الفصل الخامس

حجم الذكاء

عندما نفتقد فكرةً ما، يمكن دائمًا أن نجد كلمة تحلُّ محلَّها.

جوته

سوء فهم فاضح

بعد أن حدَّدنا مشكلة معرفية لم تكن مُدرَكة في السابق، ألا وهي سبب حاجز تعلم اللغة، لنا الآن أن نوجِّه انتباهنا ثانيةً إلى لُغز التطور البشري، وقد عقدنا العزم على تحقيق هدف جديد: أن نُحدد ماذا حدث لأمخاخ البشر بحيث أصبح بإمكان أسلافنا اختراق ذلك الحاجز. وإذا كانت مشكلة تعلم الرمز هي العتبة الفاصلة التي تفصلنا عن الأنواع الأخرى، إذن لا بد أن ثمة شيئًا غير عادي خاصًّا بعقول البشر ساعدنا على التغلب عليها. وطبيعي أن يكون هذا الفارق الوحيد في نوعه واضحًا بدايةً، ولكن شريطة أن نعرف ما الذي نبحث عنه، وإن جزءًا من المشكلة أن شيئًا ما آخر يبدو وثيق الصلة بوضوح أكثر قد أسر انتباهنا، يُشبه كثيرًا المشتبه به بارتكاب ذنبٍ في لغز جريمةٍ ما، وهو واقع محدد يتعلق بالمخ البشري، ألا وهو الحيرة الكاملة التي تسببت في أن فقدنا نمط أدلة أكثر دقَّة.

وعلى الرغم من الحقيقة الناصعة التي توضح أن العلاقات بين بِنية المخ ووظيفة المخ ما تزال غير مفهومة على نحوٍ جيد، فإن كثيرين يشعرون بأن تفسير الطبيعة الاستثنائية للقدرات العقلية البشرية معروف لنا — وهذا في الحقيقة واقع الأمور منذ قرن! — ويمكن أن نجد الإجابة في كل المراجع الأكاديمية التي تُحدثنا عن أصول البشر، كما نجده في الغالبية العُظمَى من الكتب الشعبية والمجلات والمقالات التي تعرض لموضوع العقل والمخ، وحسب هذه المصادر ثمة حقيقة راسخة وهي أن المخ البشري جهاز حاسب أفضل وأقوى من مخِّ أيٍّ من الأنواع الأخرى؛ لأنه نسبيًّا أكبر حجمًا وبوسعه أن يُعالج ويحتفظ بمعلوماتٍ أكثر، ونتيجة لهذه القدرة العقلية الأعظم يمكن للبشر صوغ المزيد من النماذج الذهنية المُعقدة عن العالم، وحل المزيد من المشكلات الاجتماعية ومشكلات البقاء الأكثر تعقدًا، وأن يتعلموا التواصل بنظُمٍ إشارية أكثر تعقيدًا (أي اللغة)، كذلك فإن الفكرة القائلة بأن كبر حجم النصفَين الكروِيَّين في الدماغ encephalization عند البشر — أي ضخامة حجم المخ بالقياس إلى حيوان رئيس له حجمُنا — تُمثل إلى حدٍّ كبير جدًّا جزءًا من ثقافتنا حتى أضحت ذات مكانةٍ واقعية لا تقبل المناقشة، وأضحت مرادفًا للتعريف بما نَعنيه من قولنا: إن كائنًا ما يتمتع بقدراتٍ عقلية شبه بشرية، ووصل الأمر إلى حدِّ أن الصياغات الكاريكاتورية في الخيال العلمي عن الأنواع الغريبة «المتقدمة» تأخذ دائمًا صور كائناتٍ لها أمخاخ كبيرة الحجم عما هو مألوف.

وهكذا يمكن اختزال النظرة موضوع الاتفاق إلى عبارة بسيطة هي: «الأكبر أكثر ذكاءً»، بيد أن الباحثين لا يتفقون جميعًا بشأن أفضل السبل لقياس الزيادة المؤثرة في الحجم — هل هي الحجم المطلق أو قياسٍ ما لحجمٍ نسبيٍّ هو الأوثق صلةً بموضوعنا (وهذه مشكلة سنعود إليها بعد قليل) — ولكن يسود اتفاق على نطاقٍ واسع بأن ثمة معيارًا ما يتعلق باتساع نطاق المخ البشري سنجده يُمثل مُعامل الارتباط الأساسي لزيادة قدراتنا الذهنية، ولم يتبقَّ لنا بعد ذلك — على ما يبدو — سوى أن نحدد بدقة كيف أن الزيادة في طرفٍ تتمثل في صورة زيادةٍ في الطرف الآخر، ويؤمن غالبية الباحثين بأنهم يعرفون الإجابة الصحيحة، والمشكلة أنهم لا يعرفون عن يقينٍ كيف يستمدُّونها من الدليل.

وعلى الرغم من وجود قدرٍ من التطابق — دون أدنى شك — بين حجم المخ وقدراته، فإنني أشكُّ في أنها أقل وضوحًا بكثيرٍ مما نتصوَّر. ثمة خطآن حاسمان خافيان داخل هذه الافتراضات المُغرية، أولهما الفكرة القائلة إما أن حجم المخ أو الذكاء يمكن معالجته بطريقةٍ ناجعة باعتباره سمةً أحادية المسار في شموله، والثانية أن الكمية النسبية لنسيج المخ مقارنةً بنسيجٍ ليس من المخ داخل الجسم، بينهم علاقة مشتركة بشكلٍ ما تُشبه على نحوٍ ما الكمية النسبية لقوة حاسوبية حرة. وواضح أن هذين الفرضَين السابقَين أعمَيانا عن رؤية قسماتٍ أخرى لا حصر لها خاصة بتطوُّر المخ واختلافات وظيفة المخ ذات الصلة بقضايا الحجم، وكان من أبرز ضحايا هذا النهج فَهمنا للعلاقة بين حجم المخ البشري والقدرات اللغوية.

وتمثل العلاقة المفترضة بين حجم المخ والذكاء فكرة مُسلَّمًا بها بدهيًّا. وأفرخت قرنًا كاملًا من الدراسات التي حفزتها رؤًى أيديولوجية للكشف عن العلاقة بين العبقرية والإجرام، وأجَّجت سجالاتٍ عدائية عن الكيفية المُثلى لقياس هذه المُتغيرات، وأثمرت مئات الأبحاث التي عُنِيت بدراسة السلوكيات المُحتملة ومعاملات الارتباط الإيكولوجية الخاصة بحجم المخِّ واستبيانها من جميع الجوانب المُمكنة، وما نزال حتى بعد مرور أكثر من قرنٍ من التفكير المُتجدد عن الاحتمالات، تظهر نظريات عن دلالة ودور حجم المخ، وتبدو وكأنها فيض مُستمر لا يتوقف، وليس السبب أننا لم نكتشف بعدُ ما فائدة الذكاء. ولأي شيءٍ هو مفيد. إن الجميع مُتفقون على أن المزيد من الذكاء نافع ومفيد لأي عددٍ من الأمور، وأوضحت نظريات فائدة الذكاء في كلِّ ما يمكن تصوره؛ بغية تفسير سبب ضخامة حجم المخ البشري، بيد أن هذه تحديدًا هي المشكلة، وطبيعي مع وجود مثل هذه الإجابة العامة الغامضة أن يكون من المُتعذِّر صياغة السؤال موضوع البحث صياغةً واضحة لاستخراج العلاقات المشتركة الزائفة؛ إذ ماذا لو أن حجم المخ ليس سمةً فريدة، بل انعكاسًا لتغيراتٍ باطنية كثيرة ومُعقدة ممكنة داخل تنظيم المخ وقد كان لكلٍّ منها نتائجها الوظيفية المختلفة؟ وماذا لو أن الوظائف الذهنية تعكس توازنًا دقيقًا بين انحيازاتٍ كثيرة متكاملة ومتنافسة خاصة بالتعلُّم والإدراك والسلوك، وليست مجرد «قدرة» مفردة.

وليس لنا في الحقيقة أن نُفاجأ إذ نتبيَّن أن الطبيعة لم تكن على خطٍّ مستقيم مُطَّرد في تصميمها للأمخاخ؛ إذ المخ هو العضو الأكثر تعقدًا، فضلًا عن أن مظهره الخارجي لا ينمُّ إلا عن القليل جدًّا فيما يتعلق بتنظيمه الوظيفي، ونعرف أن الأمخاخ لا تفعل شيئًا واحدًا فقط، كما أن وظائف الأمخاخ المختلفة ليست موزعةً على نحوٍ متناسق ومُتماثل في كل أنحاء المخ، فإذا كان حجم المخ البشري سمةً معقدة، وينطوي في داخله على العديد من التغيرات الأعمق من حيث بِنية ووظيفة المخ، إذن فإن جميع الدراسات المشتركة في البحث عما يُمكن أن يكون السبب في أن الأمخاخ تنمو وتكبُر قد لا تكون سوى ممارساتٍ رياضية خرقاء، هذا علاوة على أنَّ أوجُه الاختلاف في البنية المعمارية العصبية التي هي علة الاختلاف في القدرات المعرفية البشرية سوف تستمرُّ في مراوغتنا، ونحن لا نملك ترف افتراض أن المخ البشري أكبر حجمًا فقط ليس إلا، ونرصد جهودنا في سبيل اكتشاف أسباب انتخاب حجمه، وإنما نحن بحاجةٍ إلى النظر أعمق من ذلك.

