حجم الذكاء
عندما نفتقد فكرةً ما، يمكن دائمًا أن نجد كلمة تحلُّ محلَّها.
سوء فهم فاضح
بعد أن حدَّدنا مشكلة معرفية لم تكن مُدرَكة في السابق، ألا وهي سبب حاجز تعلم اللغة، لنا الآن أن نوجِّه انتباهنا ثانيةً إلى لُغز التطور البشري، وقد عقدنا العزم على تحقيق هدف جديد: أن نُحدد ماذا حدث لأمخاخ البشر بحيث أصبح بإمكان أسلافنا اختراق ذلك الحاجز. وإذا كانت مشكلة تعلم الرمز هي العتبة الفاصلة التي تفصلنا عن الأنواع الأخرى، إذن لا بد أن ثمة شيئًا غير عادي خاصًّا بعقول البشر ساعدنا على التغلب عليها. وطبيعي أن يكون هذا الفارق الوحيد في نوعه واضحًا بدايةً، ولكن شريطة أن نعرف ما الذي نبحث عنه، وإن جزءًا من المشكلة أن شيئًا ما آخر يبدو وثيق الصلة بوضوح أكثر قد أسر انتباهنا، يُشبه كثيرًا المشتبه به بارتكاب ذنبٍ في لغز جريمةٍ ما، وهو واقع محدد يتعلق بالمخ البشري، ألا وهو الحيرة الكاملة التي تسببت في أن فقدنا نمط أدلة أكثر دقَّة.
وهكذا يمكن اختزال النظرة موضوع الاتفاق إلى عبارة بسيطة هي: «الأكبر أكثر ذكاءً»، بيد أن الباحثين لا يتفقون جميعًا بشأن أفضل السبل لقياس الزيادة المؤثرة في الحجم — هل هي الحجم المطلق أو قياسٍ ما لحجمٍ نسبيٍّ هو الأوثق صلةً بموضوعنا (وهذه مشكلة سنعود إليها بعد قليل) — ولكن يسود اتفاق على نطاقٍ واسع بأن ثمة معيارًا ما يتعلق باتساع نطاق المخ البشري سنجده يُمثل مُعامل الارتباط الأساسي لزيادة قدراتنا الذهنية، ولم يتبقَّ لنا بعد ذلك — على ما يبدو — سوى أن نحدد بدقة كيف أن الزيادة في طرفٍ تتمثل في صورة زيادةٍ في الطرف الآخر، ويؤمن غالبية الباحثين بأنهم يعرفون الإجابة الصحيحة، والمشكلة أنهم لا يعرفون عن يقينٍ كيف يستمدُّونها من الدليل.
وعلى الرغم من وجود قدرٍ من التطابق — دون أدنى شك — بين حجم المخ وقدراته، فإنني أشكُّ في أنها أقل وضوحًا بكثيرٍ مما نتصوَّر. ثمة خطآن حاسمان خافيان داخل هذه الافتراضات المُغرية، أولهما الفكرة القائلة إما أن حجم المخ أو الذكاء يمكن معالجته بطريقةٍ ناجعة باعتباره سمةً أحادية المسار في شموله، والثانية أن الكمية النسبية لنسيج المخ مقارنةً بنسيجٍ ليس من المخ داخل الجسم، بينهم علاقة مشتركة بشكلٍ ما تُشبه على نحوٍ ما الكمية النسبية لقوة حاسوبية حرة. وواضح أن هذين الفرضَين السابقَين أعمَيانا عن رؤية قسماتٍ أخرى لا حصر لها خاصة بتطوُّر المخ واختلافات وظيفة المخ ذات الصلة بقضايا الحجم، وكان من أبرز ضحايا هذا النهج فَهمنا للعلاقة بين حجم المخ البشري والقدرات اللغوية.
وتمثل العلاقة المفترضة بين حجم المخ والذكاء فكرة مُسلَّمًا بها بدهيًّا. وأفرخت قرنًا كاملًا من الدراسات التي حفزتها رؤًى أيديولوجية للكشف عن العلاقة بين العبقرية والإجرام، وأجَّجت سجالاتٍ عدائية عن الكيفية المُثلى لقياس هذه المُتغيرات، وأثمرت مئات الأبحاث التي عُنِيت بدراسة السلوكيات المُحتملة ومعاملات الارتباط الإيكولوجية الخاصة بحجم المخِّ واستبيانها من جميع الجوانب المُمكنة، وما نزال حتى بعد مرور أكثر من قرنٍ من التفكير المُتجدد عن الاحتمالات، تظهر نظريات عن دلالة ودور حجم المخ، وتبدو وكأنها فيض مُستمر لا يتوقف، وليس السبب أننا لم نكتشف بعدُ ما فائدة الذكاء. ولأي شيءٍ هو مفيد. إن الجميع مُتفقون على أن المزيد من الذكاء نافع ومفيد لأي عددٍ من الأمور، وأوضحت نظريات فائدة الذكاء في كلِّ ما يمكن تصوره؛ بغية تفسير سبب ضخامة حجم المخ البشري، بيد أن هذه تحديدًا هي المشكلة، وطبيعي مع وجود مثل هذه الإجابة العامة الغامضة أن يكون من المُتعذِّر صياغة السؤال موضوع البحث صياغةً واضحة لاستخراج العلاقات المشتركة الزائفة؛ إذ ماذا لو أن حجم المخ ليس سمةً فريدة، بل انعكاسًا لتغيراتٍ باطنية كثيرة ومُعقدة ممكنة داخل تنظيم المخ وقد كان لكلٍّ منها نتائجها الوظيفية المختلفة؟ وماذا لو أن الوظائف الذهنية تعكس توازنًا دقيقًا بين انحيازاتٍ كثيرة متكاملة ومتنافسة خاصة بالتعلُّم والإدراك والسلوك، وليست مجرد «قدرة» مفردة.
