الفصل السادس

تباعد مُطَّرد

لا شيء عظيم أو ضئيل إلا بالمقارنة …

جوناثان سويفت – رحلات جاليفر

أكذوبة شيهواوا

الفوارق في نسب المخ والجسم ليست دائمًا كما تبدو في ظاهرها؛ إن كبر حجم الدماغ — أو الدماغية encephalization — ويعني درجة زيادة الحجم الفعلي لمخ حيوانٍ ما عما هو متوقَّع لحيوانٍ مثله في نفس حجمه — هو علاقة بين المخ والجسم، ولذلك يمكن أن يتأثر بأي تغيُّر في أيٍّ منهما، وتمَّت البرهنة على هذه المشكلة بوضوح بمثال مألوف: هو الاختلافات في أحجام المخ والجسم لدى سلالات الكلاب المنزلية. نعرف أن الكلب ذا الحجم المتوسِّط له مخ يُقارب الحجم المتوقَّع لحيوانٍ ثديي متوسط له الحجم نفسه (أقل قليلًا من فصيلة الكلبيات الضارية مثل الذئاب)، ولكن الكلاب الصغيرة تتميَّز بمعدلات عالية في نسبة حجم المخ إلى حجم الجسم، وتتَّصف الكلاب الضخمة بنِسَبٍ منخفضة لحجم المخ إلى الجسم، وذلك لأن حجم المخ أقل قابليةً للتغير من حجم الجسم بين سلالات الكلاب. والملاحظ، من وجهة نظر الدماغية، أن الكلاب الصغيرة جدًّا تقع بين جميع الثدييات التي هي أكثر دماغية، أي الكبر النسبي لحجم الدماغ، كما أن الكلاب الضخمة جدًّا دماغيتها صغيرة. تُرى هل نرى بعامةٍ أن الكلاب الصغيرة ذكية بشكلٍ عادي، بينما الكلاب الضخمة غبيَّة على نحوٍ غير عادي؟ لا نجد أي بنيةٍ تدعم مثل هذا النمط للذكاء النسبي بين الكلاب،١ وطبيعي أن حدثًا عارضًا لا يفيد بوجود ذكاءٍ نسبيٍّ عالٍ في السلالات الصغيرة.
إن حجم الجسم أكثر قابليةً للتغيُّر من حجم المخ داخل نوعٍ ما. إن وضع رسمٍ تخطيطي لتطوُّر حجم المخ مقابل حجم الجسد لعيناتٍ من داخل النوع يُعطينا مسارات منخفضة الانحناء عند مقارنتها بنسب المخ/الجسم فيما بين الأنواع interspecies،٢ والملاحظ أن أفراد النوع الواحد الأصغر حجمًا لها أمخاخ أقل قليلًا من الأفراد الأضخم حجمًا، ونظرًا لأن الكلاب متوسطة الحجم تُقارب التوقُّع العام للثدييات، فإن تأثير التربية من أجل حجمٍ ضخم أو صغير ينقل الأفراد فوق أو تحت هذا المُنحنى المنخفض، ويبالغ في الانحراف عن الاتجاه العام للثدييات، وهكذا تبدو الكلاب الصغيرة مُفرطة الدماغية، وتظهر الكلاب الضخمة أقل دماغيةً بالمقارنة بالحجم النمطي للثدييات (انظر ٦-١).
ترى ماذا يفترض أن نطرحه من هذه الحصيلة فيما يختص بالقدرات الذهنية للكلاب كنتيجة للتربية؟ ها هو ستانلي كورن الذي ألَّف كتابًا رائعًا من حيث المعلومات عن ذكاء الكلاب لا يضع فصيلة كلاب الشيهواوا أو البكيني بين أذكى الكلاب على الرغم من أنها تتَّصِف بأعلى نسبةٍ في الدماغية،٣ وعلى الرغم من إمكانية وجود تغيرات في القدرات الذهنية والاستعدادات السابقة لدى السلالات المختلفة — التي يختارها المربون عن قصد — لا أحد يتخيَّل أن التربية من أجل الذكاء سوف تؤدي حتمًا إلى تصغير الحجم أو أن التربية من أجل الغباء ستؤدي إلى بِنية عملاقة. ونحن نرى أن أمخاخ الشيهواوا هي أمخاخ نمطية للكلاب (وربما يشوِّهها تصغير حجمها)، وتتَّصف بقدرات الكلاب النمطية، إنها موجودة فقط داخل كلاب صغيرة جدًّا، ونعرف أن اختلافات في دماغية الكلاب هي نتيجة الاستيلاد؛ بغية الوصول إلى نتائج بشأن الحجم علاوةً على عددٍ من النسب الجسدية الأخرى (طول نسبي للسيقان وشكل الرأس … إلخ)، وتوجد وسائل عديدة لتغيير النِّسَب بين حجم الدماغ وحجم الجسم في الكلاب دون أن يؤثر ذلك في الانتخاب من أجل سماتٍ إدراكية في ذاتها، ومن ثم فإن مقارنة السلالات فقط في ضوء الدماغية يُخفي كل هذه التأثيرات المُمكنة بشأن الدماغية الساكنة (الاستاتيكية). والملاحظ أن الكلاب التي تمَّ استيلادها للحصول على سيقان قصيرة فقط والكلاب المستولَدة من أجل أبعادٍ منخفضة للجذع، يمكن أن تكون دماغيتها واحدة، وذلك لأسبابٍ مختلفة جدًّا، فضلًا عن أن هذا لن يعكس في أيٍّ من الحالتَين تأثير الانتخاب على خصائص المخ، إن الانتخاب الطبيعي أو الاصطناعي قد يُؤْثِر ضروبًا مختلفة من التوليفات الخاصة بنِسب أجزاء الجسم، وليس من السهل في حالات كثيرة تحديد أيها المُستقل، وأيها مُتغيرات تابعة — أي القسمات التي تؤلف الشكل العام — وأيها تؤلِّف الخلفية الثابتة. وتنبثق المشكلات من رغبتِنا في خفض العلاقة متعددة التغيرات وتحويلها إلى علاقاتٍ ثنائية.
وعلى الرغم من أن بالإمكان أن يشطح بنا الخيال ونتصوَّر بعضًا من الناس لديهم اهتمام باستيلاد كلابٍ تتميز بذكاء خارق، فإن ما يثير الفضول أن هذا المعيار للاستيلاد يبدو في ظاهره أنه شرط لا بد منه لأي سلالة خاصة، والحقيقة أن هذا قد يجعلنا نتساءل في دهشة: هل حدث استيلاد أي حيوانٍ أليف من أجل زيادة الذكاء العام؟ ولم يكن هذا بوضوح المبدأ المُوجِّه لعملية استيلاد كلابٍ صغيرة الحجم، ويبدو في الواقع أن الجِراء الأليفة المستولَدة لها في المتوسط أحجامُ مخٍّ أصغر نسبيًّا من أبناء عمومتها البرية، وهذا أيضًا هو حال الأنواع الأليفة على اختلاف أشكالها، الأبقار والخنازير والماعز … إلخ.٤ ونجد بعض الباحثين في موضوع حجم المخ أخذوا حجةَ الدماغية حرفيًّا، ودفعوا بأننا أثناء عملية الاستئناس نختار حتمًا أن نحتفِظ بمخزون مستولد من أجل الغباء دون الذكاء، بيد أن هذا بدَوره يعيبه الانحياز الدماغي cephalic bias ذاته، ولعل من أبرز التوجُّهات في هذا الصدد استيلاد أنواعٍ من حيوانات المزارع للحصول على إجمالي ضخم من القوة أو إنتاج اللحوم أو إنتاج اللبن … إلخ.

إذن، المشكلة المتعلقة بالتركيز على علاقة المخ/الجسم هي أن المخ عادة ليس هو سبب الاختلاف، والسؤال: كيف يمكن أن يؤثر تفسيرنا بشأن الحجم المقارن للمخ؟ لنتخيَّل أن جميع سلالات الكلاب الأخرى عدا أصغرها قد هلك عند نقطةٍ ما خلال الفترة القريبة من مرحلة ما قبل التاريخ، كما هلك معها الدليل الحفري الداعم لها، فلو حدث أن التقى مصادفةً بعض العلماء بهذه الكلاب صغيرة الحجم جدًّا لأول مرة في حياتهم، فإنهم على الأرجح لن ينظروا إليها باعتبارها كائناتٍ مصغرة لنمطٍ أضخم حجمًا، بل فقط باعتبارها حيواناتٍ ضارية صغيرة لها أمخاخ كبيرة. وسوف تؤكد الإحصائيات عن حجم المخ والجسم أن هذه أنواع ذات دماغية لافتة للنظر، بل قد يُغري هذا الباحثين بوضع نظرياتٍ عن الأسباب الإدراكية المُحتملة لهذه البنية المُخيَّة — الطراد التعاوني المعقد، التكوينات الجماعية الضخمة … إلخ. ونعرف أن الاستعداد السابق لافتراض تطوُّر المخ ليس له ما يُبرره في السيناريو الخيالي عن السلالة الخاصة بكلبٍ احتفظ بالحد الأقصى من الصفات، ولكنني أومِن بأن العلماء الدارسين لتطوُّر المخ اتخذوا بشكلٍ مُطَّرد هذه القفزة دون الاستناد إلى تبريرٍ قوي، لماذا؟ ما الذي يجعل الانتخاب على أساس حجم المخ افتراضًا قاصرًا جدًّا؟ هل يُوجَد دليل مُستقل على تطوُّر حجم المخ أكثر مصداقيةً ورواجًا من تطور حجم الجسم؟ أعتقد — في حدود معرفتي — أن هذا لا وجود له.

fig13
شكل ٦-١
شكل ٦-١: مشكلة الحجم النسبي للمخ كمؤشِّرٍ دالٍّ على تطور المخ، ونجد برهانًا واضحًا من خلال طرُق الوصول إلى حجمٍ صغير أو ضخم للمخ.
(A) رسم تخطيطي للآليات الأربعة المحتملة التي يمكن أن تكون سببًا في حيود حيوانٍ ما عن المِقياس النمطي لحجم المخ والجسم للفصيلة التي ينتمي إليها؛ (أي جميع الثدييات وجميع الرئيسيات … إلخ)، وسبق تفسير هذه الحيودات باعتبارها فقط دماغية نسبية (±E)، ولكن يتَّضح هنا أن التغيُّر التطوري في حجم الجسم دون اقترانه بتغيُّرٍ في حجم المخ (التكوين البنيوي s± somatization) يمكن أن يكون متضمنًا.
(B) رسم تبسيطي للعلاقة بين حجم المخ والجسم في سلالات الكلاب الأليفة بالمقارنة بواقع حال الحيوانات المفترسة بعامة، لاحظ أن السلالات الأصغر حجمًا للكلاب تعلو خطَّ الحيوانات المفترسة، وأن سلالات الكلاب الأضخم حجمًا تأتي دونها، وذلك بسبب التغير في تناسُب أجزاء الجسم أثناء النمو داخل النوع. ويمكن القول بأن السلالات الأصغر حجمًا إما أن تكون أكثر دماغيةً أو أقلَّ بنيويًّا من الحيوان المفترس متوسط الحجم، وإن الوضع النسبي للمسار لا يُعطي معلوماتٍ كافيةً لتمييز أيها، ولكن المعلومات عن تاريخ سلالات أخرى واستيلاد الكلاب يُفيد بأن الدماغية الظاهرية للكلاب الصغيرة كانت على الأصح نتاجًا غير مباشر للانتخاب خاصًّا بحجمٍ صغير نسبيًّا، بغضِّ النظر عن حجم المخ. ونرى أن مسار خط الكلاب الأليفة يقع عند مستوًى أدنى من خط فصيلة الكلبيات الضارية مثل الذئاب، ولكن الاستيلاد أدى إلى تبايُن أكبر بكثير من حجم الجسم.