إن رؤيتي الخاصة صاغها أيضًا رالف هولوواي من جامعة كولومبيا، وهو من الرواد في تحليل اللُّقَى casts من حفريات مخ الهومونيد، ونراه يتساءل في يأسٍ وهو بصدد غابةٍ من الدراسات المقارنة عن حجم المخ تبدو غافلةً عن إمكانية مُحتملة وهي أنه لا الذكاء ولا حجم المخ مجرد سِمة بسيطة، ويسأل: كيف لنا أن نتخيل أن المخ هو «عضو» واحد مُتكامل وله مهمة سلوكية بسيطة عليه أن يؤدِّيها من مثل «الذكاء» أو اللغة أو السلوك التكيُّفي أو شيء آخر تربوي أشبه بورقة التين لستر جهلِنا عن كيفية تطور المخ؟١ وإذا كان الأمر مقصورًا على وظيفةٍ فريدة (اللغة)، وتقييم كُلي لقدرة الوظيفة (الذكاء)، والمقياس المُمكن في أكثر أشكاله أوليةً لبنية المخ (الحجم)، وأن كلًّا منها له دورٌ ما بعضها مع بعض، فإن من المُحتمل اكتشافها ضمن التفاصيل البيولوجية العصبية، وليس في الاستقراءات الكلية التي نستقرئها من هذه القسمات بالِغة السطحية.

التقَينا في الفصول السابقة بسلسلةٍ من النتائج المتناقضة التي تفيد أن مشكلة تعلم اللغة ليست صعبة فقط، بل إنها منافية للبداهة بأعمق ما تَعنيه هذه الكلمة، وإن كلًّا من منطق تركيب الجُمَل التكراري والعلاقات الترابُطية المنتشرة متعددة المستويات الداعمة للمرجعية الرمزية هي جوهريًّا مما لا يمكن تعلُّمه عن طريق وسائل «القوة الغشوم» لمعالجة المعلومات. ويُفسر لنا هذا لماذا اللغات، بما في ذلك أبسطها، يكون من شبه المستحيل أن تتعلَّمها أمخاخ غير بشرية؛ ليس بسبب قدرات التعلم المحدودة عند الأنواع الأخرى، وإنما لأن انحيازاتها التعلمية الأصلية تقوِّض العملية قبل أن تبدأ، ووضحت الفكرة تمامًا بفضل واقع أن عقبات التعلُّم في الأمخاخ التي لم يكتمِل نضجها ربما تكون مفيدةً عمليًّا بالنسبة لبعض جوانب تعلُّم اللغة، بيد أن هذه النتائج الشاذة لا تتلاءم بسهولةٍ مع تفسير الفارق الذهني البشري الحاسم الذي تُوجِزه عبارة «الأكبر هو الأذكى». وطبيعي أن تطوير جهاز للتعلُّم أكثر قوةً ليس هو الحل لمشكلة تعلُّم اللغة، يُشير هذا إلى أننا فقدْنا بعض التمايُزات الحاسمة عندما عمدنا إلى تقييم تطوُّر الذكاء البشري في عباراتٍ كلية شاملة.

ومع ذلك، لا مفرَّ من حقيقة أن المخ البشري كبير على نحوٍ غير عادي، سواء من حيث التقدير المُطلق أم النسبي، وطبيعي أن أي قصةٍ عن تطوُّر المخ البشري لا تُجسد هذه الحقيقة تُغفل دليلًا رئيسيًّا يهدينا إلى سرِّ الفارق البشري، وليس السؤال عما إذا كان حجم المخ يُمثل مُعامل ارتباط مُهمًّا لتطور المخ البشري، إنه كذلك، وليس ما إذا كانت أمخاخُنا الكبيرة على نحوٍ غير عادي واختلافات قدراتنا المعرفية مُرتبطةً بعضها ببعض على نحوٍ ما، إنها كذلك دون ريب، وإنما السؤال: ما التغيرات الأخرى في تنظيم المخ المُرتبطة بهذا التغيُّر الكلي الشامل في حجم المخ؟ وما نتائجها الوظيفية؟ ولنا أن نكون على يقينٍ بأن ثمة شيئًا ما ذا صلةٍ بأحجام بِنية المخ يُعتبَر محوريًّا بالنسبة لجذور نشأة العقل البشري، ولكن ما هو؟ للإجابة على هذا نحن بحاجةٍ إلى التزوُّد بفكرةٍ عامة ما توضح لنا كيف تؤثر التغيرات الكيفية في وظائف المخ.

وجدير بالذكر أن مسألة الحجم لها جانبان يتعين تناولهما: الأول: كيف بالدقة والتحديد توزع هذا التغير في الحجم داخل المخ البشري؟ هل هو عامٌّ شامل مثل تكبير صورة فوتوغرافية؟ هل هو استقراء من خلال اتجاهٍ أكثر تعقدًا نجد عرضًا مثيلًا له في كثيرٍ من الأنواع الأخرى؟ هل يشتمل فقط على أجزاءٍ محدودة ومُحددة في المخ؟ ولا ريب أن تحديد أيٌّ من هذه الخيارات هو الحالة التي نَعنيها مسألةٌ أصعب مما يتوقَّع المرء، ثانيًا: ما الوسائل المُمكنة التي يمكن من خلالها أن تؤثر فوارق حجم المخ أو أجزاؤه في وظائف المخ؟ للإجابة على ذلك لدَينا ما يزيد قليلًا عن حالاتٍ مناظِرة فجَّة تساعد على أن نمضي قدمًا، نعرف أن قليلين من علماء الأعصاب هم من بحثوا هذه المسألة بشكلٍ جدِّي فيما عدا أكثر الأساليب عمومية، وثمة أبعادٌ كثيرة خاصة بعوامل الارتباط بين الحجم وتأثيراته قد تكون بحاجةٍ إلى التفكير فيها قبل أن نُقرر أننا نفهم دلالة وأهمية المِثال البشري، إن بِنية المخ الأكبر قد تعني سعةً تخزينية أكبر أو قدرةً تمييزية أكبر، ولكنها قد تعني أيضًا تغيُّراتٍ في معدل المعالجة، وتغيرات في التأثير النسبي الإثاري أو الكفِّي على منظوماتٍ أخرى مرتبطة بها، أو تعني اختلافًا في الميول الأصلية لتوليد الإشارات (مثل فترةٍ دورية أطول للأنشطة الدورية)، كيف لنا أن نتأكد من أننا نعرف ما هو أوثق صلةً بالموضوع؟ ولكن ثمة مشكلة أكثر أساسية: الحجم ليس أمرًا شديد البساطة كما يبدو في ظاهره. السؤال دائمًا «كبير أم صغير بالنسبة لماذا؟»

ونحن باعتبارنا قِرَدةً عُليا ذات أمخاخٍ كبيرة تحتلُّ أعلى درجات سُلَّم التقدم والكمال البيولوجيين — أو هكذا نُحب أن نفكر — فقد اعتدْنا أن نصنف القدرات الذهنية للناس لأغراضٍ عدة في العمل والمدرسة والمُحادثات العرضية، وطبيعي أن نشعر بالرضا والراحة؛ إذ نصنف الأنواع الأخرى بهذه الطريقة أيضًا، وأصبح تقييم الذكاء أداةً واسعة الانتشار لتحديد من يُمكنه ومن لا يُمكنه تأدية جميع أنواع الأعمال ابتداءً من العمل ظهيرًا في مجال اللعب وحتى الالتحاق بمدرسةٍ طبية، ونفترض أننا جميعًا نتمتَّع بقدْر من الذكاء، وأن بالإمكان قياسه ومقارنته من شخصٍ إلى آخر، شأنه شأن طول القامة، ونظرًا لأن الذكاء فيما يبدو يتغير قليلًا، إذا حدث وتغير، على مدى حياة المرء، فإننا نفترض أن له قيمةً ثابتة تحدَّدت في فترةٍ باكرة جدًّا من حياة المرء، ووضعنا اختباراتٍ لقياس هذه القدرة الحاسوبية، اختبارات معامل الذكاء، وعمدنا إلى تشجيع المسئولين في مجتمعنا — مديري المدارس أصحاب الأعمال وغيرهم — لاستخدام هؤلاء حسب المشيئة، ونحن لا نستطيع البدء بقياس ما نكسبه أو نفقده بهذه الوسيلة، تمامًا مثلما لا نستطيع أن نفرد بشكلٍ دقيق مُحدد ما هو الذكاء، ولكن يبدو أن الحجم الكبير نسبيًّا للمخ البشري يُمثل في نظرنا تأكيدًا مقنعًا بأن كمية القدرة الذهنية للمرء وثيقة الصلة بكمية النسيج المُخصص لإنتاجه.

وتقييم فارق حجم المخ البشري ليس مجرد مسألة مقارنة بين أوزان أو أحجام أو حتى عدد الخلايا العصبية، وإنما المسألة ما الذي نريد أن نعرفه عن هذا الفارق؟ هل مجرد الحجم فقط؟ أمخاخنا ليست هي الأكبر حجمًا، ولا تحتوي على أكبر كميةٍ من الخلايا والروابط العصبية، إن الفيلة والحيتان تُنافِسنا على هذا الشرف، نعم لدينا أمخاخ كبيرة لأجسامنا، ولكن في ضوء الواقع النسبي البسيط نجد أن الفئران أكبر مُخًّا. وجدير بالإشارة أن ليس واضحًا لنا بالدقة والتحديد أفضل وأنفع سبلِ تقييم حجم المخ، وتعود المشكلات نفسها إلى السطح في هذه الدراسة التحليلية، سواء نبحث المخ في شموله أم أحجام أجزاء منه، ولعلنا نستطيع التوصُّل إلى فكرةٍ أوضح عن المشكلة عندما نبحث منظومةً عضوية أقل تركيبًا باعتبارها نظيرًا ومثيلًا. وأحسب أن منظومة الهيكل العضلي للجسم أفضل ما نرشحه لذلك.

العضلات الأكبر حجمًا قادرة على توليد قوة أكبر، والقلب الأكبر حجمًا قادر على ضخ كمية أكبر من الدم في الدقيقة الواحدة، والغُدَّة الأكبر حجمًا قادرة على تركيب قدْر أكبر من الهرمون في فترةٍ مُحددة من الزمن. ونجد بالمِثل أن مُخًّا أكبر يكون قادرًا على امتلاك قدرةٍ حسابية أكبر لمعالجة قدْر أكبر من المعلومات في الثانية الواحدة، وكذا إنتاج تمثيلاتٍ ذهنية واتصالاتٍ أكثر تعقدًا من الأمخاخ الأصغر حجمًا. ولو كان المخ يُفرز فكرًا مثلما تُفرز غدة هرمونات، فإن هذا يكون مفهومًا، ولكنه ليس كذلك، وثمة سبل أخرى يمكن فيها لمثل هذه المُماثلات الكمية أن تساعد على فَهم الاختلافات في وظائف المخ، ولكن ثمة وسائل كثيرة أيضًا يمكن أن تكون مُضللة.