وليس لنا في الحقيقة أن نُفاجأ إذ نتبيَّن أن الطبيعة لم تكن على خطٍّ مستقيم مُطَّرد في تصميمها للأمخاخ؛ إذ المخ هو العضو الأكثر تعقدًا، فضلًا عن أن مظهره الخارجي لا ينمُّ إلا عن القليل جدًّا فيما يتعلق بتنظيمه الوظيفي، ونعرف أن الأمخاخ لا تفعل شيئًا واحدًا فقط، كما أن وظائف الأمخاخ المختلفة ليست موزعةً على نحوٍ متناسق ومُتماثل في كل أنحاء المخ، فإذا كان حجم المخ البشري سمةً معقدة، وينطوي في داخله على العديد من التغيرات الأعمق من حيث بِنية ووظيفة المخ، إذن فإن جميع الدراسات المشتركة في البحث عما يُمكن أن يكون السبب في أن الأمخاخ تنمو وتكبُر قد لا تكون سوى ممارساتٍ رياضية خرقاء، هذا علاوة على أنَّ أوجُه الاختلاف في البنية المعمارية العصبية التي هي علة الاختلاف في القدرات المعرفية البشرية سوف تستمرُّ في مراوغتنا، ونحن لا نملك ترف افتراض أن المخ البشري أكبر حجمًا فقط ليس إلا، ونرصد جهودنا في سبيل اكتشاف أسباب انتخاب حجمه، وإنما نحن بحاجةٍ إلى النظر أعمق من ذلك.
التقَينا في الفصول السابقة بسلسلةٍ من النتائج المتناقضة التي تفيد أن مشكلة تعلم اللغة ليست صعبة فقط، بل إنها منافية للبداهة بأعمق ما تَعنيه هذه الكلمة، وإن كلًّا من منطق تركيب الجُمَل التكراري والعلاقات الترابُطية المنتشرة متعددة المستويات الداعمة للمرجعية الرمزية هي جوهريًّا مما لا يمكن تعلُّمه عن طريق وسائل «القوة الغشوم» لمعالجة المعلومات. ويُفسر لنا هذا لماذا اللغات، بما في ذلك أبسطها، يكون من شبه المستحيل أن تتعلَّمها أمخاخ غير بشرية؛ ليس بسبب قدرات التعلم المحدودة عند الأنواع الأخرى، وإنما لأن انحيازاتها التعلمية الأصلية تقوِّض العملية قبل أن تبدأ، ووضحت الفكرة تمامًا بفضل واقع أن عقبات التعلُّم في الأمخاخ التي لم يكتمِل نضجها ربما تكون مفيدةً عمليًّا بالنسبة لبعض جوانب تعلُّم اللغة، بيد أن هذه النتائج الشاذة لا تتلاءم بسهولةٍ مع تفسير الفارق الذهني البشري الحاسم الذي تُوجِزه عبارة «الأكبر هو الأذكى». وطبيعي أن تطوير جهاز للتعلُّم أكثر قوةً ليس هو الحل لمشكلة تعلُّم اللغة، يُشير هذا إلى أننا فقدْنا بعض التمايُزات الحاسمة عندما عمدنا إلى تقييم تطوُّر الذكاء البشري في عباراتٍ كلية شاملة.
ومع ذلك، لا مفرَّ من حقيقة أن المخ البشري كبير على نحوٍ غير عادي، سواء من حيث التقدير المُطلق أم النسبي، وطبيعي أن أي قصةٍ عن تطوُّر المخ البشري لا تُجسد هذه الحقيقة تُغفل دليلًا رئيسيًّا يهدينا إلى سرِّ الفارق البشري، وليس السؤال عما إذا كان حجم المخ يُمثل مُعامل ارتباط مُهمًّا لتطور المخ البشري، إنه كذلك، وليس ما إذا كانت أمخاخُنا الكبيرة على نحوٍ غير عادي واختلافات قدراتنا المعرفية مُرتبطةً بعضها ببعض على نحوٍ ما، إنها كذلك دون ريب، وإنما السؤال: ما التغيرات الأخرى في تنظيم المخ المُرتبطة بهذا التغيُّر الكلي الشامل في حجم المخ؟ وما نتائجها الوظيفية؟ ولنا أن نكون على يقينٍ بأن ثمة شيئًا ما ذا صلةٍ بأحجام بِنية المخ يُعتبَر محوريًّا بالنسبة لجذور نشأة العقل البشري، ولكن ما هو؟ للإجابة على هذا نحن بحاجةٍ إلى التزوُّد بفكرةٍ عامة ما توضح لنا كيف تؤثر التغيرات الكيفية في وظائف المخ.