ونجد من بين المزاعِم بشأن حجم المخ أن أقلَّها إثارةً للجدل يرى أن الرئيسات تميل إلى أن تكُون لها أمخاخ أضخم حجمًا بالقياس إلى حجمها، على عكس غالبية الثدييات. وإذا تأمَّلنا واقع حال الدماغية في الرئيسات يظهر لنا أن أمخاخها بالنسبة إلى أحجامها تصِل إلى الضعف عند المقارنة بالثدييات الأخرى، بينما البشر أكثر ثلاث مراتٍ من الثدييات النمطية. ويبدو أنه خلال انتشار الرئيسات حدثت زيادة في حجم المخ بما يتجاوز الثدييات الأخرى، وقد بلغت الزيادة ذُروتَها في تطوُّر حجم المخ البشري، وظهرت دراساتٌ كثيرة جدًّا عن الأهمية الظاهرية لتطور المخ في تسلسل الرئيسات، ويرى غالبة الباحثين في هذا ما يفيد بأن الرئيسات من حيث المعدل العام أذكى من الثدييات الأخرى، وأن البشر أذكى الرئيسات قاطبة. ونظرًا لميلنا نحو رؤية التطوُّر من منظورٍ بشري، وإلى تطور المخ البشري باعتباره ذروة مسارٍ أضخم كثيرًا، نميل إلى النظر إلى الرئيسات الأخرى (بدايةً من أقرب الأقرباء إلينا وهي القِرَدة العُليا الضخمة) باعتبار أنها حققت مستوى وسطًا «للذكاء العالي» يعلو على الثدييات الأخرى، ولكن هل ضخامة نِسب أمخاخ الرئيسات بالقياس إلى أجسامها انعكاس لمزيدٍ من النمو السريع للمخ، أو نقص لنمو الجسم؟ نستطيع أن نُحدد ما إذا كانت الأمخاخ زادت بالقياس إلى الأجسام أو أن الأجسام صغُرت بالقياس إلى الأمخاخ خلال تطوُّر الرئيسات، مثلما فعلنا بالنسبة لاستيلاد سلالات الكلب، وذلك بالاستعانة بمعلوماتٍ عن أنماط النمو، ونعرف أن عددًا محدودًا من الأنماط التي تنمو وفقًا لها كتلة الأمخاخ والأجسام بين الثدييات؛ ومن ثم فإن مقارنة أنماط النمو يُمكن أن تساعدنا على تحديد أيٍّ من هذه المتغيرات هو الأبرز، وأيها يُمثل الخلفية.

fig14
شكل ٦-٢
شكل ٦-٢: الأشكال الشائعة ولكن مع تقاطعاتٍ مختلفة لمُنحنيات زيادة المخ/الجسم أثناء النمو، التي تُمايز الرئيسات والثدييات من غير الرئيسات، كما هو موضَّح من خلال مقارنة شبه نموذجية لزيادة نمو الثدييات، يُصور الرسم ناحية اليسار النمط العام كما تعرِضه مظاهر نمو المخ/الجسم على مدى حياة أربع ثدييات، ابتداءً من المراحل الجنينية الأولى، وتؤكد المُنحنيات في الرسمَين نمطًا ذا مرحلتَين لنمو المخ/الجسم، الذي يكشف عن زيادة نمو المخ في فترة باكرة عن بقية الجسم، وتمثل P النمو لمخ/جسد جنين من الرئيسات، وتمثل NP نمط غير الرئيسات، ولاحظ أن مسار الرئيسات انتقل كثيرًا ناحية اليسار، وتُوضح المقارنة بين نمو المخ/الجسم في الثدييات أن جميع الرئيسات الشبيهة بالإنسان تتبع مسار النمو نفسه فيما قبل الولادة، وأن غالبية الثدييات الأخرى تتبع مسارًا آخر موازيًا ومُنحرفًا يمينًا، وتغيُّر نسب الجسم إلى المخ لدى الكبار داخل هذه المجموعات من الثدييات يحدُث نتيجة توسُّع كُتلي غير مُحدد الاتجاه scalar expansion للمنحنى كله، والتحول يسارًا لمنحنيات نمو الرئيسات (الذي ينتج مُخًّا أكبر بالقياس إلى الجسم) نراه واضحًا منذ أصغر الأجنة، ويوضح الرسم ناحية اليمين مُعدلات نموِّ المخ جملة لاثنَين من هذه الأنواع (الخنزير وقرد الماكاك) وكذا البشر، ويؤكد هذا أن النمو المُتجه يسارًا عند الرئيسات ليس نتيجةَ نموٍّ أسرع للمخ، وإنما انخفاض نمو الجسم، وتتبع أمخاخ البشر هذا النمط أيضًا.
ولنا أن نتوقَّع وجود مساراتٍ مختلفة لنمو المخ/الجسد ولها مُنحنيات ومعدلات مُتنوِّعة لكل نوعٍ من الأنواع وفقًا لخصائصها الفريدة في التكيُّف، ولكن المُثير للانتباه أن المنحنيات التي تصوِّر نمو المخ/الجسد لدى أجنَّة جميع الثدييات تميل إلى التجمع على امتداد مسارَين متوازِيَين أثناء نمو الجنين: أحدهما يشتمل على الرئيسات والثدييات البحرية والفيلة، ويشتمل الثاني على بقية الثدييات (انظر شكل ٦-٢A)، والملاحظ خلال هذه المرحلة الباكرة من النمو أن أمخاخ وأجسام كل فردٍ تنمو في اتِّساق تامٍّ في الغالب الأعم، ولهذا فإن كبر الحجم يكون أساسًا على نحوٍ أيسومتري isometric أي مُتماثل الأبعاد والقياسات بالنسبة لجميع أجنَّة الثدييات (مثل انتفاخ بالونة)، يفيد هذا أن معدلات النمو مُتماثلة على الأرجح في جميع أنحاء الجسم، ونلحظ أيضًا أن النمو نزَّاع إلى التضاعف: النسيج يضاعف نفسه عند المعدل ذاته الذي يحدُث معه مزيدٌ من النمو السريع مرحليًّا، ومع اطِّراد النمو تنمو الأمخاخ والأجسام أسرع بشكلٍ مطلق، ولكن الغالبية العُظمَى من أجنة الثدييات تنمو بمعدلٍ واحدٍ مع وزن مُتماثل: حميل القطة ٥ جم، وحميل البقرة ٥ جرام، الذي يضيف الكمية ذاتها من نسيجٍ جديد خلال الفترة الزمنية عينها، حتى وإن كانت عند نقاطٍ مختلفة على مدى مسار نموِّها وتتَّجِه نحو نهايات مختلفة.
إذن ما الذي يفسر الفارق بين الرئيسات والغالبية العُظمَى من الثدييات غير الرئيسة؟ المُثير للدهشة أن أمخاخ الرئيسات تنمو عند المُعدل نفسه لنموِّ أمخاخ الثدييات الأخرى، الأمخاخ التي تبلُغ حجمًا متماثلًا تستغرِق تقريبًا وقتًا مُتماثلًا لبلوغ ذلك، سواء في أنواع الرئيسات أم غير الرئيسات (انظر شكل ٦-٢B)، ونعرف أن الرئيسات لا تنمو أمخاخها أسرع من الثدييات الأخرى، ولكن أجسامها تنمو أبطأ، ويلاحظ في ضوء المرحلة الجنينية الباكرة أن أجسام الرئيسات أصغر مما هو متوقَّع بالنسبة لعمرها، ومن ثم فإن الزيادة الظاهرية في الدماغية عند الرئيسات هي — بدقةٍ أكثر — نقص في تكوين نسيج البنية. معنى هذا أن دماغية (كبر حجم المخ النسبي) الرئيسات ليست في الرأس.
ويمثل هذا تحديًا خطيرًا للنظرة التقليدية إلى تطور الرئيسات التي تميزت بالحديث عن الانتخاب؛ بُغية تحقيق زيادةٍ في الذكاء؛ إذ لو كان انتخاب الرئيسات من أجل ذكاءٍ زائد، فلماذا يؤدي هذا إلى تغيُّرٍ في نمو الجسم دون نمو المخ؟ أليس لنا بدلًا من ذلك أن نَعتبر الرئيسات أمثلةً لتحول قزمي عرقي phyletic dwarfism بدلًا من تضخُّم المخ؟ وهكذا نواجِه ثانيةً السؤال الخاص بحيوان شيهواوا: هل هناك ما يُبرر لنا استدلال أي شيءٍ عن تطوُّر المخ من نقصٍ في نمو الجسم بالقياس إلى نمو المخ؟

ربما لنا أن نقترِب من الإجابة إذا ما حدَّدنا كيفية نقص وزن أجسام الرئيسات، ترى هل التحوُّل لدى الرئيسات لعلاقات النمو الجنيني هي ما نتوقَّعه للتكوين القزمي؟ أو بعبارة أخرى: هل يختلف نمو مخِّ وجسم الرئيسات عن الأنماط الثديية الأخرى بالطريقة نفسها التي يختلف بها نمو مخِّ وجسم الشيهواوا عن أنماط نموِّ الكلاب الأخرى؟ في الحقيقة هذان المساران المؤدِّيان إلى حجم جسمٍ ناقص الوزن دون أن يُقابله نقص في وزن المخ مساران مختلفان؛ إذ تكشف الحيوانات التي تقزَّمت عن نمطٍ بطيء للجسم في المراحل التالية (الحميل في المرحلة المتأخرة وما بعد الولادة)، ولكنها تلتزم مسار الأعضاء الطبيعيين من نوعِها (والترتيب) في الغالبية العُظمَى من النمو الجنيني، بيد أن الرئيسات تتبع منحنًى موازيًا بعد أن يَحيد للنموِّ أثناء الحمل بالمقارنة بالثدييات الأخرى منذ البداية، ونلاحظ أن نمو مخ الحميل/البدن في الرئيسات هو نموٌّ أيزومتري (مُتماثل المقاييس والأبعاد) شأن الثدييات الأخرى؛ إذ تنمو الأمخاخ والأبدان داخل كلَّ حميلٍ بمعدلاتٍ شِبه مُتطابقة، ولكن مجمل جسم أحد الثدييات أصغر في كل مراحل الحمل المُتماثلة، على الرغم من أن نمو مخ حيوان الرئيسات يُواكِب الثدييات الأخرى، ويبدو وكأن جزءًا صغيرًا مُهمًّا من بقية الجسم مفقود منذ اللحظة الأولى بحيث يصبح التقسيم بين الرأس والجسم واضحًا جليًّا في الحميل، ولهذا فإن الرئيسات تماثل كلاب شيهواوا بالمعنى السطحي فقط، كل منهما له رأس كبير نسبيًّا ومخ كبير بسبب نقص نموِّ البدن. غير أن الرئيسات تبدأ بأبدانٍ صغيرة بينما كلاب الشيهواوا تنتهي بأبدانٍ صغيرة.