وعلى الرغم من أن حيوانًا ضخمًا له كتلة عضلية أكبر من حيث مجموعها يُمكنه أن يبذل قوةً أكبر بأطرافه بالقياس إلى حيوان أصغر، فإنه ربما لا يستطيع القفز عاليًا أو أن يعدو بسرعةٍ أكبر بما يتناسب مع حجمه. ونعرف أن الأجسام الأكبر حجمًا تحتاج إلى كتلةٍ عضلية أكبر لكي تُحركها بالسهولة نفسها مثل الأجسام الأصغر، وهذا هو جوهريًّا الفارق بين القوة العامة الإجمالية وبين القوة الخالصة. إن القوة العامة الإجمالية ربما ترتبط بإجمالي الكتلة العضلية، ولكن القوة الخالصة تعتمِد على عوامل أخرى كثيرة، ونعرف أن كمية الوزن التي يمكن أن يرفعها امرؤ ما هي مؤشر مُنصِف للدلالة على الكتلة العضلية الإجمالية، ونعرف كذلك أن الأجسام الأضخم ذات الكتلة العضلية الأكبر يُمكنها أن ترفع أوزانًا أثقل. إن بعض الممارسات الرياضية في القفز أو رفع الأثقال كمثالٍ تُمثل مؤشرًا على القوة الخالصة لعضلاتٍ بعينها بالقياس إلى كتلة الجسم ككل، وإن عدد التمارين في رفع الأثقال بالطرق المُختلفة التي يمكن أن يؤدِّيها امرؤ ما ليس من شأنها إيثار فردٍ ضخم على آخَر صغير الحجم، بل الأصوب أنَّ مَن عضلات البطن أو الذراع عندهم أقوى هم الأكثر تقدمًا بالمقارنة ببقية عضلات الجسم.

ويؤكد هذا فارقًا حاسمًا بين القوة العامة الإجمالية والقوة الخالصة، يُوجَد معيار واحد لقياس القوة العامة الإجمالية، بينما توجَد معايير مختلفة لا حصر لها لقياس القوة الخالصة ولو لشخصٍ واحد بمفرده، هذا لأن القوة الخالصة هي مقارنة جزء بالكل، وإن أيَّ معيارٍ مُحدد لقياس القوة الخالصة يعتمد بالكامل على أي جزءٍ تُقارنه بالكل، مثال ذلك أن تكون القوة الخالصة للساق أكبر بالنسبة لكتلة الجسد، يعني إمكانية عمل قفزة طويلة، بينما امتلاك قوة ذراعٍ أكبر يعني القدرة على ممارسة عددٍ أكبر من عمليات الجذب بقوة، بيد أن هاتَين النتيجتَين عن القوة الخالصة تنفي إحداهما الأخرى إلى حدٍّ ما، إذ إن زيادة إحداهما تعني نقصًا للآخر، وإن الجمع بين نتائج عددٍ ضخمٍ من الاختبارات البدنية المختلفة يمكن أن يساعد على الوصول إلى قيمة واحدة ووحيدة، لكي نقارن على أساسها بين الرياضيِّين كأفراد (يمكن أن تزوِّدنا بتقييم العضلة قياسًا إلى محتوى الدهون)، ولكن على الرغم من هذا فإن هذه الطريقة ستفقد القسط الأكبر من الجوانب المُهمة ووثيقة الصلة بالقوة الخالصة، وستكون قدرتها التنبؤية شديدة التواضُع بالنسبة للقدرات الرياضية.

وثمة حُجج مناظرة تصدُق على علاقات الحجم والوظيفة للمخ، إن كمية نسيج المخ لدى حيوانٍ ما ربما تتناسب مع شيءٍ يُشبه إجمالي تخزين المعلومات وطاقة المُعالجة، ولكن تقييم القوة الخالصة للمخ ما تزال إشكاليةً إلى حدٍّ كبير، وربما لا يُوجَد معيار يقال هو الأفضل، ويتجادل علماء النفس منذ زمن طويل بشأن هذه المسألة الضمنية فيما يختصُّ باختبارات الذكاء، ولكن المُشكلة تعود للظهور ثانيةً في صورةٍ معدلة على نحوٍ طفيف فيما يختصُّ بنسيج حجم المخ أو المقارنات بين حجم بِنية المخ. وطبيعي أن شيئًا ما يخصُّ حجم المخ البشري سيكون على نحوٍ أقرب إلى اليقين مفتاحًا لفهم الفارق المعرفي البشري؛ لذلك فإننا لكي نحلَّ هذا اللُّغز يجب أولًا أن نفهم حقيقة مشكلة الإجمالي/الخالص حتى وإن خلصنا في النهاية، مثلما حدث فيما يتعلق بقوة العضل، إلى عدم وجود إجابةٍ وحيدة مُمكنة.

وسواء قوة إجمالية أم قوة خالصة، فإن أهمية أيٍّ منهما رهن السياق، وغالبًا ما يكون الاثنان مهيمِنَين في جوانب مختلفة من نشاطٍ ما، كما أن كليهما يمكن أن يتفاعلا لتحديد الأداء بسبلٍ مختلفة. والملاحظ بالنسبة للغالبية العُظمَى من الأغراض السلوكية أن القوة الخالصة ربما تكون أهمَّ من القوة الإجمالية؛ نظرًا لعلاقتها المشتركة بالقدرات الحركية ودعم وضع الجسم، ومع ذلك سنجد بعض التكيفات تكون فيها القوة الإجمالية أهم كثيرًا، إنها حاسمة بالنسبة لأنواعٍ مُعيَّنة من البحث عن الكلأ؛ حيث يلزم توفُّر قدْر من القوة لتجاوز عتبةٍ ما؛ بُغية الوصول إلى الطعام، مثال ذلك أن بعض حبَّات الجوز والبذور تحميها دروع صلبة: لا تأكلها سوى أنواعٌ تملك عضلاتِ فكَّيْن لهما قوة إجمالية كافية (وأسنان ملائمة)؛ إذ هي التي تستطيع كسرها، كذلك الأمر بالنسبة للصراع أو التقاتُل البدني، يمكن أيضًا أن ينتخب زيادة القوة الإجمالية بالقياس إلى القوة الخالصة، ونجد من الأمثلة الجيدة أيضًا الأنواع التي تتميَّز بدرجةٍ عالية من ازدواجية أو ثنائية الهيئة الجنسية، بمعنى اختلاف هيئة الجنسَين sexually dimorphic؛ حيث عادةً الذكور يتصارعون بدنيًّا بعضهم مع بعض لامتلاك أراضٍ أو شريكات حياة. وطبيعي كلما احتدم الصراع البدني، زاد فارق الحجم البدني بين الذكور والإناث، ويمكن انتخاب قوة إجمالية أكبر عن طريق زيادة الحجم الإجمالي إذا كانت كلفة القوة الخالصة أقلَّ أهمية، معنى هذا أن توسيع نطاق هذا التناظُر ليشمل مشكلة حجم المخ يستلزِم منَّا أولًا أن نفهم الفارق بين المعالجة الإجمالية والخالصة للمعلومات.

إن الفكرة القائلة بأن الانتخاب الطبيعي تحفزه وتؤثر فيه عملية استخدام أو عدم استخدام عضوٍ ما؛ إنما هي فكرة لها تاريخ طويل ومؤثر في التفكير التطوري، اعتبرَها أصحاب الفكر التطوري في القرن التاسع عشر حقيقةً مُسلَّمًا بها؛ بحيث إن استمرار عادة استخدام عضوٍ ما على مدى أجيالٍ كثيرة يمكن أن يحفز التطوُّر على نمو العضو وتضخُّمه، ورأوا أيضًا أن الأعضاء العاطلة دون استخدامٍ ستُصبح في النهاية أصغرَ حجمًا أو بقايا أثرية، وجدير بالذكر أنه نادرًا ما يتشكك أحد الآن أو يتساءل عن معامل الارتباط المُفترض بين الاستخدام والتضخُّم التطوري أو نقص حجم الأعضاء، إن كبر الحجم يعني المزيد من الاستعمال، وصغر الحجم يعني قلَّة الاستعمال، وتطفر إلى الذهن أمثلة واضحة تتمثَّل في أشكال أجسام الحيوانات، نعرف أن الأقدام الخلفية لحيوان الكانجرو ضخمة وطويلة، وهو ما يعكس انتخابها لأداء حركاتٍ ذات شكلٍ خاص، بينما الأطراف الأمامية صغيرة، وهو ما يعكس استخدامها على مدى التطوُّر باعتبارها وسيلةً للدعم. ونجد من الأمثلة الصريحة المباشرة التماثُل بين نتائج الممارسات الرياضية وأثرها في حجم العضلة أثناء حياة المرء وعلى مدى الزمان التطوُّري. وحقيقة الأمر أن نظرية الانتخاب الطبيعي اقتَبست مفهوم الاستخدام وعدم الاستخدام هذا من نظريات لاماركيه مبنية على فكرة وراثة الخصائص المكتسبة؛ حيث ساد اعتقاد أن الممارسة تُغير مباشرةً من الانتقال الوراثي، وحلَّ محلَّ الممارسة التفسير الدارويني الجديد لدور الاستخدام وعدم الاستخدام أثناء مسيرة التطور، وذلك باعتباره علَّة التباين في حجم العضو، مع القول بانتخابٍ فارق للتبايُنات التلقائية في حجم العضو. وعلى الرغم من ذلك أصبح معامل ارتباط الحجم والاستعمال قاعدةً شبه بدهية ومُسلَّمًا بها لتحليل التطور المورفولوجي (شكل وبنية الأعضاء والجسم).

