتدئ في التعامُل مع الحاسوب، ويُحاول تعلم كيفية استخدام آلية صارمة. ولنا، بدلًا من ذلك، أن نتوقَّع أن تكون اللغة أشبه كثيرًا بسطحٍ بيني حدسي وصديق للمُستخدم، وطبيعي أن اللغات على مدى أجيال لا حصر لها تواءمت أفضل وأفضل مع الناس بحيث لا يكونون بحاجةٍ إلى ما هو أكثر من الحدِّ الأدنى من التوافُقات للتكيُّف معها، ولنحاولْ — مع وضع هذا البديل في الذهن — أن نقارن بين التفسيرات المتنافسة التي تحاول تفسير اكتساب اللغة.
يؤكد شومسكي أن القسط الأكبر من معرفة الطفل بالنحو وقواعد بناء اللغة ليس مُكتسبًا بالتعلُّم مثل الكلمات، وأنا أوافقه، إنها مكتشفة وإن لم يكن هذا عن طريق استبطان introspection لقواعد موجودة سابقًا في المخ، حقًّا يبدو لنا على السطح أن الأطفال لديهم قدرة خارقة على عمل «تخمينات موفقة» بشأن النحو وقواعد بناء اللغة: إنهم يستبقون تلقائيًّا طرق تعامُل الكلمات بعضها مع بعض، وأحسب أن هذا التوافق العرضي الصحيح الذي يظهر على السطح إنما يجسِّد بدقةٍ ما يحدث على الرغم من أن المسئول عن ذلك ليس هو الحظ أو المصادفة. إن القواعد التي تنبني عليها اللغة مكتسبة بفضل التعلُّم عن طريق المحاولة والخطأ، ولكن هناك نسبة عالية جدًّا من المحاولات الصائبة، ولكن لماذا صغار الأطفال سعيدو الحظ في تخميناتهم؟ إذا ما قبِلنا هذه الملاحظة نلحظ أن الأطفال لا يسجلون السلسلةَ الكاملة من السبل البديلة المُمكنة لتنظيم الكلمات، إنهم شديدو الانحياز في خياراتهم؛ إذ لو كانت اللغة طائفة عشوائية من الارتباطات، فإن الأطفال على الأرجح سوف يتعثرون كثيرًا؛ بسبب تخمينِهم المُنحاز إلى حدٍّ كبير، بيد أن البِنى التنظيمية regularities للغة ليست فقط أي طائفة من الارتباطات، كما أن الأطفال منحازون بطريقةٍ تهديهم عادةً إلى الصواب، كيف يمكن أن يحدث هذا بأي طريقةٍ أخرى سوى القول بأن الأطفال مزوَّدون بمعارف سابقة عما يؤلِّف تخمينًا مُرجَّح الصواب؟ أعتقد أن مثال نظام تشغيل الحاسوب الموجه للموضوع يُوحي لنا بالبديل؛ إذ يجري تنظيم الأشياء بحيث تكون التخمينات الحدسية هي المُرجِّحة للصواب.
وليسمح لي القارئ أن أصوِّر منطق هذه الإجابة البديلة على اللُّغز من خلال قصةٍ أخرى، لنتخيَّل مؤسسة للمراهنات، ولنتخيَّل معها هذا المُخطط الخداعي الذكي والاحتيال عليها، ها هو موظف ناقم على الكازينو قرَّر الانتقام من أصحاب المؤسسة بتحميلهم خسارة ضخمة، إنه لن يترك لأصحاب الكازينو أي وسيلةٍ لاستعادة خسائرهم حتى وإن ضبطوه متلبسًا، لذلك فإنه بدلًا من السرقة أو الاختلاس قرَّر مساعدة مُراهن لا تحوم حوله شبهاتٍ ليكون أداة لتحقيق الخسارة، ولكنه لتحقيق هدفه بحاجةٍ إلى العثور على مراهن تتوفَّر فيه عادات متميزة للمراهنة، أو تحكُمه مظاهر التطيُّر؛ مثال ذلك شخص يضع مراهناتٍ ضخمة عادة على الأرقام التي تشتمل على الرقم ٥، وإذا استطاع الموظف التلاعُب بعجلة الروليت بحيث يظهر الرقم ٥ أكثر مما هو عادة بطريق الصدفة، فإنه يستطيع أن يحول المراهن الساذج إلى مليونير. وطبيعي أن المراهن ليست لديه أي معرفة محددة عن مستقبل الأرقام التي ستظهر حتى وإن تم التلاعُب بحيث تتوافق النتائج مع تخميناته المنحازة، وواضح أيضًا أن تخميناته الموفقة المحظوظة ليست مبنية على أساس معرفة فطرية عن عجلة الروليت أو عن المستقبل، ويبدو الأمر وكأن المراهن لديه معرفة سابقة بالنتائج، والحقيقة أن كل ما يعرفه هو فقط نوع من «المعرفة الخائلية» virtual knowledge، كما تبدو عند النظر إليها بعد وقوع الحدث، وقد يصل الأمر به إلى حدِّ الاعتقاد أن لديه قدرة على اكتشاف الغيب ورؤية المستقبل، والحقيقة أنه كان مخدوعًا بغض النظر عما يظنُّ أنه يعرفه. والفكرة هنا هي أن المرء ليس بوسعه دائمًا التيقن من أن المعرفة الظاهرية التي يستنتجها من تنبؤات وتخمينات صائبة ليست في الحقيقة ما تبدو عليه في الظاهر.

وأخيرًا، ليسمحْ لي القارئ أن أُقدم مثالًا يعرفه جيدًا كل مُعلمٍ ناجح أو مدرِّب للحيوانات؛ زرت لأول مرة مسبحًا لتدريب الدلافين وأدهشتني الطريقة التي تعلمَت بها الدلافين القفز عاليًا من فوق سطح الماء ثم التشقلُب عدة مراتٍ في الهواء و«الوقوف» على ذيولها، وتعرفتُ بعد فترةٍ ببعض القائمين على التدريب، وسألتُهم إذا ما كان السبب في نجاح تدريب الدلافين على ذلك هو أنها تتميز بجسمها الانسيابي الرشيق، قالوا: لا، إن الدلافين بطبيعتها وبشكلٍ تلقائي تقوم بمِثل هذا السلوك في بيئتها الطبيعية، ولكن المُدرِّبين يعمدون فقط إلى تعليمها المبالَغة مع تعديل بعض الأمور التي اعتادت عليها في الطبيعة. معنى هذا أن المُدربين إذا ما حاولوا تعليمها أداء سلوكٍ جديد عليها تمامًا، دون اعتبارٍ لاستعدادات الدلافين الفطرية، فسوف تكون المحاولة شديدة الصعوبة إن لم تكن مُستحيلة، ولهذا فإن مدربي الحيوانات المشهود لهم بالنجاح يعمدون إلى الاختيار الدقيق للحِيَل التي يحاولون تدريب الحيوانات على أدائها؛ بحيث تتلاءم مع ميولها واستعداداتها التلقائية، وإن ما اصطلح علماء النفس على تسميته «تشكيل» السلوك الفاعل لا بد أن يبدأ تأسيسًا على سلوكٍ تلقائي لتشكيله. وأكثر من هذا أن بالإمكان تعليم سلوكياتٍ غريبة وغير عادية إذا ما بدأ المرء بما ينزع الحيوان إلى أدائه، ثم ينتقل خطوةً خطوة لتنويعاتٍ جديدة على اللحن ذاته، وطبيعي أن التدريب سيكون في حدِّه الأدنى؛ لأن الحيوان «يعرف» سابقًا ما الذي يفعله لإرضاء مُدربه والحصول على الجائزة؟

يُدخِل كل مثالٍ من هذه الأمثلة تغييرًا طفيفًا على استراتيجية ماكينتوش (وويندوز)، وليس مرجَّحًا كثيرًا إخفاق التعلُّم إذا كان المطلوب تعلمه «صديقًا للمُستعمل»، ومنظمًا بطريقةٍ بحيث يكون المُتعلم لديه استعداد سابق للتفكير والعمل، وثمة طريقة للتيسير على الأطفال الموهوبين في «تخمينهم» بشأن اللغة، ونستطيع بذلك إعفاءهم من إجراء عددٍ لا حصر له من المحاولات والخطأ، وتتمثَّل هذه الطريقة في أن نعرض عليهم لغة مصمَّمة خصوصًا؛ بحيث إن بِنيتها تتوافق سابقًا مع تخميناتهم العفوية، وإذا حدث وتيسَّر لنا دراسة الأطفال في «البرية» لاستكشاف ميولهم الطبيعية، فإننا نستطيع أن نُصمِّم اللغة الكاملة التي تُفيد مما يفعله الأطفال تلقائيًّا، وسوف يكون تعلم هذه اللغة الاصطناعية أقرب إلى محاولة تجربة ملابس جديدة، واكتشاف أنها تلاءمت بالمصادفة على النقيض في المقابل من محاولة تغيير الغذاء؛ لكي يتلاءم مع ملابس غير مناسبة، ومن ثم فإن عقول الأطفال ليست بحاجةٍ فطرية لتجسيد بِنًى وتركيباتٍ لغوية ما دامت اللغات تُجسِّد الاستعدادات السابقة لعقول الأطفال.

وهو كذلك؛ إذ على الرغم من أن هذا ضرب من الخيال المُثير للغاية، فإننا لسنا مُدربين عباقرة للغة ولدينا بصيرة نافذة كاملة في عقول الأطفال، نحن لدينا القليل من الاستبصارات كافية ونافذة في عقولنا نحن، ونحن لا نعمل عن وعيٍ لتفصيل لُغة على المقاس للأطفال إلا فيما يتعلق بالتبسيطات والمبالغات الواهية التي نُسميها «مناغاة الطفل»، أو التماثل النمطي للغة ونطق الأم motherese، نحن لا نضع تصميمًا للغة أبدًا، إنها «تضع تصميمها ذاتيًّا». ونعرف أن اللغات تتغير تلقائيًّا على مدى حياة أجيالٍ كثيرة، ولقد أخفق أي جهدٍ استهدف وضع تصميمٍ للُّغة، والسؤال: كيف يمكن لأي نوعٍ من «التناغُم المؤسس سابقًا» بين اللغة والأطفال أن ينشأ في بِنية مُحددة إذا لم يحدُث أن درس أحد الأطفال بُغية وضع تصميم اللغة لهم؟ ويبدو الأمر وكان لزامًا أن نفترِض مقدمًا الحدث الإعجازي نفسه بشأن اللغة تمامًا مثلما ذهب البعض لتفسير نشأة عضو اللغة، ترى هل سوف نُحقق لأنفسنا أي مصداقية تفسيرية إذا سلَّمنا مقدمًا بوجود لغةٍ صديقة للطفل مقابل القول بأطفال فاهمة للغة؟ وكيف سيتسنى ظهور مثل هذا التناغُم المؤسس سابقًا إذا لم يشارك أحد في اللغة؟

شخصٌ ما، أو شيءٌ ما يرسم استراتيجية اللعبة، وأنا لا أعني هنا قوةً إلهية هي التي وضعت التصميم، ونعرف أن اللغة لا تتغيَّر فقط، بل تتطوَّر، والأطفال أنفسهم هم اللعبة المُهيأة للتنفيذ، وتقع اللغات تحت ضغط انتخابٍ قوي لكي نتلاءم مع التخمينات المُحتملة للأطفال؛ لأن الأطفال هم الآلة التي تُعيد إنتاج اللغة، ومن ثم أصبح لزامًا أن تتكيَّف اللغات مع الافتراضات التلقائية للأطفال بشأن الاتصال والتعلُّم والتفاعُل الاجتماعي والمرجعية الرمزية؛ وذلك لأن الأطفال هم وحدَهم ساحة النشاط والإنجاز. ويتحول الأمر بشكلٍ مُثير للاهتمام إلى عكس ما نراه حدسيًّا بدهيًّا فيما يتعلق بهذه المشكلة؛ حيث يبين أن اللغات تحتاج إلى الأطفال أكثر مما يحتاج الأطفال إلى اللغات.

صفوة القول أننا أخفقنا في ملاحظة أن ثمَّة تكيفًا طفيفًا يجري خارج المخ، والسبب في أننا لم نتبيَّن الصِّلة الوثيقة لهذه العملية قبل ذلك هو أننا ننزع إلى التفكير وفقًا لمقاييس بشرية، لقد اعتدنا أن نُركز على مستوى فترة حياة الإنسان والتغيرات السريعة التي تحدُث خلال السنوات القليلة التي يتعلم أثناءها الطفل لغةً أولى، وطبيعي لهذا السبب أن نرى في هذا النصف المرِن من المعادلة ومن اللغة وكأنهما أشبه بكيانٍ ثابت، ولكن إذا نظرنا إلى الأمر من منظورٍ تطوُّري سنجد أنه على العكس تمامًا، إن التغير البيولوجي أبطأ كثيرًا جدًّا، وأقل مرونة من تغير اللغة، ويجري تطوُّر المخ على مدى زمان جيولوجي، وأكثر من هذا أن تغيُّرات طفيفة ربما تستغرق مئات آلاف السنين لكي تتجلَّى واضحةً وعلى نطاقٍ واسع في نوعٍ ما، وأن البنية التكوينية الأساسية للمُخ ظلَّت باقيةً بشكلٍ ملحوظ منذ نشأة الفقاريات، وثمة احتمال بأن تطوُّر اللغة أسرع بآلاف المرات من تطوُّر المخ، ويفيد هذا الفارق الهائل في الحركة التطوُّرية أننا ربما افترضنا أن النصف الخاطئ من المعادلة التطورية احتوى المتغيرات الحاسمة.

التطوُّر الآخر

نشأت وتطوَّرت لُغات العالم بشكلٍ تلقائي، لم تنشأ عن قصدٍ وتخطيط، قد يحدُث ويتصور البعض وكأنها منظومات من قواعد ورموز مُبتدعة، وقد جرى تجميعها عمدًا لتشكل معًا منظوماتٍ منطقية، بيد أن هذا يعني أننا بصدَد إما أن نفترض منفعةً وغرضًا لا وجود لهما، أو أن نفسرها على أنها خاصية مُميزة أو تكوين غير مصقول يتعذَّر علينا إدراك المبدأ الأساسي للتصميم، بيد أن اللغات أشبَهُ كثيرًا بالكائنات الحية أكثر منها بالبراهين الرياضية. وإن المبدأ الأساسي الأول، الأهم من سواه، الذي يُوجِّه تصميمها ليس النفع التواصلي بل التكاثر — تكاثرها وتكاثُرنا — لذلك فإن الأداة الملائمة والصحيحة لتحليل بِنية اللغة قد لا تكون في البحث عن أفضل وسيلةٍ لعمل نموذج يصورها على هيئة منظومات قاعدية بدهية، بل الأصح هو دراستها بالطريقة التي تدرس بها بنية الكائن الحي؛ في ضوء النظرة التطورية، إن اللغات تكوينات ثقافية واجتماعية تطوَّرت تأسيسًا على قوى الانتخاب التي يفرضها البشر المُستخدمون للغة.

وتخضع بِنية اللغة لضغطٍ انتخابي كثيف؛ لأنها خلال تكاثُرها من جيلٍ إلى جيلٍ لا بد أن تمرَّ عبر عنق زجاجة: عقول الأطفال (وهذه علاقة يُصورها شكل ٤-١ في صورة رمزية مبسطة)، ونلحظ أن عمليات أداء اللغة التي يمكن للأطفال تعلمها بسرعة ويُسر تميل إلى الانتقال إلى الجيل التالي بشكلٍ أكثر فعاليةً وسلامة دون تغيير من تلك التي يصعب تعلُّمها؛ لذلك تتغير اللغات على مدى التاريخ بوسائلَ أمْيَلَ إلى التوافُق مع توقعات الأطفال، ومن ثم فإن تلك التي تستخدِم منطقًا أقرب وُدًّا وصداقةً للأطفال، سوف تزداد وتتكاثر بحيث تتفوق على وتحلُّ محلَّ تلك التي لا تحمل هذه الخاصية، وحسب هذا المنظور لا ضرورة تُوجب أن يتميز الأطفال بذكاءٍ خاص، كما أنه لا ضرورة تقتضي بأن يكون الآباء موهوبين، وإن الحدود والقيود المفروضة على المتعلِّمين تُمثل جزءًا لا مناصَ منه من إيكولوجيا انتقال اللغة، وطبيعي أن بِنية أي لغة لا تتكيف على نحو جيد مع هذا الموطن لن تستطيع المقاومة للبقاء طويلًا.

وإذا بدت قواعد نحو اللغة، كما يُشير كثيرًا علماء اللسانيات، غير منطقية وغير مُتسقة من حيث تصميمها، فقد يكون السبب الوحيد هو أننا نُقارنها بنماذج غير صحيحة ونحكم على تصميمها وفقًا لمعايير وظيفية أقل دقةً وحسمًا مما نظن. وحريٌّ ألا نصنع مقاربةً مع مَثل أعلى خيالي لقوة تواصُلية ودرجة فعاليتها، أو نتشيع لصِيَغ مُستمدة من مجموعة مزعومة من المبادئ الذهنية الفطرية، وإنما لنا بدلًا من ذلك أن نُدرك أن هياكل اللغة يمكن أن تعكس ببساطة الضغوط الانتخابية التي صاغها تكاثرها.