وجدير بالذكر أن مسألة الحجم لها جانبان يتعين تناولهما: الأول: كيف بالدقة والتحديد توزع هذا التغير في الحجم داخل المخ البشري؟ هل هو عامٌّ شامل مثل تكبير صورة فوتوغرافية؟ هل هو استقراء من خلال اتجاهٍ أكثر تعقدًا نجد عرضًا مثيلًا له في كثيرٍ من الأنواع الأخرى؟ هل يشتمل فقط على أجزاءٍ محدودة ومُحددة في المخ؟ ولا ريب أن تحديد أيٌّ من هذه الخيارات هو الحالة التي نَعنيها مسألةٌ أصعب مما يتوقَّع المرء، ثانيًا: ما الوسائل المُمكنة التي يمكن من خلالها أن تؤثر فوارق حجم المخ أو أجزاؤه في وظائف المخ؟ للإجابة على ذلك لدَينا ما يزيد قليلًا عن حالاتٍ مناظِرة فجَّة تساعد على أن نمضي قدمًا، نعرف أن قليلين من علماء الأعصاب هم من بحثوا هذه المسألة بشكلٍ جدِّي فيما عدا أكثر الأساليب عمومية، وثمة أبعادٌ كثيرة خاصة بعوامل الارتباط بين الحجم وتأثيراته قد تكون بحاجةٍ إلى التفكير فيها قبل أن نُقرر أننا نفهم دلالة وأهمية المِثال البشري، إن بِنية المخ الأكبر قد تعني سعةً تخزينية أكبر أو قدرةً تمييزية أكبر، ولكنها قد تعني أيضًا تغيُّراتٍ في معدل المعالجة، وتغيرات في التأثير النسبي الإثاري أو الكفِّي على منظوماتٍ أخرى مرتبطة بها، أو تعني اختلافًا في الميول الأصلية لتوليد الإشارات (مثل فترةٍ دورية أطول للأنشطة الدورية)، كيف لنا أن نتأكد من أننا نعرف ما هو أوثق صلةً بالموضوع؟ ولكن ثمة مشكلة أكثر أساسية: الحجم ليس أمرًا شديد البساطة كما يبدو في ظاهره. السؤال دائمًا «كبير أم صغير بالنسبة لماذا؟»
ونحن باعتبارنا قِرَدةً عُليا ذات أمخاخٍ كبيرة تحتلُّ أعلى درجات سُلَّم التقدم والكمال البيولوجيين — أو هكذا نُحب أن نفكر — فقد اعتدْنا أن نصنف القدرات الذهنية للناس لأغراضٍ عدة في العمل والمدرسة والمُحادثات العرضية، وطبيعي أن نشعر بالرضا والراحة؛ إذ نصنف الأنواع الأخرى بهذه الطريقة أيضًا، وأصبح تقييم الذكاء أداةً واسعة الانتشار لتحديد من يُمكنه ومن لا يُمكنه تأدية جميع أنواع الأعمال ابتداءً من العمل ظهيرًا في مجال اللعب وحتى الالتحاق بمدرسةٍ طبية، ونفترض أننا جميعًا نتمتَّع بقدْر من الذكاء، وأن بالإمكان قياسه ومقارنته من شخصٍ إلى آخر، شأنه شأن طول القامة، ونظرًا لأن الذكاء فيما يبدو يتغير قليلًا، إذا حدث وتغير، على مدى حياة المرء، فإننا نفترض أن له قيمةً ثابتة تحدَّدت في فترةٍ باكرة جدًّا من حياة المرء، ووضعنا اختباراتٍ لقياس هذه القدرة الحاسوبية، اختبارات معامل الذكاء، وعمدنا إلى تشجيع المسئولين في مجتمعنا — مديري المدارس أصحاب الأعمال وغيرهم — لاستخدام هؤلاء حسب المشيئة، ونحن لا نستطيع البدء بقياس ما نكسبه أو نفقده بهذه الوسيلة، تمامًا مثلما لا نستطيع أن نفرد بشكلٍ دقيق مُحدد ما هو الذكاء، ولكن يبدو أن الحجم الكبير نسبيًّا للمخ البشري يُمثل في نظرنا تأكيدًا مقنعًا بأن كمية القدرة الذهنية للمرء وثيقة الصلة بكمية النسيج المُخصص لإنتاجه.
وتقييم فارق حجم المخ البشري ليس مجرد مسألة مقارنة بين أوزان أو أحجام أو حتى عدد الخلايا العصبية، وإنما المسألة ما الذي نريد أن نعرفه عن هذا الفارق؟ هل مجرد الحجم فقط؟ أمخاخنا ليست هي الأكبر حجمًا، ولا تحتوي على أكبر كميةٍ من الخلايا والروابط العصبية، إن الفيلة والحيتان تُنافِسنا على هذا الشرف، نعم لدينا أمخاخ كبيرة لأجسامنا، ولكن في ضوء الواقع النسبي البسيط نجد أن الفئران أكبر مُخًّا. وجدير بالإشارة أن ليس واضحًا لنا بالدقة والتحديد أفضل وأنفع سبلِ تقييم حجم المخ، وتعود المشكلات نفسها إلى السطح في هذه الدراسة التحليلية، سواء نبحث المخ في شموله أم أحجام أجزاء منه، ولعلنا نستطيع التوصُّل إلى فكرةٍ أوضح عن المشكلة عندما نبحث منظومةً عضوية أقل تركيبًا باعتبارها نظيرًا ومثيلًا. وأحسب أن منظومة الهيكل العضلي للجسم أفضل ما نرشحه لذلك.
العضلات الأكبر حجمًا قادرة على توليد قوة أكبر، والقلب الأكبر حجمًا قادر على ضخ كمية أكبر من الدم في الدقيقة الواحدة، والغُدَّة الأكبر حجمًا قادرة على تركيب قدْر أكبر من الهرمون في فترةٍ مُحددة من الزمن. ونجد بالمِثل أن مُخًّا أكبر يكون قادرًا على امتلاك قدرةٍ حسابية أكبر لمعالجة قدْر أكبر من المعلومات في الثانية الواحدة، وكذا إنتاج تمثيلاتٍ ذهنية واتصالاتٍ أكثر تعقدًا من الأمخاخ الأصغر حجمًا. ولو كان المخ يُفرز فكرًا مثلما تُفرز غدة هرمونات، فإن هذا يكون مفهومًا، ولكنه ليس كذلك، وثمة سبل أخرى يمكن فيها لمثل هذه المُماثلات الكمية أن تساعد على فَهم الاختلافات في وظائف المخ، ولكن ثمة وسائل كثيرة أيضًا يمكن أن تكون مُضللة.
