الفصل السابع

كهربائي دارويني

اتفقت آراؤنا على أن نظريتك نزقة، ولكن السؤال الذي يقسمنا هو معرفة إلى أي حدٍّ هي نزقة.

نيلز بور

الكراسي الموسيقية

حريٌّ أن يكون تطور المخ مُستحيلًا! تؤكد التفسيرات الداروينية أن المراحل التراكمية في تطوُّر أي تكيف لا بد أن تكون غايات في نفسها ولنفسها، ويتعين أن تكون كل منها مفيدة، ونعرف أن النظريات الكلاسيكية عن تطوُّر المخ ظلَّت زمنًا طويلًا أسيرةَ لغزٍ فرضَه هذا الشرط؛ إذ لو أن الأمخاخ تطورت جزءًا جزءًا، بِنية بعد بنية، إذن كيف يمكن إضافة أو تعديل أي بِنية جديدة بطريقةٍ ذات أهمية مع الأمل في أن تكون مفيدة، مع العلم بأنها لا بد أن تكون مرتبطة، بطريقة منظمة ونسقية، بمئات آلاف أو الملايين من الخلايا العصبية الأخرى في عشرات المناطق الأخرى في المخ؟ ويبدو أن هذا كان يستلزم حدوث طفراتٍ مواكبة في آنٍ واحدٍ في عددٍ كبير من التكوينات المُستقلة؛ لذلك نجد أجزاء كثيرة من المخ مرتبطة ارتباطًا مُحكمًا بأجزاء أخرى بحيث يكون من رابع المُستحيلات أن يؤدي إضافة مناطق جديدة للمخ أو حتى تعديل مناطق قديمة إلى نتيجةٍ تتمثل في العمل جميعها معًا على نحوٍ سوِي ناهيك عن تحقيق فائدة وظيفية، وأكثر من هذا أن أي تغيراتٍ حتى ولو في الأطراف يكون من الصعب التوفيق بينها؛ نظرًا لأنها لكي تكون مفيدةً وظيفيًّا لا بد من حدوث تغيُّرٍ مترابط على نحوٍ مشترك بالطريقة التي يُعالج بها المخ المدخلات التي توفِّرها، وإن أي مظهرٍ من عدم التوافُق بين المخ والأعضاء الطرفية سيكون عديم الفائدة بل ضرره أكثر، ونعرف أن التغيرات في آلياتٍ أقلَّ تعقدًا — مثل الحواسب أو أجهزة التلفاز — أميل إلى إفساد وظيفة الكلِّ وليس تحسينها.

ولحسن الحظ أن تصميم الأمخاخ مختلف عن تصميم الآلات؛ إذ لا أحداث عرضية غير قابلة للتصديق، ولا طفرات مُعقدة، ولا كميات هائلة من الزمن التطوري، ولا وظائف وسيطة تُجسِّد الهُوَّة وتبدو ضرورية لمعالجة وحسم هذا اللغز، والسبب هو أن التطور يبني الأمخاخ مُستخدِمًا التطوُّر ذاته كأداة تصميم، ومع نُضج المخ يتكيَّف حرفيًّا مع جسمه.

ولن نُسرف في التبسيط؛ إذ نقول: إن حجم وشكل يدي، وأنماط الخلايا التي تتألَّف منها يدي، إنما تحدَّدت في الغالب الأعم بفضل عملياتٍ حدثت في يدي أثناء نموِّها، وإن التكوُّن الشكلي لأغلب أجزاء الجسم حدث نتيجةَ تفاعُلاتٍ محلية بين الخلايا وبعضها؛ حيث إن الجزيئات التي تُعطي الإشارة من إحدى الخلايا تؤثر في الخلايا المجاورة؛ لذلك فإنه عند وقوع حدثٍ وراثي عرضي يُفضي إلى يدٍ مبتورة، يكون من الصواب أن نفترض أن الجينات المُصابة التي ظهرت بتأثيرها في خلايا اليد هي التي أنتجت هذه النتيجة، ونعرف أن الخلايا صغيرة، ولذلك فإن الاتصالات بين الخلايا تؤثر عبر مسافاتٍ قصيرة، بيد أن هذا النموذج للنموِّ لا يكفي لتفسير نمو المخ، وليس ضروريًّا في هذه الحالة القول بأن أي تعديلٍ في الحجم أو الشكل أو الوظيفة في جزءٍ من المخ تُحدِّده تأثيرات الخلايا في تلك المنطقة. ونجد في الحقيقة أن العمليات التي تُحدِّد أين ستكون مواقع الوظائف يُمكن أن تعتمد بشكلٍ أكثر حسمًا على ما يجري في عددٍ من أجزاء المخ الأخرى المُتمايزة أشد التمايز أثناء النمو، وسبب ذلك أن تحديد الوظائف العصبية الخاصة بالنمو لمناطق مختلفة في المخ هو أمر مُحدد على نحوٍ منظومي من نواحٍ كثيرة، ولنا أن نقول بعبارةٍ واقعيةٍ للغاية: إن المخ في شموله يشارك في تصميم أجزائه. وحريٌّ أن نذكر أن الدلالات لهذا المنطق التنموي غير المألوف بدأ توًّا يحظى بالتقدير بالنسبة لموضوع تطوُّر المخ.

والخلايا العصبية — على خلاف الخلايا الأخرى — يمكن أن تكون على اتصالٍ مباشر بخلايا كثيرة والموجودة على مسافةٍ فاصلة بعيدة بعضها عن بعض، وتُحقق الاتصال عن طريق بُروزاتها (محاورها) الطويلة وفروعها الداخلة (الزوائد)، ونظرًا لأن الخلايا العصبية مُتخصِّصة للاتصال من خليةٍ إلى خلية على مدى مسافاتٍ طويلة، فإن بوسعها استخدام مُستوًى إضافيٍّ للمعلومات البنيوية تتجاوز الفاصل الإقليمي للأنسجة والسلاسل الخلوية للاستعانة بها على تنظيم وظائفها، ومع نُضج الخلية العصبية تصدُر عنها عملية محورية طويلة لها طرف مُستدقٌّ مُتخصص (نمو مخروطي) الذي يَمُدُّ، على نحوٍ انتقائي، المحورَ ليتَّصل بالخلايا في مناطق أخرى بتوجيه إشاراتٍ جزيئية تظهر على امتداد الطريق. ونلحظ عمليًّا أن المحاور النامية تخلق اتصالًا بخلايا عصبية مُستهدفة وموجودة غالبًا في أجزاءٍ بعيدة للمخ، وتؤسِّس المحاور داخل المناطق المُستهدفة روابطَ وظيفية (وصلات عصبية) مع خلايا عصبية مستهدفة، وتُمثل هذه الروابط الأساس للشكل المُتخصِّص للاتصال الخلوي — النقل الخلوي العصبي neurotransmission — الذي يُشكل قاعدةً لوظائف معالجة المخ للمعلومات.

والملاحظ في المراحل الأولى لتكوين روابط الوصلات الشبكية أن هذه الوصلات التي تربط ما بين الخلايا العصبية تُمثل أيضًا قوة للتمايز الهيكلي، ويسمح التمدُّد المحوري لتجمُّعات من الخلايا متباعِدة بعضها عن بعض في المخ أن تتفاعل مباشرةً وتؤثر الواحدة في الأخرى، إنه بذلك يُضيف منطقًا غير محلي للنمو يعلو فوق الاختلاف المحلي السابق عليه بين منطقةٍ وأخرى، وطبيعي أن هذا التداخُل المُركَّب للتفاعلات الخلوية المحلية والبعيدة قادر على إنتاج المزيد من تغايُر الخواص الخلوية، ومن ثم قوة للتمايز الوظيفي أكبر كثيرًا مما هو مُمكن في أي منظومةٍ عضوية أخرى، كذلك فإن الخلايا العصبية التي نشأت في مناطق بعيدة — وتتبع مساراتٍ تنموية مختلفة للغاية — يمكنها أن تتواصل بشكلٍ مباشر ومُحدد بعضها مع بعض، وهكذا تؤثر في تمايز بعضها عن بعض، ويخلق هذا مستوًى جديدًا تمامًا من احتمالات التمايُز الخلوي والنسيجي الذي يجعل نموَّ المخ بخاصةٍ معقدًا ومثيرًا للتساؤلات، ويُهيئ هذا للجهاز العصبي ككلٍّ إمكانية المشاركة النشطة في بناء ذاته، ويُهيئ أيضًا مصدرًا مهمًّا للتبايُنات والتكيفات التي يمكن أن يكون لها دور في تطوُّر المخ.