وقد يكون من المفيد بشكلٍ أو بآخر أن نتصوَّر اللغة شكلًا مستقلًّا من أشكال الحياة التي تستعمِر وتتطفل على المخ البشري مُستخدمةً المخ للتكاثر، وسبق أن اقترح مفكرون كثيرون على مدى السنين صورًا مختلفة لهذه الفكرة وإن صاغها كلٌّ مُستقلًّا عن الآخرين، ولعلَّ نظرتي أقرب إلى تلك الصورة التي اقترحها مورتون كرستيانسن٣ في ورقة بحثٍ نشرها حديثًا. وجدير بالذكر أن العنصر الأساسي الذي يُوحِّد بين نهجينا هو الإقرار بدينامية تطورية مشتركة بين اللغة وعائلها، وإذا تخيَّلنا اللغة كائنًا متطفلًا فإن لنا أن نتَّفق على تقدير قوة كامنة لتُنازع المصالح التكاثرية؛ حيث نجد أن بعض القسمات المُميزة للغة قد تظهر على حساب عمليات العائل للتكيُّف، ولنا أيضًا أن نفترض احتمال أن قسماتٍ كثيرة يتعين عليها أن تُجاهد للمرور من جيلٍ إلى جيلٍ أكثر من جهادها لنقل المعلومات.
fig8
شكل ٤-١
شكل ٤-١: رسم أولي يُشير إلى أن اللغات لا بد أن تمر عبر «مصفاة» التعلم الترابطي المُنخفض للأطفال وقيود الذاكرة على المدى القصير حتى يتسنَّى انتقالها بصورةٍ فعَّالة للغاية من جيلٍ إلى الجيل التالي، وبأي درجةٍ من التطابُق، ويسمع الأطفال بشكلٍ انتقائي بعض هياكل اللغة ويُغفلون بعضها الآخر، ويخلقون بذلك قوةً انتخابية كبرى لانتخاب بِنية اللغة الصديقة للطفل.
وطبيعي أن اللغات معتمِدة تمامًا على البشر، وليست كائنات فيزيقية مُستقلة، مُشبعة بعمليات الأيض الخاصة بها ونظم تكاثُرها، كذلك فإن صورتها المُختلفة تمامًا تُخفي أوجه التماثُل العميقة بينها وبين العمليات الحية، ومن هنا قد يكون من الأفضل تشبيهها بالفيروسات؛ ذلك أن الفيروسات ليست كائنات حية كاملةً ولكنها مع ذلك تُمثل جزءًا وثيق الصلة بشبكةِ العمليات الحية، وتقف الفيروسات عند الحدود الفاصلة بين ما هو حي وغير حي؛ نظرًا لافتقارها إلى أعضاء بأيِّ معنًى من المعاني المعروفة، فضلًا عن افتقارها إلى أي أثرٍ لمنظومات الأيض أو التكاثر، إنها في أدنى صورة من حزم سلاسل الدنا DNA أو الرنا RNA التي تستطيع بشكلٍ مُنتظم أن تدسَّ نفسها، وتنفُذ إلى داخل الخلايا التي تُخطئها بسبب ما تُحركه من نيوكليتايدات، وتُفضي إلى تكاثرها بشكلٍ عرضي وتنسخ متوالياتها الأساسية في صورةِ بروتينات. وعلى الرغم من أنها نسبيًّا تجمُّعات غير حية من الجزيئيات الضخمة macromolecules في ذاتها وبذاتها، فإن المعلومات المُتضمنة داخلها تتطوَّر وتتكيَّف بكفاءةٍ هائلة على نحو ما تُوضح لنا الأوبئة الحديثة.

وحسب هذا المنظور، ليس عسيرًا علينا تصوُّر اللغات وكأنها أشبَه بالفيروسات مُغفِلين الفارق فيما يختصُّ بالآثار البنائية والتدميرية، اللغات مصنوعات بشرية غير حية، أنماط من الأصوات والنقوش على الصلصال أو الورق، تندسُّ وتنفذ إلى داخل نشاط المخ البشري الذي يُضاعف أجزاءها ويجمعها في منظوماتٍ ويُرسلها إلى خارجِه. وإن القول بأن المعلومات المُستنسخة التي تؤلف اللغة ليست منتظمةً داخل كائن حيٍّ لا يستبعد النظر إليها ككيانٍ مُتكيف موحَّد ومتطوِّر مع تطور العائل البشري.

والقول بالنموذج الطفيلي فيه، يقينًا، مبالغة شديدة؛ نظرًا لأن العلاقة بين اللغة والناس تكافُلية. وثمَّة أمثلة كثيرة مألوفة لنا عن كائناتٍ طفيلية متكافلة ومتعايشة معًا موجودة في الطبيعة، وأشهر مثالَين: الكائنات الحية الدقيقة microorganisms التي تعيش في الجهاز الهضمي للبشر، والنمل الأبيض. ونعرف أن كلًّا منهما يساعد العمليات الهضمية لعائلها، وأن ليس بإمكان العائل أو الطفيلي الحياة بدون الآخر، ونعرِف كذلك أن المكفول، أو الكائن الطفيلي الذي يعيش في باطن النمل endosymbiont يفرز إنزيمًا يساعد على تحلُّل السليلوز، وهي وسيلة ما كان بالإمكان أن يتطوَّر بدونها أي كائنٍ حي بدائي. وإن مثل هذه الطفيليات النافعة لا تتناسخ بشكلٍ سلبي؛ إذ نظرًا لأهميتها الحاسمة لحياة النمل الأبيض طور النمل وسائلَ تضمَن تكاثر الطفيليات المتكافلة وانتقالها إلى عوائل أخرى. وجدير بالذكر أن إحدى النمل الأبيض حين تنمو وتكبر وتتخلَّص من هيكلها الخارجي، فإن النملة تلتهِم فورًا هذا الإهاب أو الغلاف الذي يحمل العدوى، أو يلتهِمه أيضًا على الفور أفراد نملٍ آخرون من السرب ذاته، وهكذا تنتقل نُسخ من الطفيلي من خلال هذه العملية. وطبيعي أن العلاقات التكافلية تنشأ وتتطوَّر بحيث يرتبط تكاثر الكائنَين معًا برباطٍ وثيق ما دام هذا الرباط هو أفضل سبيلٍ لنجاح الاثنَين.

ولكن — بالقياس إلى حالة اللغة والبشر — ليس لنا أن ندهش؛ إذ نجد حالات تكيُّف بشري مُعقدة مع اللغة من ناحية، هدفها ضمان استنساخ اللغة بنجاح ومرورها من عائلٍ إلى عائل آخر، ونجد من ناحية أخرى حالات تكيُّف لغوي مع الأطفال هدفها جعل اللغة «معدية» بخاصة منذ فترة باكرة قدْر المُستطاع من النمو البشري. ويحتاج البشر المُحدثون طفيليَّ اللغة أن يزدهر ويتكاثر تمامًا بقدْر ما يحتاج الطفيلي أن يتكاثر البشر. والنتيجة أن كلًّا منهما تطور بالقياس إلى الآخر، لقد تعدل كلٌّ منهما من حيث الاستجابة إزاء قيود ومُتطلبات الآخر، ونلحظ أن تكيف الطفيليِّ مع عائلِه — خاصة الأطفال — يُشكل الأساس لنظرية التعلُّم المتبصِّر للغة، وعلى الرغم من أن هذا تصوير كاريكاتوري فإنها في هذا ليست دون البديل الجيني والبديل التجريبي، فضلًا عن إدراكها بقدْرٍ أكبر من الدقة الدفعة الدينامية والجذبة الانحيازية اللتَين صاغتا معًا كلًّا من اللغات والمخ البشري.

وطبيعي أن القياس على كائنٍ حيٍّ يعالج اللغة باعتبارها أكثر استقلالًا ذاتيًّا وتشخُّصًا فرديًّا مما هو مقبول عقلًا؛ نظرًا لأن أي لغةٍ بعينها هي على أكثر تقدير كيانٌ إحصائي مُبهم، كما أن اللغة في مُجملها ليست محددة بشكل واضح، بل دون الكائن الحي من حيث التحديد، ومع هذا ثمة عددٌ من الموازيات المناظرة المفيدة، مثال ذلك الكلمات والقواعد التي تؤلف اللغة ليست مجرد أفرادٍ في مجموعة، وإنما هي منظمة تنظيمًا عاليًا، ومعتمدة على بعضها إلى حدٍّ كبير مثلما هو حال الجينات والأعضاء في جسم الكائن الحي. ويمكن القول من منظورٍ فردي فريد أن التماثُل أقوى من ذلك؛ إذ إن البنية المنطقية للُّغة يجري استنساخها (اكتسابها) وتمضي عابرة لتنتقِل في صورة منظومةٍ كاملة وليس مجرد مجموعة كلمات. وعلى الرغم من أننا نتعلَّمها كلمةً كلمة وعبارةً عبارة، فإن ما تم اكتسابه يُصبح فقط لغةً عندما يتم استدخال سبل استخدام هذه الكلمات إلى أن يُصبح المرء قادرًا على معرفة كيف يصوغ في عباراتٍ جميع الأفكار التي تُعبر عنها الكلمات المتاحة له، وأن يكون كذلك قادرًا على تحديد الطبيعة النحوية grammaticality لأيِّ جُمَل جديدة مؤلَّفة من الكلمات المعروفة. وإذا كان الأطفال يقضون سنواتٍ لتطوير مسرد ألفاظٍ واسع النطاق، فإنهم سرعان ما يملكون ناصية القلب المحوري للقواعد الذي يُعطي كل الكلمات الجديدة وظيفةً نحوية مُحددة سابقًا. ولنا أن نتصوَّر هذا القلب المكتفي بذاته المؤلَّف من قواعد النحو وبناء الجُمَل مع عددٍ كافٍ من الكلمات لتحديد جميع الفئات الحاسة للكلمات، باعتبارها المنظومة العضوية المُكتملة لكائن عضوي جنيني. وطبيعي أنَّ أيَّ مفردات إضافية تُفضي إلى تضخُّم الجميع، وتجعله يكبُر وينضج دون أن يُغير التنظيم الأساسي له.

واللغات هي تجريدات، إنها مجموعة مُبهمة من السلوكيات الموصوفة عرضًا بمنظوماتٍ منطقية لقواعد مُحددة، وعلى الرغم من أن ما يعرفه امرؤ عن لُغته المحلية يمكن وصفه إلى حدٍّ كبير بهذه الطريقة فإن ما هو قاسم مشترك بين المتحدِّثين بالإنجليزية أو اليابانية يمكن تجميعه بطريقةٍ إحصائية في صورة عنقودية؛ لذلك فإن اللغة المشتركة التي تربط فريقًا اجتماعيًّا، مثلها مثل غالبية الخصائص المميزة للأنواع البيولوجية والجماعات الاجتماعية، يمكن وصفها بأنها أشبه بمجموعةٍ من اللغات المتشابهة ولكن ليست متطابقة. معنى هذا أن لغة مجتمع بأكمله — مثلها مثل النوع — هي خزَّان طبيعي من التبايُن والتنوع مع بعض القسمات التي تُصبح أقل تبايُنًا وقسمات أخرى تصبح مع الزمن أكثر تبايُنًا.

ويستخدِم التبايُن في اللغة علاماتٍ تصل إلى الموازي النهائي الأكثر ارتباطًا بالموضوع: تطور اللغة. ومع انتقال اللغة من جيلٍ إلى جيلٍ تنزع المفردات وقواعد البناء اللغوي إلى إدخال تعديلاتٍ عن طريق نقل أخطاء بفضل الإبداع النشط لمُستخدميها، وأيضًا بفضل تأثير لغاتٍ أخرى، ولا ريب في أن مجتمعات اللغات المُنعزلة التي تبدأ بلغةٍ مشتركة سوف تتبع أنماطًا مُتبايِنة من التغيُّر العفوي، ويُفضي هذا في النهاية إلى تباينٍ جذري بين الكلمات وبناء العبارات والبناء النحوي، بحيث سيجد الناس أن من المُستحيل مزج عناصر الاثنين دون حدوث تشوُّش. ولنا أن نقول — قياسًا على التطوُّر البيولوجي: إن سلالاتٍ مختلفة للغة سلفية مشتركة سوف تتباعَد وتتبايَن كثيرًا بعضها عن بعض بحيث تُصبح مع التكاثر غير متآلِفة، وتنعكس حالة عدم قابلية الامتزاج هذه في أمخاخ المُتحدثين بلغتَين بطلاقة؛ إذ ينزع هؤلاء إلى أن تتكوَّن لديهم مراكز عصبية مختلفة للُّغتَين اللتَين يتحدثون بهما، وتأكد هذا من واقع أن مثل هؤلاء الأفراد عند إصابتهم بجلطةٍ في المخ أو تنبيهٍ كهربي أو غير ذلك من اضطرابات عصبية نفسية، فإن الإصابة يمكن أن تؤثر في كلِّ لغةٍ بمعزل عن الأخرى. ويفرض هذا الفصل الفيزيقي في الغالب الأعم واقِع أن اللغتَين سوف تتنافسان، لولا ذلك، لاستخدام المنظومات العصبية نفسها، وبهذا تتداخلان معًا (انظر فصل ١٥)، وإن اللغة، عند المستوى الذي يعرفه الفرد، أشبه كثيرًا بالجسم التكافُلي الشخصي للمرء.

وثمة تناظرات وظيفية مُماثلة، اقترحها بعض الباحثين وسيلةً لوصف الاعتماد الدينامي المتبادل بين الكثير من العمليات التطورية البيولوجية والاجتماعية، ونعرف أن النماذج التطورية ليست جديدةً على العلوم الاجتماعية، ولها تاريخ طويل في اللسانيات أطول مما هو الحال في البيولوجيا، ومع ذلك، بدأ الباحثون منذ عهدٍ قريب فقط في تصوُّر هذه العلاقة وكأن المصنوعات الفنية والتقنيات والعادات، بل الأفكار والمُعتقَدات إنما هي كائنات حيةً منفصلة بعضها عن بعض، ويتجاوز الأمر هنا مجرد المجاز. وثمة معقولية على قدْرٍ من الأهمية في النظر إلى المصنوعات الفنية والمُمارسات الاجتماعية، باعتبار أنها تتطور في موازاة عائلها الحي، وأنها ليست مجرد ظواهر ثانوية مصاحبة؛ إذ لا بدَّ من تكاثُرها وإعادة إنتاجها من جيلٍ إلى الجيل التالي، وأن يجري استنساخها مع تعلُّم كل شخصٍ جديد لها، فينسخها ويُحاكيها أو يجد نفسه مُضطرًّا إلى التوافُق معها، ولكن لهذا السبب هناك إمكانية للتجديدات وللأخطاء من مثل عمليات إعادة التوليف والطفرات في التطوُّر البيولوجي الذي يؤدي إلى دخول نوعٍ جديد في العملية مع الزمن، ويمكن للانحيازات أن تتسلَّل إلى العملية وتؤثر فيما يتعين تكاثره أو عدم تكاثره، ويُشبه هذا تمامًا الانتخاب الطبيعي الذي يُؤثِر سماتٍ وراثية بعينها، وإن هذه الوحدات من المعلومات الثقافية المُستنسخة (ريتشارد دوكنز سكَّ مصطلحًا هو «الميمات»؛ ليكون نظيرًا ثقافيًّا لمصطلح الجينات) التي يمكن أن تُفضي إلى درجةٍ عالية من احتمال تكاثُرها سوف تبقى زمنًا أطول وتنتشِر مع الزمن ليستخدمها الأفراد على عكس الحال بالنسبة للوحدات التي لا تُعزز فُرَص تكاثرها. وجدير بالذِّكر أن مصادر الانتخاب — التي تُحدد ما يتعين وما لا يتعين أن يمرَّ إلى أجيال المستقبل — لا تتضمن فقط نفع هذه الميمات والنتائج المترتبة عليها، بل تتضمن أيضًا الانحيازات التي يفرضها نمط نقلها (العقل البشري) والخصائص المميزة لمنظوماتها الإيكولوجية ecosystem الثقافية (منظومات الميمات الأخرى).

اللغة ظاهرة اجتماعية، ومن ثم فإن التفكير فيها من خلال نظرة شكلية فقط، أو نفسية أو عصبية بيولوجية فقط، يعني أننا نُجردها من أسباب وجودها. وطبيعي أن ظاهرة اجتماعية مثل اللغة لن يتسنى تفسيرها تفسيرًا وافيًا دون الرجوع إلى الدينامية التطورية الاجتماعية، وكذا إلى الدينامية التطورية البيولوجية، وإن مصدر المعلومات الذي يفضي إلى «نمو» لغةٍ ما ليس كامنًا لا في مكنز النصوص والتصويبات المعروضة على الطفل، ولا في مخ الطفل لكي يكونا هما المبتدأ، إنه موزع بكثافة وعلى نطاق واسع عبر تفاعلات كثيرة بين تعلم الأطفال وتطور المجتمع صاحب اللغة.

وإن مفتاح فهم قابلية تعلم اللغة لا يكمن في السياق الاجتماعي الثري للتدرب على اللغة، ولا في التخمينات الحصيفة لصغار متعلمي اللغة، ولكن الصواب أنه يكمن في عمليةٍ تبدو لنا — من ناحية أخرى — بعيدةً جدًّا عن العالم الصغير للأطفال الدارجين ومن يتولَّون رعايتهم، تغير اللغة، ويبدو معدل التغير التطوري الاجتماعي في بِنية اللغة ثابتًا لا يتغير بالمقارنة بالزمن الذي يستغرقه الطفل لتطوير قدراتٍ لغوية، ولكن على الرغم من هذا فإن هذه العملية حاسمة لفهم كيف يمكن للطفل أن يتعلم لغةً تبدو في ظاهرها مُعقدة أشد التعقُّد، ويتعذَّر تعلُّمها بشكلٍ جيد، إن الميكانيزمات الدافعة لتغيُّر اللغة على المستوى الثقافي الاجتماعي مسئولة أيضًا عن تعلُّم اللغة اليومية.

نشوء الكليات

أعتقد أن إدراك قدرة اللغات على التطور والتكيُّف مع العوائل البشرية، أمر حاسم على الطريق لفهم لُغزٍ ظلَّ غامضًا زمنًا طويلًا بشأن اللغة، ظهرت بسببه لتفسيره نظريات المعرفة الفطرية. إن الكليات النحوية grammatical universals موجودة، بيد أنني أريد أن أُشير إلى أن وجودها لا يُفيد ضمنًا أنها صِيغت سابقًا في المخِّ مثل أحداثٍ تطورية تجمَّدت، وأشكُّ في الحقيقة أن القواعد الكلية أو البدهيات الضمنية للنحو ليست حقيقةً مختزنة أو موضوعة في مكانٍ ما، وأنها ليست مُحددة على الإطلاق، ولكنني أريد أن أقول بدلًا من ذلك باحتمالٍ جذري يُفيد بأنها ظهرت تلقائيًّا وبشكلٍ مستقل في كل لغةٍ متطورة استجابة لانحيازاتٍ كلية في عمليات الانتخاب المؤثرة في نقل اللغة، إنها قسَمات متقاربة لتطوُّر اللغة كما هو الحال بالنسبة لزعانف الظهر في سمك القرش والدلافين التي هي تكيُّفات مُستقلة متقاربة للأنواع المائية، والملاحظ — مثلما هو حال نظائرها البيولوجية — أن هذه الصفات العامة الهيكلية موجودة في جميع اللغات، وقد ظهرت كلٌّ منها استجابةً للقيود التي يفرضها سياق تكيُّفي مشترك، وإذا نظرنا إلى بعض مصادر الانتخاب الكلِّي وأثرها في تطوُّر هياكل اللغة نجد أنها تتضمن انحيازاتٍ تعليمية غير ناضجة وانحيازات ذاكرية وإدراكية بشرية، وقيود الدقة الصوتية والسمعية البشرية ومُتطلبات المرجعية الرمزية، وهذا قليل من كثير، وإنها بسبب هذه التأثيرات اللانهائية تبدو اللغات بشكلٍ مُستقل في صورٍ مُتشابهة بعضها مع بعض، ليس من حيث التفاصيل، ولكن من حيث خصائص هيكلية عامة، ولهذا فإن أي اضطرابٍ من شأنه تقويض ملاءمة اللغة مع عائلها سيجري انتخابه كمُخالف مما يُفضي إلى تلاقٍ جديدٍ من حيث الأنماط الكلية، وسوف تكون قوى الانتخاب في أشدِّ كثافتها عند مستوى البنية المنطقية للغة (النحو وبناء الجُمل)، وسبب ذلك أن القسَمات المُميزة عند هذا المستوى شديدة الانتقاد والتفحُّص إزاء المُستنسخ الناجح منها، ولكن قوى التلاقي الأقل حدةً سوف تؤثر أيضًا في القسمات من حيث السيولة الظاهرية والمُميزة النوعية للثقافة مثل مرجعية الكلمة وعلاقات الصوت والمعنى.