وفي ضوء منظومة هيكل الجسم والعضلات نجد تفسيرًا داروينيًّا لهذه القاعدة يُمكن بيانه في العبارة التالية: «العظام الأكبر والأقوى تماسكًا يمكن أن تتحمل ضغوطًا أكبر، وكذا العضلات الأكبر يُمكنها توليد قوة أعظم.» لذلك فإنه في بيئةٍ يتعرض فيها جزء بعينِه من المنظومة الهيكلية أو العضلية لضغوطٍ غير عادية بشكلٍ منتظم على مدى الأجيال، فإن الأفراد الذين ينزعون منذ الميلاد إلى تنمية عضلاتٍ وعظامٍ أشد وأقوى سوف يتجهون إلى النمو بقوة وإلى التكاثر على نحوٍ أفضل من غيرهم؛ إذ سيعمد هؤلاء الأشخاص إلى نقل هذا الاستعداد إلى أكبر نسبةٍ مئوية من الذرية؛ مما يُفضي إلى الانتشار المُتزايد باطِّرادٍ لكتلة العظم والعضل لدى أجيال المُستقبل، وثمة دراسات موازية يمكن إعدادها لدراسة أي عددٍ من الأعضاء التي يبدو لنا أنها تتعرض للتبايُن في حجمها استجابةً لضغوط أو متطلبات الاستخدام بما في ذلك الغُدد وأعضاء الجهاز الهضمي، ولكن من المهم أن نفهم كم الحجم الذي يُسهم في الوظيفة موضوع البحث، وأن نعرف ما إذا كان هذا العامل له حرية التغيُّر والتباين مُستقلًّا عن أي قسَمات أخرى تميز تصميم جهاز الجسم، وذلك قبل افتراض أن هذه الحُجة المعقولة منطقيًّا تصدُق على جميع الأعضاء.

وجدير بالذكر أنه في حالة العضلات والعظام والغدد لدَينا مُعامل ارتباط واضح نسبيًّا بين المطلب الوظيفي والحجم نتيجة للتغيُّرات الفسيولوجية أثناء الحياة، ونعرف أن التمارين الرياضية يمكن أن تؤدي إلى زيادة الكتلة العضلية، بينما عدم النشاط يجعل العضلات تضمُر، كذلك فإن التغيرات التي تطرأ على الحاجة إلى الهرمون غالبًا ما ترتبط بالزيادة أو النقص في حجم الغدد الصَّماء مثلما هو الحال في تضخُّم الغدة التناسُلية في سنِّ البلوغ أو تضخم الغدة الجار كلوية في ظروف الضغط المُزمن، ويبدو أن التناظُر بين التغيرات أثناء الحياة والتغيرات خلال مسيرة التطوُّر يعمل بهذه الطريقة، وتبدو قاعدة الحجم والاستعمال يتَّسع نطاقها طبيعيًّا من الدراسات الفسيولوجية إلى الدراسات التطورية، بيد أن نظام الدراسة في النظريات التطورية يتَّجِه إلى اتخاذ مسارٍ عكسي من النتيجة إلى المقدمة، إننا حين نستدلُّ على سببٍ تطوري للأطراف العضلية الضخمة نكون كمن يُخمن بأن شخصًا ما تضخمت عضلات ذراعَيه؛ لأنه عمل زمنًا طويلًا في حمل الأثقال، كذلك حين نرى حيوانًا له على غير المألوف عضو مُتضخم أو مُتقلص، فإننا تلقائيًّا نشك في أنه تطوَّر في ظل ظروفٍ اقتضت بدرجةٍ أو بأخرى أن يكون العضو على هذا الحال، ونميل إلى الشعور بالثقة التامة إزاء الكثير من هذه الاستقراءات في الماضي التطوري، وذلك بسبب مُعاملات الارتباط التي نُلخصها في الأنواع الحية.

ولا ريب في أن التناظر الفسيولوجي يمكن أن يكون مصدر معلومات إيجابية، ويمكن أن يكون مضللًا، وطبيعي أن التطور جهَّز أجسام الفقريات على نحوٍ يؤهِّلها للتكيُّف مع مُتطلبات وظيفية مُعينة، بيد أنه دمج فيها أيضًا بعض المرونة، وهذا من شأنه أن يسمح بقدْر من التناغُم الدقيق، ويُمكن أن تكون ميكانيزمات التناغُم الدقيق فسيولوجيًّا موازية لميكانيزمات تطوُّرية من بعض النواحي دون غيرها، مثال ذلك يوجَد أكثر من طريقةٍ تظهر بها العضلات أو الغدد متغيرة الحجم. ولنا أن نتوقَّع عند عقد مناظرة بين رافعي الأثقال مقابل الكسالَى؛ أن نجد نوعًا قويَّ البنية والعضلات نسبيًّا ونوعًا ضعيفًا نسبيًّا. إن الشيء المُثير للدهشة أن الفوارق في نِسَب الكتلة العضلية في الثدييات لا تتَّجِه للموازاة مع هذا الاختلاف؛ إذ نلحظ أن الأنواع الأضخم لها في المقابل كتلة عضلية هي الأضخم في مُجملها لدعمها، ولكن الأنواع المساوية لها تقريبًا في الحجم لا تتوافق مع النطاق العام من البنية العضلية القوية وصولًا إلى الضعيفة، وتكشف نسبة العضل إلى وزن الجسم في الثدييات عن علاقة تنبُّؤية مُثيرة للانتباه من نوعٍ إلى آخر على امتداد نطاق توزيع الحجم الكامل.

ويُعتبر هذا التوضيح وثيق الصلة بخاصة بالتطوُّر العام للمخ؛ إذ إن حجم المخ — على عكس كتلة العضل — لا يزيد أو ينقص عن طريق الاستعمال على امتداد العمر مُستقلًّا عن النمو الطبيعي والسن وتدهور الحالة الصحية.٢ وليس ثمة من سبيل للحديث عن التكيف الفسيولوجي؛ حيث يرتبط الاستخدام العادي للمخ بتضخُّم ونقص حجم المخ، وإذا كنا نجد أنفسنا نقف على أرضٍ صلبة تمامًا من الناحية النظرية حين نستقرئ التغيرات الحادثة فيما يتعلق بالجهد والقوة البنيوية من التغيرات في حجم العظام أو الأسنان أو العضلات؛ (لأننا نستدل هنا من فيزياء الجهد والأذرع بوصفها روافع)، فإننا بعيدون تمامًا عن امتلاك نظرية مقابلة كافية للتنبؤ بالتغيرات في وظائف مُعالجة المعلومات ونستقرئها في ضوء التغيرات في حجم المخ؛ لذا نرى أن الخطوة الأولى أن نتبين إذا ما كان بالإمكان أن نُحدِّد أي نوع يمكن أن تكون هذه العلاقة.

الأمخاخ والأبدان

ليسمح لنا القارئ مع بداية هذا البحث أن نستهلَّ حديثنا عن الأمخاخ والأبدان في شمولها الكلي، ثم نحدَّ تدريجيًّا من بحثنا لكي نكتشف بالدقة ما الذي تغيَّر داخل المخ البشري، ويشهد التاريخ الطويل لعلم النفس المقارن بالفشل التامِّ في الفصل بين وظيفة المخ الخالصة والإجمالية؛ مما كان سببًا لتشوُّشٍ مُطَّرد في التفكير، وأكثر من هذا أن أهم وأعمق القضايا الأساسية ظلَّت دون حسم، ويبدو أن هناك الآن اتفاقًا واسعَ النطاق بين القائمين بتحليل إحصاءاتٍ عن الحجم المقارن للمخ؛ بحيث إن روايةً عن وظيفة المخ الخالصة تتلاءم على أحسن وجهٍ مع معلوماتنا وحدسنا بشأن حجم المخ والذكاء، وإن الحدس الأساسي الذي ينبني عليه هذا التأويل هو أن جزءًا ما من وظيفة المخ لا بد أن يكون دائمًا مُخصصًا لتوجيه وإنفاذ مُتطلَّبات الجسم من معالجة المعلومات، وإنه لهذا السبب غير مُتاح لأي استخداماتٍ معرفية أخرى. معنى هذا أن وظيفة المخ الإجمالية يُمكن تقسيمها إلى جزءٍ حشوي وجزء معرفي باعتبارها خطوةً أولى على الطريق لتحليل وظيفة المخ الخالصة، وإذا كانت الأمخاخ الأكبر حجمًا عليها أيضًا أن تُحقق مطالب معالجة المعلومات للأجسام الأضخم، فإنها لن تقدم بالضرورة لأصحابها أي زيادةٍ خالصة في الطاقة المعرفية على الرغم من ضخامة حجمِها، ولنا أن نتوقَّع مع افتراض تساوي كل شيءٍ آخر أنَّ الأمخاخ على أقل تقديرٍ سوف تتجاوب مع متطلبات الجسم مع كبر حجم الأجسام، ومن ثم فإن تلك الدرجة من التحكُّم العصبي في الوظائف الهرمونية والهضمية والحسِّية — البدنية الأساسية والعضلية — لن تُمايز بين الأنواع ذات الأحجام المختلفة، ولكن كيف يتسنَّى لنا أن نتبيَّن كم الطاقة الخاصة بمعالجة المعلومات التي يتعين تخصيصُها للحفاظ على الوظائف البدنية؟