وعلى الرغم من أن حيوانًا ضخمًا له كتلة عضلية أكبر من حيث مجموعها يُمكنه أن يبذل قوةً أكبر بأطرافه بالقياس إلى حيوان أصغر، فإنه ربما لا يستطيع القفز عاليًا أو أن يعدو بسرعةٍ أكبر بما يتناسب مع حجمه. ونعرف أن الأجسام الأكبر حجمًا تحتاج إلى كتلةٍ عضلية أكبر لكي تُحركها بالسهولة نفسها مثل الأجسام الأصغر، وهذا هو جوهريًّا الفارق بين القوة العامة الإجمالية وبين القوة الخالصة. إن القوة العامة الإجمالية ربما ترتبط بإجمالي الكتلة العضلية، ولكن القوة الخالصة تعتمِد على عوامل أخرى كثيرة، ونعرف أن كمية الوزن التي يمكن أن يرفعها امرؤ ما هي مؤشر مُنصِف للدلالة على الكتلة العضلية الإجمالية، ونعرف كذلك أن الأجسام الأضخم ذات الكتلة العضلية الأكبر يُمكنها أن ترفع أوزانًا أثقل. إن بعض الممارسات الرياضية في القفز أو رفع الأثقال كمثالٍ تُمثل مؤشرًا على القوة الخالصة لعضلاتٍ بعينها بالقياس إلى كتلة الجسم ككل، وإن عدد التمارين في رفع الأثقال بالطرق المُختلفة التي يمكن أن يؤدِّيها امرؤ ما ليس من شأنها إيثار فردٍ ضخم على آخَر صغير الحجم، بل الأصوب أنَّ مَن عضلات البطن أو الذراع عندهم أقوى هم الأكثر تقدمًا بالمقارنة ببقية عضلات الجسم.
ويؤكد هذا فارقًا حاسمًا بين القوة العامة الإجمالية والقوة الخالصة، يُوجَد معيار واحد لقياس القوة العامة الإجمالية، بينما توجَد معايير مختلفة لا حصر لها لقياس القوة الخالصة ولو لشخصٍ واحد بمفرده، هذا لأن القوة الخالصة هي مقارنة جزء بالكل، وإن أيَّ معيارٍ مُحدد لقياس القوة الخالصة يعتمد بالكامل على أي جزءٍ تُقارنه بالكل، مثال ذلك أن تكون القوة الخالصة للساق أكبر بالنسبة لكتلة الجسد، يعني إمكانية عمل قفزة طويلة، بينما امتلاك قوة ذراعٍ أكبر يعني القدرة على ممارسة عددٍ أكبر من عمليات الجذب بقوة، بيد أن هاتَين النتيجتَين عن القوة الخالصة تنفي إحداهما الأخرى إلى حدٍّ ما، إذ إن زيادة إحداهما تعني نقصًا للآخر، وإن الجمع بين نتائج عددٍ ضخمٍ من الاختبارات البدنية المختلفة يمكن أن يساعد على الوصول إلى قيمة واحدة ووحيدة، لكي نقارن على أساسها بين الرياضيِّين كأفراد (يمكن أن تزوِّدنا بتقييم العضلة قياسًا إلى محتوى الدهون)، ولكن على الرغم من هذا فإن هذه الطريقة ستفقد القسط الأكبر من الجوانب المُهمة ووثيقة الصلة بالقوة الخالصة، وستكون قدرتها التنبؤية شديدة التواضُع بالنسبة للقدرات الرياضية.
وثمة حُجج مناظرة تصدُق على علاقات الحجم والوظيفة للمخ، إن كمية نسيج المخ لدى حيوانٍ ما ربما تتناسب مع شيءٍ يُشبه إجمالي تخزين المعلومات وطاقة المُعالجة، ولكن تقييم القوة الخالصة للمخ ما تزال إشكاليةً إلى حدٍّ كبير، وربما لا يُوجَد معيار يقال هو الأفضل، ويتجادل علماء النفس منذ زمن طويل بشأن هذه المسألة الضمنية فيما يختصُّ باختبارات الذكاء، ولكن المُشكلة تعود للظهور ثانيةً في صورةٍ معدلة على نحوٍ طفيف فيما يختصُّ بنسيج حجم المخ أو المقارنات بين حجم بِنية المخ. وطبيعي أن شيئًا ما يخصُّ حجم المخ البشري سيكون على نحوٍ أقرب إلى اليقين مفتاحًا لفهم الفارق المعرفي البشري؛ لذلك فإننا لكي نحلَّ هذا اللُّغز يجب أولًا أن نفهم حقيقة مشكلة الإجمالي/الخالص حتى وإن خلصنا في النهاية، مثلما حدث فيما يتعلق بقوة العضل، إلى عدم وجود إجابةٍ وحيدة مُمكنة.
إن الفكرة القائلة بأن الانتخاب الطبيعي تحفزه وتؤثر فيه عملية استخدام أو عدم استخدام عضوٍ ما؛ إنما هي فكرة لها تاريخ طويل ومؤثر في التفكير التطوري، اعتبرَها أصحاب الفكر التطوري في القرن التاسع عشر حقيقةً مُسلَّمًا بها؛ بحيث إن استمرار عادة استخدام عضوٍ ما على مدى أجيالٍ كثيرة يمكن أن يحفز التطوُّر على نمو العضو وتضخُّمه، ورأوا أيضًا أن الأعضاء العاطلة دون استخدامٍ ستُصبح في النهاية أصغرَ حجمًا أو بقايا أثرية، وجدير بالذكر أنه نادرًا ما يتشكك أحد الآن أو يتساءل عن معامل الارتباط المُفترض بين الاستخدام والتضخُّم التطوري أو نقص حجم الأعضاء، إن كبر الحجم يعني المزيد من الاستعمال، وصغر الحجم يعني قلَّة الاستعمال، وتطفر إلى الذهن أمثلة واضحة تتمثَّل في أشكال أجسام الحيوانات، نعرف أن الأقدام الخلفية لحيوان الكانجرو ضخمة وطويلة، وهو ما يعكس انتخابها لأداء حركاتٍ ذات شكلٍ خاص، بينما الأطراف الأمامية صغيرة، وهو ما يعكس استخدامها على مدى التطوُّر باعتبارها وسيلةً للدعم. ونجد من الأمثلة الصريحة المباشرة التماثُل بين نتائج الممارسات الرياضية وأثرها في حجم العضلة أثناء حياة المرء وعلى مدى الزمان التطوُّري. وحقيقة الأمر أن نظرية الانتخاب الطبيعي اقتَبست مفهوم الاستخدام وعدم الاستخدام هذا من نظريات لاماركيه مبنية على فكرة وراثة الخصائص المكتسبة؛ حيث ساد اعتقاد أن الممارسة تُغير مباشرةً من الانتقال الوراثي، وحلَّ محلَّ الممارسة التفسير الدارويني الجديد لدور الاستخدام وعدم الاستخدام أثناء مسيرة التطور، وذلك باعتباره علَّة التباين في حجم العضو، مع القول بانتخابٍ فارق للتبايُنات التلقائية في حجم العضو. وعلى الرغم من ذلك أصبح معامل ارتباط الحجم والاستعمال قاعدةً شبه بدهية ومُسلَّمًا بها لتحليل التطور المورفولوجي (شكل وبنية الأعضاء والجسم).