وسبق أن ذهبت النظريات الكلاسيكية للتشريح العصبي إلى أن اختلاف وتمايُز كلِّ بنيةٍ للمخ كان خاصية مُستقلة، وهو ما يعني أن أجزاء مختلفة من المخ يمكن أن تتأثر بمؤثرات تطوُّرية مستقلة، ولكن تبيَّن أن هذا أمر غير مُحتمل، وجدير بالذكر أن من أهم الإلهامات النافذة التي قدَّمها لنا علم بيولوجيا الأعصاب، معرفة أن العمليات التي لا علاقة لها بالنموِّ لها أدوارٌ كبيرة في تحديد حجم وتنظيم ووظيفة مناطق المخ، ونُلاحظ أن الكثير من هذه العمليات مُدمِّرة لذاتها بشكلٍ نشط، مثال ذلك موت الخلية؛ يكون أحيانًا تلقائيًّا وفي أحيانٍ أخرى بحافزٍ من المنافسة بين الخلايا من أجل موارد محلية، وتبيَّن أنه آلية غاية في الأهمية للصياغة التنموية لأجزاءٍ من الجهاز العصبي، وتفيد في مواكبة وتحقيق التلاؤم بين نِسَب بعضها إلى بعض، (انظر شكل ٧-١)، وجدير بالذِّكر أن منطق هذه العملية هو في جوهره منطق دارويني: فرط إنتاج مُتغيرات عشوائية متبوعًا بدعمٍ انتقائي للبعض وإزالة للغالبية، ويُشبه الأمر هنا عملية بناء باب؛ حيث نبدأ أولًا ببناء جدار، ثم بعد ذلك إزالة الجزء من الجدار الذي سيفيد كمَخرج، وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تبدو إلى حدٍّ ما مُسرفة في استخدام مواد البناء، فإنها فعَّالة تمامًا لاستخدامها من أجل المعلومات؛ إنها تتحايل للتغلُّب على صعاب ومشكلات التخطيط مقدمًا وتسمح للنمو بالانطلاق مع أقلِّ قدْر من التصميم أو الآليات التنظيمية.
ونظرًا لأن هياكل الخلايا العصبية البعيدة يتعيَّن عليها أن تشارك في التفاعلات التعاونية المُعقدة في الأمخاخ البالغة، فإن التساوق الوظيفي بين التجمُّعات والروابط الخلوية يمثل أهميةً خاصة، ويؤدي الموت المبرمج للخلايا العصبية دورًا أوليًّا في هذه العملية، وذلك عن طريق تحقيق التوافُق بين التجمُّعات الخلوية المُختلَّة وإن كانت مترابطة بعضها ببعض. وكشفت دراسات عن الأعصاب الطرفية وروابطها الخارجية عما نعتبِره أول دليلٍ على دور الموت الخلوي الانتقائي في الجهاز العصبي المركزي، ويحدُث بشكلٍ طبيعي وسويٍّ أن جزءًا مهمًّا من التجمُّع الأوَّلي للخلايا العصبية الحركية تجري إزالته من النخاع الشوكي، علاوة على هذا نلحظ في الحيوانات التي استأصلنا تجريبيًّا عضلاتٍ أو أطراف كاملة لها في فترةٍ باكرة أثناء التشكُّل الجنيني أنها تفقد نسبةً أكبر من الخلايا العصبية الحركية للنخاع الشوكي وساق المخ التي كانت، حسب ما هو متوقَّع، تمتدُّ وتصِل إلى هذه التكوينات الطرفية، ولكن في حالات تجارب التطعيم، حيث يُضاف نسيج زائد إلى الجنين حال نموِّه (أي عضو زائد)؛ فإنه يفقد خلايا عصبية أقل من العادي، ويفقدها في المناطق المرتبطة بالتطعيم، ولم تتولَّد الخلايا العصبية الزائدة بداية، ولكن الخلايا العصبية التي كان من المُقرر بشكلٍ عادي أن تموت سوف يَستبقيها الهدف الذي توسَّع (انظر شكل ٧-١)، وتفضل الطبيعة المزيد من الإنتاج والتزوُّد الملائم لتحقق التوافُق بدلًا من الرصد والمؤازرة الدقيقة في متابعة نموِّ عددٍ لا حصر له من التجمُّعات الخلوية المنفصلة.
ويَصِف هذا المنطق أيضًا التوجُّه التوصيلي connectivity. نعرف أن المحاور العصبية الجنينية لها هدفٌ عام واحد جاذب، ولديها معلومات للتجنُّب، وبذا «لا تعرف» بدقة إلى أين تنمو أو على أي خليةٍ سوف يستقر بها الوضع (انظر شكل ٧-٢)، وشرعت دراسات حديثة في إثبات أن ثمَّة آليات توجيه مُتنوعة تساعد المحور العصبي النامي في تحديد منطقةِ الهدف في أي مكانٍ في المخ، ونجد من بينها خيوطًا هاديةً مُمتدة من خلايا ليست خلايا عصبية وفوارق بين المناطق في أربطةٍ على سطح الخلية، وأنماط مكانية للجذب وجزيئات للطرد وخصائص ميكانيكية للأنسجة وعوامل نموٍّ نوعية تُطلقها الخلايا داخل مناطق الهدف التي تساعد على دعم المحاور العصبية التي وصلت إلى الجهة أو الهدف الصحيح، وتكفي هذه الآليات لكي يكون انحياز نمو المحور العصبي موجهًا نحو مناطق هدف عامة مُختارة، ولكنها ليست دقيقة بما فيه الكفاية لتحديد أي شيءٍ غير التمييز العام للهدف. ويمكن القول: إن توجُّهًا توصيليًّا أكثر تحديدًا يظهر بصورةٍ مُحددة بعد ذلك، كما أن وصلاتٍ كثيرة يتم فرزها استجابةً للعمليات الوظيفية.
fig23
شكل ٧-١
شكل ٧-١: العمليات الداروينية في نمو الجهاز العصبي الطرفي peripheral nervous system:
(A) أثناء نمو الحميل نلحظ أن المحاور العصبية البارزة من الخلايا العصبية الحركية للنخاع الشوكي تُنافِس للوصول إلى أهداف توصيلٍ شبكية على الألياف العضلية، والنمو الأوَّلي للمحاور يكون في البداية غير مُحدَّد (وإن قيَّدته عوامل مثل المسافة والطبقة الدنيا)، ويتداخل في بروزاته، وتُفضي المسافة إلى نتيجةٍ مؤداها أن خليةً عصبية واحدة هي التي تشغل الوصلات العصبية على ليفةٍ عضلية واحدة، أما تلك التي انتهى بها المطاف بأن فقدت كلَّ روابطها فإنها تموت، والنتيجة أن تُجمَّع الخلايا العصبية توافقًا مع تجمُّع الخلايا العضلية.
(B) مجموعات الخلايا العصبية الحركية في القرن البطني ventral horn للنخاع الشوكي تنشأ بدايةً بأعدادٍ كبيرة أكبر كثيرًا من تلك التي ستبقى حتى سنِّ البلوغ، ولكن إذا تم غرس طرفٍ به أعداد زائدة في الجنين أثناء النمو (يمكن عمل هذا بالنسبة لجنين دجاجة أو ضفدع)، فإن عددًا أقل من الخلايا هو الذي يندثر.

وأحد أسباب نقص هذا التحديد هو أن كم المعلومات الضرورية لتحديد ولو نسبةٍ مئوية قليلة من الوصلات العصبية بين الخلايا، من شأنه أن يتطلَّب كمًّا غير معقول من المعلومات الوراثية. وجدير بالذكر أن دليلًا آخر توفر لنا يؤكد ضرورة وجود مصدر خارجي للترابُط الشبكي للمعلومات بعضها مع بعض في المخ، وتهيأ هذا الدليل بفضل الثبات النسبي لحجم الجينوم على مدى نطاق اختلافات واسعة في حجم المخ، ويؤدي وفقًا لذلك إلى اختلافاتٍ فلكية في الوصلات. وعلى الرغم من أن المخ البشري ربما يملك مئات، بل آلاف الخلايا العصبية أكثر ممَّا هو لدى بعض أمخاخ الفقريات الأصغر، كما يملك وصلاتٍ تزيد عنها ملايين المرات، فإنه لا يبدو أن هذا الأمر ليست له علاقة مُشتركة بزيادةٍ كبيرة في حجم الجينوم.