وماذا عن البشر؟ تقضي النظرة التقليدية عن مكاننا بين الثدييات الأخرى بأن الرئيسات نشأت لدَيها أمخاخ أضخم من الثدييات الأخرى استجابةً لضرورةٍ إدراكية بشأن بناء موطنٍ ملائم، وسار البشر بهذا النهج إلى أبعدَ من ذلك بحيث تجاوزوا الرئيسات الأخرى، ولكن ها قد ظهر الآن أن الرئيسات لم تطوِّر أمخاخًا أكبر حجمًا، بل فقط أبدانًا أصغر؛ لهذا نحن بحاجةٍ إلى إعادة التفكير في النظرة القائلة: إن تطوُّر المخ البشري كان فقط امتدادًا منطقيًّا لمسار الرئيسات، وإن أيَّ مُقارنة بين أنماط نمو المخ والجسد لدى البشر وغير البشر (انظر شكل ٦-٣) توضح لنا انحرافًا عن مسار الرئيسات النمَطي ولكن فقط بعد الولادة، معنى هذا أننا لم نبتعِد عن الرئيسات الأخرى بالطريقة نفسها التي ابتعدت بها الرئيسات عن الثدييات الأخرى، أي أننا لم نُتابع انحراف الرئيسات، ولكن العكس، مثل الأقزام، فإن الفارق بين أنماط النمو البشري والقردة تظهر كنتيجةٍ لاجتزاء أي تقصير لمُنحنى النمو، ومع هذا، لسنا رئيسات مُقزَّمة، نحن بين أضخم الرئيسات، وحجم مُخِّنا في البلوغ أكبر من مخ أي رئيسات أخرى، سواء بالمقاييس المُطلقة أو النسبية، وعلى الرغم من أن منحنى نموِّنا يبدو مُجتزأً في فترة باكرة، مثلما هو الحال في التكوين القزمي، فإن معدلات نمو أجسامنا لا تُبطئ فجأة ومباشرة بعد الولادة كما هي الحالة في التقزُّم، نحن نبدأ نموَّنا وفقًا للخطة المِعيارية للحميل عند الرئيسات، بينما تُواصل أمخاخنا النمو لفترةٍ أطول مما هو مُتوقع، وزوَّدتنا الحفريات بُرهانًا جديدًا يؤكد أن حجم مخِّ شبيهِ الإنسان («الهومينيد» hominid) لا يبرُز إلى الوجود بفعل تصغير البنية البدنية، نحن بعض أضخم أعضاء رُتبتنا (الرئيسات)، وتفيد سجلَّات الحفريات التي تمتدُّ صاعدة إلينا أنه كانت هناك زيادة مُطلقة — وليس نقصًا — لحجم البدن مقترنةً بزيادةٍ أوسع نطاقًا في حجم المخ، وبمعدل أبطأ، إن المخ هو في الحقيقة مركز التغيير عند البشر.

ومع هذا كله فإن معدل نمو المخ البشري لا يُمايزنا عن الثدييات الأخرى، إن الفوارق في أحجام الثدييات البالغة هي دالَّة على مدى استمرارية النمو، وتبلغ أمخاخنا حجمها الكبير في الفترة الزمنية نفسها المتوقعة في الدولفين الضخم أو لإحدى ذوات الحوافز الضخمة مع مخٍّ بالحجم نفسه، وتنمو أمخاخنا وكأنها لإحدى الرئيسات التي لها حجم جسم بالِغ يزيد على ١٠٠٠ رطل، بينما نمط نموِّ جسمنا مُماثل لجسم الشمبانزي، ونعرف أن كلًّا من المخ البشري وبقية الجسم البشري ينموان وفق المسارَين المتوقَّعَين للوصول إلى الحجم في سنِّ البلوغ، وهذان المساران لا يخصَّان بعضهما بعضًا داخل الفرد نفسه؛ إذ يبدو وكأن «واضع التصميم» حصل على الأجزاء المُختلطة بعضها ببعض.

وأدَّى بنا انشغالنا بموضوع حجم المخ والدماغية إلى إغفال الاختلافات والخلط بين هذه العمليات الثلاثة المتمايزة: القزمية في السلالات الصغيرة من الثدييات، وقصر فترة نمو جسم الجنين دون نمو المخ في الرئيسات، وطول مدة نمو المخ عند البشر دون امتداد نمو الجسم، وتعامُلنا معها جميعًا كانعكاساتٍ لمسار تطوري مرحلي وحيد لا يساوي فقط بين ظواهر بيولوجية جدًّا مختلفة بعضها عن بعض على أساس مظهرٍ سطحي، وأدَّى بنا هذا أيضًا إلى إغفال الدور المُهم فيما يبدو لعملية نموٍّ خاصة بالنتائج الوظيفية. إن هذه التعديلات الثلاثة شديدة الاختلاف لنموِّ المخ والجسم لها يقينًا تأثيراتٌ مختلفة مُهمة على تنظيم المخ، ووظيفة الإدراك، وانتخاب الضغوط التي تولَّدت عنها، وإن ما نريد أن نوضحه بجلاءٍ هو كيف أن هذه الاختلافات في الوسائل تفضي إلى اختلافاتٍ في النتائج. وطبيعي أن المشكلة الأولى هي أن نفهم كيف تظهر هذه الاختلافات؛ إذ يُمثل هذا مجرد بداية الفهم.

fig15
شكل ٦-٣
شكل ٦-٣: رسم أقرب إلى النموذج يوضح منحنى نمو المخ/الجسم البشري بالمقارنة برئيسات من أنواع أخرى (H = بشري، C = شمبانزي، C = قرد الماكاك)، وتُشير المربعات والمُثلثات إلى معدل قِيَم وزن المخ والجسم في سنِّ البلوغ بالنسبة لعددٍ من الرئيسات المختارة، ويُشير الخط الرمادي إلى مسار نِسَب التغيُّر أثناء نمو المخ والجسم أثناء النمو لدى الرئيسات، ويتبع نمو الحميل البشري مسار الحميل لدى الرئيسات، ولكن إجمالي شكل المُنحنى يتغيَّر بحيث تبدو المرحلة الأولى مُمتدة بينما مرحلة ما بعد الولادة مجتزأة نسبيًّا، وإذا اتبع جسمنا النمَط الذي يُبينه نمو مُخِّنا، فإننا سوف نكبر لنكون قردة عُليا عملاقة (وهو ما تُشير إليه النقاط والمُثلث العلوي على اليمين)، ويسهم هذا في الشعور بضرورة الوضع في مرحلةٍ أبكر خلال عملية اكتمال نُضج الذرية، كذلك فإن المسار المشترك بيننا وبين الرئيسات الأخرى أثناء الحمل يُشير إلى أن زيادة الدماغية البشرية — مقارنةً بالرئيسات الأخرى — ليست استطرادًا للعملية التي تتسبَّب في حيود الرئيسات عن مسار الثدييات الأخرى، إن مساراتنا نمط مختلف من الدماغية.

استخدام جينات الذباب لعمل أمخاخٍ بشرية

ما الذي يُحدد أي الأجزاء الخاصة بالجنين في حالة النمو ستصير بنيةً للمخ وبنية لغير المخ في الجسد؟ وأيها سيُصبح تكوينات المخ المختلفة؟ ندين ببعض الفضل في هذا إلى ذبابة الفاكهة؛ إذ زوَّدتنا بالمفاتيح الأولية التي ساعدتنا على حلِّ هذا اللغز، إن الوضع داخل الجنين الذي سينمو ليكون المخ والقلب والمعدة والأطراف وغير ذلك من أعضاء، تَحكُمه مجموعة من الجينات معروفة باسم الجينات المتجانسة أو المُتماثلة homeotic genes، التي سُمِّيت كذلك؛ لأنها تُشبه في تنضيدها أقسامًا منظمة على نحوٍ مُتماثل على امتداد محور الجسم، ولكن الأهم بالنسبة لهذه الجينات التي تُمثل خارجة الجسم هو طابعها المحافظ التطوري. وثمة جينات متماثلة أخرى مقابلة تبدو حاسمةً في تحديد التنظيم القطاعي في الأجسام النامية للديدان والفقريات والحشرات. وجدير بالذكر أن إحدى الجينات المتجانسة المُهمة لنمو الرأس والمخ البشرِيَّين تم نقلها إلى أجنة ذباب متغيرة، وكان نموها شاذًّا؛ لأن الجينات المقابلة أوقفت نشاطها، واستطاعت هذه الجينة البشرية أن تعوِّض شذوذ الذبابة جزئيًّا، ويؤكد هذا وهن طبيعة التطوُّر، ليس فقط من حيث الجينات بل أيضًا من حيث وظائفها، خاصة إذا تعلق الأمر بفعاليات النشوء الجيني المبكر.٥
وثمة شيء مشترك في جميع الجينات المتجانسة: كل منها تُشفر منطقة رباط الدنا DNA-Binding الذي يُمكِّن جزيء البروتين الذي تُنتجه من أن يرتبط بمواقع أخرى على الكروموسوم وتُنظم بذلك ظهور الجينات الأخرى. وتُسمَّى النسخة الأعم من منطقة رباط الدنا «هوميوبوكس homeobox»، لوظائفه المُتجانسة، ويحتوي الهوميوبوكس على جيناتٍ يبدو أن لديها القدرة على التحكُّم في مُجمل مُتتاليات الجينات الأخرى بما في ذلك الجينات المُتجانسة الأخرى، ومن المُحتمَل أن هذه التغذية المرتدة التراتُبية الحادثة وسط مجموعاتٍ من الجينات المتجانِسة هي التي تُمكنها من تنسيق الحركات المتوالية لفعاليات الجينات مع تبايُنات رهيفة على لحنٍ واحد في مواقع مختلفة على طول الجسم الآخذ في النمو وفي مراحل مختلفة من النمو.

وتستهل الجينات المُتجانسة تشكيلًا نمطيًّا داخل الجنين عن طريق تشغيل أو تنشيط جيناتٍ مختلفة في داخل مجموعاتٍ من الخلايا المُنفصلة بعضها عن بعض مكانيًّا على مدى سلسلةٍ من الانقسامات الفرعية للجنين، وتبدأ بالجينات التي تم تنشيطها بدرجات مختلفة في الرأس وفي شطرَي الذيل، وفي النصفَين الأمامي (البطن) والظهر، ثم الانتقال تدريجيًّا لتكوين أشرطةٍ منتظمة على طول الجسم، وصولًا إلى توليفاتٍ أكثر تعقدًا من هذه الأنماط، وترث خلايا الجنين أثناء النمو عن أسلافه أقداره التنموية لكي تُصبح خلايا ناضجة متمايزة، ونلحظ في المراحل الأولى تماثلًا كبيرًا بين أنواعٍ شديدة التبايُن؛ بحيث إن الأنماط الظاهرة لمختلف الجينات المتجانِسة في الجنين الفقري في حالة نموِّه تُنتج سلسلةً من الخطوط أو الأشرطة التي تُشبه قطاعات أو حلقات دودةٍ أو فراشة، ونجد أن حلقات أو قطاعات الجسم هذه للفقريات هي تكرار طبق الأصل بعضها من بعض بدرجةٍ ما، وتحتوي على أجزاء مُقابلة في مواضع متقابلة، وتُشبه الفقرات والضلوع والأطراف بعضها بعضًا؛ لأنها عناصر متماثلة داخل وحدات قطاعية، وعلى عكس الحال في الدودة أو الشرنقة المُقسَّمة إلى حلقات، فإن قطاعات الفقريات تتوارى مع نموِّ الجنين، وذلك لأن كلَّ قطاع من القطاعات ينمو بحيث يختلف عن غيره، ولأن القطاعات لا تبقى جميعها في مصفوفةٍ متوالية بسيطة، وهذا هو بخاصة واقع حال نمو الرأس.