وفي ضوء منظومة هيكل الجسم والعضلات نجد تفسيرًا داروينيًّا لهذه القاعدة يُمكن بيانه في العبارة التالية: «العظام الأكبر والأقوى تماسكًا يمكن أن تتحمل ضغوطًا أكبر، وكذا العضلات الأكبر يُمكنها توليد قوة أعظم.» لذلك فإنه في بيئةٍ يتعرض فيها جزء بعينِه من المنظومة الهيكلية أو العضلية لضغوطٍ غير عادية بشكلٍ منتظم على مدى الأجيال، فإن الأفراد الذين ينزعون منذ الميلاد إلى تنمية عضلاتٍ وعظامٍ أشد وأقوى سوف يتجهون إلى النمو بقوة وإلى التكاثر على نحوٍ أفضل من غيرهم؛ إذ سيعمد هؤلاء الأشخاص إلى نقل هذا الاستعداد إلى أكبر نسبةٍ مئوية من الذرية؛ مما يُفضي إلى الانتشار المُتزايد باطِّرادٍ لكتلة العظم والعضل لدى أجيال المُستقبل، وثمة دراسات موازية يمكن إعدادها لدراسة أي عددٍ من الأعضاء التي يبدو لنا أنها تتعرض للتبايُن في حجمها استجابةً لضغوط أو متطلبات الاستخدام بما في ذلك الغُدد وأعضاء الجهاز الهضمي، ولكن من المهم أن نفهم كم الحجم الذي يُسهم في الوظيفة موضوع البحث، وأن نعرف ما إذا كان هذا العامل له حرية التغيُّر والتباين مُستقلًّا عن أي قسَمات أخرى تميز تصميم جهاز الجسم، وذلك قبل افتراض أن هذه الحُجة المعقولة منطقيًّا تصدُق على جميع الأعضاء.
وجدير بالذكر أنه في حالة العضلات والعظام والغدد لدَينا مُعامل ارتباط واضح نسبيًّا بين المطلب الوظيفي والحجم نتيجة للتغيُّرات الفسيولوجية أثناء الحياة، ونعرف أن التمارين الرياضية يمكن أن تؤدي إلى زيادة الكتلة العضلية، بينما عدم النشاط يجعل العضلات تضمُر، كذلك فإن التغيرات التي تطرأ على الحاجة إلى الهرمون غالبًا ما ترتبط بالزيادة أو النقص في حجم الغدد الصَّماء مثلما هو الحال في تضخُّم الغدة التناسُلية في سنِّ البلوغ أو تضخم الغدة الجار كلوية في ظروف الضغط المُزمن، ويبدو أن التناظُر بين التغيرات أثناء الحياة والتغيرات خلال مسيرة التطوُّر يعمل بهذه الطريقة، وتبدو قاعدة الحجم والاستعمال يتَّسع نطاقها طبيعيًّا من الدراسات الفسيولوجية إلى الدراسات التطورية، بيد أن نظام الدراسة في النظريات التطورية يتَّجِه إلى اتخاذ مسارٍ عكسي من النتيجة إلى المقدمة، إننا حين نستدلُّ على سببٍ تطوري للأطراف العضلية الضخمة نكون كمن يُخمن بأن شخصًا ما تضخمت عضلات ذراعَيه؛ لأنه عمل زمنًا طويلًا في حمل الأثقال، كذلك حين نرى حيوانًا له على غير المألوف عضو مُتضخم أو مُتقلص، فإننا تلقائيًّا نشك في أنه تطوَّر في ظل ظروفٍ اقتضت بدرجةٍ أو بأخرى أن يكون العضو على هذا الحال، ونميل إلى الشعور بالثقة التامة إزاء الكثير من هذه الاستقراءات في الماضي التطوري، وذلك بسبب مُعاملات الارتباط التي نُلخصها في الأنواع الحية.
ولا ريب في أن التناظر الفسيولوجي يمكن أن يكون مصدر معلومات إيجابية، ويمكن أن يكون مضللًا، وطبيعي أن التطور جهَّز أجسام الفقريات على نحوٍ يؤهِّلها للتكيُّف مع مُتطلبات وظيفية مُعينة، بيد أنه دمج فيها أيضًا بعض المرونة، وهذا من شأنه أن يسمح بقدْر من التناغُم الدقيق، ويُمكن أن تكون ميكانيزمات التناغُم الدقيق فسيولوجيًّا موازية لميكانيزمات تطوُّرية من بعض النواحي دون غيرها، مثال ذلك يوجَد أكثر من طريقةٍ تظهر بها العضلات أو الغدد متغيرة الحجم. ولنا أن نتوقَّع عند عقد مناظرة بين رافعي الأثقال مقابل الكسالَى؛ أن نجد نوعًا قويَّ البنية والعضلات نسبيًّا ونوعًا ضعيفًا نسبيًّا. إن الشيء المُثير للدهشة أن الفوارق في نِسَب الكتلة العضلية في الثدييات لا تتَّجِه للموازاة مع هذا الاختلاف؛ إذ نلحظ أن الأنواع الأضخم لها في المقابل كتلة عضلية هي الأضخم في مُجملها لدعمها، ولكن الأنواع المساوية لها تقريبًا في الحجم لا تتوافق مع النطاق العام من البنية العضلية القوية وصولًا إلى الضعيفة، وتكشف نسبة العضل إلى وزن الجسم في الثدييات عن علاقة تنبُّؤية مُثيرة للانتباه من نوعٍ إلى آخر على امتداد نطاق توزيع الحجم الكامل.