وإن أفضل مثال واضح ومفهوم لعملية التلاقي التطورية المشتركة، وإن كان نادرًا أن نجد من يعترِف به كذلك، هو في الحقيقة مثال لحالة المرجعية المتلاقية للكلمة: تطوُّر مصطلحات اللون في لُغات مختلفة ومجتمعات مختلفة، وهذا مثال نموذجي لأنه من ناحيةٍ يجمع ما بين التعسفية الكاملة الواضحة والخصوصيات البيئية المقترنة بربط اسمٍ ما بوضعٍ ما على مدًى مُتصل كيفي، ويجمع من ناحية أخرى بين كُلي بيولوجي عصبي بشري مفهوم جيدًا. ونعرف أن نسبة مرجعية مصطلح لوني ليست مقيدة في جوهرها؛ لأن: أ. اسم اللون يمكن أن يكون أي توليفة من أصواتٍ حلقية بشرية؛ ب. العين البشرية يُمكنها أن ترى كل درجات اللون فيما بين حدود مُعينة للموجة الضوئية؛ ج. يمكن للبشر أن يَعزوا أي مصطلحٍ لأي نقطةٍ على مسار طيف الضوء المرئي؛ لذلك نرى أن أي ربطٍ بين صوت منطوق وتردُّدات ضوئية مُدركة، هو أمر ممكن من حيث المبدأ، وإنَّ ما يُثير الدهشة في لُغات عالم الواقع أن تعيين مواقع مصطلحات الألوان من حيث علاقتها بتردُّدات الضوء ليست محدودة فقط، بل إنها في جوهرها كليةٌ شاملةٌ من نواحٍ كثيرة، إنها من هذه الزاوية تُشبه كثيرًا كليات لغةٍ أخرى، ولكن هل معنى هذا أن مصطلحات الألوان مدمجة في المخ وكأنها شكل أصيل ومُطلق، أو أن جميع مصطلحات الألوان في العالم متفرعة بحكم الانتشار من لغةٍ أمٍّ واحدةٍ؟ وعلى الرغم من أن هذه الأسئلة مُمكنة منطقيًّا فإنه لا دليلَ يدعم أيًّا منها، وتمثل الإجابة أمرًا غاية في الأهمية كما أنها تُلقي ضوءًا كاشفًا على كليات اللغات الأخرى.

وكانت الشرارة التي أثارت الاهتمام بهذه المشكلة هي كتاب ألَّفه برنت برلين وبول كاي، وقد أثبت المؤلِّفان، خلال سلسلةٍ من المقارنات بين الثقافات، وجودَ انتظامٍ مُهم فيما يتعلق بوجود أو غياب مصطلحاتٍ للدلالة على الألوان المُختلفة في المجتمعات المختلفة،٤ وكشفا عن متواليةٍ هرمية في نظام ترتيب مصطلحات الألوان التي تباين وجودها وغيابها في اللغات المختلفة، مثال ذلك أن مجتمعاتٍ نجد فيها أقلَّ عددٍ من مصطلحات الألوان؛ حيث تشتمل على ثلاثة مصطلحاتٍ على الأقل: المعادلة للأسود (المُعتم أو الغامق) والأبيض (الفاتح) والأحمر، وهناك لغات ليس بها سوى مصطلحَين اثنَين للألوان، علاوة على الأسود والأبيض، وهذان الاثنان هما الأحمر والأخضر، وثمة مُجتمعات بها ثلاثة أو أربعة مصطلحات للألوان؛ إذ يُضاف إما الأصفر أو الأزرق أو كلاهما، وأصبحت القدرة على التنبُّؤ بالنمط أقلَّ فأقلَّ بشكلٍ تدريجي مع ازدياد مصطلحات الألوان، ولكن لوحظ بوجهٍ عام أن المصطلحات الإضافية من مصطلحات الألوان هي مصطلحات مكتسبة في صورة أزواجٍ تكميلية مُلائمة لكي تحتل موقعها بين مصطلحات الألوان السابقة؛ حيث الألوان «الأولى الأساسية» (مثل الأحمر والأخضر والأزرق) تقود الحزمة. (انظر شكل ٤-٢) وطبيعي أنه كلما قلَّت المصطلحات، زادت مساحة تطبيقها؛ بحيث إن المجتمعات التي يعوزها مصطلح للدلالة على «الأزرق» يمكن أن تُشير إلى الأشياء الزرقاء باعتبارها «أخضر غامق». أفضى هذا إلى اكتشافٍ آخر جديد اكتشفته إلينور روش Elenor Rosch وزملاؤها،٥ إن أفضل نماذج فيزيقية لمصطلحات ألوان بذاتها، بغض النظر عن كمِّ ما هو موجود منها في اللغة، هي في جوهرها واحدة عند اختيارها من بين مجموعة عشوائية من عينات الألوان، أو بعبارةٍ أخرى نقول: إنه على الرغم من أن الحدود الفاصلة بين لونٍ ما وما يليه الذي له مُصطلح خاص به، تميل إلى أن تكون حدودًا مُتدرجة ومتداخِلة؛ أي ليست تصنيفية مُطلقة، والملاحظ أن مصطلحات الألوان لها، كما هو واضح، شيءٌ يُشبه محور الفئة أو التصنيف: الأقرب إلى الأحمر أو الأقرب إلى الأخضر. وإن الشيء المُثير للدهشة أن الأقرب إلى الأحمر والأقرب إلى الأخضر، وأيًّا كانت المصطلحات المُستخدَمة، يصادف اتفاقًا أساسيًّا بين الناس في مختلِف أنحاء العالم، وعلى الرغم من أن الكلمات نفسها تعسُّفية كما أن الألوان تتداخل بدرجاتٍ مختلفة مع بعضها، فإن الكلمات ليست موضوعةً بشكلٍ تعسفي للدلالة على علاماتٍ مُميزة في طيف الألوان، إنها مُقيَّدة ومحدَّدة عالميًّا.
fig9
شكل ٤-٢
شكل ٤-٢: العوامل التي ينبني عليها تطور ما يقرُب من شمولية تسمية الألوان، التطابق بين التشفير العصبي واللساني للون: (A) خصائص استجابة الخلايا العصبية في النواة الركبية الجنوبية (LGN)٦ المختلفة لموجات الضوء، وتستجيب الخلايا العصبية المُختلفة بطريقةٍ متباينة على أساسٍ تمييزي إلى الأطوال المختلفة دون تداخُل جوهري في الاستجابة إلى الألوان المعارضة (الأحمر مقابل الأخضر، والأزرق مقابل الأصفر) (B) عند عرض عينات من الألوان التي تستغرِق الطيف البصري وطلبنا ترتيبها حسب درجةِ قربها إلى الألوان الأربعة الأساسية نجد أن المُتحدِّثين بالإنجليزية يعرضون أيضًا ما يُشبه الفصل الكامل للألوان المُتعارضة، كما نجد تطابقًا وثيقًا مع أنماط الاستجابة العصبية. (C) أطوال موجات العينات التي اختارها المفحوصون، التي تتطابق على أفضل وجهٍ مع كلٍّ من أسماء الألوان الأساسية في عشرين لغة، ونماذج هذه المراكز التصنيفية لكلِّ خارجة تُبين المصطلح الأساسي للون عبر اللُّغات، هي نماذج مُتمايزة تمامًا بعضها عن بعض سواء عبر اللغات أو فيما بينها، وتتطابق مع مراكز التصنيف العصبية، ونجد أن تمايُزها التصنيفي أكثر وضوحًا من التمايُز العصبي الذي يُشكل أساسًا لها. (D) التتابع من اليسار إلى اليمين الذي تنزع فيه اللغات إلى إضافة مصطلحات ألوان جديدة.
ولكي نفهم لماذا كان ذلك كذلك أرانا بحاجةٍ إلى التفكير في أمرَين: طريقة المخ في تحويل تردُّدات الضوء إلى خبرةٍ ذاتية عن اللون، والطريقة التي يُمكن أن يؤثر بها هذا الوضع على التطوُّر غير الجيني للترابُطات بين كلمة اللون/وإدراك اللون في المجتمع، ثم إن الواقع المُهم بشأن إدراك اللون يتمثَّل في أن اللون هو بمعنًى من المعاني قسمة مُميزة خلقها المخ كوسيلةٍ لتعظيم خبرات مُميزة للفوتونات التي تصطدم بالخلايا المخروطية للشبكية وسط مساراتٍ متداخلة من موجات الضوء المُختلفة، ونعرف أن المنطق الحاسوبي العصبي لعملية التعزيز هذه تُسمى المعالجة بالتقابل opponent processing؛ لأنها تضع في وضع تقابُلي الإشارات الوافدة في كلٍّ من الأنماط الثلاثة المختلفة للخلايا المخروطية (المستقبلات الضوئية في الشبكية ذات الحساسية المختلفة لأحوال موجات الضوء)؛ بحيث تكون كل واحدةٍ مقابلة للأخرى لتُصدِر إشارةً مختلفة، وإن هذه الإشارة من المرتبة الثانية تتطابق على أحسن وجهٍ مع التمايُزات اللونية التي نراها عمليًّا. ونلحظ أن هذه العملية القائمة على التعارُض هي التي تُحدد تكامل الألوان؛ (أي الأحمر مقابل الأخضر والأصفر مقابل الأزرق) على مدى دائرة تُمثل جميع الألوان.

وهي أيضًا مصدر لانحيازات تُشكل أساسًا للطابع الكُلي لتسمية الألوان، وليس الأمر مقصورًا فقط على أن نرى هذه الألوان كألوانٍ مُتمايزة، ولا حتى أننا منحازون فقط إزاء تسمية علاماتٍ بعينها على مدى مجال الطَّيف، (وقد أثبتت صناعتا الإعلان والدهانات أن آلاف التمايزات بين الألوان يمكن أن تُعطيها أسماء لكلِّ واحدةٍ على حدة)، ولكن ما هو أكثر أن هذا من شأنه أن ينحاز إلى التطوُّر المُشترك لأسماء الألوان. إن أنماط الأخطاء المُستخدمة ونقل مصطلحات الألوان، سوف تكون موضع انحياز أشبه بالصبغة المغشوشة، ولهذا فإنه على مدى الزمن سوف تتلاقى المرجعيَّات اللسانية لتضارع البؤر النفسية العصبية للخبرة الإدراكية، وهذه حالة من حالات الانحياز العصبي تعمل كقوةٍ انتخابية دون هوادة في التطور الاجتماعي.

وحتى يتضح لنا كيف يمكن أن يعمل مثل هذا التغير في انحياز اللغة، حريٌّ أن نتأمَّل التجربة الفكرية من أجل سك اسمٍ جديد للون شيءٍ مميز، وليكن لون نوعٍ من الطحلب، ولنسمِّه جرو،٧ ولنفترِض أيضًا أنه لا يُوجَد اسم لون آخر غير الأحمر الموجود في اللغة من قبل، وحيث إن الطحلب لن يكون على الأرجح اللون الأخضر ذاته، كما هو في تعارُضه إدراكيًّا مع الفئة المركزية للأحمر، فإن المصطلح الجديد سوف يبدأ بمرجعيةٍ تُمثل خصوصيةَ ونوعية هذا الشيء، ولكن ليس من المُحتمَل الاستمرار على هذا النحو إذا ما بقِيَ زمنًا طويلًا جدًّا في اللغة، وسبب ذلك أن كلًّا من الذاكرة الخاصة بلون الطحلب والقدرة على التوصيل الدقيق للمعنى المقصود من كلمة جرو، خاصة مع غياب الطحلب الأصلي؛ سوف يكون عُرضةً للخطأ وعدم الدقة، وسوف تقلُّ هذه الأخطاء وتكون عشوائيةً في حالة غياب أي انحيازات، وسيكون لنا أن نتوقَّع أن ينأى بعيدًا بمرور الزمن مرجع الاسم جرو ويبعد عشوائيًّا عن المرجع الأصلي، ولكن نظرًا لأن مجال الطيف الإدراكي به علامات عالية ومنخفضة، إن جاز لنا أن نقول ذلك، فلن يكون الانحراف عشوائيًّا تمامًا؛ إذ إن الأخطاء المتعلِّقة بتذكُّر وتوصيل المرجعية الأصلية لجروٍ ستنزع إلى الانحياز تجاه ما هو أبرز من حيث الوضوح إدراكيًّا، وكذا تجاه ما هو أكثر تباينًا عمليًّا مع اللون المُعارض للون الأحمر: الأخضر. وهذه الأخطاء في نقل المرجعية الدقيقة للون هي النظائر الاجتماعية والنفسية للطفرات، كذلك فإن الانحيازات التي يُضفيها المخ في طريق التذكُّر وتكاثر المرجعية هي نظائر الانتخاب الطبيعي الذي يُؤْثِر بعض التبايُنات المختلفة دون غيرها. والنتيجة أن المرجع سينزع إلى التطوُّر من خلال التكيُّف مع الجهاز العصبي البشري ومع القيود البرجماتية (العملية) في الاستعمالات البشرية، وهكذا سوف يتطوَّر جرو في الواقع العملي؛ بحيث يُشير إلى الأخضر إذا لم يكن ثمَّة مصطلح للدلالة على الأخضر، أو إلى الأزرق إذا كان موجودًا أو يُشير إلى الوسيط الأكثر بروزًا إذا كان الاثنان موجودَين.

الخلاصة أن الطابع الكُلي لمرجعية مصطلح اللون هو تعبير عن انحيازاتٍ عصبية مشتركة، ولكن — وهذه نقطة حاسمة — ترجمة هذا القيد البيولوجي إلى اسمٍ كُلي اجتماعي إنما جاء من خلال عمل قُوى تطورية غير وراثية، أي غير جينية، والمُلاحَظ أنه في حالة غياب عملية تطوُّر اجتماعية فإن مرجعيات اسم اللون ستظلُّ دائمًا وأبدًا ذات خصوصية بِنيوية إزاء الأفراد المُستخدِمين لها، كما تخص عصورًا تاريخية قصيرةً في كل مجتمع. وإنَّ توسُّط الميول التطورية لهذه العلاقة من شأنه أن يضخِّم من تأثيرات الانحيازات الطفيفة بالطريقة نفسها — إلى حدٍّ كبير — التي يضخم بها التحليل الإحصائي قُدرتنا على تحديد الانحيازات الضئيلة التي تؤثِّر في عينات ضخمة، ونعرف أن كلًّا من أخطاء الإشارة إلى الموضوعات النموذجية ومظاهر اللبس في وصف ما نَعنيه تكون منحازةً بطرق مُماثلة، ولهذا السبب فإن كلًّا منهما يعمل على تضخيم الآخر إلى عشرة آلاف مرة، ومن ثَم يُكرر عينات الأخطاء لتنتقل من جيلٍ إلى جيل.

ونجد من نواحٍ كثيرة أن علاقاتِ مرجعية مصطلح اللون الأساسي ثابتة لا تتغير، وكلية الطابع مثلما هو الحال بالنسبة لأي جانب من جوانب المنطق العميق للنحو البشري، ولكن من الواضح أن مصطلحات الألوان ذاتها ليست جزءًا من بِنية المخ، كما أن خيار أي لونٍ لنُسميه بكلمةٍ معينة ليس بالأمر الذي يفرضه الذهن قسرًا، وإن ما هو موجود بشكلٍ كلي وشامل كجزءٍ من بنية المخ هو على الأصح طائفة دقيقة من الانحيازات الإدراكية الحسية، وليست لها أي من الخصائص التصنيفية والرمزية للكلمات. وقد يبدو هذا في ظاهِره للوهلة الأولى مثالًا مبتذلًا من حيث المقارنة مع بعض الجوانب البسيطة للغة، بيد أن دلالات الجوانب الأخرى لتطور اللغة مذهلة حقًّا؛ إذ إنها تؤكد أن الانحيازات، بما في ذلك أضعفها إذا ما ظلت دائمًا وبشكل ثابت ودون تغيير يمكن أن تفضي إلى نتائج تطورية اجتماعية تبدو ظاهريًّا عامة وشاملة؛ بحيث نعتبرها محدودة وحاسمة تمامًا. ولنتأمَّل دقة الفوارق في الوضوح الإدراكي للألوان وإلى أي حدٍّ نحن مقيدون في نسبة الأسماء إلى الألوان. وطبيعي أن مثل هذه الانحيازات الطفيفة في إضافة أخطاء التسمية والاحتفاظ بها يكاد من العسير أن تكون مصدرًا لضغوط انتخابية كثيفة، ولنا مع هذا أن نتأمل النتيجة: الاتساق شبه الكلي الشامل بشأن مرجعية اللون، وهذا — من ناحية ظاهراتية — يؤهل للقول بوجود كلِّيةٍ لسانية حقيقية. هذا على الرغم من أنه ليس قسمةً مُخصصة بالضرورة للغة، كما أنه ليس صفةً لسانية فطرية.