وثمة إمكانية بسيطة وواضحة وهي أن الجزء من حجم المخ — الذي يجب أن يكون مُخصصًا للحفاظ على الجسم — يكون متناسبًا بشكلٍ مباشر مع حجم الجسم ذاته، وإذا صح هذا فإن نسبة المخ إلى الجسم سوف تعكس النسبة بين الوظائف المعرفية والبدنية للمخ. معنى هذا أن الأفراد والأنواع التي تتمتَّع بنسبةٍ أعلى من المخ بالقياس إلى حجم الجسم ستتمتَّع أيضًا بحُرية قطاع أكبر من أمخاخها للوظائف غير البدنية — طاقة معرفية خالصة أعلى مستوى —٣ ونعرف أن وزن المخ يمثل جزءًا أصغر كثيرًا من وزن الجسم في الأسماك والزواحف والبرمائيات بالقياس إلى الثدييات والطيور، وننزع إلى تصوُّر هذه الفقريات ذات الدم البارد بأنها أقل تقدمًا ذهنيًّا من نظائرها ذوات الدم الحار، كذلك فإن نسبةً مُنخفضة من المخ إلى حجم الجسم كانت أداةً للجدل والدفع بانخفاض ذكاء الديناصور الضخم، ولتفسير الذكاء البشري الذي يبدو في ظاهره أعظم كثيرًا بالمقارنة بالحيتان والفيلة ذات الأمخاخ الأضخم، ولكن للأسف فإن نهج النسبة البسيطة أخفق في فهم نسبة المخ المُرتفعة لدى الجرذان بالنسبة إلى الجسم (يعادل ضعف النسبة عند البشر)، وكذلك عند ثدييات أخرى صغيرة، ويبدو أن لا أحد على استعدادٍ للزعم بأن الجرذان لديها مستوًى ذهنيٌّ أعلى بدرجةٍ طفيفة من البشر، وأن لها ميزة كبيرة تفوق القِرَدة العُليا الضخمة الأخرى، علاوة على هذا فإن اختلاف النسبة لا تُعوِّضه اختلافات في كثافة الخلايا العصبية. ونحن نعرف أن أمخاخ الثدييات الصغيرة أكثر كثافةً من حيث تكدس الخلايا العصبية؛ لأن الكثافة تزيد مع تناقُص الحجم، والنتيجة أن نسبة عدد الخلايا العصبية إلى حجم الجسم تنحاز إلى الثدييات الصغيرة أكثر من الانحياز إلى نسبة المخ/البدن، معنى هذا أنه لا الانحياز إلى الحجم الكبير على إطلاقه ولا الانحياز إلى نسبة الحجم الأكبر يتطابق مع المعارف البدهية عن الذكاء المقارن.

وليست الفئران وحدَها في تفوُّقها على نسبة المخ/الجسد عند البشر؛ إذ الحقيقة أن الغالبية العُظمَى من الثدييات الصغيرة جدًّا لها نِسَب مُماثلة للمخ/الجسد بالنسبة إلى البشر، ويكشف هذا حقيقة أن النسبة تتناقص باطِّرادٍ مع زيادة حجم الجسم لدى الغالبية العُظمَى من جماعات الحيوانات. والملاحظ أن الخبرة العامة والأفكار البدهية عن القدرات الذهنية للحيوانات لا تُشير إلى أن مِثل هذه القدرات تقلُّ مع زيادة الحجم، ولكن مع حلول القرن التاسع عشر اعترف عددٌ من العلماء بأن هذه العلاقة تُلمِح ضمنًا بطريقةٍ لاستعاضة الرؤية البدهية، وتوضح أن الذكاء يزداد مع زيادة حجم المخ. وجدير بالإشارة أن ثمة دراسة غير معروفة عن إحدى بقرات البحر المُنقرضة لها مخٌّ أضخم بشكلٍ مطلق من المخ البشري، وحفزت هذه الدراسة ألكسندر براندت ١٨٦٧م إلى الظن أن عقد مقارنةٍ جزئية بسيطة لا يكفي للوصول إلى تقييم دقيق للذكاء، وأكد — بدلًا من ذلك — أن حجم المخ ربما يكون له أثر من حيث علاقة خاصة بينه وبين عملية الأيض وسطح الجسم، واقترح براندت أن حجم المخ ربما يتناسب مع الأيض (الذي ظنَّ الباحثون وقتها أنه مرتبط مباشرةً بالحرارة المُنطلقة من سطح الجسم، الذي تبين أنه ليس صحيحًا، بل أكثر من ذلك فيما بعد)، واقترح أيضًا أن كتلة النظامَين الحسِّي والحركي للمُخ لا بدَّ أنهما مُرتبطان بأسطح البدن وليس بحجمِه الكلي.

ويمكن القول: إن العصر الحديث للبحث بشأن حجم المخ بدأ فعليًّا عام ١٨٩٢م عندما مضى عالم فيزياء ألماني يُدعَى أتو سنيل بهذا التحليل قدمًا إلى نهايته المنطقية،٤ وأوضح سنيل أن أمخاخ وأبدان الثدييات تضخَّمت أحجامها بالنسبة لكلٍّ منها وفقًا لوظيفة القوة بنسبة ٣/٢ (انظر الشكلين ٥-١ و٥-٢)، واستمد هذه القيمة عن طريق التوصل إلى لوغاريتم تحول فوارق وزن المخ والجسد من المُقارنات المزدوجة لعددٍ من الأنواع المختلفة على مدى سلسلةٍ من أحجام البدن، وقدم سنيل دليلًا مقنعًا، إن لم نقُل منهجيًّا، على أن العلاقة بين حجم المخ وحجم الجسم في الثدييات يُمكن مقارنتها جوهريًّا بالعلاقة بين السطح والحجم، وأدَّت الفكرة بأن أوزان المخ والجسم مُرتبطة بعضها ببعض على أساس وظيفةٍ منهجية إلى السؤال عن دور هذه العلاقة المُطَّردة بالنسبة لوظيفة المخ، ولكن التفسير القائم على أساس عملية الأيض لتفسير هذا النمط الذي عزَّزه وروَّج له بدايةً كلٌّ من الرجُلَين سرعان ما حلت محلَّه تفسيرات وتحليلات بديلة حاولت ربطه بالذكاء.

وأثار اكتشاف سنيل عاصفة من الاهتمام بقياس حجم المخ وحجم الجسم؛ الأمر الذي استمرَّ حتى يومِنا هذا. والملاحظ على مدى القرن التالي أن هذه الرؤية الاستبصارية الأساسية كانت نقطة الانطلاق لعشراتٍ من الأساليب الإحصائية البديلة ولمئات الدراسات التحليلية النظرية للكشف عن أهميتها، وكشفت الفوارق في المناهج الرقمية عن شروحٍ مختلفة المُستويات، كذلك فإن الاختلافات في النمط وسط التجمُّعات التصنيفية أفادت بوجود أكثر من قاعدةٍ تنظيمية يلزم تفسيرها، بيد أن الغالبية الساحقة من التفسيرات تشترك جميعها في افتراضَين عامَّين: الأول: أن الذكاء المقارن دالة على كمِّ ما تبقى من المخ بعد أن يتم تحليليًّا طرح ذلك الجزء المُخصص للوظائف الأساسية للمخ، ثانيًا: أن هذه النسبة انعكست بشكلٍ ما مباشرةً في التصاعُد القياسي النسبي للأجسام والأمخاخ، وصاغت القاعدة التنظيمية لهذه العلاقة إطارًا للمرجعية؛ إذ حددت وسيلةً للتنبؤ بحالة وزن مخِّ أو جسد حيوانٍ ثدييٍّ ما، ومن ثم أشارت إلى ما هو بعيد عن المركز، وكان طبيعيًّا أيضًا افتراض أن «الثدييات المُتوسطة» حسبما تنبأ هذا الاتجاه ستكون أيضًا ذات ذكاءٍ متوسط ونِسبي، وأن ما يقع منها في الأطراف بعيدًا عن المركز سيكون ذا ذكاءٍ أكبر أو أقلَّ من الذكاء المتوسط حسب وصفه، ويتألف الذكاء حسب هذا الرأي من صافي أو فائض وظيفةِ المخ المُتبقي بعد طرح ما يحتاجه الجسم من عمليات المخ.

ويتجلَّى أوضح تفسير للمنطق الكامن وراء هذا الفهم في كتابٍ ذائع الصيت ومرجع متواتر عن تطور الذكاء من تأليف هاري جيريسون،٥ وينبني هذا الكتاب على تقييمه لتطوُّر المخ تأسيسًا على مفهومٍ يُسميه «الكتلة الملائمة»، مع افتراض أن التطوُّر مصدر معاناة، ويتَّجه فقط لتوفير الحد الأمثل من النسيج اللازم في سياق النظم الأخرى للجِسم يُمكن للمرء أن يتوقع أن العضو الأضخم والأكثر كلفة لا بدَّ أن يعكس حاجةً أشدَّ لوظيفته والعكس بالعكس. معنى هذا أن حجم كلِّ عضوٍ سوف يسير في اتجاه نسبةٍ تتلاءم مع أهميته النسبية لبقية الجسم، ويبدو الأمر بهذه الصياغة أقرب إلى تكرارٍ لا معنى له لنظرية الانتخاب الطبيعي. إن حجم المخ يتَّجِه في المتوسط العام إلى أن يكون انعكاسًا للتوازُن بين المزايا والكلفة التطورية للمعالجة العصبية للمعلومات، ويعني هذا أن متوسط حجم مخِّ الحيوان بالقياس إلى وزن الجسم المعني يُمثل مؤشرًا جيدًا للكتلة الملائمة للمخِّ الخاص بجسمٍ ما، ويلزم عن هذا أن الاتجاه في الحيوان الثديي من المخ مقابل حجم الجسم لا بدَّ أن يعكس التوازُن الأمثل للكلفة والمنافع التي يوفرها حجم المخ، مع افتراض — على الأقل — أن جميع العوامل الأخرى متساوية.
وأكد جيريسون أن الجزء المُخصص من الحساب الكلي للمخ لخدمة مُتطلبات الحفاظ على الجسم ووظائف التشغيل يصل تقديرها إلى ٣/٢ من قدرة حجم الجسم، وسبب ذلك أن الغالبية العُظمَى من التمثيلات العصبية للجسم تعكس عروضًا تُصوِّر الأسطح الحسِّية للجسم،٦ وواضح أن بناء تقييم الكتلة الملائمة على هذه العلاقة التجريبية هو افتراض فيه تبسيط كثير، ولكن هل هو مسارٌ مباشر مثل المسار الذي تُشير إليه أحجام المخ والجسم عند الثدييات؟ إن إحدى المشكلات أن الاقتصاد الإجمالي للجسم الحي من الكتلة الملائمة لا يمكن تقييمه وحدَه مُستقلًّا في ضوء سعة معالجة المعلومات؛ إذ ثمة تكاليف ومنافع أخرى يُمكن قياسها وفقًا لمعايير مُستقلة، مثال ذلك أن إحدى التكاليف الأساسية التي لها وزنها بالقياس إلى حجم المخ تتمثَّل في متطلباته الأيضية، ونعرف أن المخ هو العضو الأكثر إنفاقًا من الناحية الأيضية وهو في حالة راحة؛ إذ يستهلك أكثر من أي عضوٍ آخر من الجلوكوز والأكسجين بما يزيد عن عشرة أمثال.٧ وحيث إن عملية الأيض الأساسية يصل قياسها إلى ٤/٣ قوة كتلة الجسم في الثدييات (وليس ٣/٢ كما تنبأ كلٌّ من براندت وسنيل وغيرهما تأسيسًا على افتراضاتٍ بشأن الحرارة المفقودة من السطح بالقياس إلى الحجم)؛ ولكن نظرًا لضرورة وضع مثل هذه التكاليف التي لا علاقة لها بالمعرفة موضع الاعتبار، فإنه لهذا السبب تحديدًا ليس لنا أن نتوقَّع بأن يكشف لنا متوسط قياس حجم المخ إلى حجم الجسم عن أي شيءٍ يُشبه خط السعة الأيسومترية isometric (مقاييس متماثلة الأبعاد والقياسات) الفكرية، إن الكتلة الملائمة حين نقيِّمها في ضوء بِنية الشكل الظاهري لا يمكن أن تعادل القوة الحاسوبية الخالصة؛ لذلك فإن كبر حجم المخ المُتكافئ في مقاييس مختلفة ليس مؤشرًا موثوقًا به للدلالة على سعة معرفية متكافئة. وثمة في الحقيقة أسبابٌ كثيرة للشك في أنها تفقد بعضًا من أهم النتائج القياسية ذات الشأن فيما يتعلق بالوظائف العصبية.