الأمخاخ والأبدان
ليسمح لنا القارئ مع بداية هذا البحث أن نستهلَّ حديثنا عن الأمخاخ والأبدان في شمولها الكلي، ثم نحدَّ تدريجيًّا من بحثنا لكي نكتشف بالدقة ما الذي تغيَّر داخل المخ البشري، ويشهد التاريخ الطويل لعلم النفس المقارن بالفشل التامِّ في الفصل بين وظيفة المخ الخالصة والإجمالية؛ مما كان سببًا لتشوُّشٍ مُطَّرد في التفكير، وأكثر من هذا أن أهم وأعمق القضايا الأساسية ظلَّت دون حسم، ويبدو أن هناك الآن اتفاقًا واسعَ النطاق بين القائمين بتحليل إحصاءاتٍ عن الحجم المقارن للمخ؛ بحيث إن روايةً عن وظيفة المخ الخالصة تتلاءم على أحسن وجهٍ مع معلوماتنا وحدسنا بشأن حجم المخ والذكاء، وإن الحدس الأساسي الذي ينبني عليه هذا التأويل هو أن جزءًا ما من وظيفة المخ لا بد أن يكون دائمًا مُخصصًا لتوجيه وإنفاذ مُتطلَّبات الجسم من معالجة المعلومات، وإنه لهذا السبب غير مُتاح لأي استخداماتٍ معرفية أخرى. معنى هذا أن وظيفة المخ الإجمالية يُمكن تقسيمها إلى جزءٍ حشوي وجزء معرفي باعتبارها خطوةً أولى على الطريق لتحليل وظيفة المخ الخالصة، وإذا كانت الأمخاخ الأكبر حجمًا عليها أيضًا أن تُحقق مطالب معالجة المعلومات للأجسام الأضخم، فإنها لن تقدم بالضرورة لأصحابها أي زيادةٍ خالصة في الطاقة المعرفية على الرغم من ضخامة حجمِها، ولنا أن نتوقَّع مع افتراض تساوي كل شيءٍ آخر أنَّ الأمخاخ على أقل تقديرٍ سوف تتجاوب مع متطلبات الجسم مع كبر حجم الأجسام، ومن ثم فإن تلك الدرجة من التحكُّم العصبي في الوظائف الهرمونية والهضمية والحسِّية — البدنية الأساسية والعضلية — لن تُمايز بين الأنواع ذات الأحجام المختلفة، ولكن كيف يتسنَّى لنا أن نتبيَّن كم الطاقة الخاصة بمعالجة المعلومات التي يتعين تخصيصُها للحفاظ على الوظائف البدنية؟
وليست الفئران وحدَها في تفوُّقها على نسبة المخ/الجسد عند البشر؛ إذ الحقيقة أن الغالبية العُظمَى من الثدييات الصغيرة جدًّا لها نِسَب مُماثلة للمخ/الجسد بالنسبة إلى البشر، ويكشف هذا حقيقة أن النسبة تتناقص باطِّرادٍ مع زيادة حجم الجسم لدى الغالبية العُظمَى من جماعات الحيوانات. والملاحظ أن الخبرة العامة والأفكار البدهية عن القدرات الذهنية للحيوانات لا تُشير إلى أن مِثل هذه القدرات تقلُّ مع زيادة الحجم، ولكن مع حلول القرن التاسع عشر اعترف عددٌ من العلماء بأن هذه العلاقة تُلمِح ضمنًا بطريقةٍ لاستعاضة الرؤية البدهية، وتوضح أن الذكاء يزداد مع زيادة حجم المخ. وجدير بالإشارة أن ثمة دراسة غير معروفة عن إحدى بقرات البحر المُنقرضة لها مخٌّ أضخم بشكلٍ مطلق من المخ البشري، وحفزت هذه الدراسة ألكسندر براندت ١٨٦٧م إلى الظن أن عقد مقارنةٍ جزئية بسيطة لا يكفي للوصول إلى تقييم دقيق للذكاء، وأكد — بدلًا من ذلك — أن حجم المخ ربما يكون له أثر من حيث علاقة خاصة بينه وبين عملية الأيض وسطح الجسم، واقترح براندت أن حجم المخ ربما يتناسب مع الأيض (الذي ظنَّ الباحثون وقتها أنه مرتبط مباشرةً بالحرارة المُنطلقة من سطح الجسم، الذي تبين أنه ليس صحيحًا، بل أكثر من ذلك فيما بعد)، واقترح أيضًا أن كتلة النظامَين الحسِّي والحركي للمُخ لا بدَّ أنهما مُرتبطان بأسطح البدن وليس بحجمِه الكلي.
وأثار اكتشاف سنيل عاصفة من الاهتمام بقياس حجم المخ وحجم الجسم؛ الأمر الذي استمرَّ حتى يومِنا هذا. والملاحظ على مدى القرن التالي أن هذه الرؤية الاستبصارية الأساسية كانت نقطة الانطلاق لعشراتٍ من الأساليب الإحصائية البديلة ولمئات الدراسات التحليلية النظرية للكشف عن أهميتها، وكشفت الفوارق في المناهج الرقمية عن شروحٍ مختلفة المُستويات، كذلك فإن الاختلافات في النمط وسط التجمُّعات التصنيفية أفادت بوجود أكثر من قاعدةٍ تنظيمية يلزم تفسيرها، بيد أن الغالبية الساحقة من التفسيرات تشترك جميعها في افتراضَين عامَّين: الأول: أن الذكاء المقارن دالة على كمِّ ما تبقى من المخ بعد أن يتم تحليليًّا طرح ذلك الجزء المُخصص للوظائف الأساسية للمخ، ثانيًا: أن هذه النسبة انعكست بشكلٍ ما مباشرةً في التصاعُد القياسي النسبي للأجسام والأمخاخ، وصاغت القاعدة التنظيمية لهذه العلاقة إطارًا للمرجعية؛ إذ حددت وسيلةً للتنبؤ بحالة وزن مخِّ أو جسد حيوانٍ ثدييٍّ ما، ومن ثم أشارت إلى ما هو بعيد عن المركز، وكان طبيعيًّا أيضًا افتراض أن «الثدييات المُتوسطة» حسبما تنبأ هذا الاتجاه ستكون أيضًا ذات ذكاءٍ متوسط ونِسبي، وأن ما يقع منها في الأطراف بعيدًا عن المركز سيكون ذا ذكاءٍ أكبر أو أقلَّ من الذكاء المتوسط حسب وصفه، ويتألف الذكاء حسب هذا الرأي من صافي أو فائض وظيفةِ المخ المُتبقي بعد طرح ما يحتاجه الجسم من عمليات المخ.