ولكن ثمة قيدٌ آخر على عملية النمو هو الذي فرض هذه الاستراتيجية في التصميم، آليات الإشارة الوراثية (الجينات التنظيمية) التي تقسم بداية الأنبوب العصبي إلى مناطق رئيسية تعمل عن طريق التَّماس الخلوي، وانتشار جزيئات إشارية ضخمة مع وجود حدٍّ أعلى لحجم الجنين الذي تعمل في حدوده بكفاءة عمليات الانتشار الجزيئي، ونعرف أن العمليات الجزيئية المُتطابقة تعمل جوهريًّا على تأسيس أقسام المخ الأوَّلية في الحيوانات مع اختلافها من حيث حجم المخ كما هو الحال في الفئران والبشر، ولذلك يتعين أن نتوقع التقسيم ذاته لأقسام القطاعات العصبية موجودًا على مدى نطاقٍ واسع من الأحجام، وسوف تكون الأمخاخ الأكبر حجمًا أقلَّ قدرةً على الاعتماد على الآليات الجينية لتحديد الفوارق البنيوية، وهي أقرب إلى الخلل التناسُبي بسبب عمليات النمو المُتوقَّعة، ومن ثم فإن المعلومات المُضافة الخاصة بالتصميم لا بد أنها تأتي من مكانٍ آخر في الأمخاخ الأكبر، غير أن القليل من المعلومات الزائدة تصدُر فيما يبدو عن الجينات مباشرةً. ومثلما أن العمليات الداروينية خلقت معلوماتٍ جديدة عن التصميم لبناء كائناتٍ حية أثناء مسار تطوُّر الحياة نجد بالمعنى نفسه عملياتٍ شِبه داروينية في نموِّ المخ هي المسئولة عن خلق المعلومات الجديدة اللازمة؛ لكي تتكيَّف الأمخاخ الكبيرة مع ذاتها ومع أجسامها.

fig24
شكل ٧-٢
شكل ٧-٢: أربعة أنواع من الشواهد التي تُفيد بأن المناطق المختلفة لقشرة المخ في حال نموِّها تبدأ جميعها بدون علاماتٍ محددة لمدخلات ومُخرجات، وأن الوضع المكاني والتفاعُلات التنافُسية بين المحاور العصبية تُحدد الوظيفة المحلية وأنماط الوصلات التي تُميز المناطق الوظيفية.

يسار: أنماط وصلات طبيعية بين قشرة المخ وتكوينات أخرى تحت القشرة.

يمين: في تجارب مزرعة النسيج (في الزجاج)؛ حيث تم زرع قشرة مُخ ومهاد (نواة المدخل الرئيسية)، التي سمحت للشرائح بأن تنمي محاور عصبية مُتداخلة بعضها مع بعض، ويلاحظ عدم وجود ترابُطات مُفضلة بين نويات المهاد المُعينة ومناطق قشرة المخ؛ ولكن يُوجَد مع هذا مزيد من الأنماط الأخرى الانتقائية بين أغشية قشرة المخ … مثال ذلك: الأغشية ٣، ٥ يُمكنها أن تتَّصِل بأي بنيةٍ قشرية (اليسرى تحتها)، والغشاء ٥ يمكنه أيضًا أن يمتدَّ ليصل إلى نسيج المخ الأوسط وليس إلى المهاد (أعلى)، وغشاء ٦ الخلايا العصبية لا تصِل إلى قشرة المخ، وإنما فقط إلى المهاد (أعلى)، والعلاقة بين المهاد والمخ الأوسط متوقعة من التوليفات الأخرى والأنماط الطبيعية، ولكن التجربة لم توضِّحها، وتفيد هذه الأنماط أن ثمة أنماطًا كثيرة متوقَّعة لم يجرِ اختبارها. ويُلخص الشكل دراسات من مولنار وبلاكمور (١٩٩١م) ويامومتو وآخرين (١٩٨٩م و١٩٩٢م و١٩٩٥م)، علاوة على آخرين أكدوا هذه النتائج، وتُشير علامة النجمة إلى المحاور العصبية التي عجزت عن أن تنمو في النسيج في المزرعة.

وثمة دليل مُذهل على عمومية المعلومات المُتضمنة في وصلات التحديد في المخ، وزوَّدتنا به تجارب الزرع الخارجي الذي يتجاوز حدود النوع، ويبدو معقولًا أن نفترِض أن تحديد الدائرة في أمخاخ الأنواع المُختلفة يعتمِد على إشاراتٍ إرشادية مختلفة لتحديد نمو الوصلات، مثال ذلك كثيرًا ما يفترض البعض أن أمخاخ البشر مختلفة؛ لأن الخلايا العصبية البشرية تتلقَّى تعليماتٍ وراثية (جينية) مُختلفة عن أين تنمو وأين لا تنمو، وأي الخلايا تتصل بها، وأيها لا تتصل بها؛ ولذلك فإن أخذ جزءٍ من نسيج مُخٍّ من نوعٍ ما ووضعه في مخِّ نوعٍ آخر من شأنه أن يُشوِّش «لوحة التحويل» العصبية إذا جاز لنا أن نقول ذلك بسبب إغراقها بوصلاتٍ ضلَّت الطريق. وطبيعي أن الأمخاخ الخرافية — الناتجة عن مثل هذه التجارب للزرع فيما بين الأنواع — ستختلُّ وظائفها إلى أقصى حد. وطبيعي أيضًا أنه كلما كان الفارق بين الأنواع أكبر، زاد وتضخم التشوُّش الوظيفي.