وإذا عرفنا أن الانحيازات الدقيقة تُفضي إلى قسماتٍ لغوية قريبة من الكلية الشاملة، فإن لنا أن نتخيَّل ما الذي يمكن أن تفعله الانحيازات القوية! وما أشدَّ الضغوط الانتخابية؛ قياسًا على بعض القيود الأكثر محدوديةً على الاهتمام البشري والذاكرة العاملة، ومُنتج الصوت والأداء التلقائي للوظائف؟ وطبيعي أن تأثيرات مثل هذه الظروف الأساسية والكلية المحدودة إدراكيًّا على الانتخاب الاجتماعي لعادات بناء اللغة لا بد أنها تأثيرات عميقة، والسؤال: ماذا إذن عن الانحيازات الوافدة من ميراث رئيسي بصري يدوي مُهيمن؟ هل نجد أي غرابةٍ في أن الكثير جدًّا من الوسائل الوصفية والتفسيرية في كل لغات العالم تقتبس الكثير من التماثُلات البصرية واليدوية؟ ووصل الأمر إلى حدِّ أن اقترح البعض أن هذه الأنماط الشاملة في التعبير هي نتائج مفاهيم إدراكية فطرية من مثل استخدام مجازاتٍ مكانية للإشارة إلى الأبعاد الدلالية (السيمانطيقية) (مثال ذلك «حقيقة عُليا، وتطور إلى مدًى أبعد»، و«العلاقة بعيدة المدى»)٨ ولكن ما إن نعرف هذه العملية التطورية، وأنها المصدر الرئيسي وراء الطابع الكلي المُميز للقسمات اللسانية، وكذلك ما إن نتخلَّى عن الزعم بأن القسمة الكلية لا بد أن تكون جزءًا من عتاد المخ حتى يبدو واضحًا لنا أننا ربما نكون قد بخسنا كثيرًا جدًّا من قدْر نطاق وتنوع الكليات أو أشباه الكليات في اللغات. وسبق أن رأى بنيامين لي وورن أن اللغات المختلفة قد تكون شديدة التنوع فيما بينها؛ بحيث إن الكثير من أنماط التفكير الأساسية التي تُعبر بها إحدى اللغات قد يتعذَّر علينا تمامًا ترجمتها، وعندي — في المقابل — أننا أبناء نوع واحد، نتقاسم الكثير من الانحيازات الإدراكية الحسِّية والسلوكية والعاطفية، ولهذا ليس لنا أن ندهش لاتساع نطاق التقاسُم المشترك الذي بلغته القسمات شِبه الكلية في غالبية اللغات مع الأنماط المفاهيمية عالية المُستوى للتمثيل والخطاب.

وسواء استطعنا أم لم نستطع رسمًا موازيًا بالتمام والكمال لجميع أوجه القسَمات الكلية للنحو في اللغات المختلفة، فإن ثمة شيئًا واضحًا تمامًا؛ إذ — بغضِّ النظر عن أيٍّ من الكليات اللغوية هي التي نُفكر فيها؛ سواء صورية أو إدراكية معرفية أو صوتية (فونولوجية) — فإن مِن المُحتمل أنها ظهرت كنتيجةٍ للانحيازات المؤثرة في العمليات التطورية غير الجينية أي الوراثية للغة. ويحدُث هذا بطريقة مُحددة؛ أي مُماثلة للطريقة التي تميل فيها عملية تعيين الألوان في اللغات المختلفة إلى التلاقي بشأن المُشار إليه وكثرة مصطلحات الألوان على مدى خطوط الموازي، وطبيعي أن ليس ثمة شيء ضروري أو مُحدد سابقًا بالنسبة لهذه العمليات؛ إذ ليس من المُحتمَل على الأرجح أن تبقى أي استثناءات لهذه الميول، حتى وإن حدثت لأكثر من فترةٍ زمنية قصيرة جدًّا. ويبين لنا حسب هذا التفسير أن الكليات اللغوية هي كليات إحصائية فقط ولكن دعمَتْها إحصاءات فلكية لملايين المُتحدثين على مدى عشرات آلاف السنين. وعلى الرغم من نشأتها إلى حدٍّ كبير كظاهرةٍ مصاحبة، فإنها كلية على نحوٍ مُطلق إزاء جميع الأغراض العملية.

والنظرية القائلة بوجود قواعد فطرية لنحو اللغة إنما ارتكبت مغالطةً أدَّت قسرًا إلى تحويل العملية التطورية الاجتماعية إلى بنيةٍ شكلية إستاتيكية. إنها لا تُغفل فقط تأثير القوى التي بوسعها تعديل صياغة الكلمة وبناء الجُمَل على مدى الزمن، وكذلك تأثيرات العوامل الداعمة للتلاقي أو اتجاهات التوازي، ولكنها تُغفل أيضًا القوى التي تُحقق لبنيةِ اللغة استقرارَها، وأصبحت بذلك مسئولة عن الحفاظ على الاستعمال المتناغِم بين الأفراد المُعاصرين، وتعرض كل هذا كأنه «مُسلَّمات» دون تفسيرٍ إذا افترضنا أن ثمة تعليمات كلية ثابتة لاستنباط هياكل اللغة. وجدير بالإشارة أن فكرتي هنا ليست أن هذه التعليمات موجودة خارج الطفل في مجتمع اللغة، وإنما أرى أنه لا وجود لهذه التعليمات (إلا في خيالات أولئك الذين يَسطرون كتبًا عن النحو وبناء الكلمات الفطرِيَّين أو «الكاملين»)، والملاحظ أن فئةً من القواعد أو المبادئ الأساسية للتصميم هي أمور زائدة عن الحاجة، ونحن ما إن نقبل واقع أن الرابط من الكليات النفسية إلى الكليات اللسانية هو رابط غير مباشر بصورةٍ مفرطة على أحسن تقدير، هنا يُصبح واضحًا أن تفسير بنية اللغة يستلزم منا توسيع نطاق البحث؛ ليشتمل على طيفٍ واسع مُتباين من عوامل الانحياز.

وهكذا يفرض علماء النحو مشكلاتٍ مناقضة من مِثل عدم القابلية النظرية لتعلُّم النحو وقدرات الاكتساب الإعجازية عند الأطفال، والقول بشمولية القواعد المُجردة غير المنطقية في الغالب للنحو وبناء الجُمل، ولكن حتى لو كانت هذه المشكلات حقيقية إلا أننا — مع هذا — لسنا بحاجةٍ إلى التحوُّل إلى نظريةٍ عن المعرفة اللسانية الفطرية لتفسيرها، ويمكن فهمها باعتبارها نتاج اتجاهاتٍ ثورية اجتماعية مُتلاقية، وباعتبارها عمليات تكيُّف لبنية اللغة تجري تلقائية وموازية بسبب القيود والوجود الكلي الشامل والانحيازات، وهي جميعًا أمور حتمية وتُهيئها أمخاخ البشر، خاصة أمخاخ الأطفال، لقد تكيفت اللُّغات مع أمخاخ البشر كما أن أمخاخ البشر تكيفت مع اللغات، ولكنَّ معدل تغيُّر اللغة أسرع من معدل التغير البيولوجي بمئات أو آلاف المرات؛ إذ تظل البنية المعمارية الأساسية لجميع اللغات محفوظةً لدرجةٍ كبيرة على مدى أبعادٍ طويلة في المكان وفي الزمان، وتظلُّ قابليتها للتعلُّم قائمة على الرغم من التعديلات والتشوُّهات؛ ذلك لأن المتغيرات الأقل قابليةً لأن يتعلَّمها أفراد النوع — أي لم تتكيَّف على نحوٍ جيد وفقًا للعقل البشري — يجري الانتخاب دائمًا ضدها، وما كان بالإمكان أن تثبُت وتبقى طويلًا حتى وإن كانت قواعد بناء اللغة لبعض اللغات الطبيعية التي كانت يومًا «غير بشرية» مثلها مثل بناء اللغات ذي المستوى المُتدني للكومبيوتر؛ ذلك لأن معدلات التعلم البطيء ومعدلات الخطأ العالية أثناء الاستعمال كان لا بد أن رشَّحتها للانطفاء السريع أو انتخبَتْ متغيراتٍ أخرى في بنية اللغة التي من شأنها أن تُخفف العبء، ويبدو أن أطفال البشر لدَيهم استعداد سابق لتخمين قواعد بناء الجُمَل بطريقةٍ صحيحة، وسبب ذلك تحديدًا أن اللغة تتطوَّر بحيث تُجسد في قواعد بنائها الأنماط التي يتكرَّر تخمينها كثيرًا. لقد تطوَّر المخ على نحوٍ مشترك بالنسبة للغة، ولكن اللغات أسهمت بالنصيب الأوفى في عملية التكيف.

التعلم الأفضل عن طريق النسيان

السهولة المُثيرة والمُحيرة في اكتساب صغار الأطفال معرفتهم باللغة ليست وحدها الجانب الخاص بسلوك الأطفال الذي قدم — كما يبدو — دعمًا لمفهوم غريزة اللغة؛ إذ ثمة، كما هو واضح، سببٌ آخر قوي يدعم القول بآلية اكتسابٍ فطرية وعالية التخصُّص، كما أنها إحدى المكوِّنات البنيوية التي تعمل أفضل من قدرة الكبار على اكتساب اللغة، ويبدو أنهم يتعلَّمُونها بطريقةٍ مختلفة تمامًا. وللحق فإنه، وقبل شومسكي والباحثين معه، كان هناك من أشاروا إلى وجود «فترةٍ حرجة وحاسمة لاكتساب اللغة». معنى هذا أن المفهوم له جذوره العميقة، وسبق أن قدم فرويد نظرياته عن التكوين النفسي والتنشئة الاجتماعية في مرحلة باكرة جدًّا، وأثر ذلك على أنماط الشخصية والاضطرابات النفسية في الكبر، وزوَّدتنا هذه النظريات منذُ زمنٍ طويلٍ بما نراه مقدمةً للنظريات التي تُحدِّثنا عن الطبيعة الخاصة المُميزة لخبرات الطفولة، وسبق أيضًا أن قدم علماء السلوك الطبيعي للحيوانات ethologist العديد من الأمثلة لأنماط تعلُّم خاصة مميزة لحيواناتٍ في سنٍّ صغيرة جدًّا، وجدير بالذكر أن أحد الآباء المؤسِّسين في هذا المجال، وهو كونراد لورنتس — برهن كمثالٍ على أن فراخ الإوز بعد الفقس مباشرةً كشفت عن قُدرة تعلُّم شديدة التخصُّص وبسرعةٍ كبيرة للقسمات المُميزة لمن يرعاها سواء إوزة أم إنسان، وهذا هو ما يُسمَّى التعليم المُبكر imprinting، وبعد أن تعلمت فراخ الإوز خلال فترة قصيرة بعد الفقس كشفت عن ارتباطٍ انفعالي قوي، وقد تبقى قريبة قدر المُستطاع بالذي تعلَّمَته مبكرًا سواء كان إنسانًا أو حيوانًا أو أشياء. وثمة مثال وثيق الصلة أكثر بموضوعنا تم اكتشافه لاحقًا ولا يزال موضوعًا للدراسة المُكثفة، وهو تعلم ما يمكن تسميتُه «لهجات» dialects شدو الطير؛ إذ تبيَّن أن الطيور الصداحة الصغيرة تتعلَّم صوت نغمة الصوت المحلية لنوعِها بعد الفقس مباشرةً، ويبدو أنها تستخدِمه كنوعٍ من «القالب» الإدراكي الذي تُقارن على هديه وتواكِب تغريدها هي عندما تبدأ أخيرًا في التغريد في سنِّ البلوغ، والمُلاحَظ أن اكتساب هذا النموذج الإدراكي للتغريد المحلي يحدُث، مثل التعليم المبكر، سريعًا وخلال مرحلةٍ قصيرة ومُميزة من النمو، وإذا لم تصادِف الطيور المُغردة خلال هذه الفترة من حياتها مُدخلات ملائمة، فإنها تفقد القدرة الكاملة لاستكمال ما لم تكتسبه قبلًا، ونجد أن سلوكها اللاحِق تأثَّر على نحوٍ واهٍ وضعيف، إنها شديدة الحساسية لطائفةٍ محدودة جدًّا من المدخلات خلال فترةٍ حرجة، وهي الوقت الذي تضاعفت فيه كثيرًا قُدرتها على تعلُّم تلك التفاصيل، ولهذا السبب كثيرًا ما يُوصَف هذا التعلُّم بأنه «التعلم الفائق» أو «التعلم بناءً على استعدادٍ سابق» prepared learning.
وأوجه التماثُل بشأن كيفية اكتساب الأطفال اللغة واضحة. ويكشف الأطفال عن أهليةٍ في تعلُّم اللغة شديدة الوضوح ومرتبطة بالزمن إلا إذا جاء ذلك في سياقٍ يُعاني من مظاهر عجز القدرات التعليمية، ويلاحظ أن الأعمار التي يميل فيها الأطفال إلى الانتقال عبر مراحل من نموِّ ما قبل اللغة واللغة، مُتماثلة إلى حدٍّ كبير من فردٍ إلى آخر. هذا على الرغم من أن سياقات التنشئة شديدة الاختلاف، واكتساب صغار الأطفال للُغةٍ ثانية تميل إلى أن تكون أسرعَ وأتمَّ مما يُنجزه الكبار، ويبدو أن استجابة الأطفال الإدراكية لأصوات الكلام أميل إلى «الالتزام» بقسَمات موجودة في لُغتهم الأولى منذ العام الأول من حياتهم، ويتولَّد عن هذا غالبًا صعوبة دائمة في تمييز الفونيمات phonemes (عناصر وحدات أصوات المقطع اللفظي)، التي لم يسمعوها أو يستعملوها أثناء الطفولة. وجدير بالذكر أن الأطفال الذين، لسببٍ أو لآخر، حُرموا من فرصة تعلُّم اللغة في طفولتهم الباكرة، من مثل من يُسمَّون الأطفال الوحشيِّين أو البرِّيين ونشئوا في سياقاتٍ بها أدنى حدٍّ من الاتصال البشري إنما يكشفون بالدليل القاطع عن صعوبةٍ كبيرة في اكتساب اللغة بالسهولة المعهودة في الأعمار الكبيرة، ويكشفون بشكلٍ دائمٍ عن مظاهر عجزٍ لغوية. وأخيرًا ثمة تقارير كثيرة تؤكِّد اختلاف النتائج المُترتبة على إصابة المخ وتأثيراتها في القدرات اللغوية بين المرضى الصغار على عكس الكبار، ولُوحظ أكثر من ذلك أن استئصال الجزء الأكبر من نصف الكرة الأيسر للدماغ بما في ذلك المناطق التي كان من المُمكن فيما بعد أن تكون المناطق الكلاسيكية للغة في المخ — خاصةً إذا حدث ذلك في سنٍّ باكرة من الطفولة — قد لا تعوق إمكانية بلوغ المستويات العادية تقريبًا في فهم اللغة عند الكبار وإنتاج اللغة. ونجد في المقابل أن أي إصابةٍ موضعية، حتى أصغرها، تصيب مناطق اللغة في النصف الكروي الأيسر من الدماغ في الطفولة المُتقدمة أو الكبار، يمكن أن تؤدي إلى حالات عجزٍ شديدة وغير قابلة للشفاء، وتزودنا كل هذه الحقائق بحججٍ قوية تؤكد وجود جهازٍ متخصص لاكتساب اللغة Language Acquisition Device (LAD) تم تفعيله خلال فترةٍ حاسمة من نمو الأطفال ثم توقف بعد ذلك. ويبدو هذا مثل النظير لغريزة التغريد عند الطيور المُغردة التي تُغرد نمطًا محددًا من الشدو وسرعان ما تكتسب معلوماتٍ عن كيفية تعديله عندما تتاح فرصة زمنية مُحددة خلال مرحلة النمو الباكرة.

بيد أن أهمية هذه الأنماط ربما لا تكون كما تبدو في ظاهرها، وسبق أن رأينا كيف أن الهياكل النحوية وبناء الجُمَل الشائعة في اللغات ربما تمَّ انتخابها وفق مقتضيات قيود مخ الأطفال. ترى هل يمكن لعملية عكسية موازية للتفسيرات الكلاسيكية لأنماط نمو الأطفال أن تُلقي ضوءًا جديدًا على هذه الفترة الحرجة؟ ثمة مفتاح جديد يُرشدنا إلى نهجٍ آخر بديل هو ثمرة جهود مبذولة لتعليم الشمبانزي منظومة اتصالٍ شِبه لغوي.

إن أكثر القدرات الرمزية تقدمًا، التي تأكدت من خلال أي نوع غير بشري حتى الآن، تطورت في الغالب الأعم عن طريق المصادفة لدى إحدى قردة الشمبانزي الصغيرة المُسماة كانزي،٩ وكانزي هي شمبانزي من فصيلة البونوبو أو شمبانزي قزم بالقياس إلى قردة الشمبانزي الأخرى، وخضعت كانزي لدراسة لغةِ الشمبانزي، وهي الدراسات التي قام بها سو سافاج–رومبو، وديوان رومبو، وجاءت هذه الدراسات بعد سنواتٍ قليلة من الدراسات الأخرى التي شملت فيما شملت الشمبانزي شيرمان وأوستن ولانا التي لخَّصناها في الفصل الثالث، واستطاعت كانزي أن تطور القدرة على الاتصال مُستخدمةً منظومة المفردات البصرية المُصورة نفسها التي تدربت شيرمان وأوستن على استعمالها، ولكن كانزي تفوقت كثيرًا على سابقِيها، وأصبحت الآن قادرةً ليس فقط على الاتصال رمزيًّا مُستخدمةً لوحة مفاتيح الحروف المصورة، بل أيضًا أثبتت قدرةً مُعقدة على فهم لغة الكلام الإنجليزي العادي، بما في ذلك القدرة على تحليل أنواعٍ مختلفة من التكوينات النحوية، مثال ذلك أن كانزي قدمت ما يقرب من ٩٠ بالمائة من الإجابات الصحيحة على طلباتٍ جديدة وشاذة عمليًّا، ولكنها صحيحة من حيث التكوين البنائي للجُمَل، وذلك للتعامُل مع الأطعمة أو أدوات أو أشياء أخرى (مثل: ضع قطعة الصابون فوق التفاحة)، يؤكد هذا أنها لا تستخدِم مجرد التحليل الدلالي (السيمانطيقي) لتخمين معنى الجُمل، وإنما أكثر من ذلك؛ إذ يبدو أنها نظَّمت على نحوٍ رتيبٍ وبشكلٍ تلقائي توليفاتٍ بين المفردات المصورة بحيث تُنتج منها حدًّا أدنى ولكن مُتسقًا من التنظيم الخاص ببناء الجُمل، وذلك في مُخرجاته،١٠ وتفرض هذه القدرات وحدَها تحديًا مُهمًّا للنظريات التي تؤكد أن القدرات اللغوية لا يمكن أن تتحقق بدون قدرٍ من المعرفة الفطرية؛ لكي تكون البداية الأولى لتحليل النحو، ولكن ليس هذا هو بيت القصيد الذي أريد أن أؤكد عليه، كما أنه ليس التحدِّي الكاسح الذي تعرِضه كانزي لأصحاب النظرية الجِبلِّية؛ أي من منظور شومسكي، إننا قد نرتاب في أن قدرات كانزي المُتقدمة هي نتاج عمليات تحسُّنٍ متصلة في مناهج التدريب؛ بحيث إن الباحثين المُجربين أصبحوا أكثر فهمًا وخبرةً بتدريب قردة الشمبانزي، ولكن مع هذا كله، فإن نجاح كانزي لا يمكن في الحقيقة أن نعزوه إلى التقدُّم في التجارب. لقد تعلمت كانزي أن تفهم الكلام وأن تستخدِم مفرداتٍ مصورة استخدامًا رمزيًّا دون تدرُّبٍ صريح.