إن تقييم وظيفة المخ الخالصة أكثر تعقيدًا بسبب مسارها مُتعدد الأبعاد، إن أي معادلة رياضية غير خطية المسار؛ أي متعددة الأبعاد هي معادلة لا بد أن يكون جزءٌ من النتيجة واضحًا في الحساب ذاته، وهذه خاصية نجِدها واضحةً في الفائدة المُركبة على قرضٍ ما؛ إذ إن الفائدة غير المدفوعة على قرضٍ ما تُضاف إلى إجمالي القرض؛ مما يزيد من حجم الدَّين، ومن ثم تُفضي إلى ارتفاع أقساط الفائدة، وهكذا، ويُوجَد هذا النوع من العلاقة في تقييمات القوة الخالصة؛ لأن العضلات عليها أن تُحرك نفسها مثلما تُحرك هياكل أخرى، وإذا كان امتلاك كتلةٍ عضلية أكبر يزيد من كمية القوة التي يُمكن توليدها، فإنها تزيد أيضًا كمية الكتلة التي يلزم تحرُّكها، معنى هذا أن حاملي الأثقال حين يُضاعفون الكتلة العضلية، فإنهم لا يُحققون زيادةً في القوة الخالصة التي تواكِب زيادتهم من حيث القوة الإجمالية، وهذا هو أحد الأسباب في أن الغالبية العُظمَى من الرياضِيين — خاصةً مَن يعتمدون على وسائل مهمة بشأن القوة الخالصة — لا يُضيفون فقط كتلةً عضلية أثناء التدريب؛ إذ يحدث بوضوحٍ نقص في القوة الخالصة مع زيادةٍ في نسبة العضل تتجاوز مستوًى معينًا (عند تجاوز هذا المستوى نقول: إن شخصًا ما أسير العضل).
ويمكن القول — في ضوء وظيفة المخ: إن من المحتمل وجود نظائر كثيرة لهذا النوع من العلاقة غير خطية المسار، ولنتأمل التماثل بين مُتطلبات معالجة المعلومات لمشروع أعمال ومُتطلبات المخ، إن نموَّ مشروع الأعمال لا يؤدي فقط إلى زيادة الحاجة إلى مزيدٍ من العامِلين، بل أيضًا الحاجة إلى زيادة مستويات البيروقراطية، وطبيعي أنه مع زيادة عدد العامِلين لا بد أن يزيد عددُ المُديرين والإداريين والسكرتارية. ويُمثل المستوى الأوسط من العاملين ضرورة لمتابعة سَير أعمال العامِلين الآخرين على مدى ساعات العمل، وكذا المُراجعة والمهام المحددة. وعلى الرغم من أن المُديرين والسكرتارية يُمثلون جزءًا متواضعًا من إجمالي عدد العامِلين، فإن هذا الجزء يتَّجه إلى الزيادة مع زيادة حجم مشروع الأعمال؛ لأن هؤلاء العامِلين في المستوى المتوسط بحاجةٍ لمن يُديرهم ويدفع لهم، ومن ثم يسهم بالزيادة في الكلفة الإدارية، ولا ريب في أنه مع نموِّ التنظيمات، فإنها تتَّجه إلى زيادة نسبة العاملين الذين يتابعون العاملين بالمقارنة بالعاملين الذين يتابعون مباشرةً ما يُقدمه المشروع من خدماتٍ أو إنتاج، كذلك فإن توسع إجمالي الناتج يستلزم حتمًا زيادةً طفيفة في النسب الخالصة بين الإدارة إلى العمل الإنتاجي ضمانًا للتكافؤ.
العبرة بحجمك أنت
تفيد البداهة أن الكائنات ذات الأمخاخ الصغيرة مثل الخفافيش والجرذان أقل ذكاءً، أو أنها على أقل تقديرٍ أقل إدراكًا ومعرفةً بالكثير من الاختيارات والنتائج ذات الصلة بأنشطتها بالقياس إلى الكائنات ذات الأمخاخ الكبيرة من مثل الخيل والآساد والفيلة، وتبدو الفوارق أكثر وضوحًا عندما نقارن الثدييات الضخمة بالسحالي والبرمائيات والأسماك، وهي ذات أمخاخٍ أصغر عادةً من أمخاخِ أصغرِ الثدييات، ولكن ماذا عن أمخاخ الحشرات الدقيقة جدًّا؟ الأمر هنا بحاجةٍ إلى شطحةٍ خيالية لكي نعزو إليها ولو جزءًا صغيرًا من القُدرات الذهنية التمثيلية لأدنى الفقريات، ويبدو أن الفوارق شديدة الضخامة في المخ بصورته المُطلقة ترتبط ارتباطًا مشتركًا لا سبيل إلى إنكاره ببعض أوجه القُدرة الذهنية التي نَصِفُها بالذكاء، ولكن السؤال: هل عددُ الخلايا العصبية هو العامل الوحيد وثيق الصلة أو أن هناك عوامل أكثر؟
إذن، قياس وظائف المخ صعودًا وهبوطًا في ضوء الحجم والعمر ليس مسألةَ قوةٍ حاسوبية زادت أم قلَّت. إن تغيُّرات الحجم لها نتائج عكسية في عددٍ من مجالات معالجة المعلومات، وإن مخ نوعٍ صغير الحجم يجري الارتفاع بقياسه أسوةً بجسمٍ ضخم، أو مخ نوع ضخم الحجم يجري خفض قياسه أسوةً بجسمٍ صغير يعني سوء الأداء الوظيفي لكلٍّ من الاثنَين، وأكثر من ذلك أنه على الرغم من أن الغالبية العُظمَى من الأنواع تُفيد من القدرة على التعلُّم للتكيُّف مع الظروف الراهنة، فإن التركيز قد ينصبُّ على استراتيجياتٍ شديدة الاختلاف عند مستوياتٍ مُختلفة من الحجم، مثال ذلك أنه على الرغم من أن كلًّا من النوع صغير الحجم والضخم سيجري انتخابُه على الأرجح لتعلُّم الاستجابة إزاء مُنبهات ضارَّة على نحوٍ مباشر الآن، أو منبهات مُفيدة، فإنه قد يُوجَد على الأرجح تأكيد مُتزايد على الاستجابة لمُنبهات بعيدة، وعلى منبهات ذات قيمةٍ تنبُّئية فقط مع زيادة حجم النوع. كذلك فإن الأنواع الأضخم يمكن أن تكشف عن زيادةٍ في قيمة القدرة على تعديل الاستجابات المُكتسبة من موقفٍ ما لتتلاءم مع موقفٍ آخر، بل زيادة قيمة تعلُّم ما سبق أن تباطأ بفعل فضولٍ فيه مزاح أو استكشاف. وبقدر ما تتضح الفوارق وثيقة الصلة بمعالجة المعلومات في بِنية المخ، لنا أن نتوقع تغيراتٍ مشتركة في علاقات بِنية المخ لدى حيواناتٍ مختلفة الأحجام.