وكم هو مُثير للدهشة أن تبيَّنَ أن الأمر ليس على هذه الحالة؛ ذلك أنه في تجارب التطعيم التهجيني الخارجي (انظر شكل ٧-٣) يجري زرع خلايا عصبية جنينية أو حتى قطاعات كاملة من نسيج مخٍّ جنيني ونقلُه من نوع إلى آخر، ولوحظ أن الخلايا العصبية المانحة تُنشئ وصلاتٍ ليست فقط مُلائمة، بل مُتكاملة وظيفيًّا مع العائل، وحدث في سلسلةٍ من التجارب أن أخذنا خلايا مُختارة من مناطق لأمخاخ خنازير جنينية وزرعناها خارجًا في مناطق مُتنوعة في أمخاخ فئران بالِغة، واكتشفنا عند تحليلها بعد ذلك أن المحاور العصبية النامية لخلايا الخنازير فسَّرت عن صوابٍ الإشارات التي وصلتها من مخِّ الفأر العائل لتنمو وتصل إلى مناطق في المخ كانت هي الأهداف الطبيعية للخلايا العصبية المقابلة لها لدى الفأر،١ ويبدو واضحًا أنها استخدمت الوصلة الأصيلة نفسها للمعلومات التي تستخدِمها المحاور العصبية للفأر أثناء النمو الطبيعي لمُخ الفأر، وهكذا يبدو — عند هذا المستوى من تعيين الهدف — أن الإشارات الإرشادية التي تُوجِّه معلومات الوصلات العصبية — في مخِّ كلٍّ من الفأر والخنزير — يمكن التبادل فيما بينها، ويبدو أن دلالات تطور المخ مُثيرة للاهتمام والبحث، إن أمخاخ الفئران ليست أمخاخ خنازير، كما أن أمخاخ الخنازير ليست مجرد أنها أكبر حجمًا، إن من المُمكن طبعًا أن تكون في كلٍّ منهما إشارات فريدة لتحديد الهدف، ولكن التماثل يفيد أن غالبية اختلافات الوصلات بين مخ الخنزير ومخ الفأر غالبًا ما تظهر بدون معلوماتٍ تنتقل من خليةٍ إلى خلية، وعندما تنمو خلية عصبية لخنزيرٍ داخل بيئة مخ فأر، فإنها تتَّحد مع الخلايا العصبية الأخرى وفقًا لقواعد الفأر، ويتعين علينا البحث في مجالٍ آخر عن مصدر الاختلافات بينها، وصولًا إلى نوعٍ من الإيكولوجيا الدقيقة micro-ecology لنمو المحور العصبي.
إذن، كيف تمَّت بالدقة والتحديد الدوائر العصبية المُنظمة من معلومات مُعمَّمة وغامضة؟ وكيف ظهرت الاختلافات بين أمخاخ الأنواع إن لم يكن ذلك عن طريق تعليماتٍ بشأن أي الوصلات تتغير؟ تتغلَّب الخلايا العصبية على مشكلة نوعية الهدف غير المُحدد بالمنطق نفسه المُستخدَم للتطابق بين التجمُّعات الخلوية: الإلغاء الانتقائي، وتميل إلى الإسراف في إنتاج فروع لمحاورها العصبية النامية؛ بحيث تمثل هذه عددًا كبيرًا من الأهداف المحتملة أثناء المراحل الأولى من النمو، على الرغم من أن جزءًا واحدًا فقط من هذه الوصلات هو الذي يبقى مع البلوغ، ويتم التخلُّص من الباقي في منافسةٍ بين المحاور العصبية الصادرة عن خلايا عصبية مختلفة من أجل أهداف التوصيل الشبكي ذاتها. (شكل ٧-٤)، وإن هذه العملية شِبه الداروينية مسئولة عن قدْر كبير من توافُق أنماط الوصل العصبي الذي يُفسر دقة تكيُّف وظائف المخ،٢ ونلحظ في اتساق مع التطوُّر الدارويني أن الهيكل التكيفي للدائرة العصبية ينبثق عن الدعم والإزالة الانتقائية لأنماطٍ نوعية مختلفة، ويمكن أن تتولَّد أنماط توصيل تتميز بدرجةٍ تنبُّئية ووظيفية عالية مع أقلِّ قدْر من التحديد السابق للتفاصيل، ويتحقق ذلك بفضل الإنتاج الزائد في البداية للوصلات التي تنتشِر نحو أهدافٍ مُتباينة على نطاقٍ واسع، ثم الاختيار من بينها على أساس خصائصها الوظيفية المختلفة. وجدير بالذكر أن هذا المنطق الخاص بالتصميم يوفِّر وسيلةً يمكن عن طريقها للفوارق البنيوية التكيُّفية في الدائرة العصبية أن تُنشئ أنواعًا مختلفة مع أقلِّ عددٍ من التغيرات الوراثية (الجينية) المترابطة، وكل المطلوب هنا هو تغيرات تنحاز إما إلى النمو والتنوع الأوَّلي لوصلات المحاور العصبية أو تغيُّرات تنحاز إلى العمليات الانتقائية التي تلغي بعض الوصلات لصالح وصلاتٍ أخرى.
fig25
شكل ٧-٣
شكل ٧-٣: تجارب زرع خلايا جنينية لخنزيرٍ في أمخاخ فأر (انظر أيضًا شكل ٦-٩، فصل ٦)، وتُبرهن أن مفاتيح الإرشاد للمحور العصبي ليست مُحددة في البداية، وإنما مشتركة بين أنواعٍ مختلفة مثل الخنازير والفئران. وعلى الرغم من أن الخلايا العصبية المانحة من أنواعٍ مختلفة جدًّا، ويجري زرعها أحيانًا في أماكن في المخِّ لا تُوجَد بها عادة هذه الخلايا، فإن محاورها العصبية ما تزال قادرةً على استخدام إشارات مخِّ العائل لتوجيه نموِّها نحو الأهداف الصحيحة كما هو الحال في (A)، ويوضح الرسم أن الخلايا العصبية المأخوذة من قشرة المخ الجنينية (B) والجسم المُخطط (C) والمخ الأوسط البطني (D)، تم زرعها خارجًا في الجسم المُخطط خلال تجارب منفصلة، وأكثر من هذا، يبدو مُحتملًا أن الكثير من هذه الإشارات الإرشادية مشتركة مع أنواع غير ثديية، وتفيد هذه النزعة المحافظة التطوُّرية أن اختلافات الأنواع من حيث تصميم المخ ربما لا تُحددها «تعليمات جبلِّية» مُحددة، بل تُحددها آليات أخرى أقل مباشرة. وتشير علامات النجوم إلى أن المخ الأوسط الباطني يحتوي على خلايا عصبية من الدوبامين (ناقل عصبي – اللون الرمادي) وخلايا عصبية ليست من الدوبامين (بيضاء) تم زرعها في الخارج معًا، ولكن محاورها العصبية تمتدُّ إلى أهدافٍ شديدة الاختلاف.
إن الانحيازات المؤثرة في انتقاء المحاور العصبية يُمكن أن تصدُر عن كلٍّ من عوامل وظيفية وعوامل كمِّية، ويسود اعتقادٌ بأن القاعدة الأساسية لعملية الانتقاء هي درجة الترابُط المؤقَّت لإطلاق أنماطٍ من مُدخلات المحاور العصبية ومُخرجات الخلايا العصبية، ونعرف أن الخلايا العصبية تتلقَّى عادةً مئات أو آلاف المُدخلات من خلايا عصبية أخرى، وأن أيًّا من هذه المدخلات ليس كافيًا لكي يجعل الخلية العصبية المُتلقِّية تُطلق إشارةً خارجية، ولكن الإطلاق المُتزامِن فقط لكثيرٍ من المدخلات هو الذي ينجح في تنشيط المُتلقي للبدء، كذلك تُوجَد آلية خلوية بسيطة (افترَضها بدايةً عالم النفس دونالد هيب)٣ تجعل المحاور العصبية تحرُّر نواقلها العصبية في تزامُن مع إطلاق الخلية المُتلقية، (وهو ما يُشير إلى التزامن مع جزءٍ كبير من مُخرجات المحاور العصبية الأخرى)، وهو ما يُفضي إلى دعم وتعزيز روابِطها بتلك الخلية ربما عن طريق انطلاق بعض عوامل النمو، وعلى العكس، فإن ما يتَّجه منها للانطلاق دون تزامُنٍ مصيرُها فقْدُ الدعم والزوال في النهاية. وعلى الرغم من امتزاج هذه الآلية في البداية للتعلُّم، فإنها يمكن أن تفسر ما هو أكثر من دعمِ أو إضعافِ المؤثرات التواصُلية، وإذا نظرنا إليها في سياق المخِّ حال نموِّه؛ حيث أعداد الوصلات زائدة بكميةٍ كبيرة عما سوف يتبقَّى منها في حالة البلوغ، فإنها تُحدِّد أي الوصلات سوف «تفوز» في نوعٍ بيولوجي آخَر لما يُسمَّى لعبة الكراسي الموسيقية عند الأطفال؛ حيث ينقص عدد الأهداف مع مرور الوقت (شكل ٧-٥A وB).

وأفضل التوضيحات لهذا التحديد التنافُسي لتكوين الوصلات والتقسيم الوظيفي في مناطق المخِّ تُقدمها لنا دراساتٌ عن نموِّ قشرة المخ في الحيوانات، ولنبدأ بالتفكير في التحديد النوعي الوظيفي والمعماري لقطاعاتٍ مختلفة من سطح قشرة المخ. نلحظ أن قشرة المخ في الثدييات مُقسَّمة إلى عددٍ من المناطق المُتمايزة تحدَّدت على أساس بنية الخلية والنوعية الوظيفية ووصلاتها إلى هياكل أخرى في المخ، مثال ذلك نجد في مخِّ القرد الهندي — المعروف باسم الرصيص — أن مناطق قشرة المخ البصرية المُتمايزة يمكن أن يصل عددها وحدَها إلى العشرات، وإن العمليات التنموية المسئولة عن هذه «التجزئة» لقشرة المخ تتضمَّن بعض التخصيص الوراثي لتوزيع المناطق ولكنها قليلة وهو ما يُثير الدهشة.