ونعرف أن كانزي ربَّتها أمٌّ بالتبنِّي اسمها ماتاتا، وكانت ماتاتا هي الموضوع الذي استهدفته جهود الباحِثين لتدريبها بينما كانت كانزي تتشبَّث بها، وتتسلَّق على ظهرها أثناء العملية، وكشفت ماتاتا في النهاية أنها أمٌّ جيدة للتبني، ولكنها ضعيفة جدًّا في تعلُّم اللغة، هذا بينما أثارت كانزي، من ناحية أخرى، دهشة الجميع؛ إذ وضح أن كل ما كانت الأم تُناضل عبثًا لإنجاز ما كان يطلبُه منها الباحثون، كانت كانزي وبشكلٍ عفوي، وربما مرحلي، قد التقطت اللعبة بينما هي تلعب وتزحف حول أمِّها، وإن كان ذلك أقرب إلى التسلية منه للمشاركة الفعلية. وعندما قرر الباحثون أن يوجهوا انتباههم إليها بعد أن بلغت سنًّا تؤهِّلها للتدرُّب، كشفت عن أنها تعرف سابقًا غالبية ما كانوا يُخططون لتعليمها إيَّاه بل أكثر، ووضح أن هذه التلميذة بالمصادفة أكثر كفاءةً وأهلية من أي شمبانزي سابق في أداء المهام الخاصة باللغة التي تم عرضها عليها لأول مرة، واطَّرد تطوُّرها واستخدامها لهذه القدرات على مدى السنين، وهكذا نلحظ أن شيرمان وأوستن احتاجا بالضرورة إلى تدرُّب مباشرٍ ومُعقد؛ بغية التغلُّب على استعدادات التعلم الطبيعية السابقة التي عاقت اكتشافهم لروابط المرجعية الرمزية للمفردات المصورة التي تعلَّماها، بينما نجد العكس؛ إذ تجنَّبت كانزي هذه الطرق المسدودة، واجتازت العتبة الإدراكية المعرفية ذاتها مدعومةً في الغالب بقُدرتها الذاتية التلقائية لبناء العملية التعليمية.

ثمة تفسيران مُحتملان لنجاح كانزي: أحدهما مردُّه إلى فارق النوع (أي النوع الفرعي)؛ إذ ربما أن قردة البونوبو أفضل فطريًّا من حيث أداء مهامَّ من طرازِ اللغة، وسبق بالفعل أن أشار سو سافاج–رومبوغ إلى أن قردة البونوبو في البرية يُمكنها المشاركة في اتصالٍ رمزي تلقائي، ولكن لم يتأكد بالبرهان شيءٌ على هذا القدْر من التعقُّد والشبيه باللغة، ولكن ثمة ما هو أكثر محافظةً وأيسر للدفاع عنه، والذي أراه بتفكيري أكثر إثارة للاهتمام؛ تعلمت كانزي تعليمًا أفضل؛ لأنها ببساطةٍ كانت لم تبلغ سنَّ النُّضج بعد وقتِ تحصيلها للتعليم، وهذه إمكانية أكثر إثارة للاهتمام بسبب دلالاتها الواضحة فيما يتعلق بنموِّ اللغة البشرية وتطوُّرها، وهذا يُلزمنا بأن نصرف اهتمامنا بعيدًا عن المنظور القائل بالخصوصية الجبلِّية الذي يؤكد على إسهام شيءٍ ذاتي جبلِّي في النوع (مثل القول بأهلية فطرية للغة أو استعدادٍ سابق لها)، ومن ثم أن نُوجِّه اهتمامنا إلى الصِّلة الوثيقة بعوامل النضج والنمو؛ إذ لو أن كانزي أفادت ونجحت في اكتساب الرمز وكذا في تطوُّر فَهم الكلام نتيجةً لما تعرضت له منذ الصغر على مدى عمرها، فإنها بذلك كما يبدو تكشف عن تأثير فترةٍ حاسمة من العمل شهدت على الأرجح عملية حفزٍ وتنشيط لآلية خاصة لتعلُّم اللغة خلال تلك الفترة من حياتها.

ولا غرابة في أن قردة الشمبانزي الأخرى التي تدربت على الاتصال بما يُشبه اللغة — لم تكن قد نضجت وكبرت بعدُ بما يكفي. وإذا قارنا قردة الشمبانزي بصغار أطفال البشر نلحظ أن قردة الشمبانزي ناضجة نسبيًّا عند الميلاد، وتعادل تقريبًا طفلًا بشريًّا عمره سنة واحدة؛ لذلك فإن العمر المناظر لذروة الاكتساب لدى الأطفال سيكون بعد فترةٍ وجيزة من ميلاد الشمبانزي، ولكنَّ صغار الشمبانزي مثلها مثل الطفل البشري الذي يحبو؛ بحاجةٍ إلى رعاية دائمة من جانب أُمهاتها (أو من يحلُّ محلها)، وثمة سبب آخر عملي يُفسر لماذا تفضيل قردة الشمبانزي الأكبر قليلًا من حيث العمر؛ إذ في السابق تبين أن صغار أطفال الشمبانزي ضِعاف في تعلُّم أداء مهام مُعقدة، ولذا كان الرأي أنها غير مُفضَّلة لاختيارها للتدرُّب على اللغة، إنها تمامًا مثل صغار أطفال البشر لدَيها ذاكرة ضعيفة فيما يتعلق بالتفاصيل، ثم إنها مُشتتة الذهن إلى أقصى حد، ويصعب حفزها لعملٍ بذاته، وسرعان ما تتململ وتضيق بسهولة، وطبيعي أن هذه التوازيات تُمثل بالنسبة للأطفال ميزةً واضحة عندما يتعلَّق الأمر بتعلم اللغة، ويبدو أن هذا هو الحال أيضًا بالنسبة للقردة كانزي. وهناك جوانب أخرى تظهر فيها قدرات كانزي مُماثلة للأنماط عند الأطفال والمميزة لما لنا أن نُسميه آثار الفترة الحرجة، ولحظ سو سافاج-رومبوغ (في خلال اتصالٍ شخصي) أن كانزي تتمتع على ما يبدو بحسٍّ أفضل كثيرًا إزاء ما هو مناسب أو ليس مناسبًا للاتصال الرمزي واللساني، إنها تكشف عن اهتمامٍ بالمنبه الملائم وبمحددات السياق، وهو ما لا تلتفت إليه قردة الشمبانزي الأخرى التي تدربت في سنٍّ متقدمة، وتريد قدرًا كبيرًا من المساعدة لمعرفة ما الذي يتعين عليها أن تنتبِه إليه. ويبدو أن توجُّه كانزي كلَّه حدَّده انحياز الخبرة الباكرة، وهي في هذا مثلها مثل طفلٍ مُنتبه إلى فونيمات اللغة المحلية.

يبد أن ملاحظة وجود تأثير لفترةٍ حرجة في حياة كانزي، ثم أن نستنتج من ذلك أنه تم تنشيط آلية خاصة لتعلُّم اللغة في هذه المرحلة إنما هو رأي يُغفل تناقضًا صعبًا. إن المشكلة الصارخة المُتعلقة بهذا التفسير حسبما جرى تطبيقها على كانزي هي أن قردة الشمبانزي في البرية لا تتعلَّم لغة؛ لذلك ليس ثمة سبب يفسر لماذا تطوَّرت في مخ كانزي عملية تكيُّف في فترة حرجة خاصة باللغة، وإذا كانت ظاهرة الفترة الحرِجة دليلًا على وجود جهاز اكتساب اللغة فإن السؤال هو: لماذا إحدى القِرَدة العُليا التي لم يتكلَّم أسلافها أبدًا (وهي ذاتها لا يمكن أن تتكلَّم) تؤكد وجود فترة حرِجة لتعلُّم اللغة؟ إن مثال كانزي يكشف عن تحوُّل مفاجئ إزاء حجة الفترة الحرجة عند تطبيقها على اكتساب اللغة لدى الأطفال. وإذا كان التعرض في فترةٍ باكرة من العمل للغة يُمثل ولو جزءًا من التفسير لقدرات كانزي الاستثنائية في اكتساب اللغة، إذن لا بد أنها قابلة لأن نعزوها لشيءٍ ما خاصٍّ بالطفولة بعامة، بغض النظر عن اللغة، وإذا كان وجود قسمة ما غير مُحددة تميز مرحلة عدم البلوغ والنضج هو ما يفسر لنا نجاح كانزي الفائق، إذن لا بد ولو جزئيًّا أن يفسر أيضًا قدرات أطفال البشر، ولكن كيف؟

ثمة بحثٌ ذائع الصيت صدَر بعد فترةٍ وجيزة من نشر شومسكي لدراسته التي تُفيد أن قواعد النحو يمكن أن تكون غير قابلة للتعلم، وصاحب البحث هو فيلسوف لسانيات يُدعى جولد، وحاول جولد، ببحثه أن يُقدم برهانًا أكثر تماسكًا وقوةً ليؤكد حجة شومسكي،١١ قدم برهانًا منطقيًّا انتهى إلى أن قواعد أي منظومة منطقية مع التعقُّد البنيوي للنحو في اللغة الطبيعية لا يمكن اكتشافها استقرائيًّا حتى بشكلٍ نظري، وإن ما يجعلها غير قابلة للتعلُّم، حسب هذه الدراسة، ليس فقط تعقدها، بل واقع أن القواعد ليست معالِم واضحة ومباشرة على سطح أشكال الجمل، إنها على العكس مُجسدة أو مُدمجة في علاقات بين كلماتٍ موزعة على نطاق واسع، ويجري تطبيقها عليها بشكل تكراري؛ (إذ إن القواعد يجري تطبيقها مرات ومرات على نتائج تطبيقاتها)، والنتيجة هي أن الجُمَل تكشف عن هياكل بنائية لغوية تراتُبية؛ حيث شرائح التحوُّلات تُصبح متواريةً وخافية يتضمَّنها المنتج الأخير، وحيث العلاقات البنيوية بين مختلف المستويات يمكنها في أحوال كثيرة أن تتولَّد عنها علاقات تسلسُل كلمات تنتهِك العلاقات التي هي علاقات مناسبة داخل المُستويات، وإذا نظرنا إلى الأمر من منظورِ شخصٍ يحاول تحليل بِنية الجملة (مثل باحث لسانيات أو معلم لغة شاب)، فإن هذا يُفضي إلى مضاعفةٍ هندسية للقواعد الافتراضية المُحتملة التي يتعيَّن اختبارها قبل اكتشاف القواعد «الصحيحة» للُّغة، وطبيعي أنه بدون تصحيحٍ واضح وصريح للخطأ، فلن يكون بالإمكان استبعاد عددٍ فلكي من التوزيعات البديلة للعلاقات بين الكلمات. ويتجلَّى هذا واضحًا بخاصة في الزمن المحدود الذي يكون فيه الأطفال مُهيَّئين لامتلاك ناصية لُغتهم الأولى، وتعتمِد بعض النظريات المعاصرة على هذه الحجَّة وحدَها؛ بغية دعم مزاعم المعرفة النحوية الفطرية، بيد أنها زوَّدتنا بصيغةٍ من أوضح الصِّيَغ التي تكشف لماذا قواعد نحو اللغة الطبيعية تبدو صعبةَ التعلُّم إلى حدٍّ كبير؟
وتشتمِل هذه الحجَّة على عاملٍ حاسم هو على أي نحوٍ نفهم التعلُّم. نعرف أن التعلُّم نؤوِّله في أكثر معانيه خصوصيةً بأنه استقراء منطقي، وتبدأ عملية الاستقراء بمجموعة من الأمثلة الوضعية (مجموعة من الجُمَل النحوية)، ونستقرئ القواعد العامة المُفضية إليها عن طريق مقارنة أوجه التماثُل فيما بينها، معنى هذا أن القواعد المُفترضة محكومة بالعلاقات الإحصائية الواردة ضمنًا في تسلسلات المُدْخل،١٢ وجرى ملاءمة هذا المنطق أيضًا مع مشكلة تعلم اللغة خلال مناقشةٍ مُثيرة بين فيلسوفَين هما وليام رامزي وستيفن ستيك اللذان يؤكدان أنه حتى ولو انبرى عالِم تجريبي مزوَّد بكلِّ أدوات الاستدلال والتحليل التي يُوفرها له العلم الحديث، فإنه سيعجز عن أن يُحدد استقرائيًّا قواعد لغةٍ ما عن طريق تحليل مجموعة محدودة من المنطوقات النحوية،١٣ والملاحظ أن عدد المتغيرات المحتملة في منظومات القواعد التي يمكن استظهارها من هذه العينات للمنطوقات، حتى وإن كانت في ظل ظروفٍ مبسطة، تجعل من غير المأمول اختبار كلٍّ منها في إطارٍ زمني محدود، وخلص الفيلسوفان إلى أنه عن طريق المقارنة فقط مع مجموعةٍ من القواعد النحوية المُستقلة والمحدودة (من مثل المعارف الشخصية للعالم عن النحو الكلي) هنا يمكن أن ينجح العالم في مسعاه، بيد أن هذه المشكلة المنطقية قد لا تضاهي تمامًا المشكلة العملية (البرجماتية) التي يواجهها في الواقع معلِّمو اللغات. إن قواعد النحو تسمح لنا بأن نتنبَّأ بأي توليفةٍ من الكلمات من المُحتمل أو من غير المحتمل أن تنقل قضايا رمزية ملتبسة في لغةٍ ما، ولكن حريٌّ أن نُدرك أن اشتقاق القواعد النحوية استقرائيًّا ليس هو السبيل الوحيد للوصول إلى هذه الأهلية؛ إذ لا بد من الاعتماد على فروضٍ منجزة، ونلحظ أنه على الرغم من القول بأن هذا ينطبق على منهجٍ استقرائي تجريبي فإن هذه الطريقة في طرح مشكلةِ ما الذي يتعيَّن تعلُّمه، ما تزال قاصرة بوضوح.

وجدير بالذكر أن التعلم ليس عملية واحدة، بل هو حصاد عملياتٍ كثيرة، ونلحظ أن كفاءة تعلُّم المرء لشيءٍ ما تعتمد جزئيًّا على التجانس بين العملية التعليمية وبِنية النماذج المُزمَع تعلُّمها. وطبيعي أن ما يُحقق تعلمًا كفؤًا في موقفٍ ما ربما يكون عديم الكفاءة للغاية في موقفٍ آخر. ودفعتُ في الفصل الأخير من الكتاب بأن العلاقات الرمزية ذاتها يصعُب تعلُّمها، لأن البنية تُخالف التوقعات الملائمة لمزيدٍ من النماذج النمطية للتعلم، وتعتبر الرموز المفردة علاماتٍ تُحدد نقاطًا في نمط كامل من العلاقات التي تنعكس فقط بشكلٍ غير مباشر من خلال جُمَل مفردة، ونتيجةً لذلك فإن الاهتمام بالتفاصيل الظاهرة على السطح يمكن أن يكون عمليًّا غير ذي فائدة، ونجد المشكلة مطابقة أو مُماثلة لتعلُّم منطق النحو وبناء الجُمَل إلى حدٍّ كبير؛ لأن هذه الأوجه المميزة للُّغة هي أيضًا تعبيرات سطحية عن الشبكة العميقة للعلاقات الرمزية.

والتزم منذ عهد قريب باحثون من عددٍ من معامل عِلم الإدراك المعرفي cognitive science، نهجًا جديدًا في دراستهم لمشكلة قابلية اللغة للتعلم، وعمدوا في دراستهم إلى استكشاف افتراضاتنا عن نوع عملية التعلُّم التي هي الأكثر ملاءمة لتطوير مهارةٍ معقَّدة من مِثل استخدام الكلام المُركَّب أو المُنظم وفقًا لقواعد بناء الجملة syntactically structured speech. ويبدو أن النهج الأكثر فائدة في هذا المجال إنما تولَّد مرة ثانية عن عمليةٍ مثيرة للجدل؛ إذ إنها قلب للتفكير العام عن التعلُّم، وتلخص هذا النهج عبارة هي «الأقل هو الأكثر» التي اقترحتها إليسا نيوبورت كدليلٍ ممكنٍ للوصول إلى تفسير الطبيعة المُحيرة لتعلُّم اللغة عند الطفل.١٤ إنها مثل المُفكرين من أصحاب النظرية الفطرية أذهلتها هذه القدرة الفائقة في تعلُّم شيء ما بدا ظاهريًّا أصعب كثيرًا جدًّا من أشياء أخرى يُمكن للأطفال تعلُّمها، مثال ذلك أنه كلما كان الطفل أصغر سنًّا، زادت الصعوبة التي تُواجهه إزاء المهام التي تتطلَّب تذكرًا واعيًا للارتباطات الجديدة. والملاحظ أن قوة الذاكرة ذاتها ليست وحدَها الأقل كفاءةً لدى صغار الأطفال بالقياس إلى الكبار منهم، بل إن أيضًا كلًّا من تشتُّتهم الذهني وقِصر مدة عمل الذاكرة النشطة يُسهمان في خلق عقبات إضافية على طريق التعلم الواضح، ويتجلَّى هذا في ممارساتنا العامة؛ إذ نحرص على إبقاء الأطفال خارج المدرسة إلى حين بلوغ الرابعة وحتى السادسة من العمر، وذلك لأنهم في هذه السنِّ غير مُستعدِّين لمتابعة التعليم المُباشر في قاعة الدرس، هذا بدلًا من استنتاج أن هذه القدرة المُحيرة أثبتت أن التعلُّم لا يُمكنه أن يفسر قدرة الأطفال على اكتساب اللغة، ولكن نيوبورت تساءلت بدلًا من ذلك عما إذا كانت قيود التعلُّم لدى الأطفال يمكن أن تُفيد عندما يتعلق الأمر باللغة؟

ولنا أن نقول: إن نظرية نيوبورت في هذا الشأن لها منطقها الذي يُماثل المنطق الخاص بحُجج تطور اللغة التي عرضنا معالمها فيما سبق، وعرفنا أن القيود المؤثرة في أنواع الأغلاط عند نقل توليد وحدات اللغة يُمكن أن تصوغ بقوةٍ أنماط بِنية اللغة، كذلك تمامًا الحال بالنسبة للقيود والانحيازات في التعلُّم تصوغ ما يمكن وما لا يُمكن تعلُّمه، وحريٌّ عند وضع تصميمٍ لجهاز تعلُّم قادر على تعليمٍ أوسع مدى مُمكن من الارتباطات الاعتباطية النظر إلى إمكانية الاستفادة به من حيث جعْلُه غير منحاز، بيد أن اللغة ليست مجرَّد أي نسقٍ من الترابط، وسبق أن رأينا منطقها العميق، للارتباطات المُستمدة من المنطق المنظومي غير المباشر للمرجعية الرمزية، موزعًا ومُنتشرًا على نطاقٍ واسع وليس متمركزًا في موضع بعينه، ورأينا كذلك أن تطبيق هذه العلاقات تأسيسًا على قواعد بناء الجُمَل ينزع إلى صوغ أنماطٍ تراتُبية معقدة. وقد بدأ علماء الحاسوب والإدراك المعرفي يقرُّون أن هذا النوع لنمط مشكلة الإدراك المعرفي المُنتشر يُمكنه بسهولة «هزيمة» مناهج التعلم «بالقوة الغشوم»، ويستلزم، بدلًا من ذلك اتباع بعض الحيل الخاصة لتركيز التعلُّم عند المستوى الصحيح للتحليل وتجنُّب الطرق المسدودة الناجمة عن المسارات الزائفة، وصولًا إلى هذا النوع من التعليم المُلزِم قسرًا؛ لنا أن نبدأ بالصغير البسيط مع عملية تعلُّم لا يسعها حلُّ وحسمُ المشكلةِ كلها معًا. وحاولت نيوبورت وآخرون إيجاد دعمٍ مُستقل لبدهية «الأقل هو الأكثر» بشأن تعلم اللغة.