ولعل المشكلة الأخطر التي تواجِه الأمخاخ كبيرة الحجم ترجع إلى قسمةٍ هندسية لا مناصَ منها تُميز البنية الشبكية؛ إذ مع زيادة الخلايا العصبية لا بد أن يزيد عدد الروابط التي بينها بنسبةٍ هندسية للحفاظ على مستوًى ثابت من التكامُل الرابطي، وهذه العلاقة قابلة للتعميم بالنسبة للكثير من العمليات الخاصة بالمعلومات والتحكُّم. والمُلاحظ في الأمخاخ التي تختلف بعضها عن بعض بملايين أو بلايين الخلايا العصبية أن الاحتفاظ بدرجةٍ مناسبة من الرابطية الوظيفية يستلزِم زيادةً فلكية في عدد الروابط تتجاوز أي أملٍ معقول للبقاء داخل جسمٍ واحد. علاوة على هذا فإن قيود عملية الأيض الخاصة بحجم الخلايا العصبية المُفردة تجد بدَورها عددًا من روابط التوصيل الشبكي التي يُمكن لأي خليةٍ عصبية أن تدعمها وحدَها؛ لذلك يكون من المُستحيل حتمًا الوفاء بهذا الطلب المُتزايد في أيِّ مخٍّ حقيقي، ويكون لازمًا حدوث خفضٍ مرحلي متزايد باطِّراد في الكثير من أبعاد علاقة الربط.
وهكذا، فإننا حتى لو افترضنا أن الحجم يُضيف سعة أكبر لحمل المعلومات، فإن هذا العائد يُمكن موازنته بكلفةٍ ذات شأن في مجالات أخرى للوظيفة، وإن الهندسة الحتمية لمعالجة المعلومات الخاصة بالحجم تُحدد أن الأمخاخ الأكبر حجمًا لا يمكن أن تكون مجرد أمخاخ صغيرة كبرت، وهذا من شأنه أن يجعل معادلة الحجم/الذكاء مشوَّشة ومُعقدة، ولكن خفض سرعات المعالجة وفقدان تكامل الوظيفة يمكن ألا يكون حائلًا دون تعويض التمايز الزائد والقدرات التخزينية ما دام حجمها الأكبر يحمي أيضًا الكائن الحي من الحاجة إلى إنتاج تعلُّمٍ واستجابات سريعة. وهكذا يبين ثانيةً أن الأضخم حجمًا يختلف أكثر فأكثر مع اطِّراد الإدراك المعرفي.
وواضح أن هذا النمط الخاص بالفوارق المُتعلقة بالحجم — من حيث الأهمية النسبية لمختلف استراتيجيات التعلم — يتميز بأنه وثيق الصلة بشكلٍ مميز بالمشكلات الخاصة بالتعلم التي تفرضها اللغة. ويمكن لاستراتيجيات التعلُّم المرِنة نسبيًّا وغير المباشرة أن تُفيد من حيث الاستعمال فقط إذا ما توفر وقتٌ كافٍ لاستخدامها، ويمثل هذا أكثر من مشكلةٍ بالنسبة لعمليات محو إعادة تسجيل التعلُّم مُتعدد المراحل، ويلاحظ أن استراتيجيات التعلُّم هذه ذات جدوى ضئيلة للحيوانات قصيرة العمر الأصغر حجمًا؛ إذ بدلًا من ذلك تنحاز الأمخاخ الأصغر حجمًا ضد استراتيجيات التعلُّم هذه، ما دام لن يتوفَّر لها وقتٌ كافٍ لتعويضها، وقد يُساعدنا هذا على تفسير السبب في أن الاتصال الرمزي لم يتطوَّر إلا بعد تطوُّر القِرَدة العُليا ذات الأمخاخ الكبيرة وطويلة العمر. وحيث إن تعلم اللغة مثال مُسرف عن مشكلة التعلُّم الموزع على نطاق واسع، فإن الأنواع ذات الأمخاخ الأصغر حجمًا سوف تنحاز على الأرجح ضد استراتيجيات التعلُّم الملائمة أكثر من انحياز الأنواع ذات الأمخاخ الأكبر، وهكذا فإن الحجم المُطلَق للمخ ربما لعب دورًا محدودًا ومُهمًّا في تطوُّر اللغة دون اعتبارٍ لأي زيادةٍ في القوة الحاسوبية.