ولقد كان الكاتب وفيلسوف العلم الألماني العظيم في القرنين الثامن والتاسع عشر — وهو يوهان وولفجانج فون جيته — واحدًا من أوائل من أشاروا إلى أن التكرار المتوالي لحلقات فقرات الجسم يمكن أن يتكرر في صورةٍ مشفرة في بناء الرأس، وتبنَّى علماء بيولوجيا القرن التاسع عشر فرضية جيته بمن فيهم ريتشارد أوين المناهض للداروينية وصاحب النفوذ الواسع، ولكن تحديد ما إذا كان مثل هذا التطابق موجودًا أم لا، تعقَّد بسبب العدد الكبير من الهياكل التي تنفرد بها الرءوس (مثل أعضاء حس خاصة مثل العينين والأذنين)، ولكن فقط — وبعد مرور قرابة القرنين — اكتشف علماء وراثة النمو الدليل الذي يُبرر هذه النظرة، وكم هو يسير أن نكتشف هياكل الرأس التي تظهر مُتماثلةً لتلك في بقية الجسم وذلك في جنين ذبابة الفاكهة؛ حيث فهمنا لأول مرةٍ آثار جينات الهوميوبوكس، مثال ذلك أن البنية ذات الحلقات في قرون الاستشعار تُشبه البنية ذات الحلقات للأطراف، وكشفت الطفرات المؤثرة في جينات الهوميوبوكس الموجودة داخل الرأس على أن هذه التماثُلات عميقة، وتُحدِث طفرةً متجانسة تُسمى antennapodia، وهي عمليًّا السبب في تحوُّل قرون الاستشعار إلى أطراف. معنى هذا أن البرنامج الأساسي نفسه للتجسُّد الجيني قد عدلته بشكلٍ طفيف جينات التجانس الحاكمة لتكوين كلٍّ من الأطراف وقرني الاستشعار.
وتتجسد في الثدييات أيضًا الجينات المتجانسة داخل المخ والرأس أثناء النمو، وهذه جميعًا لها نظائرها في الذبابة، ولكن نلحظ في مخ الفقريات انقطاعًا واضحًا للتقسيم الدقيق ذي الحلقات المتوالية للجينات عند مقارنتها بجذع المخ brain stem والحبل الشوكي spinal cord، ويبدأ الجهاز العصبي في صورته الأولى على هيئة قناةٍ طويلة مُمتدة من الخلف، ابتداءً من الرأس وحتى نهاية الذيل في شكلِ دودةٍ غير متمايزة، ونجد في الفأر مجموعة جينات بالهوميوبوكس اسمُها جينات هوكس hox genes (التي تماثل إلى حدِّ التطابق سلسلةً من جينات هوم Hom genes في الذباب)، وتتجسَّد على هيئة ترتيب متوالٍ على طول محور الأنبوب العصبي في أنماطٍ متداخلة جزئيًّا على شكل الأنابيب داخل التليسكوب، ويعرض شكل ٦-٤ صورةً لهذا النمط، ويمكن أن نراه وقد أصبح نشطًا داخل نمطٍ متداخل أثناء النمو، وبه أول جينات هوكس؛ حيث تتجسَّد وتُشعِل كل امتداد جذع المخ والحبل الشوكي، وتُنشِّط بعد ذلك جينات هوكس وعلى نحوٍ مرحلي داخل أفرعٍ للأنبوب، وينتج عن جينات هوكس نمَط ذو حلقات يكاد يكون منتظمًا مثل نظيره في الذباب وموزَّع على نحوٍ مُماثل إلى حدٍّ ما للترتيب نفسه من المقدمة إلى الخلف.٦
ونلحظ في المراحل الأولى من نمو المخ أن الطرف الأمامي للقناة العصبية يتضخَّم من على الجانبَين؛ ليكوِّن نتوءَين صغيرَين على شكل البالون، ويكوِّن بعد ذلك الدماغ الانتهائي telecephalon الذي يتألف من قشرة المخ والجهاز الطرفي limbic system، والعقد القاعدية basal ganglia على الجانبَين، وسوف تتَّسع وتتمدَّد لتملأ تجويف الجمجمة، ويُوجَد في وسطها الطرف الأمامي للقناة الذي سيُصبح الدماغ المتوسط diencephalon، (ويتألَّف من المهاد thalamus وما تحت المهاد hypothalamus)، ونجد خلفَه قطاعًا مُنحنيًا للأنبوب الذي سيُصبح الدماغ الأوسط mesencephalon أو المخ الأوسط midbrain، (وسُمي كذلك لأنه في موقع وسط بين المخ الخلفي hindbrain، والحبل الشوكي spinal cord من تحته، والمخ الأمامي أو الجبهي forebrain فوقه)، وتوجد على مبعدةٍ مجموعة من النتوءات التي سيتشكل منها فيها بعد المُخيخ cerebellum، والجسر pons وساق المخ brain stem، ومن المخ الأوسط وما بعده نجد أن جينات هوكس Hox genes لم تكن قد تشكَّلت بعدُ، ويتوافق هذا مع الانتقال من التوالي البسيط النِّسبي للتنظيم إلى التكوينات الأكثر تعقدًا، ويحدث هذا الانتقال بشكلٍ عامٍّ عند النقطة ذاتها؛ ليُشكل الطرف الأمامي للحبل الظهري notochord عصا الطبقة الوسطى mesodermal rod، التي تُخفي العمود الفقري الآخِذ في النمو وتؤثر في تكوين الأنبوب العصبي neural tube، وهذا هو الموضع الذي يظهر فيه الأنبوب العصبي؛ ليلتفَّ حول الطرف النهائي للحبل الظهري؛ حيث يبدو وكأنه فقد تأثيره التنظيمي المُتصل، وهذا توافق مُهم؛ إذ إن منطقة الانتقال تتطابق بشكلٍ غير دقيق مع الموضع الذي بدأت تنشط عندَه عملية تشكيل الأنبوب العصبي؛ إذ هنا تَعبُر مسارات كثيرة رئيسية خارجة وداخلة إلى المخ عبر الجانبَين المتقابلَين، وهنا أيضًا تبدأ عمليات الإنضاج ثم تنتشِر إلى الأمام وإلى الخلف.
وعلى الرغم من توقف عملية الانفلاق segmentation بشكلها الدقيق أمام هذا الموضع، فإن نوعًا من الشكل للجين الخاص بالانفلاق يستمرُّ على نحوٍ معدل في تقسيم الطرف الرأسي للأنبوب العصبي، ونلحظ أن جينات الهوميوبوكس homeobox genes للمخ الأمامي التي تُشبه أنماط تشكلها إلى حدٍّ كبير أنماط التشكُّل الانقسامي لجينات هوكس Hox genes تصدر عن عائلتَين لكلٍّ منهما جينتان، ويشار إليها بالأحرف المركبة Emx وOty، وهاتان تَسمِيتان للدلالة على تأثيرات الطفرة المُترابطة لهما في رأس الذبابة حال نموِّها (الفوهة الفارغة = Emx، وOrthodenticle = Oty، وهي جينة هوميوبوكس مشاركة في نمو الرأس)؛ إذ هنا يتحدَّد أول نظيرَين لهما، وهذه الجينات مثلها مثل جينات هوكس تتشكل بداياتها في نمطٍ كامن داخل مخ الكائن الفقري (Otx2 > Otx1 > Emx2 > Emx1) يتمدَّد من مُقدَّم المخ إلى خلف المخ الأوسط، وكذا المجال الأصغر يتمركز في الدماغ الانتهائي الظهري dorsal telencephalon؛ بحيث يتوافق على نحوٍ مُجملٍ مع كل الجزء الغالب من قشرة المخ isocortex (Emx1)،٧ وجدير بالذكر أن توقيت ظهور تأثيرات الجين من منطقة الظهور الأكبر إلى الأصغر يُشبه توقيت جينات هوكس فيما عدا انعكاس اتجاه هذه التأثيرات؛ إذ تبدأ جينات هوكس في النشاط في الاتجاه الترتيبي من أمامٍ عائدة إلى الخلف، بينما تبدأ جينات أوتكس Otx genes النشاط في ترتيب من الخلف إلى الأمام، ولكن ثمة فارق رئيسي آخر، هو أن إظهار تأثير جينات أوتكس وجينات هوكس — غالبًا ما يكون محصورًا في الجزء العلوي أو الخلفي للأنبوب العصبي للمخ الجبهي، هذا بينما تظهر تأثيرات جينات هوكس في أقسام التقاطُعات العرضية الكاملة للأنبوب، وهذا ليس سوى القليل من جينات التماثُل homeotic genes (الحاكمة لخارطة نموِّ الكائن) التي تظهر في المخ الأمامي والتي تلعب أدوارًا رئيسية في تحديد تنظيمِه، وإن كان التقسيم من الخلف إلى أمام يبدو شائعًا بين أنماط ظهور تأثيرات جنيات المخ الأمامي الأخرى.
fig16
شكل ٦-٤
شكل ٦-٤: ظهور التأثير في ذبابة وفأر أثناء النمو، وهي لثلاث عائلاتٍ من جينات التماثل (التي من المفترض أنها هي نفسها في البشر)، وتشتمل هذه على HOM والفوهة الفارغة لعائلات جينات في الذباب وما يُقابلها من عائلات جينات Hox وOtx وEmx في الثدييات، مُستطيل صغير على الخط يصوِّر وضع جينة على وتر الدنا في كروموسوم، وتشير الأسهم الرأسية إلى نظائر مُحتملة، كما تُوجَد مضاعفات جينية كثيرة في الثدييات. لاحظ التطابُق المَكاني لأنماط ظهور التأثيرات على طول مَحاور كلٍّ من النوعَين، وتظهر تأثيرات جينات هوكس في ساق المخ والحبل الشوكي في قطاعات مُتداخلة مكانيًّا، وتشمل الأسبق في الظهور الجزء الأكبر من الأنبوب العصبي (يشير إليها الرسم بالخط الداخلي الذي ينحني حول قمة مخِّ الفأر في حالة جنينية)؛ وإن كل واحدة من جينات هوكس حال بداية ظهور تأثيرها تبدأ بعيدًا قليلًا أسفل ساق المخ (يشار إليها بخطٍّ مُتداخل)، وينشأ نمط قطاعي له دور مُهم في تحديد الأوضاع القطاعية لمختلف النويات الحِسِّية والحركية لساق المخ، كما تُنظم تقسيم الأجزاء الكبرى للجسم (أي الأطراف)، ويظهر تأثير جينات أوتكس وإيمكس Otx & Emx في المخ الأوسط والمخ الأمامي عند الثدييات، وغالبًا ما تكون مقصورة على التكوينات الظهرية (على الجانب الخارجي لمُنحنى المخ الأمامي)، وأول ما يظهر أوتكس٢ Otx2 الذي يشتمل على القطاع الأكبر من المخ الأمامي الظهري ليُصبح تدريجيًّا مقصورًا على هذه المنطقة على مدى الوقت ابتداء من التوزع الأوَّلي الذي يضمُّ الجزء الأكبر من الجنين الذي في حالة عدم تَمايز، ويظهر تأثير آخرها، أي إيمكس١ Emx1 ويكون مقصورًا تمامًا على المنطقة التي ستنمو وتتحوَّل إلى قشرة المخ cerebral cortex. S = الحبل الشوكي؛ C = المخيخ cerebellum وساق المخ؛ M = المخ الأوسط؛ D = الدماغ المتوسط diencephalon؛ وT = الدماغ الخلفي.
وأحدث اكتشاف جينات التماثل homeotic genes ثورة في دراسة نمو المخ وتطوُّر المخ؛ إذ إنها تُعين حدود الفئات الرئيسية من الأنسال الخليوية ومجالات النمو داخل المخ أثناء نموه؛ لذلك فإنها تزودنا بمصدرٍ جديد مُهم للمعلومات عن مصادر كانت خافيةً عنا في السابق بما فيها من معلوماتٍ مُستخدمة لتصميم المخ، ويعتبر هذا التوافق وثيقَ الصلة بخاصةٍ لفهم كيف يمكن للتطوُّر أن يلائم التناسُبات في الأجسام وفي الأمخاخ مثلما هو حادث في حالة الإنسان، ونجد في الحقيقة أن الأجنَّة الناقلة للجينات في الجرذان والضفادع والذباب — التي تمَّ فيها تجريبيًّا تعديل ظهور تأثير جينات التماثل homeotic genes — غالبًا ما تكشف عن تغيرات مُهمة في خطة الجسم، بما في ذلك حتى إضافة أو محو تقسيماتٍ قطاعية للمخ؛ لذلك يمكن أن نردَّ إلى تأثيرات جينة التماثُل التغيرات الحادثة في خطة الجسم المُميزة لكلٍّ من النقلة إلى حيوان الرئيسات والنقلة إلى البشر، ولكن للأسف على الرغم من وضع خطةٍ واضحة لمجالات ظهور تأثيرات هذه الجينات في أمخاخ وأبدان جرذان أثناء نموِّها، فإننا نكاد نكون بلا معلومات مُماثلة تسمح لنا بعقد مقارنةٍ بين أمخاخ البشر وأمخاخ الرئيسات من غير البشر، وعلى الرغم من أننا نكاد نكون على يقينٍ من أن أنماطًا مُماثلة إلى حدٍّ كبير لظهور تأثيرات جينة التماثل homeotic gene، فإننا لسنا في وضع يسمح لنا بعمل مقارناتٍ مباشرة وملائمة لاتخاذ قرارٍ نعرف على هدْيه ما إذا كانت ثمة فوارق طفيفة في إظهار أن التأثيرات هي التي تُحدد إما النقلة الخاصة بالرئيسات في نمو الجسم أو النقلة البشرية في نموِّ المخ، ولكن مع هذا وبسبب الجمود الشديد لهذه الآليات الوراثية (الجينية) الخاصة بالنمو، فإن بالإمكان استقراء بعض المفاتيح المهمة الخاصة بالأساس الوراثي (الجيني) لهذه الاختلافات المتعلقة بالرئيسات والمُتعلقة بالبشر، ونستقرئها من تجارب تشتمل على أجنةٍ لأنواعٍ أخرى حتى لأجنةٍ من غير الثدييات.