وبذل باحثون كثيرون سلسلة من الجهود من أجل وضع نموذج لتأثير انحيازات التعلم المختلفة على تعلم اللغة، وتحولوا إلى محاكاة الشبكة العصبية، ونحن لكي نفهم هذه الطرق في الدراسة يلزم أن نعرف ولو بشكل بسيط عامٍّ كيف «تعلم» الشبكات العصبية neural network، علاوة على بعض التفاصيل عن تصميم النمط المميز لبناء الشبكة العصبية الأكثر نجاحًا في عمليات محاكاة تعلم اللغة. وجدير بالذكر أن تسمية هذه المنظومات النموذجية بالشبكات العصبية هو في أحسن الأحوال مماثَلة فضفاضة، وكما يفيد المصطلح فإن نماذج الحاسوب تقتبس بعض قسمات التصميم الذي نتصوَّر أنه حاسم لعمليات المعلومات في المخ، ولكن في الواقع نجد أن الغالبية الساحقة من الشبكات العصبية هي برامج يجري تشغيلها في الأنواع العادية من الحواسب الرقمية السريعة والضخمة، إنها «العمارة الخائلية» لطريقة تناول هذه البرامج للمعلومات هي التي أسبغت عليها اسمها وسِماتها المهمة المميزة.
وتتألف الشبكات العصبية من عناصر بسيطة (عقد nodes) تستجيب بطرقٍ بسيطة (تشغيل وإيقاف) لمدخلاتها، وثمة روابط بين العقد التي تنقل الإشارة الدالة على حالات العُقد الأخرى (انظر شكل ٤-٣)، وتمثل العقد نظائر للخلايا العصبية، كما أن الروابط هي نظائر المحاور axes والزوائد dendrites التي يتم من خلالها ربط الخلايا العصبية بعضها ببعض، و«قراءة» كل عقدة للإشارات على روابط المدخلات من العقد الأخرى هي التي تُحدد تشغيل الشبكة العصبية، وتتبع العقد قاعدة تحويل غاية في البساطة للمدخل والمخرج، وهو ما تنتج عنه إشارة يجري إرسالها عبر روابط مخرجاتها إلى العقد الأخرى، وطبيعي أن إنشاء شبكة قادرة على أداء سلوكيات مهمة يلزم ربط عدد ضخم من العقد بعضها ببعض في أنماطٍ غالبًا ما تتحدَّد بشكلٍ شبه عشوائي وبينها ترابط متداخِل بدرجة عالية، علاوة على هذا فإن بعض العُقد مرتبطة بإشاراتٍ لمدخلات خارجية، بينما عُقَد أخرى مرتبطة بأدوات تسجيل لمخرجات خارجية، ولكن العقد غير المرتبطة مباشرة سواء بالمدخلات أو المخرجات، فإنها تسمى الوحدات الخفية، ويحدد وظيفة لشبكة الوضع النمطي الشامل للإشارات من عُقَد المخرجات output nodes، بالنسبة إلى الأنماط الواصلة إلى عقد المدخلات input nodes، وتحتل هذه العلاقات بين نمط المدخلات إلى نمط المخرجات موقعًا وسطًا على الطريق إلى وضع أنماطٍ للإشارات المُنتشرة عبر شبكة الارتباطات المتداخلة التي تربط عقد المُخرجات والمدخلات عن طريق العقد الخفية الواقعة بينها، وليس بناء على حالة أو نشاط أي عقدةٍ بمفردها.
fig10
شكل ٤-٣
شكل ٤-٣: المنطق الأساسي لمحاكاة الشبكية العصبية، يمكن للشبكة العصبية أن تكون دائرة إلكترونية حقيقية مؤلفة من عُقد فيزيقية وروابط، أو في الغالب محاكاة حاسوبية لسلوك مثل هذا الجهاز، وتتألف الشبكة العصبية الأساسية من ثلاث «شرائح» من العقد (مدخلات، مخرجات، ووحدات خفية) والروابط الموجودة بينها.
(A) تمثل الدوائر في هذا الرسم التخطيطي العقد، وتمثل الخطوط الروابط بين العقد، وتمثل الخطوط العريضة السوداء اختلاف قوى الرابطة. وإن قِيم المدخلات على عقد المدخلات (0s و1s) يجعلها ترسِل إشارة تشغيل أو غلق إلى جميع عقد الوحدات الخفية (عقد بدون روابط مباشرة للمدخلات أو المخرجات) والمرتبطة بها أيضًا، وتؤثر في القيم الخاصة بهذه الوحدات حسب قوة الرابطة، ويستلزم تدريب شبكة استخدام نتائج المخرجات لتقوية أو لإضعاف الروابط (وهو ما توضحه الخطوط بكثافاتها المختلفة) الموجودة بين العقد بطريقة تربِطها بالنجاح أو الفشل في التنبؤ بالارتباطات «الصحيحة». (B) بغية التوصل إلى تنبؤات بشأن نتائج المستقبل فإن تصميمًا متكررًا للشبكة يمكن استخدامه ليدخل ثانيةً قيمًا سابقة خاصة بالوحدات الخفية في مراحل المعالجة التالية، وهذا هو نوع تصميم الشبكة التي استخدمها جيف إيلمان لعمل شبكة تنبؤ بالنحو (انظر النص)، ويتضمن تصميم «الشبكة التكرارية البسيطة» الذي صنعه إيلمان مستويات عديدة من الوحدات الخفية، كما يتضمن كذلك تغذيةً مرتدة لمعلومات وحدةٍ خفية تصنع نوعًا من مدخل «الذاكرة»؛ بغية تعديل أو تغيير المدخلات المباشرة.

وإن ما يجعل سلوكَ مثلِ هذه الشبكات مثيرًا للاهتمام، ومُماثلًا لنظائره البيولوجية هو أن بالإمكان تشغيلها بحيث يمكن لجميع الروابط الموجودة بين العُقَد أن تتعدل وفقًا لعلاقاتها المشتركة مع أنماطٍ مُعينة من المدخلات والمخرجات، وإذا أمكن تعديل «قوى الرابطة» الفردية، بحيث تُضعِف أو تقوِّي تأثير إحدى العُقد على الأخرى، فإن سلوك الشبكة يُمكنه في هذه الحالة أن يتكيف باطراد بحيث يتطابق مع قاعدةٍ مُحددة تربط أنماط المدخلات بأنماط المخرجات، وهذه العملية هي النظير لعمليتَي التدرُّب والتعلم، ويوجَد مدى غير محدود لاستراتيجياتٍ مُحتملة لتنظيم وتدريب الشبكات، وتتشارك جميعها في المنطق العام لتعديل الرابطة المحلية بالنسبة لدليلٍ موضوعي ما للسلوك الشامل، ونلحظ على مسار الكثير من المحاولات إزاء الكثير من المدخلات أن أداء شبكةٍ ما يمكن تدريبه بحيث يتلاقى مع علاقات مدخلات ومُخرجات نحو هدف مُحدد، وتصبح الشبكة تدريجيًّا وبصورة مُطَّردة متكيفة لإنتاج مجموعةٍ سلوكية محددة كنتيجة لعملية انتخاب مُتراكمة وغير مباشرة لانتخاب الحدِّ الأدنى لعناصرِ تصميمٍ مُعينة.

وتكشف الشبكات العصبية المُدربة عن نمَطٍ مثير للانتباه من قدرات الإدراك المعرفي، وهذا شيء يصعب برمجة الحواسب الرقمية على أدائه مُستخدمةً سبل تناول أعلى إلى أسفل مع خطوة خطوة من التعليمات للتحليل، وتدربت الشبكات على «تصنيف» مجموعةٍ من المُنبهات (تستجيب إزاءها على نحوٍ متماثل)، وغالبًا ما تقدم هذه الاستجابة نفسها عندما نُقدِّم لها منبهات جديدة مُماثلة لتلك التي تدربت عليها، أو لنقُلْ بعبارةٍ أخرى، إنها قادرة على (حساسة ﻟ) شيءٍ مثل تعميم المُنبه، وتنعكس هذه الخاصية أيضًا في استجابتها «للتلف»؛ إذ لو قطع امرؤٌ ما حفنةً من الروابط أو جذبَ شريحةً إلى خارج حاسوبٍ رقمي بشكل عفوي، أو حتى لو أنه أدخل مجموعة من إشاراتٍ لا معنى لها في برنامجٍ نقوم بتشغيله (كما يحدث من حينٍ إلى حينٍ عندما يتلوَّث قرص معلومات)، فإن النتيجة الحتمية لذلك هي فشل كارثي: «التحطم» كما يقول البعض، ونجد في المقابل لو أن شبكةً مدربة تَلِفَت بسبب إزالةٍ عفوية لعددٍ من العقد أو الروابط، فإن سلوكها نادرًا ما يفشل بأسلوب الكل أو لا شيء، ولكن بدلًا من ذلك يضعف بشكل متزايد أداء الشبكة العصبية مع زيادة نطاق التلف، وهذا أيضًا يُذكرنا بالطريقة التي يعمل بها الجهاز العصبي استجابةً لتلفٍ أصابه، وهو ما يؤكد لنا أن التماثل ليس سطحيًّا بالكامل.

ويكمُن جوهر هذه السلوكيات في طريقة هذه الشبكات في توزيع المعلومات التي تُجسدها في كل أجزاء الكل الشامل. وكثيرًا ما قارن البعض بين هذا التمثيل الكامل للمعلومات وبين نظام أو نمط الهولوجرام hologram (التداخل بين أشعة الليزر وأشعة الضوء في تصويرٍ ضوئي (فونوجراف)، الذي ينتُج عنه صورة ثلاثية الأبعاد عند النظر إليها من زوايا مختلفة وهو ما نرى أمثلةً كثيرةً له على غالبية بطاقات الائتمان)، و«يحتوي» نظام الهولوجرام على رؤًى كثيرة لصورةٍ ثلاثية الأبعاد، ومن ثم فإن أي منظورٍ مرئي منه يعتمد على زاوية النظر إلى الهولوجرام، وأكثر من هذا أنه حتى لو لم يبقَ سوى جزءٍ ضئيل من البقايا الأصلية، هناك زاوية ما يمكن خلالها رؤية الموضوع المصور، على الرغم من أنه كلما كان الجزء أصغر، أصبحت زوايا النظر أكثر محدودية،١٥ ونلحظ في الشبكة العصبية أن العلاقة التي تُحدد مواضع المدخلات والمخرجات تتفكك إلى أوجهٍ دقيقة للكل الموزع في كل أنحاء الشبكة ومجسدة حرفيًّا في منطقها الترابطي … وحيث إن علاقة المدخل-المخرج تحسبها عمليًّا الشبكة ككل، فإننا نُسميها المعالجة الموزعة على التوازي للمعلومات parallel distributed processing (PDP).
ويعتبر جيف إيلمان من جامعة كاليفورنيا في سانت دييجو أحد روَّاد تطبيق هذا النهج لدراسة مشكلةِ التعلم١٦ استخدم هو وزملاؤه تعديلًا لتصميمٍ متتابع ومنطقي بالأنماط المعروضة، وليس فقط تصنيف أنماط سكونية (إستاتيكية)، ووفاء لهذا الغرض احتاجت شبكاته إلى شيءٍ يناظر الذاكرة قصيرة المدى من أجل إعادة عرض حالات الماضي المباشر والمُستقبل وتعرضه على الحالة الراهنة للشبكة، وحقق الهدف مستخدمًا بِنيةً ذات طرازٍ متميز تُسمَّى الشبكة المتتابعة recurrent net؛ حيث يُعاد إضافة الحالات الماضية للوحدات الخفية في صورة مدخلاتٍ إضافية إلى هذه الوحدات نفسها في مراحل لاحقة من المعالجة، وسمح له هذا بترجمة مشكلة تعلُّم قواعد بناء الجُمَل syntax-learning problem إلى توصيف تنبُّؤي من مُتتاليات الماضي إلى متتاليات المُستقبل من المدخلات، وإذا كانت سلسلة المدخلات ناقصةً غير كاملة، فإن المطلوب من الشبكة هو التنبؤ بأي المُخرجات هو الأنسب ليأتي لاحقًا، وما هو أكثر تحديدًا أننا لو أعطينا الشبكة جملةً جزئية، أي غير مكتملة، فإنها سوف تتنبأ أيُّ الكلمات هي الأنسب لها وفقًا لقواعد بناء الجمل والنحو في اللغة الإنجليزية، وألَّفَت المدخلات التي لقَّمها للشبكة مَكنزًا من جُمَل بسيطة، حيث تم تسجيل وتشفير كلماتٍ مختلفة باعتبارها سلاسل مُتميزة من 0s و1s (أو بعبارة أخرى عُوملت المعاني على أنها غير ذات صلة)، واشتمل التدريب على مقارنة «الكلمات» التالية للتنبُّؤ بالكلمات التالية فعلًا، ثم تعديل قوى ربط الشبكة حسب كيفية مساهمة كلٍّ منها في التنبؤات الصحيحة.
وطبيعي أن شبكةً مدربة تدريبًا كاملًا بحيث يُمكنها تقديم تنبُّؤات صحيحة عن جُمَل جديدة (مناظرة لتعميم المنبه)، سوف تجسد لزومًا في طرازها جوانب البنية الإحصائية للنحو وبناء الجُمَل في اللغة الإنجليزية حتى وإن لم تحتوِ على أية معلومات دلالية (سيمانطيقية)،١٧ وإذا لم تُدرَّب شبكة على أداء ذلك، وكذا شخصٌ ما، فإن الشبكة سوف تُشير إلى أمرَين: (١) أن إحصاءات العلاقات بين الفئات النحوية للكلمات الموجودة في سلاسل التدرب تحتوي على بنيةٍ كافية حتى تستعيد منها الأوضاع النظامية النحوية؛ و(٢) أن هذه الأوضاع والقواعد النظامية يُمكن تعلُّمها في صورة ما دون تصويب مباشر للأخطاء (على أساس القاعدة).
وأوضح إيلمان أن الشبكات المُتتابعة قادرة في الحقيقة على استقراء ما تعلَّمته من مجموعة جُمَل محورية أو نواة مُستخدمة في التدريب إلى جُمَل محورية جديدة مؤلَّفة من الكلمات نفسها،١٨ وأيًّا كان الأمر فإن الشبكات المتتابعة بعد أن تدربت على جُمل أعقد قليلًا أخفقت في التعلم، ولكن ما أن تم إدخال هياكل مُتكررة (عبارات مدمجة أو تحولات هيكلية)، أدَّت إلى فصل وقلب علاقات اتصالٍ بين الكلمات كما هي موجودة في الجُمَل المحورية، لوحظ أنه لم يحدُث أن تلاقت أي كميةٍ من التدرب مع قابلية التنبؤ، وتُمثل التجربة عند هذه النقطة فرضية جولد.
أدرك إيلمان أن هذه المشكلة ما هي إلا صورة مُتغيرة لشيءٍ نلحظه بعامَّةٍ في تجارب الشبكة العصبية الأخرى، نعرف أن الشبكات العصبية تميل إلى التلاقي عند حلولٍ هي دون الأمثل لمشكلات التوزع المُعقد للمواقع mapping التي تزوِّدنا فقط بقدرةٍ تنبؤية ضعيفة؛ بسبب جاذبية الأنماط المحلية لها، وهو ما «يُخفي» الكثير من الأنماط الشاملة، إنها قد تلتصق في «أحواض» الاستجابة دون المُثلى (نوع يُشبه الأخاديد الإحصائية statistical potholes في المشهد التعليمي)؛ ذلك لأن التدرب يُفضي فقط إلى تغيرات متزايدة يمكن أن تتلاقى فقط إزاء حلٍّ لها إذا ما المقاربات الأقرب إليها تزوِّدنا بدقة تنبؤية متزايدة مُطلقًا، معنى هذا أن قابلية التعلُّم رهنَ نوع من المُماثلة بين عملية التعلم وبِنية المشكلة بحيث نجد الحلول الأمثل في «جوار» الحلول المحلية، وواضح أن قواعد بناء اللغة الطبيعية وعمليات التعلُّم الشرطية البسيطة لا تتماثل بهذه الطريقة، ونلحظ في الحقيقة أن مشكلات تعليمية متنوعة تكشف لنا عن هذه القسمة اللامحلية nonlocality، ومن ثمَّ تهزم الكثير من نماذج التعلم القوية المغايرة، ولنا أن نقول بوجهٍ عام: إن حلها يستلزم إعادة تشفير المدخلات على نحوٍ يؤدي إلى خفض الطابع المُنتشر للترابُطات،١٩ وإن الحيلولة دون وقوع الشبكات العصبية داخل شرك أخاديد التعلُّم، يمكن أن نُحققها عن طريق إدخال «ضوضاء» أو تشوش داخل الشبكة لإفساد التلاقي مع الحالات التنبؤية الضعيفة وإقحام «عيِّنات» أوسع نطاقًا من الحلول المُمكنة أو بدلًا من ذلك إدخال انحيازاتٍ ضد القسَمات الشائعة فقط في الحلول دون المُثلى إذا ما وُجِد منها شيء.