إن تقييم وظيفة المخ الخالصة أكثر تعقيدًا بسبب مسارها مُتعدد الأبعاد، إن أي معادلة رياضية غير خطية المسار؛ أي متعددة الأبعاد هي معادلة لا بد أن يكون جزءٌ من النتيجة واضحًا في الحساب ذاته، وهذه خاصية نجِدها واضحةً في الفائدة المُركبة على قرضٍ ما؛ إذ إن الفائدة غير المدفوعة على قرضٍ ما تُضاف إلى إجمالي القرض؛ مما يزيد من حجم الدَّين، ومن ثم تُفضي إلى ارتفاع أقساط الفائدة، وهكذا، ويُوجَد هذا النوع من العلاقة في تقييمات القوة الخالصة؛ لأن العضلات عليها أن تُحرك نفسها مثلما تُحرك هياكل أخرى، وإذا كان امتلاك كتلةٍ عضلية أكبر يزيد من كمية القوة التي يُمكن توليدها، فإنها تزيد أيضًا كمية الكتلة التي يلزم تحرُّكها، معنى هذا أن حاملي الأثقال حين يُضاعفون الكتلة العضلية، فإنهم لا يُحققون زيادةً في القوة الخالصة التي تواكِب زيادتهم من حيث القوة الإجمالية، وهذا هو أحد الأسباب في أن الغالبية العُظمَى من الرياضِيين — خاصةً مَن يعتمدون على وسائل مهمة بشأن القوة الخالصة — لا يُضيفون فقط كتلةً عضلية أثناء التدريب؛ إذ يحدث بوضوحٍ نقص في القوة الخالصة مع زيادةٍ في نسبة العضل تتجاوز مستوًى معينًا (عند تجاوز هذا المستوى نقول: إن شخصًا ما أسير العضل).

fig11
شكل ٥-١
شكل ٥-١: رسم تخطيطي لحجم المخ والجسم في إطار انتخابٍ واسع النطاق للثدييات، ويوضح الرسم التوزيع شِبه الخطِّي في لو الإحداثيات والوضع النسبي للقيمة البشرية بالقياس إلى الآخرين. ويوضح البشر تباينًا أكبر من أيِّ أنواعٍ أخرى من حيث حجم المخ المتوقَّع بالقياس إلى حجم الجسم، ونجد بوجهٍ عامٍّ أن القِرَدة والقِرَدة العُليا والدلافين تحتلُّ الحافة اليُسرى العُليا للتوزيع على امتداد الخط …

ويمكن القول — في ضوء وظيفة المخ: إن من المحتمل وجود نظائر كثيرة لهذا النوع من العلاقة غير خطية المسار، ولنتأمل التماثل بين مُتطلبات معالجة المعلومات لمشروع أعمال ومُتطلبات المخ، إن نموَّ مشروع الأعمال لا يؤدي فقط إلى زيادة الحاجة إلى مزيدٍ من العامِلين، بل أيضًا الحاجة إلى زيادة مستويات البيروقراطية، وطبيعي أنه مع زيادة عدد العامِلين لا بد أن يزيد عددُ المُديرين والإداريين والسكرتارية. ويُمثل المستوى الأوسط من العاملين ضرورة لمتابعة سَير أعمال العامِلين الآخرين على مدى ساعات العمل، وكذا المُراجعة والمهام المحددة. وعلى الرغم من أن المُديرين والسكرتارية يُمثلون جزءًا متواضعًا من إجمالي عدد العامِلين، فإن هذا الجزء يتَّجه إلى الزيادة مع زيادة حجم مشروع الأعمال؛ لأن هؤلاء العامِلين في المستوى المتوسط بحاجةٍ لمن يُديرهم ويدفع لهم، ومن ثم يسهم بالزيادة في الكلفة الإدارية، ولا ريب في أنه مع نموِّ التنظيمات، فإنها تتَّجه إلى زيادة نسبة العاملين الذين يتابعون العاملين بالمقارنة بالعاملين الذين يتابعون مباشرةً ما يُقدمه المشروع من خدماتٍ أو إنتاج، كذلك فإن توسع إجمالي الناتج يستلزم حتمًا زيادةً طفيفة في النسب الخالصة بين الإدارة إلى العمل الإنتاجي ضمانًا للتكافؤ.

ولا ريب في أن المُتطلبات المُماثلة لإدارة المعلومات تقترن بزيادةٍ في حجم المخ، إن المخ مثله مثل مشروع الأعمال الآخِذ في الاتساع قد يُضطر إلى تخصيص نسبةٍ أكبر تتزايد باطِّرادٍ من سعته في معالجة المعلومات لأجل وظائف تُشبه الإدارة؛ وذلك فقط لضمان تعادُل مستويات التحكم والوحدة التكامُلية للوظائف في مواجهة زيادة الحجم والتعقد، وواضح أن نِسبة العمليات الحسابية العصبية التي يمكن رصدها لوظائف المدخلات والمخرجات يمكن — نتيجةً لذلك — أن ينقص حجمها؛ الأمر الذي يجعل الأمخاخ الأكبر حجمًا أقل كفاءةً وفعاليةً باطِّراد في ضوء عدد العمليات الحسابية المنجَزة بالقياس إلى المُخرج أو المُنتج الوظيفي، وهكذا تتجه الأمخاخ الأكبر حجمًا لاكتساب سمةٍ حسابية إجمالية أضخم، ولكن قرين نقص الكفاءة الحسابية الصافية، وطبيعي أن يحتاج الجسم الأضخم إلى قدرةٍ أكبر نسبيًّا على أداء الوظائف الإدارية ضمانًا للتكافؤ. ولنا أن نعتبر هذا العمل الإداري مساوقًا «للوظائف العُليا» للمخ، وهي تلك الوظائف التي تُوجِّه وتؤازر وظائف المدخلات والمُخرجات. وحسب هذا المنظور سوف تحتاج الأمخاخ الأكبر حجمًا وبشكلٍ حتمي أن تكون مثقلة أكثر فأكثر بحملها العلوي، إذا جاز هذا التعبير، وسوف يحتاج أكثر فأكثر إلى أن يكون جهده مرصودًا «للإدارة المتوسطة»، كما أن التراتُبية الهرمية التنفيذية ستحتاج إلى تنمية مستوياتٍ جديدة فقط لتُحقق أداءً مساويًا، وسوف تقترن الأحجام الأضخم بطاقةٍ حسابية زائدة يتعيَّن طرحُها من سعة المدخل والمخرج، ويُمثل هذا تحولًا مهمًّا في التحليل، وليس واضحًا البتَّة بأن ما نَعنيه بوجهٍ عامٍّ الذكاء الخالص هو شيء يُشبه فائض السَّعة surplus capacity أو أن أي «طرح» أو حذفٍ تحليلي بسيط سوف يضع هذا في الاعتبار. والأهم من ذلك أنه يزوِّدنا بسببٍ للشكِّ في أن الأمخاخ الأكبر حجمًا ستحتاج إلى أن تكون منظمةً على نحوٍ مختلف عن الأمخاخ الأصغر؛ حيث الكُتل الملائمة المختلفة تستلزم مكوناتٍ وظيفية مختلفة ومزيدًا من المقارنات المُعقدة على امتداد مستويات الحجم.