كيف يمكن للتغيرات في ظهور جينة التماثل homeotic gene أن تؤثر بمِثل هذه النسب العصبية الشاملة؟ توفَّرَ لنا مثال واضح من جينة عرفناها حديثًا ليم١ Lim1 (الصيغة الأولية لهذا الطراز الجيني أمكن تحديدُها في الديدان الحلقية)، وتبدو الجينةُ المطابقة لهذه في الفئران حاسمة لاستهلال تكوين الدماغ، ونلحظ أن أجنة الفئران التي تفتقر إلى نسخةٍ نشطة من هذه الجينة تفشل في تطوير الرءوس بشكلٍ عام، على الرغم من أن غالبية التكوينات ما بعد الجمجمة تنمو بشكلٍ طبيعي نسبيًّا،٨ وعلى الرغم من أن إلغاء الرأس ليس نوعًا من التكيُّف المُفيد، فإن مثل هذا التحديد المُستقل لنمو الرأس والبدن يفيد بأن مُسلسلاتٍ كاملة من فعاليات نموٍّ أخرى يمكن أن تؤثر على نحوٍ مُغاير في الرءوس والأبدان، وقد يُساعدنا هذا على تفسير السهولة النسبية لنموِّ البدن والتناسُبات التي يجعلها قابلةً للتأثر في سلالاتٍ مختارة، بينما رءوس— وبخاصة أمخاخ — تتغير بنسبةٍ أقل (مثلما هو الحال في سلالات الكلاب الصغيرة والضخمة).
وأُجريت على الضفادع معالجة تجريبية أخرى وثيقة الصِّلة أكثر بنسبة وتناسُب المخ والبدن (انظر شكل ٦-٥)، والملاحظ أن ظهور تأثير صيغة الضفدعة من جينة أوتكس٢ (X-Otx2؛ والحرف X يشير إلى ضفدع معروف باسم زينوبوس)، وتبين أنها تدريجيًّا تقتصِر على نموِّ الطرف الرأسي للجسم، الذي يظهر عمليًّا في المخ الأمامي مثلما هو الحال في الفأر، ويبدو أن هذا التحديد والتركيز في ظهور التأثير يكون محكومًا جزئيًّا بتفاعلاتٍ مع جيناتٍ أخرى في الجنين. وجدير بالذكر أن مدى تحول X-Otx2 إلى وضعٍ يكون فيه مقصورًا على الطرف الرأسي للأنبوب العصبي يُمكن معالجته تجريبيًّا عن طريق غمس الجنين وسط عاملٍ آخر؛ بسبب الاختلاف (حمض الرتين retinoic acid)، ويؤدي هذا إلى نقص ظهور X-Otx2 في كل الأنحاء، ويجعل الرأس والمخ يجمعان جزءًا منخفضًا جدًّا من الجسم الجنيني، وإذا زاد ظهور تأثير X-Otx2 اصطناعيًّا نعمل على إحداث تأثيرٍ عكسي، وهذا من شأنه أن يجعل مُجمل ظهور X-Otx2 أعلى في كلِّ أجزاء الجنين، ويؤدي إلى تجميع جزءٍ كبير من جسم الجنين ليُسهم في نموِّ الرأس والمخ، وتفيد مثل هذه التجارب بأن تركز عتبة التأثيرات يمكن أن يكون له دور حاسم في تحديد كامل عملية التناسُب بين القطاعات المُتمايزة أثناء النمو.
ويعتبر استنساخ الجينة وسيلةً مُحتملة لزيادة مستويات الإظهار التي تفيد فيما يبدو بمنظومات الجينة التماثلية، ونعرف أن استنساخ الجينة ظاهرة تطوُّرية شائعة، وهي التي أدَّت إلى إنتاج الغالبية العُظمَى من عائلات الجينات ذات الصلة، مثل مختلف ضروب جينات الهيموجلوبين الكثيرة التي تنشط في أوقاتٍ مختلفة من نموِّ الحيوان الثديي، وتتوافق مع مُتطلَّبات مختلفة لنقل الأكسجين، كذلك فإن تضاعُف أو استنساخ الجينة نراه سائدًا داخل جينات التماثُل على نحو ما هو ماثل في عائلات جينات Hox وEmx التي ناقشناها فيما سبق، وتُوجَد — كما هو واضح — درجة من فائض التأثير التنموي في كثيرٍ من هذه الجينات؛ إذ إنه شائع إلى حدٍّ ما في الطفرات التي تفتقد نسخًا نشطة من جينةٍ محددة؛ لكي تنمو بشكل سويٍّ أو مع تعديلات بنيوية بسيطة، ونجد ضروبًا مختلفة من الجينة نفسها نشطة في وقتٍ واحد تقريبًا داخل مجالات مُتداخلة، ويمكن أن تسهم في توسُّع انتقائي لمجالات إظهار انقسامي مقابل داخل الأنبوب العصبي، ويحدُث هذا عن طريق نقل درجات التركُّز النسبي؛ حيث مستويات العتبة تخلُق حدودًا بين مناطق تحديد المصائر المختلفة للخلية، وهكذا فإن تضاعُف جينة التماثُل في التطور ربما يكون المكافئ الجيني للتدخُّل التجريبي لمُنتج جيني زائد في أجنة الضفادع التي عرضناها فيما سبق.
fig17
شكل ٦-٥
شكل ٦-٥: رسم تخطيطي يُصور الآثار الواقعة على نِسَب المخ وبدن الجنين بسبب تعديل ظهور نشاط جينة X-Otx2 في أجنة ضفادع في طور النمو، ونلحظ أن نمط النمو السوي (يمين الوسط) مصور خلال مرحلة التكوين الأولى للأنبوب العصبي إلى النقطة التي تم فيها تشكُّل هياكل المخ الأمامي، ويُصور الرسم الأعلى يمين الآثار الناتجة عن زيادة مستويات X-Otx2 في الخلايا (المضافة إلى الخلايا الجذعية الجنينية)، والنتيجة تحولٌّ تالٍ للانتقال بين ظهور تأثير جينات X-Otx وX-Hox (وتحددت بالسهم الأسود) وزيادة مُقابلة في حجم الرأس والمخ (تبدأ عند مستوى المخ الأوسط) مع نقصٍ مقابلٍ في الجسم ما بعد الجمجمة، وتوضح الصور السُّفلى على اليمين التأثير العكسي الناتج عن إعاقة ظهور X-Otx، وحين يكون X-Otx موجودًا عند مستوًى منخفض يُصبح مقصورًا على جزءٍ صغير فقط من مقدم الأنبوب العصبي، ويؤدي هذا إلى خفضٍ كبير في المخ الأوسط والمخ الأمامي، ويلخص الرسم التجارب التي عرضها كل من بونشينيللي Boncinelli ومالاماشي Mallamaci (1995). P = مقدم الدماغ Prosencephalon (المرحلة الأولى من المخ الخلفي + الدماغ المتوسط)؛ M = المخ الأوسط؛ S = النخاع الشوكي، وعرَضَ حديثًا جدًّا آنج Ang وآخرون نموَّ فأرٍ متغيرًا وتنقصه Otx2(١٩٩٦م)، وكانت أجنة هذه الفئران شاذةً ابتداءً من المرحلة المضغية gastrula stage، وعجزت عن تطوير الجزء الأمامي في مقدم المخ.
ولا يزال مجال البحث حديثًا جدًّا على الرغم من أننا ما نزال بعيدِين عن إمكانية إثبات وجود رابطةٍ واضحة بين ما نعرفه بفارق جينة التماثل، وأي فارق طبيعي لبنية مخِّ نوعٍ من الأنواع، ونحن نعرف على الأقل أين يتعيَّن علينا أن نبحث عن الروابط الجينية التنموية الصحيحة، وحريٌّ أن نفكر في هذا السياق في نقص جسم الرئيسات بالنسبة إلى أجسام أجنة الثدييات الأخرى، وطبيعي أن طبيعة التحول في النسب والتناسب وفي توقيتات ظهورها هي مفاتيح مهمة خاصة بعوامل الارتباط الجينية التنموية المُحتملة. ونظرًا لأن هذا التحول في النسب واضح منذ أول بداية باكرة لتكوين وتخلُّق الجنين التي تتمايز عندها أمخاخ الرئيسات عن غير الرئيسات، فإن هذا يُفيد بأن ثمَّة تغيرًا حدث فيما يتعلق بظهور تأثير بعض الجينات النشطة الأولى والمسئولة عن تأسيس هذا التمايز الانقسامي، وتُمثل تجارب جينات Otx نموذجًا جيدًا للعمليات التي من شأنها التأثير في النسب والتناسُب في هذه المرحلة من النمو. وأحسب أن المعلومات المقارنة التشريحية العصبية؛ ستُمكِّننا من التوجُّه إلى نقطة الاتصال الصحيحة في عملية النمو إلى حدِّ إمكانية التعيين الدقيق للتحولات القطاعية في النِّسَب، ونلحظ في الواقع أن المعلومات عن انحراف أو حيود نموِّ المخ البشري عن الرئيسات الأخرى يمكن أن يكون حاسمًا لعمل المزيد من التنبُّؤات الدقيقة عن معاملات الارتباط الوراثية (الجينية) الخاصة بذلك.
وجدير بالذكر أن مقادير ضخمة من المعلومات الكمية التي تقارن بين هياكل المخ البشري بغيرها لدى الرئيسات توفرت منذ عقود، وخضعت للعديد من الدراسات التحليلية الإحصائية، ولكن حتى الآن نلحظ أن أيًّا من هذه التحليلات لم يستخدم معلوماتٍ عن أنماط نمو المخ تحليليًّا ليضع المخَّ في مجالات النمو الصحيحة ولتحديد طبيعة التحولات الأساسية، وسبب ذلك أن مثل هذه المعلومات لم تتوفَّر حتى عهدٍ قريب، وهذا شيء حاسم، وطبيعي أن القياس الصحيح للأشياء يساعد على معرفة مواضع التقسيمات التنموية الطبيعية، فإذا أراد شخصٌ ما أن يدرس نمو الجسم البشري أثناء الطفولة، فلن يفيد قياس تقسيمات تعسُّفية (مثل المسافة من الرقبة إلى منتصف الساعد بالمقارنة بالمسافة من منتصف الساعد وحتى البرجمة)، ولكن الأفضل للفهم قياس أجزاء الجسم التي لكلٍّ منها نمو منفصل؛ مثال العظام الطويلة، وقياسها من مفصل إلى مفصل، ونظرًا لأن جينات الهوميوبوكس Homeobox genes أي متتالية الدنا الموجودة داخل الجينات، تُحدد «الوصلات» أو مواضع الاتصال بين مجالات نموِّ المخ؛ لذلك يتعين أن تكون أهم دليلٍ لنا لتحديد أي المقاييس أغنى بالمعلومات.
ونعرف أن تحليل قياس أبعاد بِنية المخ — مثله مثل تحليل قياس أبعاد المخ/الجسم — أفضت إلى طرقٍ مسدودة بسبب حالة عدم اليقين هذه بشأن الوحدات الصحيحة للتحليل، فضلًا عن الفشل في الانتباه إلى أنماط النمو. ونجد علاوة على الافتقار إلى مفاتيح عن النمو هناك مُشكلتان تحليليتان أخريان أدَّتا إلى تعقُّد تفسير المعلومات الكمية عن المخ، وأدت إلى التشوش وإلى تقييمات مُتناقضة، وتولَّد هذا كله في الغالب الأعم من الفشل في التحكُّم في ظواهر الحجم في المقارنات الجزئية والكلية، وهو ما يُماثل مشكلات المخ/الجسم التي صادفناها قبلًا، ولكن على عكس المقارنات بين المخ والجسم؛ حيث الأمخاخ تُمثل جزءًا صغيرًا من الجسم على أحسن الفروض؛ فإن بعض أجزاء المخ تؤلف قطاعًا كبيرًا من المخ. معنى هذا أن المقارنات الخاصة بالنسبة والتناسُب يمكن أن تُسيء عرض علاقات النمو نتيجة الفشل في معالجة الأجزاء كلٍّ على حدة،٩ وهذه مشكلة شائكة بوجه خاص تتعلق بنمو وتطور المخ. إن حجم هيكل الجسم (خاصة جزءًا فرعيًّا من المخ مثل نواة التلاموس — المهاد — أو منطقة من قشرة المخ) إنما تُحدده كلٌّ من عدد الخلايا المُتولدة (المتكاثرة) والعمليات غير الانتشارية التي تصوغ هذا المجال في تقسيماتٍ فرعية وظيفية (التقسيم إلى أجزاء)، وينطلق النمو عبر تفاعلاتٍ بين كل من الوظائف عند مراحل مختلفة (والتي ناقشناها في الفصل الثاني). ويتمثل التعقد في التحليلات الكمية في أنه بينما يكون للتكاثر الخلوي تأثير كمِّي غير موجَّه على جميع الهياكل المشتركة، فإن التقسيم إلى أجزاء يخضع لعملية إما خسارة وإما مكسب؛ حيث إن تضخم هيكلٍ ما يحدث فقط على حساب الآخر؛ لذلك فإن الفشل في التمييز بين المقارنات الداخلية وبين المقارنات بين مجالات النمو يمكن أن يُفضي إلى نتائج مُضللة وتشوُّش في الفكر.١٠