واستخدم إيلمان كلتا الاستراتيجيتَين لمساعدة شبكاته على التغلُّب على هذه الصعوبة. أولًا: وجد أن التدرب المرحلي الذي يبدأ بمجموعة أولية من الجمل البسيطة ثم يتبعه لاحقًا تدرب مع مجموعات من جُمل أكثر تركيبًا يمكن أن يُنتج في النهاية شبكاتٍ قادرة على التنبُّؤ بعمليات بناءٍ معقدة للجُمل، ونلحظ أن التدرب المُقيد بضوابط مبكرًا زوَّدنا جوهريًّا بما يكفي من عينةٍ منحازة للعلاقات داخل العبارات؛ بهدف الوصول إلى أدنى حدٍّ من تأثير الاستثناءات على التدريب والناتجة عن العلاقات رفيعة المستوى داخل العبارات. ثانيًا: وجد أنه بسبب الإفساد العشوائي للمُدخلات المُتكررة (خاصة إضعاف الذاكرة قصيرة المدى) أثناء التدرب الباكر، ثم الإنقاص التدريجي لهذه «الضوضاء»، فإن الشبكة يُمكنها أن تتعلَّم قواعد البناء المُعقد للجُمل من مكنز للجُمل المركَّبة والمقدَّم على نحوٍ صحيح منذ البداية، ويلاحظ أن الشبكة في المراحل الأولى للتعلم ستكون عاجزة عن الاحتفاظ بأثرٍ للأشكال النظامية المحلية لفترةٍ طويلة؛ بغية إحداث أي تغييرٍ ثابت في البنية، ولكن الأشكال النظامية ذات الطابع الأكثر شموليةً المميزة للمدخلات ستكون متمثلةً بأكثر من الحاجة في كل أنحاء الشبكة، وهكذا ستنتج تحولات ضعيفة ولكنها مُتسقة في البنية. وتم في النهاية صنع شبكةٍ قادرة على الاحتفاظ بأثرٍ للعلاقات الترابُطية المحلية، وكانت منذ البداية منحازةً ضد دمج معلوماتٍ من تلك التي انتهكت الإحصاءات الشاملة لروابط الكلمات، ويصف إيلمان هذا النمط التعليمي بعبارة «البدء صغيرًا»، ولكنه — مع ذلك — ربما يكون أقربَ إلى الدقةِ لو وصفَه بعبارة «البدء بما هو أَوَّلي»، إنه أشبه بتفسير صورةٍ بصرية عن طريق البدء بعرض نسخةٍ ضبابية تُمثل الكل، ثم بالعمل تدريجيًّا وبشكل مُطَّرد على إظهار التفاصيل الجزئية، بدلًا من محاولة تجميع كثرة من المناظر المُتقاربة المستقلة للصورة والانتقال من التفصيلات إلى الصورة الكاملة. وجدير بالذِّكر أن كلًّا من استراتيجيات التعلُّم التراكمي التي قدَّمها إيلمان جزَّأت بشكلٍ واضح ومؤثر العمليات التعليمية؛ بحيث إن التعلم من أجل التنبؤ بالأنماط عند أحد مستويات البنية انفصل جزئيًّا عن التعلم للتنبؤ بأنماط مستوياتٍ أخرى، وعمد إلى هيكلة العملية التعليمية؛ بحيث لا يمكن منذ البداية تعلم جوانب مُعينة من المشكلة، ومنع بذلك العلاقات التعليمية المُستخدَمة على المستويات المختلفة من بِنية اللغة من التداخل بعضها مع بعض.

وبرهنت هذه المحاكاة على أن بالإمكان وضع تصميمٍ لجهاز يُمكنه التعلم لوضع تنبؤات صحيحة للجُمل بأسلوب استقرائي خالص، دون أن يتوفر له سوى مَكنز لأمثلةٍ إيجابية من النصوص المقبولة، وهو بالدقة ما قال أصحاب نظرية النحو الكلِّي: إنه مُستحيل، وسبيلنا لإنجاز ما «برهن» كثيرون على استحالته، هو بناء العملية التعليمية على نحوٍ مختلف في مراحل التعلم المختلفة. إن ما كان متاحًا تعلُّمه في المراحل الباكرة تمت «تنقيته» (سواء عن طريق التدرب المُتتابع أو كفاءة الشبكة)، وهكذا لا يتبقى متاحًا في أي وقتٍ سوى بعض جوانب المدخلات، وينظم هذا انحيازات التعلم التي تصادَفَ تَطابُقها مع القسمات الهيكلية الحاسمة للمجال المشكلة. وعلى الرغم من أن المعلومات المجسدة في هذه الاستراتيجية للتعلُّم التراكُمي كانت عرضيةً أو غريبة عن مُعطيات اللغة المقدَّمة للشبكة، فإنها كانت أقلَّ وضوحًا بكثيرٍ من النحو الكلي أو في الحقيقة، من أي معلوماتٍ نحوية مُحددة، ولن نجد صعوبةً في تصور كيف يُمكن لهذه القيود الأصلية أن تكون عرضيًّا متاحةً لدعم تعلُّم الكلام الخاضع للقواعد النحوية، هذا على الرغم من أن النقَّاد قد يدفعون بأن مثل هذه المحاكاة لا يسعها أن تُقيم الدليل على القدرة الثابتة والمُتسقة لتعميم هذه «المعرفة» الإحصائية المحدودة عن نحو اللغة والوصول إلى التنوع النظري اللانهائي للجُمَل النحوية المُمكنة، التي يمكن تحديدها على أساس طائفةٍ من قواعد النحو، ويبين هذا يقينًا مدى أهمية بِنية عملية التعلُّم بالنسبة لما يُمكن وما لا يمكن تعلُّمه، والأهم من ذلك أنها تفيد بأن بِنية اللغة والطريقة التي يتعيَّن أن نتعلمها بها مترابطتان، إن ما لا يمكن بلوغه بالضرورة في ضوء شروط تعلُّم عامة يمكن أن يكون أكثر يسرًا في ضوء ظروف أكثر محدودية.

وهذا يزودنا ببعض أدلةٍ جديدة توضح لنا لماذا تعلُّم اللغة عند الأطفال أيسر كثيرًا منه عند الكبار، ولماذا الخبرة اللغوية الباكرة ربما هي التي ساعدت كانزي على التعامُل مع اللغة بالقدْر نفسه. معنى هذا أننا نجد فوائد في تعلم اللغة من توفر عوامل كثيرة مثل: (١) عدم القدرة على تذكر تفاصيل ارتباطات محددة بين الكلمات. (٢) البطء في تعيين توزع الكلمات وعلاقتها بالموضوعات التي تميل إلى الوقوع معًا في السياق نفسه. (٣) أن نتذكَّر فقط العلاقات الأكثر شمولًا وعمومية للوظيفة البنيوية للكلام المنطوق. (٤) أن نجد صعوبةً في الاحتفاظ بأكثر من بضع كلمات من كلامٍ منطوق في الذاكرة قصيرة المدى، وهذا هو الاقتراح الذي قدَّمه كل من إيلمان ونيوبورت للتصدِّي للبديل الجبلِّي القوي، ولنا أن نقول تحديدًا: إنه بسبب قيود التعلُّم عند الأطفال فإن منطق اللغة الشامل ووثيق الصلة ينبثِق أو يطفر من خلفية تفاصيل أخرى شديدة التبايُن يصعب عليهم تتبُّعه، علاوة على مفارقة أنه يُعطيهم انطلاقة أولية منحازة. إن الأطفال لا يمكنهم التحدث عن الأشجار مستقلة أولًا، ولكنهم يُمكنهم أن يروا الغابة ثم تنبثق وتظهر أنماط النمو داخلها.

ونرى أن الدراسة التطورية المشتركة التي توضح معالم اللغات — على خارطة قيود التعلم عند الأطفال — يمكن تعميمها بالتقدُّم خطوةً أبعد لترتبط بمشكلة اكتساب اللغة وهي المشكلة الأساسية قبل غيرها، ويُعتبر فك شفرة المرجعية الرمزية، والارتباطات الرمزية، أمثلة غاية في الوضوح للعلاقات الموزعة على أوسع نطاقٍ تنعكس فقط بشكلٍ غير مباشر للغاية في العلاقات المُترابطة والمتبادلة بين الرموز والموضوعات، والملاحظ أن الرموز يُمكن استخدامها بسهولةٍ حينما يكون التشفير من نظامٍ إلى نظام معروفًا؛ ذلك لأن التحليل الظاهري على الأقل يُمكن اختزاله إلى مشكلة تعيينٍ بسيطة للمواقع، ولكن من المُستحيل تمامًا اكتشاف التسجيل الشفري المَقصور فقط على التكوينات النظامية للارتباطات بين الكلمة والموضوع، والمُشكلة في تعلُّم الرمز، كما هو الحال في المشكلات الأخرى الخاصة بنمط التعلم المُنتشِر، هي تجنب الانجذاب إلى أخاديد التعلم؛ أي الوقوع في حبائل التركيز على احتمالات الارتباطات الفردية بين العلامة والموضوع، ومن ثم فقد الاحتمالات الهامشية غير المحلية للبِنى النظامية للرمز والرمز، ونعرف أن تعلُّم ولو رمزٍ بسيط فقط يستلزم نهجًا من شأنه أن يُرجئ الالتزام بالارتباطات الواضحة البؤرية إلى حين اكتساب بعض العلاقات المُنتشرة الأقل وضوحًا، وهنا نجد أن تحوُّل الانتباه بعيدًا عن تفصيلات العلاقات بين الكلمة والموضوع هو السبيل الوحيد المُحتمَل لملاحظة وجود أنماط أعلى مكانةً من العلاقات التوليفية بين الرموز، وإذا برزت هذه بوضوح فإن من المُرجح أن ندرك المنطق الباطني لعلاقات الترابط غير المباشرة والانتقال من استراتيجيةٍ ذاكرية مباشرة مبنية على أساس الدليل الموضوعي إلى استراتيجيةٍ ذاكرية رمزية غير مباشرة.

والملاحظ في ضوء هذه الطريقة أنَّ تعلم الرمز بعامة له قسمات مميزة كثيرة، تُشبه مشكلة تعلُّم طراز البناء الإحصائي المعقد وغير المباشر لبناء الجُمل، وهذا التوازي ليس توافقًا؛ ذلك لأن النحو وبناء الجُمل يرثان القيود الضمنية في منطق علاقات الرمز والرمز، وهذه في الواقع ليست مشكلات تعلُّم منفصلة؛ لأن القواعد القياسية المنظومية لبناء الجُمل جوهرية لتيسير اكتشاف المنطق التوليفي الذي تنبني عليه الرموز، وتُعتبر المراحل الأولية للتحول الرمزي في الاستراتيجيات الذاكرية، أبعد عن أن تكون بدهيةً بالنسبة للمُتعلم السريع الذي يتعلم التفاصيل بيسر أكثر مما هو الحال بالنسبة لمُتعلم يُعاني حالةً من الضعف؛ ذلك لأن الأخير يرى الصورة الكبيرة، ولكنه فيما يبدو يفقد الطريق إلى التفاصيل. ونقول بوجهٍ عام: إن التحول الأوَّلي للاعتماد على العلاقات الرمزية، خاصةً لدى نوعٍ يفتقد كل مظاهر الدعم الأخرى لتعلُّم الرمز، سوف ينجح على الأرجح إذا انتقلت إليه العملية وهو لا يزال في عمرٍ صغير قدْر المستطاع؛ لذلك فإن تطور نظم الاتصال الرمزي تم على وجهِ الاحتمال وفقًا لعملية انتخابٍ للاكتساب المُبكر منذ بداية ظهورها في مجال الاتصال الهومينيدي (الإنسان الأول)، ومن ثم لا غرابة أن الوقت الأمثل — لبداية اكتشاف القواعد القياسية regularities الخاصة ببناء الجمل في اللغة — إنما كان مع اكتشاف المرجعية الرمزية للمرة الأولى، ولكن تتمتَّع الأمخاخ غير مكتملة النضج بمزايا تتعلق بقدرتها على تحقيق النقلة من الاستراتيجيات المرجعية القائمة على الدليل الموضوعي إلى الاستراتيجيات المرجعية الرمزية، ولكن هذه المزايا ذاتها من شأنها أيضًا أن تحدَّ من تفاصيل وتعقُّد ما كان يُمكن تعلُّمه، ويصبح تعلم التفاصيل مُمكنًا بالنسبة لمخٍّ مكتمل النضج، ولكنه غير مهيَّأٍ بشكل عفوي لمثل هذه الاستبصارات، وهذا من شأنه أن يفرض مشكلاتٍ تتعلق بالتطوُّر المشترك بين المخ واللغة، وهذا ما سوف يشغل القسط الأكبر من بقية الكتاب بشكلٍ أو بآخر، كيف طورت المنظومات الرمزية هياكل تجمَعُ بين القدرة على أن تكون موضوعًا للتعلُّم ومع هذا قادرة على أن تكون معقدة إلى حدٍّ كبير؟ وكيف تطور التعلم البشري والاستعدادات السابقة لاستخدام اللغة؛ لكي تدعم هذَين الشرطَين مع ما يبدو من تناقُضٍ ظاهر بينهما؟
وكانت إيليسا نيوبورت من أوائل من اقترحوا بأن لا ضرورة تُلزمنا بالتفكير في أمر حذق الأطفال للتعلم في ضوء وظيفة نظامٍ خاصٍّ لتعلُّم اللغة، ورأت أن العلاقة ربما تكون عكس ذلك، ولعل الأفضل القول: إن هياكل اللغة تكيفت مع انحيازات وقيود التعلم عند الأطفال؛ لأن اللغات الأسهل اكتسابًا في عمرٍ باكر تنزع إلى التكاثر على نحوٍ أسرع وضبط أعظم من جيلٍ إلى جيلٍ بالقياس على تلك التي تستغرق وقتًا أطولَ أو نُضجًا عصبيًّا؛ لكي يتسنى امتلاك ناصيتها. وتشهد محاولة أي امرئ بالغ لدراسة لغةٍ ثانية لأول مرة بأن اللغة الأولى له تنزع إلى احتكار الموارد الإدراكية المعرفية العصبية بطرُق تجعل من الصعب أكثر على اللغات الأخرى أن «تتقدَّم»، وأن تكون فعالة مثلها، والنتيجة أن قوى الانتخاب الاجتماعية القوية سوف تؤثر في النظم القياسية للغة بهدف خفض العمر الذي يبدأ فيه تعلُّم اللغة. وجدير بالذكر أن لُغات العالم الباقية تطوَّرت جميعها لتكون قابلةً للتعلم في أصغر عمرٍ ممكن، وتحقق هذا تحت تأثير ضغطٍ انتخابي مُستمر من أجل أن تكون لغة يمكن اكتسابها في مراحل نموٍّ باكرة أكثر وأكثر. وهكذا يمكن للُّغات أن يكون تعلُّمها أكثر صعوبةً في مرحلة متأخرة في الحياة لا لشيءٍ سوى لأنها تطوَّرت لتكون أيسر تعليمًا في وقت عدم النضج، ومن ثم فإن الفترة الحرِجة لتعلُّم اللغة يمكن ألا تكون حاسمةً أو محدودة الزمن على الإطلاق، بل مجرد «مسافة فاصلة»٢٠ أو قسمة عرضية لحالة النضج التي تصادَفَ أن تم انتخابها أثناء سباقِ اللغات لاستعمارٍ دائم للأمخاخ الأصغر سنًّا.

وهكذا فإن عدم النُّضج ذاته يمكن أن يُزودنا بجزءٍ من الإجابة على مفارقة ميزة الوقت المُحدد لتعلم اللغة التي برهنت عليها كانزي، إن عدم نضج كانزي جعل من السهل عليها أكثر أن تتحول من المرجعية القائمة على الدليل الموضوعي إلى المرجعية الرمزية، وأن تتعلَّم على الأقل المنطق النحوي كله الخفي وراء سطح بِنية الإنجليزية المنطوقة، ولكن من المُهم بالقدْر نفسه أن كلًّا من نماذج التدرب على الكلمات المصورة المُستخدم مع أمِّها، وكذا بنية قواعد بناء اللغة الإنجليزية ذاتها قد تطوَّرتا في استجابةٍ إلى الصعوبات الناجمة عن ذلك، وأفضى هذا تلقائيًّا إلى أن أصبح جيِّد التوصيل إلى أنماط تعلُّم عقول غير ناضجة بعد، وواضح أن ميزات كانزي وثيقة الصلة باكتساب اللغة البشرية أيضًا؛ ذلك لأنه لو لم تكن قدراتها الغزيرة هي نتيجة مشاركة وحدةٍ ما خاصة لاكتساب اللغة في وقتٍ مُحدد في مخِّها غير البشري، فليس من المرجح لمثل هذه الآلية الخاصة بالفترة الحرجة أن تُقدِّم تفسيرًا كذلك بشأن المعرفة السابقة باللغة لدى الأطفال. ونرى على العكس أن وجود فترةٍ حرجة لتعلُّم اللغة هو تعبير عن الحدود المُقيدة لجهازٍ عصبي لم يكتمل نضجه بالنسبة لمشكلة التعلم التي تفرضها اللغة، وتفرض اللغة المشكلة بهذه الطريقة؛ لأنها تحديدًا تطورت للاستفادة بما تُهيئه حالة عدم اكتمال النضج بشكل طبيعي. وطبيعي أن عدم تعامل المرء وهو ما يزال صغيرًا مع اللغة يحرمه من مزايا التعلُّم هذه، ويجعل كلًّا من التعلم الرمزي وتعلم البناء اللغوي أشدَّ صعوبة بكثير. وعلى الرغم من أن الحيوانات الأكبر سنًّا والأطفال قد يكونون أكثر تعاونًا، وأكثر انتباهًا ولديهم ذاكرات أفضل، فضلًا عن أنهم بعامة تلاميذ أفضل لتعلم أشياء كثيرة أكثر من الأطفال الذين ما يزالون في سنِّ الحبو، فإنهم يكسبون هذه المزايا على حساب الاستعدادات السابقة للتعلُّم الرمزي وتعلُّم بناء الجمل، وهذا هو ما أثبته كثيرون من الأطفال «البريين» الذين ذاع صيتُهم وقد تم اكتشافهم على مدى سنوات بعد أن كبروا معزولين عن الخطاب البشري العادي، وتشهد قيودهم اللغوية الراسخة ليس على غلق أو إيقاف غريزة لغوية خاصة، بل تؤكد الوهن الشديد الذي أصاب انحيازًا غير مُحدد لتعلم اللغة.