وثمة نموذج آخر للاستزراع الجنيني؛ حيث يجري نقل قشرة مُخ حميل من منطقة لاستزراعها في منطقة أخرى، واستخدم هذه الطريقة دنيس أوليري وفريقه بجامعة كاليفورنيا في سان دياجو؛ بغية البحث عن العوامل الحاكمة لتأسيس وصلات طويلة المدى من الخلايا العصبية لقشرة المخ، وزوَّدتنا هذه الدراسات ببراهين مُذهلة عن اللانوعية nonspecificity وعمليات الانتقاء في نموِّ المخ، ولُوحظ عند استزراع نسيجٍ غير كامل النضج بعد نقلِه من موقعٍ إلى آخر في قشرة مخ الفأر — في مرحلة سابقة على تأسيس أي وصلات — أي الوصلات لا تتأثر بالنقل، بل ترتبط وكأن شيئًا لم يحدُث، وتبدو وكأنها غير متأثرة بموقع النشأة للنسيج المنقول لاستزراعه (انظر شكل ٧-٤B)، وأثبتت دراسات وثيقة الصلة — أجراها باحثون كثيرون — وجود هذه الآلية التي ترتكز عليها هذه المرونة.٤ والملاحظ في المراحل الأولى لنُضج قشرة المخ أن المحاور العصبية المأخوذة من أي منطقةٍ من مناطق قشرة المخ تنمو وتتَّصل بجميع الأهداف المُحتملة للخلية العصبية، ويتبع ذلك أن الخلايا العصبية لقشرة المخ في المناطق المختلفة تفقد على نحوٍ انتقائي وصلاتها ببعض المناطق المستهدفة، ولكن مع الاحتفاظ بروابطها التي تصِلها بأخرى. ونجد أيضًا أن أنماطًا تكميلية للوصلات المُستبقاة والمفقودة تنمو في مناطق مختلفة من قشرة المخ (انظر شكل ٧-٥C وD)، ومع المراحل النهائية للنمو تبقى الفوارق الصارمة التي تُمايز بين المناطق بعلاقتها التواصلية؛ بحيث إن المصدرات، أي النواقل للنبضات العصبية من قشرة المخ — من منطقة المصدر إلى مناطق الهدف — لها جميعها وسيلة واحدة في أداء الوظيفة (بمعنى جميعها هياكل حركية أو جميعها بصرية).
fig26
شكل ٧-٤
شكل ٧-٤: مُعالجات خاصة في حيوانات نامية وتتضمَّن تغيير علاقات المنافسة السوية بين المحاور العصبية وتُبرهن كيف أنها يمكن أن تُغير النمط الشبكي الأصلي للمخ.
(A) نمط طبيعي للوصلات.
(B) زرع خارجي للمنطقة الحركية الأمامية لقشرة المخ ونقلها إلى المنطقة البصرية، قبل نموِّ وصلات المحاور العصبية، ويؤدي هذا إلى نموِّ القطاع المُنزرع لتنموَ معه وصلات صحيحة وملائمة للمنطقة البصرية وليست المنطقة الحسِّ بدنية somatosensory. (Stanfield and O’Leary, 1955).
(C) إزالة مُدخلات موجهة إلى أهدافٍ مُحددة في المهاد يمكن أن تسمح بمدخلاتٍ أخرى أن تشغل المنطقة الشاغرة، وتستحثُّ هذا الجزء من المهاد لنقل معلوماتٍ حسية مختلفة إلى قشرة المخ وتغير وظيفته. (Sur and Benson, 1988; Frost and Metin, 1985)، ويشير هذا إلى أن الامتدادات إلى نويَّات المهاد تنقصها أيضًا القيود النوعية المُميزة التي تُعيِّن أي النويات تحديدًا يمكن دخولها.
fig27
شكل ٧-٥
شكل ٧-٥: أعلى: أساس مُفترض لمنافسة الوصلات الشبكية بين المحاور العصبية، ويتمثَّل في العلاقة المُشتركة لإطلاق أنماطها مع المحاور العصبية الأخرى التي تبني وصلاتٍ على الخلية ذاتها، وتُطلق المحاور عددًا أكبر نسبيًّا خارج التزامن؛ حيث الأكثرية (A) مآلها الإلغاء (B)، وربما بسبب العجز عن تلقِّي عوامل نموٍّ من الخلية المُستقبلة.
أسفل: نمو امتداداتٍ لقشرة المخ إلى ساق المخ التي تمتدُّ دون تحديدٍ إلى الأهداف المُحتملة أكثر (C)، وخلال المرحلة التالية للنموِّ تتم إزالة امتداداتٍ مُلازمة لها التي لم تتلقَّ ولم تتصل بمنظوماتٍ أخرى لها خصائص إشارية مُماثلة، تاركةً الوصلات التي لها أنماط وصل مُنظمة وظيفيًّا ومنعزلة بعضها عن بعض من حيث التوزيع المكاني (D).
ولكن ما الذي يُحدد انحيازات التنافس؛ بحيث إن منطقةً ما في قشرة المُخ ينتهي بها الأمر بالتخصُّص في مخرجاتٍ بصرية وأخرى في مخرجات حركية؟ إن الانحياز التكميلي يصدُر عن توقعات مدخلة تصل جميعها تقريبًا عن طريق المهاد، ولكن مدخلات المهاد إلى قشرة المخ تكشف أيضًا عن عدم تحدُّدٍ نوعي، ووضح هذا عن طريق نمو أنسجة مخ معًا في طبق (تجربة في صورة تعارض الاستزراع في الخارج)، عندما نختار بشكلٍ عشوائي كميةً وافرة من مهادٍ جنيني وقشرة مخ جنينية لتنموَ متجاورة بعضها مع بعضٍ في مزرعة نسيج، فإن من المُحتمل نموُّ قطاعاتٍ مختلفة من قشرة المخ والمهاد بقدرٍ متساوٍ في رباطات مشتركة (انظر شكل ٧-٢)، وهذا ليس إجمالًا نموًّا غير مُحدد النوعية؛ لأن وصلات المهاد لن تنموَ لتصل إلى أغلب تكوينات المخ الأخرى في ظروفٍ مماثلة. ويبدو أن هذا النمو تأثر بالجوار المادي، وكذا الضغوط المادية غير المُتعمَّدة الناشئة عن تجاور المحاور العصبية أكثر من التأثر بأي إشارةٍ مكانية ذات نوعيةٍ مُميزة (انظر شكل ٧-٥).
ولكن ليس من المُرجح أن كل بنيةٍ في المهاد — في حالة النمو الطبيعية للمخ — أن تحصل ولو على فرصة للتوصيل العصبي إلى كل بنية في قشرة المخ؛ ذلك أن فوارق توقيت نمو المحاور العصبية والمكونات الجزيئية والجوار، يمكن أن تخلق كلٌّ منها انحيازات خاصة بالنمو، كذلك فإن الطوبولوجيا topology؛ أي الوضع المكاني النسبي للمواقع على خريطة الوصلات — من منطقة المخ إلى منطقة أخرى في المخ — تنزع إلى الإبقاء على ذاتها مع قدْرٍ طفيف من التباين يمايز بين الواحدة والأخرى داخل النوع (بل وإلى مدى كبير بين الأنواع)، ويرجع السبب أيضًا ببساطةٍ إلى أن الامتدادات تجد صعوبة في العبور خلال واحدة إلى أخرى في اتجاهات مختلفة، ولذا تنزع في غالبية المنظومات إلى الانفصال في حزم متوازية، ومع ذلك، فإن هذا التنظيم المكاني ليس سوى توزيع تقريبي في المراحل الأولى؛ حيث تكون قد نشأت وصلات متباينة كثيرة، ولكن مع اطراد النمو تزول بفعل المنافسة غالبية هذه الامتدادات الزائفة مكانيًّا. ونلحظ داخل مناطق امتدادٍ معينة درجةً إضافية لتشكل خاصية اتصالية مميزة، ونجد أن الامتدادات التي تنتشر بدايةً محليًّا في مساحة تصل إلى ملليمترات كثيرة تُصبح في النهاية محصورة داخل أعمدة ضيقة من خلايا عصبية مستقبلة لكي تخلق خرائط توزيع دقيقة تعرض واقع الطوبوغرافيا الحسية والحركية، وهكذا البداية من مكونات أولية غير محددة مكانيًّا وزمانيًّا تسهم في الانحيازات الأولية لتتحول إلى أنماط توصيل مصدرة شاملة وعمليات تنافسية على مستوياتٍ متمركزة محليًّا أكثر فأكثر تضخم واقعها إلى ما يصبح بعد ذلك خرائط توزيع دقيقة للغاية، وثمة عوامل أصلية ذاتية لها دور واضح، ويمكن أن تضيف انحيازات وظيفية زائدة، بيد أن هذه تظهر في سياق مستوياتٍ كثيرة من عمليات التشكل والانحيازات السابقة التي قوَّت ما تم اتصاله بآخر.