إن التحول في نسب وتناسب المخ/الجسم البشريين وفي هيكلِهما يشتمِل حقًّا على النتيجتَين معًا، وحيث إن الآثار الانتشارية تُعتبر أولية، وتحدُث في سياق التقسيم التماثلي، فأحرى بنا بدايةً أن نحاول مضاهاة التحليلات التشريحية العصبية الكمية مع المُقارنات التي تتوافَق بشكلٍ إجمالي مع تراتُبية عمليات التقسيم التماثلي في نمو المخ، ونجد بعامة أن المزيد من الآثار الانتشارية الكلية الشاملة تظهر قبلًا، وأن آثار التقسيم الجزئي المحلي سوف تتحدَّد لاحقًا أثناء النمو؛ لذلك دعنا نبدأ بعلاقات الحجم الضخم ثم نُركز تدريجيًّا على مزيدٍ من الآثار المُتموضعة أثناء بحثنا عن أوجه الاختلاف الخاصة بالأمخاخ البشرية.

ونجد من بين الأمور التي ساعدت على اكتشاف انحرافات النمو حقيقة أن النسب ذات الصِّلة بهياكل المخ المختلفة، تم تقديرها تنبؤيًّا بالنسبة إلى إجمالي حجم المخ، وعندما تحدَّدت مقادير هياكل مخِّ الثدييات نلحظ أن العلامات الدالة على أحجام أزواج الهياكل في أنواعٍ مختلفة تميل إلى اتباع منحنًى سلس (أو خط مُستقيم في صورة إحداثيات لوغاريتمية)، وإن هذه العلاقات القابلة للتنبؤ بدرجةٍ كبيرة والقائمة بين أحجام هياكل المخ الأساسية إنما هي انعكاسٌ لواقع أن أمخاخًا ذات أحجام شديدة الاختلاف صادرة عن نقطة بداية تماثُلية يجري استقراؤها أساسًا في ضوء عمليات انتشارية كلية شاملة، وتختلف قابلية التنبؤ العددي بتكوينات المخِّ إلى حدٍّ ما من مرتبةٍ ثديية إلى أخرى، ولكن نجد داخل الرُّتَب والعائلات والأجناس genre تباينًا فرديًّا يتناقص تدريجيًّا عن الاتجاه العام.
ولقد ثبت لنا أن نمط نمو المخ/الجسم أثناء الجنين بالنسبة للنمو البشري واحد في جوهره مع أيٍّ من القردة أو القِرَدة العُليا؛ لذلك نحن بحاجةٍ إلى النظر إلى مستوى أقل درجة (ثم في النمو بعد ذلك)؛ لنعرف ما الاختلاف البشري؟ ونحن عندما نقارن مثل هذه «الأقسام» الكبرى للمخ مثل الدماغ الخلفي telencephalon والدماغ المتوسط، وهكذا، نلحظ أن أنماط الحيود تبدأ في الظهور، كما نلحظ تحولًا واضحًا ومترابطًا في منطقةٍ ما بعيدًا عن النسب النمطية للرئيسات، ويتجلَّى هذا واضحًا حين نشرع في التفكير في الأقسام الفرعية الرئيسية لكلٍّ منها، وعندما نُضيف قِيَم تكوينات المخ البشري إلى مواقع التكوينات المُقابلة لدى أنواع الرئيسات الأخرى، فإن المُنحنيات التي نستنتجها من معطيات الرئيسات الأخرى تتنبَّأ بأحجامِ كثيرٍ من تكوينات المخ البشري وليس كلها، وإن تلك الهياكل الرئيسية القابلة للتنبُّؤ من اتجاهات الحجم النمطية للرئيسات تتحوَّل لتتموضع داخل أقسام قطاعية مُتصلة بعضها ببعض من المخ البشري، وهكذا فإن مكونات العقد القاعدية basal ganglia (من مثل الجسم المُخطط striatum والقشرة الشاحبة pallidum)، تتقارب في الحجم بعضها مع بعض حسب النمط المُعتاد للرئيسات، وهذه بدورها تتطابق من حيث الحجم مع المكونات الرئيسة للدماغ المتوسط (المهاد وما تحت المهاد). والملاحظ أن العلاقات الخاصة بقياس الحجم لدى البشر تكاد تنحرِف بشكلٍ ثابت عن الاستنتاجات الخاصة بالرئيسات، ولكن فقط في مقارناتٍ مُعينة بين تكوينات المخ المُنفصلة بعضها عن بعض، مثال ذلك عندما نقارن أيًّا من الهياكل القاعدية أو المخ الأمامي تحت القشرة (الغدد القاعدية والمهاد وما تحت المهاد) بقشرة المخ، أو نقارن ساق المخ والنخاع الشوكي بالمُخيخ المجاور لهما، فإن هذه القدرة على التنبُّؤ تفشل (انظر شكل ٦-٦)، ونلحظ أن المعلومات بشأن الرئيسات غير البشرية تبخس من تقييمها للكيفية التي زادت بها أحجام هذه التكوينات بالقياس بعضها إلى بعض داخل المخ البشري؛ لذلك كمثالٍ فإن قشرة المخ تكاد تُماثل ضعف الحجم المتوقَّع للكثير من التكوينات الأخرى في المخ الأمامي، وتبلغ من حيث الحجم ثلاثة أمثال ما نتوقَّعه لساق المخ والنخاع الشوكي وبقية الجسم (انظر شكل ٦-٦ وشكل ٦-٧).
وكم هو مُهم تحديد أنماط هذه الانحرافات؛ ثمة بنيتان هما الأكثر انحرافًا، وهما المُخيخ وقشرة المخ، ومَنبتهما الجانب الظهري (أو الخلفي) للأنبوب العصبي حال نموِّه (مثلما يفعل المخ الوسط الظهري dorsal midbrain الذي يظهر مُتضخمًا بالمقارنة بالبطني)، وهذا الانحراف عن أنماط الرئيسات يُشير إلى أن علاقة النمو بين القسم الظهري الرئيسي والقسم البطني للمخ الأمامي أو مقدم الدماغ forebrain حال نموِّه قد تغيرت بشكلٍ ما، هذا بينما العلاقات الكثيرة داخل كلٍّ من هذه الأقسام العامة بقِيَت ثابتة نسبيًّا، ويعتبر مثل هذا النمط العام مفتاحًا مهمًّا، إنه يُشير إلى أن التكافل الوظيفي واسع النطاق لهاتَين المنطقتَين الظهرية والبطنية المُتفرعتَين للمخ، ليس حاسمًا لتحديد نموِّ كلٍّ منهما (على الرغم من أن المرء قد يتوقع أن قشرة المخِّ تحتاج إلى أن يتضاعف حجمها بفضل مواردها الضخمة للمُدخلات والأهداف الضخمة للمُخرجات)، ونجد من ناحية أخرى رابطة نموٍّ بين مجموعاتٍ من التكوينات ليست متداخلة على نطاقٍ واسع أو معتمدة عليها وظيفيًّا، ويفيد هذا بأن التحوُّل حدث بالضرورة في مرحلةٍ باكرة خلال النشوء التكويني العصبي للجنين neuroembryogenesis، بينما كانت هذه التقسيمات من طور التكوين؛ إذ في هذه المرحلة تتحدَّد أقسام المخ في شكلها الأوَّلي، ولم تكن الخلايا الجذعية العصبية قد انبثقت أو نبتت في صورة الخلايا العصبية المُتمايزة، ولم تكن قد نبتت أيضًا الخلايا الداعمة أو الدبق glia حول الخلايا العصبية التي ستتألف منها هذه التكوينات.
fig19
شكل ٦-٦
شكل ٦-٦: مثالان لتناسُب بنية المخ البشري يوضِّحان كلًّا من العلاقات المتناسِبة وغير المُتناسبة.
(A) توسع متناسب (تنبَّأ به نمط النمو وفقًا لمعايير قياس أبعاد الرئيسات لهذه الهياكل) للدماغ الأوسط والجسم المخطط في المخ البشري (الجزء الأكبر مقصور على المخ الأمامي البطيني).
(B) انحرف عن العلاقة المتوقَّعة بين حجم قشرة المخ للدماغ المتوسط، ويوضح المثال زيادة القشرة على الرغم من التكافل الوظيفي والرابطي بين هذه الهياكل (البيانات من ستيفان وفرام وبارون، ١٩٨١م).
وإذا ما تتبعنا التاريخ التنموي لهذه الهياكل في الأمخاخ البشرية التي تضخَّمت كثيرًا مقابل تلك التي تضخمت بشكلٍ طفيف فقط نجدها تقسم الأنبوب العصبي وفق نمط توافقٍ مع مناطق ظهور وتشكُّل مجالات لمجموعاتٍ متمايزة من جينات التماثل homeotic genes، ونلحظ أن المناطق الموجودة في الجنين — التي ستؤدي إلى ظهور تكويناتٍ متضخمة في المخ البشري — تميل إلى أن تكون على السطح الظهري للأنبوب العصبي، وتكون هذه امتدادًا متصلًا من المُخيخ وحتى الدماغ الخلفي الظهري dorsal telencephalon (انظر شكل ٦-٧B)، ويتوازى هذا مع مُتتالية ظهرية مُحددة لمجالات ظهور جينات Otx وEmx من جينات مُتتالية الدنا homeobox gene، وتواكب الفصل العام لإظهار جينات التماثُل لهذا التمايز بين مُقدَّم الدماغ الظهري/البطيني، وإن كان ليس لنا أن نعزو ببساطةٍ الانحرافَ التشريحي العصبي البشري لتأثيرات جينات Emx وOtx فإن هذا الظهور يتلاءم مع النمط الكامل بشكلٍ جيد، ويفيد بأن الفارق البشري يرتبط على نحوٍ مشترك بظهورهها في هذه المنطقة.
fig20
شكل ٦-٧
شكل ٦-٧: يُلخص الشكل انحراف الحجم في الانحرافات الرئيسية في المخِّ البشري مع مُقارنتها بما هو متوقَّع بالنسبة لمخ إحدى القِرَدة العُليا في الوضع (النمطي) حسب نسب وتناسُب الجسم البشري (أضخم قليلًا من الشمبانزي).