وقد يكون هذا مسئولًا أيضًا عن ظاهرةٍ أخرى مثيرة، خاصة باللغة المنحازة التي اعتبرها علماء اللسانيات برهانًا على المعرفة الفطرية ببنية اللغة: الانتقال من اللغات الهجين pidgin إلى اللغات الخلاسية Creole، اللغات الهجين هي لُغات تهجنت قسرًا ونشأت استجابة «للصدام» بين اللغات، ومن ثم جاءت نشأتها على نحوٍ نمطي نتيجة للاستعمار أو العلاقات التجارية، إنها ليست اللغة الأولى لأي امرئ، وكثيرًا ما حظيت بتاريخ عابر للغاية، واتجهت كقاعدة عامة إلى الاختفاء على مدى جيلٍ أو ما شابه ذلك، إنها أشبه بلغةٍ بديلة مؤقتة مؤلفة من مجموعاتٍ من نثار لغوي مأخوذة من كل من اللغتَين المستخدمتَين كجسرٍ لترجمة مشتركة ومفهومة بالتبادل، ولكن على مدى التاريخ المكتوب تلحظ أن عددًا من الشعوب طورت أيضًا لغاتٍ جديدة بشكل مباشر من اللغات الهجين التي تختلف عن كلٍّ من اللغتين «الأم»، وهكذا تظهر اللغة الخلاسية وتكون قادرةً على أن تتأصل سريعًا — على مدى جيلٍ أو جيلَين — حين ينتقل السكان إلى سياقٍ جديد يكونون فيه مُنعزلين. وحدث مثل هذا الشيء على فترات متوالية نتيجة لتجارة العبيد خلال القرون القليلة الماضية، ولكن هل اللافت للانتباه أكثر — حسبما يرى عالم اللسانيات ديريك بيكيرتون — هو أن الهياكل الخاصة ببناء الجُمل لمختلف اللغات الخلاسية غالبًا ما تظهر أكثر تَشابهًا بعضها لبعض من اللغات التي أفرختها، هذا على الرغم من أنها معزولة بعضها عن بعض في أنحاء مختلفة من العالم.٢١ مثال ذلك تميل جميعها ليكون بها أدنى قدْر من التصريف اللغوي وتستخدم حروفًا أو أدوات لتحلَّ محلَّ العلامات الدالة على الزمان في تصريف الأفعال، وتستخدِم التكرار بدلًا من الصفات والظروف كما حدَّت كثيرًا من كلمات الأمر.
والمُلاحَظ تاريخيًّا أن علماء اللسانيات يُنكرون مثل هذه التماثلات نتيجة المقارنة بين اللغات المبسطة، مثل مقارنة بناء جُمَل العناوين الرئيسية في الصحف، أو نتيجة تماثُل عرضي بين اللغات المَعنية موضوع الدراسة، أو فقط مجرد توافق ناتج عن الأعداد المحدودة للبدائل الرئيسية المتاحة لقواعد بناء الجمل، بيدَ أن الغالبية العُظمَى من علماء اللسانيات المقارنة المُعاصرين اتفقت آراؤهم على أن التطابق بين تلك اللغات حقيقة واقعة، وأنها كثيرة العدد جدًّا بما لا يسمح بتفسير الأمر بأنه مجرد متوازيات تلقائية، وأوحى هذا للبعض أن تلك التشابُهات دليل على أن الأصل التاريخي واحد (ربما — في رأي سابير — لغة هجين أولى في البحر المتوسط حملها معهم المُستكشفون البرتغاليون الأول)، ويبدو أن هذا التفسير ليس أقلَّ مصداقيةً في نظر علماء اللسانيات الآخرين؛ بسبب تباعُد العصور الزمنية والتباعُد الشديد في المسافات الفاصلة؛ ونقص الاتصال البرتغالي في حالاتٍ كثيرة، هذا علاوة على أن اللغات الهجين واللغات الخلاسية تكشف عن جذورٍ خاصة بها، ويمكن تتبعها مباشرةً إلى اللغات الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية وغيرها التي كان يتكلم بها المستعمرون في تلك المناطق، زد على ذلك أن اللغات الهجين والخلاسية التي تطورت بدون تأثيرات أوروبية تبدو مشاركة في هذه القسمات،٢٢ ونرى بيكرتون في الرد على القول بهذين البديلَين ورفضهما عقلًا يفسر أوجه التماثُل هذه باعتبارها دليلًا على قالبٍ نحوي فطري يؤكد ذاتها من جديدٍ في كل حالة، بيد أنني أرى أن ثمة بديلًا وسطًا نتبيَّنه بفضل النهج التطوري المشترك الذي توازى مع نهج بيكرتون بالطريقة نفسِها التي تتوازى فيها النظرية التطورية المُشتركة لاكتساب اللغة عند الطفل مع نهج النحو الكلي الشامل.

وتحدث الخلوسة؛ أي التحول إلى لغةٍ خلاسية، حينما يتعرَّض الأطفال إلى لغةٍ هجين باعتبارها اللغة الأولى والوحيدة، ومن ثم تعكس الطرق التي تُعيد بها عقول هؤلاء الأطفال الصغار تفسير منظومة رمزية جزئية وكأنها كاملة تامة. وأنا هنا في هذا الصدد أتبع بيكيرتون في القول بأن أَوجُه التماثل بين اللغات الخلاسية تعكس لنا كيف يملأ الأطفال عفويًّا ما هو مُفتقد، ويعيدون تصنيف ما هو مباشر لهم. وحسب هذا الرأي فإن هذه التماثلات تُهيئ فرصة خاصة لرؤية المرآة المشوشة التي يرى الأطفال من خلالها اللغة، ومن ثمَّ يقدمون لنا البصيرة النافذة لنرى ما يأتي به الأطفال بشكلٍ عادي للمشكلة، وبدلًا من القول بأن هذا يعكس لنا معرفة مدمجة جِبلِّيًّا بالنحو اللغوي، أرى أن هذه التماثُلات المشتركة تخلق قيودًا أصيلة على التعلُّم بدونها يجري انحياز قوي لما تم تعلُّمه وما تم «اختراعه» عفويًّا.

وإذ تتوفر للأطفال قدرات تعلم محدودة، فإنها تلزمهم باستخدام عملية إعادة بناء اللغة المعروضة أمامهم وهي عملية إعادة من كليةٍ إلى نوعية، وتسير من أعلى إلى أسفل، ويجدون أنفسهم بدايةً مُجبَرين على إغفال تفاصيل كثيرة موجودة في المدخلات خلال جهدهم من أجل فكِّ شفرة أساس مرجعيَّتها الرمزية، وهو المطلب الأول والأكثر أساسيةً في مواجهتهم، وقد يساعد هذا على تفسير اختيارات مُعينة منحازة تبدو مصنوعةً بشكلٍ ثابت ومُنسق في عملية الخلوسة، أي التحول إلى لغةٍ خلاسية مثلما يحدُث أيضًا في التطور الطبيعي للغة. مثال ذلك أن الإدراك المبكر للعلاقات التمثيلية الكلية يُمثل ضرورةً لاكتشاف المرجعية الرمزية للكلمات والعبارات، وكذلك إدراك حالة من العجز عن تتبُّع أنماط الترابط المحلي بين الكلمات، يقود صغار الأطفال إلى العمل بدايةً على معالجة عبارات كثيرة باعتبارها كليات غير خاضعة للتحليل، أو بدلًا من ذلك إغفال كل ذلك فيما عدا أكثر العناصر بروزًا وثيقة الصلة بتحليلهم الرمزي للمعنى والمرجعية. وطبيعي أنَّ نُضج القدرات التعليمية فيما بعدُ يمكِّن الأطفال لاحقًا من الْتقاط أنماط الترابُطات بين الكلمات الثاوية داخل العبارات التي لم يتسنَّ ملاحظتها سابقًا، ويؤدي هذا بالضرورة إلى إعادة تشفيرٍ لما يتعلق بالبنية داخل العبارات، بيد أن هذا يُقيده التزام رمزي سابق إزاء العلاقات الكلية للعبارة، ويجعلهم ينحازون للكشف عن وظائف رمزية ثانوية لهذه الأنماط التوليفية فيما بعد، وربما يكون هذا هو الانحياز الذي يؤثر البنية التراتُبية للعبارة والمنعكس في كلٍّ من اكتساب وتطوُّر اللغات. إذن كيف يمكن أن يُفيدنا هذا لتفسير التماثُلات المشتركة في عملية «الخلوسة»، أي التحول إلى لغةٍ خلاسية؛ إن قيود عملية الاكتساب متماثلة دون اعتبارٍ لما إذا كان المدخل لغة كاملة الازدهار أو لغة هجينًا، ولكن باستثناء أنه في الحالة الأخيرة سيكون تنوع هياكل العبارات غير كافٍ بحيث يُفضي بالضرورة إلى تشريح العناصر داخل العبارات، ونتيجة لذلك يمكن أن تتبلور وحدات كاملة من العبارات لتكون وحداتٍ لشِبه كلمات، والمُقيدات النحوية modifiers٢٣ سيجري تشريحها من العبارات في الحد الأدنى لذلك، كذلك فإن افتقاد المورفيمات morphemes٢٤ النحوية الناتجة عن ذلك يتم تعويضها بدلًا من ذلك بعملياتٍ بنائية نحوية للجمل، وطبيعي أن تُفضي هذه القيود إلى نشوء لغةٍ بها أقل حدٍّ مُمكن من عمليات التصريف وقيود تنظيم الكلمات، وهذه خاصية مميزة للغالبية العُظمَى من اللغات الخلاسية واللغات الهجين التي اكتمل تطورها. وهكذا تكون قد أُكمِلت الخلاسية واللغات الهجين التي اكتمل تطورها، وهكذا تكون قد أُكمِلت الدائرة، ويبدو لنا من بين ما يبدو أن اللغات تطورت على نحوٍ تفيد فيه بانحيازات التعلُّم لدى الأطفال، علاوة على ذلك يتضح — أيًّا كان مدى ضعف المدخلات السابقة للغة — أن هذه الانحيازات التعليمية تنزع إلى إعادة صوغ اللغة لتكون ملائمة وصالحة، وتنبثِق الاتجاهات الكلية الشاملة (أو المُتلاقية) في حالة غياب خطةٍ نوعية مُحددة سابقًا سواء في المدخلات أو في العقل.
والمُلاحَظ أن هذه الاستراتيجية تستخدِم عوائق التعلُّم وسيلةً للتغلُّب على صعوباتٍ معينة للتعلم، كذلك تتَّسم بعموميةٍ واسعة تتجاوز الرموز والنحو وقواعد بناء الجمل. ويمكن على سبيل المثال أن تُقدم رؤية نافذة من خلال طريقةٍ مُثيرة للاهتمام؛ من أجل استبقاء قدرات تعلُّم خاصة ومُحددة عرضها من يُسمَّون العلماء البُلْه idiot savants، إن الأشخاص ممن يبدون مُعاقين ذهنيًّا يكشفون بطرقٍ أخرى عن قدراتٍ شبه عبقرية — في عددٍ من مجالات المعرفة المحدودة والمُقيدة — غالبًا ما تكون «مواهب» مُحددة من مثل قدرات حسابية باهرة أو موهبة موسيقية غزيرة أو مهارات فنية تشكيلية. وأفضى هذا بالبعض إلى المجازفة بالقول: إن هؤلاء الأشخاص لديهم مكون «عضو» خاصٌ ما، أو «غريزة» ما مُختصة بمثل هذه المواهب. لقد تطور المخ ليكون قادرًا على استخدام استراتيجيات تعلُّم مختلفة في أزمنةٍ مختلفة وفي ظروف مُختلفة، وغالبًا ما تكون هذه الاستراتيجيات متنافسة بعضها مع بعض من حيث استئثارها بالموارد العصبية، وهذا هو السبب في أن إصابة وعطب إحدى استراتيجيات التعلُّم يمكن أن يؤدي تلقائيًّا إلى انطلاق بعض الموارد لتأخُذ طريقها إلى استراتيجية تعلُّمٍ أخرى مُكملة أو منافية للأخرى المريضة.

صفوة القول: إنني دفعت بأن المصدر الأساسي لكلٍّ من المُفارقتَين الظاهرتَين لتعلُّم اللغة هو فرض مُضلل يقضي بأن التعلم عملية أحادية البعد، وتشتمل هذه العملية على مجموعةٍ من الذاكرات الفردية مَبنية، وحدةً فوق الوحدة الأخرى، وكأن الأمر إضافة مفردات في قائمة، علاوة على ذلك يُفيد الفرض أن بالإمكان في هذه العملية اشتقاق القواعد العامة عن طريق التعميمات الاستقرائية المُستقاة من طائفةٍ محدودة من الأمثلة، وبات واضحًا أن النظرة الأحادية المحدودة قد حدَّت كلًّا من فهمنا لطبيعة المرجعية الرمزية وتحليلنا لكيفية اكتساب الأطفال الأهلية والكفاءة لتوليد منظومةٍ رمزية مُركبة لتُشبه منظومة تراتُبية منطقية مُحكمة القواعد. إن كلًّا مما تم تعليمه والسياق الذي تجري فيه عملية تعلُّم شيءٍ ما قد تكون لهما قسمات مميزة ثابتة، يمكن أن تندمج في استراتيجيات التعلُّم لزيادة التوافق بين عملية التعلم وما تم تعلمه، كذلك فإن الانحيازات تؤثر من حيث كم وكيف ومتى يجري توظيف استراتيجيات التعلم أو صمودها؛ الأمر الذي يمكن أن يُغير جذريًّا مما يمكن تعلُّمه ومن مدى صعوبة أو سهولة هذا الأمر لكي نتعلمه.

وطبيعي أن عدم اكتمال نضج المخ يمثل عقبة تعليمية تساعد كثيرًا في اكتساب اللغة، وعلى الرغم من أساسها الرمزي غير المُسلَّم به بداهةً فإن عدم اكتمال النضج ليس هو كل التفسير اللازم للقدرة اللغوية البشرية؛ إنها من ناحية ليست سوى فكرة تطورية جاءت على سبيل الاستدراك على أساس أن اللغات تكيفت لتُفيد بميزة الانحيازات الطبيعية لأجسام مُضيفيها أو عائلها، وثمة حقيقة واقعة بسيطة، وهي أن الأنواع الأخرى تُعاني مما يقرب من الصعوبات التي لا سبيل إلى التغلب عليها لتعلم لغةٍ بسيطة، حتى في حالة عدم اكتمال النضج، ويؤكد هذا على حدوث تعديلات مهمة في المخ البشري أثناء تطورنا؛ مما ساعد على التغلب على الصعوبات ذاتها، وقد يستهوينا هذا لنقول: إن هذه الاستعدادات العصبية السابقة حريٌّ أن نُسميها «غريزة لغوية» كما يذهب إلى ذلك ستيفن بينكر؛ وذلك لأن هذه الاستعدادات السابقة تجمع بين كونها فطرية وكلية شاملة، وكذلك لأنها تُحدد أننا وحدَنا نجد الاتصال اللساني حدثًا طبيعيًّا، بيد أن هذا يفضي إلى تفسير الأمر في ضوء ثنائيةٍ زائفة أدت إلى إحداث تشوش عميق في مجال بحث أساس اللغة. وكم هو مُضلل أن نتصور أن ما هو فطري في قدراتنا اللغوية هو أي شيءٍ أشبَه بمعرفةٍ سابقة باللغة أو بأبنيتها، هذا بدلًا من القول بوجود عضوٍ لغوي أو معرفةٍ نحوية غريزية أيًّا كانت، وأن ما يفصل البشر عن سواهم انحياز فطري لصالح التعلُّم بطريقةٍ تُقلل إلى أدنى حدٍّ التشوُّش المعرفي الذي تواجهه الأنواع الأخرى عند محاولة اكتشاف المنطق الكامن وراء المرجعية الرمزية، وهو انحيازٌ أكثر قوةً وشمولًا من مجرد عدم اكتمال النضج.

وإن التفكير في أمر اختلافنا الذهني بهذه الطريقة يُزوِّدنا بدليلٍ حاسم يهدينا إلى سرِّ تطوُّر المخ البشري، ونحن نعرف أن الفوارق غير المُكتملة لمجموعة الدارات الكهربائية العصبية يمكن أن تكون مسئولة عن الانحيازات المُعينة للتعلم لدى صغار الأطفال، وإن مظاهر الشذوذ الخلقية في المخ مسئولة على الأرجح عن انحيازات التعلُّم لدى العلماء البُله. ونجد بالمثل تمامًا الفوارق في التنظيم الكلي الشامل للمخ البشري مسئولة أيضًا عن الانحيازات التعليمية الأوسع نطاقًا التي تساعد أطفال البشر وحدَهم دون الأنواع الأخرى على تجاوز العتبة الرمزية symbolic threshold وتعلُّم لغةٍ مُعقدة بشكلٍ هائل. وحريٌّ بنا بدلًا من أن نبحث عن مكوناتٍ عصبية للغة، أو أن نفترِض مقدمًا زيادةً ما كليةً وشاملة في القدرات العامة للتعلُّم أن نُقرر أننا بحاجة إلى أن نبدأ في التفكير من جديد في تطور المخ البشري في ضوء التغيرات التي ربما تولدت عنها انحيازات بعينها تحدد الكيفية التي تنزع بها إلى التعلم. بيد أن الانحيازات ذات الصلة لا بد أنها لا تُماثل أيًّا من انحيازات الأنواع الأخرى، وإن بها مُبالغات بأساليب خاصة مميزة إذا ما سلَّمنا بالطبيعة غير العادية للتعلُّم الرمزي. ولا ريب في أن مثل هذه الفوارق غير المسبوقة في وظيفة المخ البشري إنما تدعمها بالضرورة فوارق غير مسبوقة بالمثل في بِنية المخ البشري. وطبيعي أن اكتشاف كيف يتوافق معًا هذان التحوُّلان الجذريان عن النمَط العام، من شأنه أن يُهيئ لنا رؤًى استبصارية نافذة لمعرفة المبادئ الأساسية للتصميم القائم وراء الوظائف الكلية للمخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