وليست الخلايا في المناطق المختلفة من المخ هي سيدة أمرِها، ولم تتلقَّ أوامر بشأن اتصالها مقدمًا؛ إن لدَيها قدرًا من المعلومات التوجيهية الأولية غير المُحدَّدة عن الفئة العامة للتكوينات التي تصنع أهدافًا ملائمة وصحيحة، ولكن يبدو أن لديها معلوماتٍ قليلة عن أين بالدقة سوف ينتهي أمرها في بِنية مستهدفة أو مجموعةٍ من التكوينات المُحتملة التي ستمثل هدفًا.

إذن وفي ضوء ما سبق، نقول وبالمعنى الحرفي: إن كل منطقة مخٍّ في حالة نمو تتكيف مع الجسم الذي تجد نفسها فيه، ويوجد نوع من إيكولوجيا التفاعُلات تُحددها مناطق المخ الأخرى المرتبطة بها وتنتقي التنظيم المُلائم للمخ، وتقدم هذه العملية الإجابة على مشكلة حالة التكيف المُترابطة في أجزاءٍ مختلفة من هذه المنظومة المُعقَّدة مثل المخ والجسم، وليست هناك حاجة «لتناغم مُحدَّد سابقًا» لطفرات المخ؛ لكي تتلاءم مع طفرات الجسم؛ نظرًا لأن المخ في حال نموِّه يُمكنه أن ينمِّي تنظيمًا متوافقًا «مباشرًا» أثناء النمو. ولعل من المفارقة أن التحديد الأوَّلي للأهداف بصورةٍ مجملة هو ما يسمح بالدقة الطوبوغرافية للوصلات داخل المخ؛ لأنه يسمح تدريجيًّا وعلى مراحل بالمزيد من التناغم التفصيلي، وبعد التكيف مع القسمات الثابتة في بقية المخ والجسم يمكن للوصلات العصبية أن تُفيد بميزةٍ أكبر بالثروة المُتمثلة في عملية التنميط الثابتة والأصيلة للأنماط التي يلتقي بها الكائن الحي في بيئته أيضًا، ويتحقَّق له هذا بفضل التغيرات الدقيقة في توزيع شِباك التوصيل وقوة الخلايا العصبية المُفردة التي يتألف منها القطاع الأكبر من التعلُّم في الكائنات الحية البالغة كاملة النضج. معنى هذا أن التعلُّم هو فقط تعبير المرحلة اللازمة لعملية التوافُق التي تتقدَّم مرحليًّا من أنماطٍ تشتمل على المخ إجمالًا إلى تلك التي تشتمل على أدقِّ أفرُعها الخلوية.

وهكذا، وعلى نقيض قرنٍ من التفسير التأمُّلي لتطور المخ، فإن اختلافات النشوء والتطوُّر النوعي في أحجام ووظائف مناطق بذاتها في قشرة المخ أو مناطق نووية، لا يمكن أن نعزوها بعامةٍ إلى إضافة خلايا إلى تلك المنطقة أو إلى تغيراتٍ في ظهور تأثيرات جنينية في تلك المنطقة، وإن هذا النوع من تطوُّر دراسة الجمجمة يتناقض مع العمليات التي تُمثل أُسُسًا للاختلافات في تنظيم المخ. وبات السبب واضحًا في الأحجام النسبية لمناطق قشرة المخ المُختلفة والوصلات النوعية التي لها، مع تكوينات المخ الأخرى، بل وحتى السمات التي نعزوها للبنية الخلوية المحلية (ليست جميعها محددة محليًّا) ومن ثم إذا بدا لنا أن منطقةً ما في قشرة المخ قد تغيَّر حجمُها أو وظيفتها على مدى مسيرة التطور، فإن السبب على الأرجح هو حدوث تغيُّر منظومي أثَّر في عدد من مناطق المخ التي تصادف تلاقي وصلاتها عليها. وطبيعي أن هذا التحديد غير المباشر والمُنتشر لبنية المخ والشبكة التواصُلية إنما يُغيِّر جذريًّا طريقة تفكيرنا بشأن تطور الجهاز العصبي.

وهكذا يتمتَّع التطور بأداةٍ قوية تُحقق له مرونة التكيف، وليس المخ بحاجةٍ إلى إعادة تصميمٍ من جديد مع كل مرةٍ يتغير فيها بناء الجسم؛ إذ يمكن للعينَين أن يلتقِيا أو يفترقا، ويمكن لجهاز الشمِّ أن يتقلَّص أو يتمدَّد، ويمكن للأطراف أن تنقص وتتحول إلى نِسَب أثرية أو أن يُعاد بناؤها جذريًّا؛ لتأخذ أشكالًا مختلفة للحركة، أو يمكن للمُستقبلات اللمسية أن تتمركز مرةً في أطراف أصابع حسِّية أو ذيولٍ حسِّية على مدى مسيرة التطور النشوئي النوعي، كما أن آليات النمو العصبي نفسها يمكن أن تُنتِج مخًّا ملائمًا. ويُفسِّر هذا لماذا الخلايا العصبية الجنينية لخنزيرٍ أو بشر انتقلت عن طريق استزراعها في مخِّ فأرٍ عائلٍ لها تنمو وتصل إلى أهدافها الصحيحة المُلائمة وتُفضي إلى نتائج وظيفية ملائمة — لفأر طبعًا. إن كل نوع ليس بحاجة إلى تعليمات النمو المحورية الخاصة به معدلة، ومن ثم فإن المعلومات التنموية محافظة لدرجة عالية لسببٍ مُحدد، وهو أنها يمكن أن تكون عامةً استنادًا إلى العمليات التنموية شِبه الداروينية لإنتاج التكيف التفصيلي للشبكات العصبية بعضها مع بعض. يُضيف هذا منطقًا تطوريًّا يتعارَض مع الكثير من الافتراضات الأساسية للنظريات الكلاسيكية عن تطوُّر المخ، ونحن لسنا بحاجةٍ إلى استحضار كلِّ ضروب طفرات تصميم بِنية المخ النوعية وبعيدة الاحتمال لكي نُفسر التغيرات في العلاقات بين أجزاء المخ، ولسنا أيضًا نملك القدرة على استحضار الإدارة الدقيقة الجينية لبِنية الشبكية العصبية لتفسير المخ والفروق الإدراكية المعرفية بين الأنواع بعضها وبعض.

الإحلال

نظرًا لأن بناء الدائرة العصبية لها طابع خام وغير مُحدد في البداية الأولى، فإن فوارق رهيفة في هذه الفوارق الانحيازية من مِثل توقيتات عملية النمو وإعداد الخلايا العصبية وأنماط النشاط المُترابط المشترك، يمكن أن تكون جميعًا مصدرًا لفوارق خاصَّة بالنوع في وظيفة المخ، وإذا كان تحديد أي الوصلات تبقَّى؟ وأيها يتراجع يعتمِد على النشاط المُترابط للمحاور العصبية الأخرى التي تمتدُّ وتصل إلى منطقة الهدف ذاتها، إذن فإن الكميات النسبية للامتدادات التي تصِل إلى أي منطقة مُستهدفة تُمثل انحيازًا انتقائيًّا مُهمًّا بخاصة، ويؤثر في أي وصلاتٍ ستنزل أو تبقى، ونلحظ بين التكوينات المُتنافسة أن التكوين أو البِنية التي تُرسِل أكبر عددٍ من المحاور العصبية إلى هدفٍ بذاته ستنزع إلى دفع أنماط الخلايا النشطة إلى ذلك الهدف بفعالية أكبر، وهذا من شأنه أن يمنح الوصلات الآتية من مصدرِ تجمُّعٍ أكبرَ «صوتًا» مُرجحًا لتحديد أي الوصلات سوف تبقى، وطبيعي سيكون لهذا دلالات مُهمة للغاية لفهم أنماط وعمليات تطوُّر المخ؛ لأنه يعني أن تعديلات النِّسَب — ذات الصِّلة بتكوينات الجهاز العصبي الطرفي والمركزي — يمكن أن تُغير بدرجةٍ كبيرة أنماط الوصلات؛ لذلك فإنه وعلى الرغم من أن التعديل الجيني التقريبي يُمكن ألا يستمرَّ ليصِل إلى درجةٍ مهمة على مستوى التوصيل بين الوصلة والوصلة، فإن الانحياز الجيني على مستوى كلِّ تجمُّعات الخلايا يمكن أن يؤدي إلى تحوُّلاتٍ موثوقٍ بها في أنماط الوصل.