العبرة بحجمك أنت

تفيد البداهة أن الكائنات ذات الأمخاخ الصغيرة مثل الخفافيش والجرذان أقل ذكاءً، أو أنها على أقل تقديرٍ أقل إدراكًا ومعرفةً بالكثير من الاختيارات والنتائج ذات الصلة بأنشطتها بالقياس إلى الكائنات ذات الأمخاخ الكبيرة من مثل الخيل والآساد والفيلة، وتبدو الفوارق أكثر وضوحًا عندما نقارن الثدييات الضخمة بالسحالي والبرمائيات والأسماك، وهي ذات أمخاخٍ أصغر عادةً من أمخاخِ أصغرِ الثدييات، ولكن ماذا عن أمخاخ الحشرات الدقيقة جدًّا؟ الأمر هنا بحاجةٍ إلى شطحةٍ خيالية لكي نعزو إليها ولو جزءًا صغيرًا من القُدرات الذهنية التمثيلية لأدنى الفقريات، ويبدو أن الفوارق شديدة الضخامة في المخ بصورته المُطلقة ترتبط ارتباطًا مشتركًا لا سبيل إلى إنكاره ببعض أوجه القُدرة الذهنية التي نَصِفُها بالذكاء، ولكن السؤال: هل عددُ الخلايا العصبية هو العامل الوحيد وثيق الصلة أو أن هناك عوامل أكثر؟

وجدير بالذكر أن إحدى جوانب مشكلة علاقة الحجم/الذكاء بالمخ تم تجاهُلها تمامًا إلى حدٍّ كبير، ونعني بها الجانب الخاص بأن ثدييات مختلفةَ الأحجام تعيش في عوالم شديدة الاختلاف، كذلك فمنذُ العمل الرائد الذي أنجزه داركي تومبسون عن التأثيرات الكبيرة على تصميم جِسم الكائن الحي،٨ بدا واضحًا أن الأشكال الطبيعية تتأثر بأنماط قوى مختلفة وقيود فيزيقية متنوِّعة إذا ما اختلفت كثيرًا بعضها عن بعضٍ من حيث الحجم، تحدث تغيرات في العلاقات الهندسية بين أجزاء الجسم استجابةً لمُقتضيات الحجم (مثال الأسطح بالقياس إلى الأحجام، والقوى بالقياس إلى هياكل الدعم)، وهذا لا يُمثل سوى تعبيرٍ واحد عن الحجم. إن القول المأثور القديم «براغيث على ظهور براغيث على ظهور براغيث … إلى ما لا نهاية» ليس مُمكنًا بدقة؛ لأن كل مستوًى كبير تنطبق عليه مبادئ كيميائية وهيكلية مختلفة تمامًا؛ إذ يتعيَّن أن يختلف تصميم البراغيث اختلافًا كبيرًا عن تصميم الكلاب العائلة لها؛ إذ يستحيل وجود براغيث بحجم الكلب وكلاب بحجم البراغيث؛ ولنا أن نقول بالمثل: إن الكائنات الميكروبية التي تعيش مُتطفلة على البراغيث مختلفة تمامًا من حيث التصميم عن البراغيث أو على الكلاب، هذا على الرغم من أن مدى الأحجام ليس مُتطرفًا للغاية بين الفقريات المختلفة؛ بحيث يستلزم بِنيةً جسدية مختلفة جذريًّا؛ يكفي لعمل فارق. ونحن نجد داخل الثدييات مدًى مختلفًا من الأحجام بالِغَ الشدة بالقياس إلى المدى بين الكلاب والبراغيث، ولكن خُطَط جسم الثدييات جميعها — بما في ذلك أمخاخها — متماثلة على نحوٍ يُثير الدهشة. وعلى الرغم من ذلك فإن مُتطلبات مُعالجة المعلومات لجسمٍ ضخم عند مُقارنتها بالصغير تُفضي على نحوٍ شبه يَقيني إلى نشوء مُتطلبات شديدة الاختلاف بين أمخاخ الأنواع الصغيرة والضخمة.
وتكشف النظرية التلسكوبية للزمن عن علاقةٍ مشتركة بالحجم؛ إذ يتعين أن تكون الأفعال المُنعكسة للحيوانات الصغيرة أسرع لكي تتحكَّم في الأطراف الدقيقة، ومن ثم تستجيب لعمليات التغذية العكسية السريعة التي تستلزِم حركةً محلية سريعة، علاوة على هذا لا بدَّ أن يأتي اتخاذ القرار في سهولةٍ ويُسر لدى الأنواع الصغيرة؛ لأن معدلات الأيض العالية عندَها واحتياطي الطاقة الذي يصل إلى أدنى حدٍّ يُهيئ لها مجالًا محدودًا مُخصصًا لأنشطة البحث عن الطعام أو الدفاع ضد الحيوانات المُفترسة أو لسلوك التزاوج. ولعلَّ ما هو أهم أن العمر القصير يَعني زمنًا قصيرًا للتعلُّم من الخبرة، ونتيجةً لذلك، يُمثل قصر العمر باعثًا إضافيًّا يؤثر في فعالية أنماط السلوك المُعَدِّ سابقًا الذي يستلزم وقتًا قليلًا للإعداد البيئي أو التلاؤم الدقيق. ونجد الحيوانات الضخمة — على العكس من ذلك — تأتي مُجهَّزة بأفعال منعكسة أبطأ استجابةً، ويُمكنها تنويع سلوكياتها الخاصة بالجنس والبحث عن الطعام، وتبذُل في ذلك جهدًا لبلوغ المُستوى الأفضل في سلوكها، وقد تتوفر لديها فرصةٌ كبيرة للتعلُّم عن طريق الملاحظة والمحاولة والخطأ. وطبيعي أن عمرها الطويل يُهيئ لها مجالًا أوفر كثيرًا للاعتماد على التعلُّم وعلى الذاكرة، كما يقلُّ اعتمادها على السلوك الآلي المُعد سابقًا. علاوةً على هذا، فإن الحياة على مدى عمرٍ طويل أو امتلاك القُدرة على الترحال لمسافاتٍ طويلة يُعرِّض الحيوان لتغيراتٍ كبيرة في البيئة، ونتيجةً لذلك يجب أن تكون الحيوانات المُعمرة قادرةً على التقييم والتكيُّف مع استجاباتها للتغيرات الحادثة في الظروف البيئية، هذا بينما الأنواع صغيرة الحجم وقصيرة العمر لا تواجِه مثل هذه التغيرات على مدى عمرها القصير، وسوف تنشأ اختلافاتٌ مترابطة من استراتيجيات نقل المعلومات الموحدة؛ إذ تنزع الأنواع الضخمة إلى تحسين أدائها عن طريق نقل المعلومات المُكتسبة من الآباء إلى الذرِّيات، وتركيز جهدها على عددٍ قليل من الذريات القابلة للتشكُّل، هذا بينما الأنواع الصغيرة تنزع إلى تحسين أدائها؛ بُغية اختيار استراتيجياتِ تكيُّفٍ بديلة، وذلك عن طريق إنجاب أعدادٍ كبيرة من نسلِها، مع ما لها من أنماطٍ مختلفة من السلوك المُعد سابقًا، وتترك الباقي للانتخاب الطبيعي. ويعرض الشكل ٥-٢ رسمًا تخطيطيًّا موجزًا للكثير من هذه العلاقات المُترابطة.

إذن، قياس وظائف المخ صعودًا وهبوطًا في ضوء الحجم والعمر ليس مسألةَ قوةٍ حاسوبية زادت أم قلَّت. إن تغيُّرات الحجم لها نتائج عكسية في عددٍ من مجالات معالجة المعلومات، وإن مخ نوعٍ صغير الحجم يجري الارتفاع بقياسه أسوةً بجسمٍ ضخم، أو مخ نوع ضخم الحجم يجري خفض قياسه أسوةً بجسمٍ صغير يعني سوء الأداء الوظيفي لكلٍّ من الاثنَين، وأكثر من ذلك أنه على الرغم من أن الغالبية العُظمَى من الأنواع تُفيد من القدرة على التعلُّم للتكيُّف مع الظروف الراهنة، فإن التركيز قد ينصبُّ على استراتيجياتٍ شديدة الاختلاف عند مستوياتٍ مُختلفة من الحجم، مثال ذلك أنه على الرغم من أن كلًّا من النوع صغير الحجم والضخم سيجري انتخابُه على الأرجح لتعلُّم الاستجابة إزاء مُنبهات ضارَّة على نحوٍ مباشر الآن، أو منبهات مُفيدة، فإنه قد يُوجَد على الأرجح تأكيد مُتزايد على الاستجابة لمُنبهات بعيدة، وعلى منبهات ذات قيمةٍ تنبُّئية فقط مع زيادة حجم النوع. كذلك فإن الأنواع الأضخم يمكن أن تكشف عن زيادةٍ في قيمة القدرة على تعديل الاستجابات المُكتسبة من موقفٍ ما لتتلاءم مع موقفٍ آخر، بل زيادة قيمة تعلُّم ما سبق أن تباطأ بفعل فضولٍ فيه مزاح أو استكشاف. وبقدر ما تتضح الفوارق وثيقة الصلة بمعالجة المعلومات في بِنية المخ، لنا أن نتوقع تغيراتٍ مشتركة في علاقات بِنية المخ لدى حيواناتٍ مختلفة الأحجام.

ولعل المشكلة الأخطر التي تواجِه الأمخاخ كبيرة الحجم ترجع إلى قسمةٍ هندسية لا مناصَ منها تُميز البنية الشبكية؛ إذ مع زيادة الخلايا العصبية لا بد أن يزيد عدد الروابط التي بينها بنسبةٍ هندسية للحفاظ على مستوًى ثابت من التكامُل الرابطي، وهذه العلاقة قابلة للتعميم بالنسبة للكثير من العمليات الخاصة بالمعلومات والتحكُّم. والمُلاحظ في الأمخاخ التي تختلف بعضها عن بعض بملايين أو بلايين الخلايا العصبية أن الاحتفاظ بدرجةٍ مناسبة من الرابطية الوظيفية يستلزِم زيادةً فلكية في عدد الروابط تتجاوز أي أملٍ معقول للبقاء داخل جسمٍ واحد. علاوة على هذا فإن قيود عملية الأيض الخاصة بحجم الخلايا العصبية المُفردة تجد بدَورها عددًا من روابط التوصيل الشبكي التي يُمكن لأي خليةٍ عصبية أن تدعمها وحدَها؛ لذلك يكون من المُستحيل حتمًا الوفاء بهذا الطلب المُتزايد في أيِّ مخٍّ حقيقي، ويكون لازمًا حدوث خفضٍ مرحلي متزايد باطِّراد في الكثير من أبعاد علاقة الربط.