الدليل: مؤشر بياني لنِسب المخِّ مع ظلالٍ خفيفة رمادية تشير إلى توسع نسبي أكبر.

(A) مناطق مقابلة من مخٍّ جنيني بشري أثناء نموِّه الذي تعرَّض لإنتاج خلايا جذعية إضافية في فترةٍ باكرة لإنتاج النمط البالِغ من النسب، ويلاحظ أن مناطق ظهور تأثيرات جينات Otx وEmx قد غُطِّيت لبيان التوافُق مع المناطق التي تمدَّدت. ويُشير السهم إلى أن الخلايا الحُبيبية للمخ cerebral granule cells تنشأ في المخ الأوسط وتنتقِل إلى المُخيخ بحيث إن هذه البنية تكون مِثل نوعٍ من الفسيفساء المؤلفة من توليفة سلالات خلايا تمايزت خلال النمو.
(B) رسم تخطيطي لنِسَبٍ تقريبية في أمخاخ بشرية بالغة مع مقارنتها بما يمكن أن يُلائم إحدى القِرَدة العُليا لها حجم جسمنا (شمبانزي ضخم مثلًا)، ولها انحرافات تناسُبية تُشير إليها مستوياتٌ رمادية حسب الدليل.
ما الذي يمكن أن نستنتِجه من هذا التوازي بين مناطق ظهور الجينات واختلافات مجال النمو في المخ البشري؟ أولًا: الاختلاف ليس نتيجة تحول قطاعِي على مستوى كلِّ المخ والجسم كما يبدو في تطوُّر الرئيسات؛ ذلك لأن المخ كله لم يتضخَّم بطريقةٍ متماثلة. ثانيًا: إذا نظرنا إلى الأنماط الجينية للفوارق الانتشارية التي نتج عنها هذا التحول في النِّسَب والتناسُب في الهياكل، نجده يتوافق مع النمط القطاعي لمجالاتٍ بعينِها للإظهار الجيني في المخ، وسواء صحيح أم لا أن جينات التماثل هذه homeotic genes تُسهم مباشرة في التحول البشري في إنتاج الخلية في هذه المناطق، فإن من الواضح كما يبدو أن التأثير محصور في الأنسال الخلوية التي حدَّدتها، وحقيقة الأمر — كما رأينا — هناك سوابق تجريبية للتغيُّرات الحادثة في عملية إظهار تأثير إحدى هذه المجموعات الجينية (Otx)، التي تؤثر في نِسبة وتناسُب المخ عن طريق تركزٍ بسيط للتأثير؛ لذلك لا يحتاج الأمر إلى قفزةٍ كبيرة بالخيال لنتصوَّر آلية (مثل تضاعف جيني إضافي) ينتج عنها التحوُّل النسبي البشري.

الساعة التنموية

الخلايا التي تتألف منها الحيوانات صغيرها وكبيرها تختلف فقط اختلافًا بسيطًا من حيث الحجم، وإن ما يُحدد حجم كائنٍ حي هو في الغالب الأعم كم عدد الخلايا المنتجة، ولكن الإشارات التي تحث خلايا جنين الفأر لعمل تقسيماتٍ خلوية أصغر عددًا من خلايا الفيل ما تزال موضوع بحثٍ لتحديدها، وإن عدد الأقسام الخلوية التي تتوالد بعد تخصيب بويضةٍ ما ليس هو تمامًا العامل الحاسم في تحديد حجم كل الجسم، كذلك فإن الآلية نفسها تُحدد بطريقةٍ غير مباشرة حجم كل عضوٍ رئيسي وكل منطقةٍ في الجسم، وعلى الرغم من وجود دلائل كثيرة مُشجعة لبيان كيفية ارتباط هذه الساعة التوقيتية للنموِّ بآلياتٍ أخرى، فإن ما لا نعرفه عن هذه الساعة قد احتفظ بواحدٍ من أهم مُتغيرات تصميم الكائن الحي مُحاطًا بالغموض.

وإن قرار تحديد كم التقسيمات الخلوية اللازمة لبناء جسم حيوانٍ ثديي يتحدَّد فيما يبدو في مرحلةٍ باكرة من النمو. وجدير بالذكر أن بعضًا من أهم الإشارات الدالَّة على عملية تحديد الحجم تظهر من خلال العمل مع الأجنة في مرحلةٍ باكرة، وتُسمَّى إحدى المراحل الأولى للتقسيم الخلوي باسم البلاستولا أو حويصلة جرثومية blastula، التي تتألف من كرةٍ من الخلايا التي تتشكَّل من أول تقسيمات البويضة المُخصبة، وإن القدرة على فصل ومعالجة الخلايا في هذه البنية كان لها دور حاسم في الهندسة الوراثية. وإذا استأصلنا هذه الخلايا وأبقيناها عالقةً في مزرعة مغموسة في وسط نموٍّ ملائم، فإنها تستمر في الانقسام أكثر فأكثر دون أن تبدأ الخطوات الأولى من أجل التبايُن والاختلاف الذي من شأنه، في حالة الجنين السويِّ، أن يُفضي في النهاية إلى شكلٍ نهائي غير قابلٍ للانقسام، ويمكن، وهي في حالة اللاتمايز هذه، وضعها في بلاستولا أخرى؛ حيث تتجمع للاختلاف مع خلاياها هي ذاتها، وهنا يُمكن أن يأخذ أيًّا من الأنماط الخلوية المُمكنة للجسم المُضيف أو الجسم العائل الذي في حالةِ نمو، ولكن يبدو أن إحدى القسمات المميزة لنموها يظلُّ دون تغيير: سواء وضعناها في جسمٍ جنيني أو في جسمٍ بالِغ، وتنمو وفق جدولٍ يعكس النسبة العادية لنموِّها بغضِّ النظر عما إذا كانت موضوعةً في سياقٍ حميلي fetal أو بالغ أو أنواع مختلفة. والمُلاحظ مع بداية عملية التمايز، أيًّا كان السياق، فإن الخلايا تُنَشِّط ساعةً باطنية لعملية النمو التي تُحدد عدد الانقسامات الخلوية المُقررة من قبل لبلوغ المصير النهائي للخلايا والتوقُّف عن الانقسام.

وربما تشتمل عملية تنظيم العلاقة بين التمايز الخلوي والانقسام على تفاعُلٍ بين منتجات الجينات في سيتوبلازم الخلية والجينات داخل نواتها، وأُجريت تجارب كانت نواة الخلية مُخصبة؛ لتُصبح خلية جدِّ ضفدع، وأُعيدت زراعتها في بويضة مُخصبة تم انتزاع نواتها، ولُوحِظ أن الجينات في خلايا الجلد قادرة على أن تبدأ العملية الجنينية كاملةً من جديد لتُنتِج أخيرًا ضفدعًا كاملًا. ونعرف أن أنشطة الجينات تتسبَّب في حدوث تغيراتٍ كمية في محتوى السيتوبلازم الذي يُفرز تأثيراتٍ بمنزلة تغذية مرتدة تؤثر في نشاط الجينة. وثمة ظاهرة مُماثلة لتركز النسبة يمكن أن تفسِّر لنا أيضًا الاختلاف في تشغيل الساعة التنموية في أنواعٍ ذات أحجام مختلفة لأجسامها في سنِّ البلوغ. وإن بطء إنتاج أو تراكُم هذه الجزيئات الدالة سوف يسمح بالمزيد من دورات الانقسام الخلوي بين عمليات انتقالٍ مُتتالية إلى مزيدٍ من المصائر المُحددة للخلايا، ويبدو أن بداية هذا التفاعل شِبه الميقاتي يؤثر على عددٍ من الانقسامات الخلوية، وذلك أولًا وأساسًا عن طريق تحديد متى تنشط الجينات المسئولة عن التمايز. وتنظم غالبية أجنة الفقريات عملية التمايُز والاختلاف بغض النظر عن الانتشار الخلوي فور بداية العملية، وتمَّت البرهنة على ذلك عن طريق استئصال جزءٍ مُهم من خلايا لم تتمايز بعدُ من بلاستولا إحدى الفقريات وتركها تُواصِل عملية النمو، والنتيجة هي جسم مُتقزم ينمو بمعدلٍ طبيعي، الذي كان بالإمكان، لولا ذلك، أن يكون جسمًا عاديًّا.