يفيد هذا أن تأثيرات الجهاز العصبي الطرفي، وكذا الخاص بإحدى مناطق المُخ لها دورٌ كبير في تطوُّر مخِّ الثدييات،٥ وأنا أُسمي هذا إحلال آلية تطورية. ولنا أن نقول بوجهٍ عام: إن الزيادات النسبية في تجمُّعات مُعينة للخلايا العصبية تنزع إلى التحوُّل إلى الحشد الأكثر فاعلية للوصلات المُصدِّرة والموردة afferent and efferent في المنافسة من أجل المحاور العصبية والوصلات الشبكية، وهكذا فإن أي تغيُّر جيني — من شأنه أن يزيد أو ينقص الأحجام النسبية لتجمُّعات المصادر المُتنافسة للمحاور العصبية النامية — سوف يدفع إلى إحلال أو حرف الوصلات من الأصغر ومفضلة بقاء الوصلات من الأكبر (انظر شكل ٧-٦). وطبيعي أن الفوارق في الأحجام النسبية للتكوينات البديلة المُستهدفة، سيكون لها تأثير مُكمِّل، ومن ثم فإن التضخُّم النسبي لهدفٍ أو آخر سوف يتَّجه إلى جذب الوصلات بعيدًا عن الأصغر؛ نظرًا لأن الإلغاء على أساس المنافسة أشدُّ شراسةً داخل التكوين الأصغر منه في التكوين الأكبر.
وتساعد فكرة الإحلال المحوري في تفسير عددٍ من حالات إعادة تنظيم المخ على النحو المُميز للنوع التي تصِفها أدبيَّات كلٍّ من التشريح العصبي التنموي والمقارن. ونعرف أن بعض مكوِّنات الجهاز العصبي الأكثر تقلبًا من حيث الحجم هي المنظومات الطرفية للحسِّ والحركة؛ إذ ما إن تتحدَّد الأحجام والتوزيع المكاني لمواقع هذه التكوينات في كلِّ نوعٍ مستقلةً عن المخ حتى تُسهِم في انحيازاتٍ ثابتة يمكن أن تنتشِر تأثيراتها عبر مُستوياتٍ كثيرة من تنظيم الجهاز العصبي المركزي، وهكذا فإن التغيُّرات في مُجمل أعداد أو نِسَب المُستقبلات الحسِّية (حجم الشبكية، زيادة كثافة المُستقبل في أسطح لمسيَّة مُخصصة … إلخ) يمكن أن تترتب عليها نتائج تنظيمية مُهمة في المخ حال نموِّه، ونجد هذا واضحًا في سلسلةٍ من الدراسات قدمت أمثلةً من حيوانات ابن مقرض حديثة الولادة؛ إذ تم قطع الامتدادات الصاعدة من المراكز اللمسية للنخاع الشوكي؛ بحيث إن القليل منه هو الذي يصل إلى هدفه في المهاد؛ حيث المحطة الرئيسية للتحويل بين غالبية المدخلات وقشرة المخ، وتم كذلك تدمير الأهداف الرئيسية في المهاد للامتدادات البصرية الواصلة من الشبكية (انظر شكل ٧-٤C)، ولوحظ أن هذه الإصابات تسببت في أن الامتدادات البصرية غير المصابة — التي تفتقر إلى هدف سوِي — تُغير طريقها وتتَّجِه إلى منطقة المهاد التي كانت سوف تستقبل، لولا ذلك، الامتداداتِ اللمسيةَ المقطوعةَ الآن. وثمة أجزاء مُختلفة من المهاد، مثلما هو الحال في قشرة المخ، كانت على استعدادٍ بالقدْر نفسه لاستقبال أيٍّ من مدخلات المهاد بغض النظر عن نمَط المعلومات التي تحملها، ونظرًا لأن المهاد ما يزال يُرسِل وصلاتٍ إلى قشرة المخ، فإن المعلومات التي وصلت في منطقةٍ كان مقدرًا لها — لولا ذلك — أن تكون على صلةٍ بمعلومات بصرية. والمثير للانتباه أن هذه المنطقة اللمسية في قشرة المخ أصبحت حسَّاسة ومُستجيبة للمُنبهات البصرية، وأُجريت دراسات مُماثلة عن حيواناتٍ أخرى مختلفة حديثة الولادة، منها فئران وابن مقرض والهامستر، وأوضحت الدراسات أن المعلومات التي سلكت طريقًا آخر يُمكنها أن تستحث تغيراتٍ هيكلية في التنظيم الخلوي لقشرة المخ والملائمة للتغير من حيث شروط ونظام المدخلات.
fig28
شكل ٧-٦
شكل ٧-٦: أمثلة لبعض الآليات العامة لظواهر إحلال لخلايا ومحاور عصبية بتأثير تغيرات في الحجم النِّسبي في مخٍّ مختلف أو تكوينات عصبية طرفية.

يسار: إزالة طبيعية لامتداداتٍ من مصدر إلى هدف (الرسم لوصلات لقشرة المخ والمهاد في شكلٍ مثالي) أدَّت إلى تجزئة البنية الهدف إلى مناطق مُتمايزة وظيفيًّا (اثنتان مُظللتان بلونٍ رمادي).

يمين: التغيرات في أيٍّ من تجمُّعات خلايا الهدف أو المصدر يُمكن أن تحوِّل ميزان المنافسة، وتُفضي إلى ظواهر إحلالية مع نتائج غزيرة تصبُّ في تكوينات المخ الأخرى، والزيادة (+) النسبية أو النقص (-) النسبي في أعداد المُدخلات من مصادر طرفية مختلفة (بسبب فوارق الانتشار الخلوي السوي في أنواعٍ مختلفة، أو بسبب عطب، أو إصابة باكرة) تؤدي إلى خفضٍ كبيرٍ وفعَّال لأحد مصادر المدخلات المُتنافسة، ومن ثم تعديل التقسيم على المستويات التالية أيضًا، وإن تضخُّم أو نقص الهدف بالقياس إلى مصادر مدخلاته يمكن أن يؤدي إلى انحياز المنافسة بين المحاور العصبية بوسائل مُكملة، كذلك فإن التغيُّر في التجمُّع النسبي للخلايا العصبية في المصدر أو في الهدف يمكن أيضًا أن تستحثَّ الامتدادات لتغزوَ أقاليم «جديدة من حيث النشوء التطوري النوعي».