fig12
شكل ٥-٢
شكل ٥-٢: موجز لبعض الفوارق الإدراكية المُرتبطة بفوارق في حجم المخ والجسم والعمر (من اليسار إلى اليمين: زيادة النطاق، السُّمك الأفقي للخطوط المُثلثة الشكل تُشير إلى المدى أو الأهمية)، وثمة قسمات أخرى عامة (موضحة فوق صورة أمخاخٍ لأنواعٍ مختلفة الأحجام، وتشتمل على خفضٍ لمعدل المخ/الجسم ومعدل التكاثر مع زيادة الحجم)، وتُصوِّر المُثلثات السُّفلى بعضًا من مُعاملات الارتباط الإدراكية، وتتضمن هذه خفضًا لوظائف التكامُل بسبب مخٍّ أقل ترابطًا وأكثر تقسيماتٍ فرعية وما يُقابل ذلك من زيادةٍ في زمن المعالجة وزمن ردِّ الفعل، وتتضمَّن أيضًا خفضًا في الاعتماد على الاستجابات المُدمجة في الجسم وزيادة في الاعتماد على التعلُّم بسبب تزايد القابلية للتكيُّف الأكثر مرونةً المُعتمد على المحاولة والخطأ، ونجد أيضًا تحولًا في استراتيجيات التعلم من تعلُّمٍ مُرتهِنٍ بالمنبه لدرجة كبيرة إلى تعلمٍ مُنفتح أكثر لتعميم ونقل المعلومات بين سياقاتٍ مختلفة. وبدا واضحًا على سبيل المثال أنَّ نقل التدرب إلى ظروفٍ انعكست فيها بشكلٍ تامٍّ العلاقاتُ الترابطية يقترن بزيادة في حجم المخ، بيد أن كبر حجم المخ ليس وحده (انظر على سبيل المثال Rumbaugh and Pate, 1984; Rumbaugh et al., 1996)، الذي يدلُّ على أنه اقتران «إجمالي مُكثف» مقابل السعة «الخالصة» لمعالجة المعلومات.
وجدير بالإشارة أن الروابط الخاصة بكلِّ خليةٍ عصبية في الأمخاخ الحقيقية تزداد زيادةً طفيفة مع الحجم، غير أن نسبة خلايا المخ العصبية التي ترتبط بها كل واحدة تنقص سريعًا، ويقل عدد الدوائر الداخلة والخارجة من الروابط الصادرة والواردة من مجالاتٍ مختلفة، ونتيجة لذلك تعني زيادة الحجم زيادة تشظِّي الوظيفة، وتعني أيضًا فقدان السرعة سواء بسبب المسافات المُتباعدة أو بسبب زيادة عددِ العُقَد التي يتعيَّن عبورها بناءً على إشارةٍ للوصول إلى مواقع نقلت موضعها في مُجمَل الشبكة. وإذا قارنَّا ذلك بالحواسب الإلكترونية، نجد أن توصيل النبضات على طول المحاور وعبر شبكات التوصيل بطيء جدًّا، ونلاحظ أن المحاور العصبية البارزة وإن كانت طويلة تُجسِّد قسَمَات خاصة بالتصميم (التكون النخاعي myelination) الذي يؤدي إلى سرعة وحماية انتشار طاقات النشاط المُمكنة، ونشر الإشارات على مدى مسافاتٍ أكبر بين مكونات المخ التي تستغرق حتمًا مزيدًا من الوقت في الأمخاخ الأضخم حجمًا. والملاحظ أن هذا العبء الزمَني في الحجم الأضخم يتضخَّم بمعدلات زيادةٍ هندسية في الروابط والتوصيلات عبر طرقٍ غير مباشرة. وأخيرًا، ثمة شبكة أكبر على نحوٍ هائل وأقل اندماجًا سوف تنزع إلى أن تكون أكثر تعرضًا للتشوش، وتجعل الأنشطة العصبية أكثر «اضطرابًا»، وهذا بدوره سيُبطئ من عمليات الإدراك واتخاذ القرار ويعوق كفاءة المعالجة.

وهكذا، فإننا حتى لو افترضنا أن الحجم يُضيف سعة أكبر لحمل المعلومات، فإن هذا العائد يُمكن موازنته بكلفةٍ ذات شأن في مجالات أخرى للوظيفة، وإن الهندسة الحتمية لمعالجة المعلومات الخاصة بالحجم تُحدد أن الأمخاخ الأكبر حجمًا لا يمكن أن تكون مجرد أمخاخ صغيرة كبرت، وهذا من شأنه أن يجعل معادلة الحجم/الذكاء مشوَّشة ومُعقدة، ولكن خفض سرعات المعالجة وفقدان تكامل الوظيفة يمكن ألا يكون حائلًا دون تعويض التمايز الزائد والقدرات التخزينية ما دام حجمها الأكبر يحمي أيضًا الكائن الحي من الحاجة إلى إنتاج تعلُّمٍ واستجابات سريعة. وهكذا يبين ثانيةً أن الأضخم حجمًا يختلف أكثر فأكثر مع اطِّراد الإدراك المعرفي.

وطبيعي أن بضع قسمات وظيفية قليلة لا تُغير كثيرًا من الحجم، وهذه أقرب إلى أن تكون الوظائف التي تُحددها، بشكلٍ مباشر أكثرَ من غيرها، العمليات الجزيئية والخليوية. ويبدو من مظاهر المفارقات أن التعلم الأساسي قد يكون إحدى هذه القسمات. والملاحظ أن الآليات الأساسية التي تسمح للخبرات بأن تُخلف أثرها في تغيرات بنية المخ، هي آليات خليوية وجزيئية راسخة ومشتركة بين غالبية الحيوانات ابتداءً من الحلزون وحتى القردة؛ مثال ذلك أن عملية كيميائية حيوية خليوية معروفة باسم تعزيز التأثير طويل المدى long-term potentiation تسمح باطرادٍ بتعزيز الروابط بين شبكات التوصيل أو إضعافها من حيث نقلِها الفعَّال للمعلومات من خليةٍ إلى خلية، ويبدو أن هناك وسائل موازية يُمكن من خلالها أن تُغير الإشارات التي تحملها سعة الخلية العصبية بحيث تسَع نشر الإشارات عبر القطاعات المختلفة لتكوينها الشجري المُمتد من أفرُع الداخل (الزوائد) وتعدل الإشارات لتتوافق مع مسار الخروج (المحور).
وتُمثل مثل هذه العمليات الأساس لتحويل أنماط الخبرة إلى أنماط السلوك العصبي — أي التعلُّم والذاكرة. ويبدو أن الأجهزة العصبية، بما في ذلك أبسطها، تنْبنِي جوهريًّا وفق مبادئ التعلُّم الأساسية نفسها مثلها مثل الأجهزة الأعقد. ونقرأ في كتاب يُمثل نقدًا واعتراضًا قاسيًا لموضوع حجم المخ والذكاء من تأليف إيوان ماكفال Euan Macphail ما يعتبر رفضًا لفكرة أن المخ والذكاء بينهما معامل ارتباط بأي معنًى من المعاني؛ وسبب ذلك أنه لا يرى غير دليلٍ واهٍ يوضح أن قدرات التعلُّم الأساسية تختلف كثيرًا جدًّا على نطاق أنواع يختلف حجم مخِّها اختلافًا كبيرًا،٩ ونراه يوثق قدرات تعلُّمية معقدة على مدًى واسع من الفقريات لا تكشف بوجه عام عن قدرات إدراكية معرفية متطورة، ويمكن توسيع نطاق هذا الرأي ليشتمل على مدًى واسعٍ من الدراسات عن تعلُّم اللافقاريات، مثال ذلك أن التعلُّم المعقد لدى نحل العسل له حالات كثيرة موازية في تعلم الفقريات، سواء من حيث معدل وتعقد التعلم،١٠ ويكشف تحليل ماكفيل على أقل تقدير عن الثغرة التي تجعلنا نتوقَّع بالنسبة للعمليات العصبية — من مثل الأنماط العامة للتعلُّم الترابُطي البسيط — أن حجم المخِّ له تأثير مختلف جدًّا، وحيث يكون حجم المخ مؤثرًا فعلًا فإن ذلك في الأغلب تأسيسًا على الاختلافات في الاعتماد على استراتيجيات تعلُّمٍ بديلة، وربما نطاق أو تنظيم التخزين الذاكري. ونجد واحدًا من أهم البراهين على ذلك جاء ضمن دراسات عن قدرات الأنواع المختلفة على نقل المعلومات المكتسبة خلال شروط وظروف المهام والمنبه، وإن هذه القدرة الثانوية على التعلم التي تيسر للحيوانات القدرة على توليد استجابات «طارئة» جديدة عن طريق استخدام المعلومات في سياقات جديدة قد وضح جليًّا أنها ذات علاقة بحجم المخ وليس باطِّراد كبر المخ encephelization.١١

وواضح أن هذا النمط الخاص بالفوارق المُتعلقة بالحجم — من حيث الأهمية النسبية لمختلف استراتيجيات التعلم — يتميز بأنه وثيق الصلة بشكلٍ مميز بالمشكلات الخاصة بالتعلم التي تفرضها اللغة. ويمكن لاستراتيجيات التعلُّم المرِنة نسبيًّا وغير المباشرة أن تُفيد من حيث الاستعمال فقط إذا ما توفر وقتٌ كافٍ لاستخدامها، ويمثل هذا أكثر من مشكلةٍ بالنسبة لعمليات محو إعادة تسجيل التعلُّم مُتعدد المراحل، ويلاحظ أن استراتيجيات التعلُّم هذه ذات جدوى ضئيلة للحيوانات قصيرة العمر الأصغر حجمًا؛ إذ بدلًا من ذلك تنحاز الأمخاخ الأصغر حجمًا ضد استراتيجيات التعلُّم هذه، ما دام لن يتوفَّر لها وقتٌ كافٍ لتعويضها، وقد يُساعدنا هذا على تفسير السبب في أن الاتصال الرمزي لم يتطوَّر إلا بعد تطوُّر القِرَدة العُليا ذات الأمخاخ الكبيرة وطويلة العمر. وحيث إن تعلم اللغة مثال مُسرف عن مشكلة التعلُّم الموزع على نطاق واسع، فإن الأنواع ذات الأمخاخ الأصغر حجمًا سوف تنحاز على الأرجح ضد استراتيجيات التعلُّم الملائمة أكثر من انحياز الأنواع ذات الأمخاخ الأكبر، وهكذا فإن الحجم المُطلَق للمخ ربما لعب دورًا محدودًا ومُهمًّا في تطوُّر اللغة دون اعتبارٍ لأي زيادةٍ في القوة الحاسوبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