دليل آخر لهذه العملية زوَّدتنا به أنواع من الضفادع والسلمندر (برمائيات) التي تحتوي على كمياتٍ هائلة من الدنا في الجينوم. واضح أن الزيادة المُفرطة تُمثل فائضًا عن الحاجة (وهي دنا غير مشفرة)، وهذه الأنواع تجمع بينها بعض السمات المُشتركة الأخرى المثيرة للانتباه، إنها جميعًا كائنات قزمية، نموها شديد البطء بالمقارنة بأنواعٍ أخرى ذات صلةٍ ولها جينوم عادي، ولدَيها جميعًا معدلات أيضٍ شديدة الانخفاض ومعدلات انتشار خلوي شديدة البطء، ويبدو أنها إذ تُرغِم عمليتي التدوين والتضاعُف الجيني على التصنيف عبر كمياتٍ كبيرة من المعلومات الوراثية السطحية، فإن نبضات الساعة التنموية تأخُذ في البطء أسوةً بمعدلات عمليتي الأيض والانقسام الخلوي، وطبيعي أن الساعة التنموية البطيئة تسمح بالمزيد من الانقساماتِ بين مراحلَ متتالية من النمو لتُنتج كائنًا أضخم. وجدير بالذِّكر أن الأنواع ذات الجينوم الضخم هي الاستثناء الذي يُثبت القاعدة؛ إذ نلحظ فيها حدوث انقسامات خلوية أقلَّ بين مراحل الانتقال التنموية المُمتدة.

والاستقلال الذاتي لساعة توقيت النمو يعني بالنسبة لنموِّ المخ أن عدد انقسامات الخلايا اكتمل بحلول الوقت الذي تقرَّر فيه أن خلايا المخ قد تحدَّدت مصائرها النهائية قبل وجود أي إشارةٍ من مناطق المخ أو الجسم في الجنين، وابتداءً من هنا يعتمد حجم المخ على الجزء الذي تم اختياره في الجنين حال نموِّه ليكون النسيج العصبي بفعل ظهور جينات التماثُل homeotic genes، وجدير بالإشارة أن الاستقلال النسبي لعمليتي التجزئة والانتشار التماثُليَّتَين homeotic يمكن البرهنة عليهما عن طريق تعديل الاختلاف في المراحل الوُسطَى في عملية النمو، كذلك فإن حث عملية تكوين الأنبوب العصبي١١ يُمكن مضاعفته في جنينٍ وحيد إذا ما تم غرس منطقة حثٍّ أخرى من جنينٍ آخر في الجنين موضوع النمو. ونتيجة لذلك سيتم حث أنبوب عصبي آخَر لكي يُشكل، إذا ما استمر نضجه، ما يُسمَّى التوائم السيامية Siamese Twins التي لها أجسام مُتصلة وأجهزة عصبية منفصلة، ونلحظ بالنسبة لقضايا حجم المخ أن التوأمة السيامية لها قسمةٌ مُميزة مهمة، وهي أنه على الرغم من أن كتلة الجسم ككلٍّ أقل من اثنَين مُستقلَّين، فإن المُخَّين لم ينخفض حجمُهما بعامةٍ مقابل انخفاض كتلة الجسم، وتمَّت البرهنة أيضًا على حالة استقلالٍ مُماثلة عن طريق عملية الزرع المتبادل بين الأنواع (أو ما يسمى الزرع التهجيني xenotransplantation)، وثمة تجربة فذة اشتملت على زرع قطاعاتٍ من الأنبوب العصبي الجنيني لأجنَّة طائر الحجل الياباني في أمخاخ أجنة فراريج،١٢ ونعرف أن طائر الحجل الياباني أصغر كثيرًا من أفراخ الدجاج ولذلك له أمخاخ أصغر كثيرًا، ولوحظ أنه حال إبدال أجزاء كبيرة من مخِّ طائر الحجل بأجزاء مُماثلة لمخ فروج بعد تشكيل الأنبوب العصبي بفترةٍ قصيرة، فإن النتيجة هي تَشكُّل طيور خرافية تنمو ولها هياكل مخِّ طائر الحجل التي تبدو صغيرةَ الحجم بالنسبة إلى مخ العائل، وطبيعي أن هذا الميل للنموِّ وبلوغ الحجم المُلائم حتى وإن كان السياق التنموي غير الطبيعي ينطبق أيضًا على هياكل الأجسام الأخرى وعلى توليفاتٍ مغايرة للحيوانات بالمثل، ونذكر أننا في معملنا زرعنا خلايا انتزعناها من أمخاخ أجنَّة خنازير في أمخاخ فئران بالِغة، ولاحظنا، حتى في هذا السياق المُغاير أنها تنمو وفق معدل النمو في الخنازير لتُصبح في حجم الخلايا العصبية للخنزير (التي هي أكبر على نحوٍ طفيف ولها محاور axons وزوائد توصيل أطول من الخلايا العصبية للفأر؛ انظر شكل ٦-٨، ٦-٩).١٣

وتؤكد هذه المُعالجات غير الطبيعية أن التحديد الباكر لساعة توقيت النموِّ يؤدي إلى نوعٍ سابق من تناغُم النمو بين كلِّ منظومات الأعضاء اللاحقة، ويبدو هنا أن ضبط الساعة يختلف من نوعٍ إلى آخر وإن لم يكن من خليةٍ إلى خلية أخرى في الكائن الفرد، ويفسر لنا هذا لماذا يتَّجه نمو الأمخاخ والأجسام في الأنواع المختلفة إلى أن يكون مُنسقًا ومُتسقًا إلى درجةٍ كبيرة من التماثل ويؤدي في الغالب إلى انتظامٍ رياضي في جميع مقاييس الأبعاد. ونلحظ أن الأجنة التي تشكَّلت منذ البداية بطريقةٍ واحدة ولكن خلاياها لها مواقيت بدء مُختلفة لساعة توقيت النمو إنما تتبع خطة نموٍّ مشتركة؛ بحيث تُنتج نقاط النهاية المُختلفة بشكلٍ نسقي.

وجدير بالذكر أن عددًا من المُفكرين المُلتزمين بنظرية التطوُّر لحظوا خلال النصف الأول من القرن العشرين أن البشر البالِغين يُشبهون من نواحٍ مُعينة أجنة القِرَدة العُليا (أمخاخ كبيرة ووجوه صغيرة بالقياس إلى أجسامنا، فضلًا عن انعدام الشعر)، وذهبوا إلى أن هذا يمكن أن يعكس هنا نوعًا من التوقُّف أو التأخُّر في النمو البشري، ويؤدي إلى الاحتفاظ بخصائص تُشبه الحالة الجنينية، ولكن التشابُه الظاهري بين النِّسَب البشرية ونِسَب جنين القِرَدة العُليا ليس أكثر من تَشابُه؛ نظرًا لأنه لا يُوجَد إدراك شامل لما يبدو على البشر بشأن بطء نموِّ أو تمايز الخلايا، ولكنَّ ثمة مزيدًا من الإدراك الدقيق لآليات توقيت النمو وإعادة التنظيم في التطوُّر البشري. إن معدل نضج المخ البشري يتلاءم مع حجم المخ عند البشر، ولكنه يمتدُّ لفترةٍ طويلة بالمقارنة بالرئيسات الأخرى التي يتساوى حجم أجسامها معنا، ونلحظ في هذا الصدد أن ساعة توقيت نموِّ أمخاخنا امتدَّت على الرغم من أن النتيجة ليست مُتكافئة من حيث المَعالم العامَّة مع عمليات الانتشار والاختلاف الخلوي في كلِّ أنحاء الجسم.

fig21
شكل ٦-٨
شكل ٦-٨: نتائج استئصال قطاع لأنبوب عصبي من الجهاز العصبي المركزي (ج.ع.م) لجنين طائر الحجل حال نموِّه وغرسه في جنين فروج في حال نموِّه، ونظرًا لأن طائر الحجل أصغر حجمًا من الدجاج، فإنه مع حلول الوقت تفرخ الطيور الجزء المغروس من طائر الحجل، وقد نما حسب النِّسَب الطبيعية لطائر الحجل، ولكنها ليست نِسَب فروج الدجاج، ويفيد هذا أن ساعة توقيت النمو أصيلة وجِبلِّية في الخلايا.
fig22
شكل ٦-٩
شكل ٦-٩: علاقات ارتباط مشتركة بين الحجم وبداية عمل ساعة توقيت النمو لتكوينات المخ وقد تأكدت بفضل تجارب تطعيم خلايا عصبية لجنين.
(A) زرع خلايا عصبية من مخ جنين لفأرٍ في مخ فأر بالِغ لم يؤدِّ إلى إعادة نمو كاملة لروابط محورية طويلة، وذلك لأن المخ البالِغ يوقف امتداد المحور العصبي؛ مما يؤدي إلى بطء النمو؛ لذلك حين تبلُغ الخلايا درجة النُّضج والنمو (بعد أربعة أسابيع على الأكثر) نلحظ أن الروابط المحورية لم تنمُ سوى جزءٍ من الملليمتر.
(B) تجارب الزرع التهجيني Xenotransplantation تثبت أن إطالة ساعة توقيت النمو للأمخاخ الأكبر حجمًا تنعكس حتى في نموِّ خلايا عصبية مُنعزلة بغضِّ النظر عن السياق. ويلاحظ أن الخلايا الجنينية المأخوذة من أنواعٍ أضخم حجمًا (الخنزير) عند زراعتها في مخ بالِغ لحيوانٍ أصغر حجمًا (فأر) ينمو عمليًّا أكثر من المُعتاد ليبلُغ مدًى أبعد (يمين أسفل) من المحاور العصبية لخلايا الفأر المانح (يمين أعلى). ويبدو أن هذه هي نتيجة الوقت الأطول بمعدل كبير (أكثر من أربعة شهور) التي تظلُّ أثناءها المحاور العصبية للخنزير غير ناضجة النمو وقابلة لأن تكبر وتنمو.
ترى أين يصل بنا هذا كله في تحليلنا للنمو غير المتناسِب لمقدم المخ الظهري dorsal forebrain للأجنة البشرية؟ لقد اجتزنا في الوقت الراهن هذا التحليل الاختزالي reductionist إلى أبعدٍ مدًى يمكن أن تصِل إليه الأدلة في حدود ما تسمح به معارفنا الراهنة عن العمليات ذات الصلة، ولكن نظرًا لأننا نعرف الآن «العلامة المميزة» لمِثل هذا التغيُّر القطاعي في إنتاج الخلية، أصبح بالإمكان أن نشرع في البحث عن أمثلةٍ أخرى تشتمل على أنواعٍ أخرى وهياكل أمخاخ أخرى وجينات أخرى، وأن نستخدِم هذا كلَّه كنماذج لبحث نوع الميكانيزمات الجزيئية التي تجمَّعت بالضرورة في تطوُّرنا نحن. وعلى الرغم من افتقارنا إلى ميكانيزم قادر تمامًا على تفسير مظاهر عدم التناسُب القطاعي للمخ البشري، فإن لدَينا قاعدة كبيرة ومهمة من المعلومات التنموية والمقارنة التي تسمح لنا بإعادة بناء تصوُّرٍ يوضح لنا كيف أن هذه التغيرات أثَّرت في تطوُّر المخ وبِنية المخ ووظيفة المخ؟ وحريٌّ أن يُساعدنا هذا على بيان أهمية السبب في فهم كيفية حدوث الاختلاف البشري في حجم المخ؟ لهذا سوف نتَّجه إلى هذه العمليات التنموية العصبية في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