وأكمل أوليري هذه الحلقة من الاستنتاجات بأن أوضح أن التغيرات الحادثة تجريبيًّا في المدخلات — التي تعدل نمط توزيعات مواقع قشرة المخ — يمكنها أيضًا أن تُسهم بالمِثل في تنميط وصلات مُخرجات قشرة المخ، ولُوحظ أن مناطق قشرة المخ التي تصِلها مدخلات بصرية عبر طريقٍ آخر وتفتقر إلى معلوماتٍ سوية حركية وبدنية تفقد في النهاية جميع الوصلات، ما عدا وصلات المُخرجات التي تتَّصل بأهداف المنظومة البصرية على السطح (قارن شكل ٧-٤C، وشكل ٧-٥C وD)، ومن ثم فإن المعلومات المُدخلة تُمثل عاملًا جوهريًّا لتشكيل وصلات المخرجات، ونلاحظ أنه لا المدخلات ولا المُخرجات محددة سابقًا بطبيعتها.
ونجد بطريقة مناظرة أن الطاقة الكامنة للإحلال التنموي تتضمَّن مصدرًا مهمًّا كامنًا للتغير يمكن إظهاره من مَكمنه خلال مسيرة التطوُّر في أنواع مختلفة، مثال ذلك أن الوصلات العابرة التي أزيلت خلال نموِّ نوعٍ سلفي يمكن أن تظلَّ كامنة، في ظل ظروف انحيازية مختلفة، لحين تظهر ثانية في سلالةٍ لاحقة. وناقش أوليري مثالًا مهمًّا لمثل هذا الاحتمال،٦ ولوحظ أن أليافًا مُمتدة في حزمة تُسمى القبوة تنشأ في قرن آمون hippocampus (بنية قشرية هامشية لقشرة المخ)، وتنتهي عند أهدافٍ يقع أغلبها في الدماغ المُتوسط (متضمنًا الأجسام الشبيهة بالحلمات في منطقة ما تحت المِهاد والنويَّات الأمامية للمهاد)، وتمتدُّ أيضًا إلى ما وراء هذه الأهداف الطبيعية؛ لتصل إلى مناطق المخ الأوسط المركزي أثناء فترةٍ عابرة خلال مرحلة النموِّ الباكرة لمخ الفأر، وتزول مع اكتمال نُضج الفأر، ولكن نلحظ في بعض الأمخاخ أن هذه الوصلات تبقى على ما يبدو في سن البلوغ. وجدير بالذكر أن أمخاخ الفيلة (وبعض أمخاخ البشر) كمثالٍ لديها قبوة وراء الجسم الشبيه بالحلمات، تظل باقية في منطقة المخ الأوسط عند الكبر، ومن المُمكن تمامًا أن يكون حجم الفوارق في هذه الأنواع هو الذي يُسهم في وسطٍ تنافسي مختلف يفضل الإبقاء على هذه الرابطة (ويسهم بطريقةٍ عكسية في انحيازاتٍ ضدها في أنواع ذات أمخاخ صغيرة).
ولنا أن نقول بوجهٍ عام أكثر: إن التخصُّصات الحركية للمخ يمكن أن تتحقَّق في أنواعٍ كثيرة فقط عن طريق تضخُّم أو تقلص تكويناتٍ طرفية، ونلحظ ميلًا إلى تقلُّص العينَين لدى الأنواع ساكنة الكهوف وتحت الأرض، وهذا هو النظير الطبيعي للتجارِب المعملية لقطع المُدخلات البصرية خلال مرحلةٍ باكرة في النمو، ويبدو الإحلال واضحًا في هذه الحالات، مثال ذلك أنه في نوع الفأر الأعمى من نوع الخلد تكون قشرة المخ شِبه مفتقرة تمامًا للمناطق البصرية، بينما تبدو المناطق البدنية والحركية والسمعية وقد امتدَّت لتُغطي المنطقة التي كان من المتوقَّع أن يشغلها البصر في حيوان قارض غير أعمى بديل (انظر شكل ٧-٧٧ ويبدو واضحًا تمامًا أن هذا الإحلال للمناطق الوظيفية يتوافق مع التقلُّص شِبه الكامل للعينَين والتوسع الكثيف لعضلات الرأس والرقبة وهي مُهمة للحفر، وتُثبت الدراسة التحليلية للوصلات في مخِّ هذه الأنواع أنه قد حدث إحلال للمحاور العصبية على مستوى المهاد البصري وتحته. وعلى الرغم من أن النواة الجانبية الشبيهة بالركبة (وهي بالضبط النواة الأولية للاستقبال الشبكي) للمهاد تمتدُّ على نحوٍ صحيح ومُلائم إلى القشرة الظهرية الخلفية (الموقع الذي تشغله عادة القشرة البصرية)، وتستقبل امتداداتٍ من النتوء الأدنى عضو التحليل السمعي الرئيسي في المخ الأوسط الذي من شأنه أن يمتدَّ في الوضع الطبيعي إلى النواة الوسطى الشبيهة بالركبة في المهاد والمجاورة له، وهكذا، ومثلما هو الحال في الأمخاخ التي يجري التعامُل معها قبل الولادة، نلحظ أن التغيير الجذري في نِسَب الامتدادات الطرفية من منظوماتٍ مختلفة يمكن أن يتسبَّب في حدوث تأثيرات الإحلال للمحاور العصبية التي تنتشِر بغزارةٍ في كل أنحاء المخ في مرحلة النمو وتُحقق تلقائيًّا تلاؤم التنظيم المركزي مع التخصُّصات الطرفية.
fig29
شكل ٧-٧
شكل ٧-٧: يُمثل الفأر الأعمى مثالًا لنتائج الإحلال العصبي وأثرها في تطوُّر المخ. إن هذه العيون شبه الأثرية للنوع تصدُر عنها امتدادات بصرية قليلة للغاية تصل إلى الأهداف البصرية في المهاد؛ بحيث إنها أثناء النمو تتفوَّق عليها المُدخلات السمعية في الوصول إلى الهدف، ونتيجةً لذلك نجد أن نواةً بصرية عادية (النواة الجانبية الشبيهة بالركبة the lateral geniculate nucleus, LGN)، تستقبل امتداداتٍ سمعية من المُفترض في الظروف العادية أن تبقى مقصورةً على نواة مجاورة (الجسم الأوسط الشبيه بالركبة The medial geniculate body, MGB)، ويمرر إشاراتٍ سمعية إلى قشرة المخ لتشمل مناطق يتضمَّنها عادةً التحليل الحسِّي البصري، ويلخص الشكل اكتشافاتٍ واردة في كتاب Heil وآخرين (١٩٩١م)، ودورون وولبيرج (١٩٩٤م).
ولكن ليس كل التحوُّلات الكمية في المدخلات والمُخرجات سببها تعديلات تطورية في الأعضاء الحركية الطرفية؛ إذ نظرًا لأن خطط الجسم لكلٍّ مِن أصغر وأكبر الثدييات تكبر وتزداد من البدايات الجينية المُتماثلة، فإن تحوُّلات مهمة في نِسَب وأبعاد الجسم والمخ تحدُث بالضرورة نتيجة هذه العملية التقديرية، وتُسهم هذه في ظواهر الإحلال ولكنها تنزع إلى أن تكون في علاقةٍ مشتركة مع الحجم. وجدير بالذكر أن واحدًا من أول أنماط «تطور» المخ التي عرفها علماء تشريح الأعصاب في مَطلع القرن العشرين هي النقص المرحلي في النسبة التقديرية للمناطق الحسِّية عالية التخصص في قشرة المخ (القشرة المُحبَّبة في البُقعات الحسِّية koniocortex)، والزيادة النسبية في قشرة المخ ذات الطابع العام الزائد (المُسمَّاة مناطق الترابُط association areas) في الصعود التطوُّري المُفترض من الحيوانات آكلة الحشرات insectivores إلى الرئيسيات الضخمة، وفسر الباحثون ذلك منذ زمنٍ طويل بأنه يعني وجود اتجاهٍ نحو وظائف إدراكية معرفية «رفيعة المستوى» في الأمخاخ مع نسبةٍ عالية من قشرة الترابط، ولكن هذا الاتجاه التطوري الزائف وثيق الصلة جدًّا بالحجم، ومن ثمَّ فإن النِّسَب التقديرية لكلٍّ من المناطق الحسية عالية التخصُّص في قشرة المخ koniocortex ومناطق الترابُط في قشرة المخ يُمكن التنبؤ بها في ضوء حجم المخ وحده.

وذهبت في الفصل الأخير إلى أن الأنماط الزائدة في الحجم — في مناطق المخ المختلفة — يمكن أن تعكس جزئيًّا مشكلاتٍ باطنية في معالجة المعلومات (نِسَب وأبعاد معلوماتية وتناظر الزيادة في الإدارة متوسطة المُستوى في حجم العمل)، ويمكن أن يتحقَّق هذا عن طريق ظواهر الإحلال، مثال ذلك أن الحيوانات الأضخم ليست لها، حسب النسبة والتناسُب، عيون أضخم، إن عيونها وعدد الخلايا في شبكية العين تتعارَض من حيث النِّسَب والأبعاد مع حجم الجسم، بل ربما مع حجم المُخ؛ لذلك فإنه كلما أصبحت الحيوانات أضخم حجمًا فإن امتدادات الشبكية ربما تُصبح جزءًا أصغر وأصغر من الامتدادات الواصلة إلى المهاد أثناء النمو. وإذا كانت نِسَب وأبعاد المخ والنخاع الشوكي دالَّةً على شيء، فإن هذا أيضًا يبدو صحيحًا بالنسبة إلى المُدخلات البدنية ومخرجات الحركة الهيكلية. ونظرًا لأن المخ أكبر حجمًا بالقياس إلى النخاع الشوكي في الأنواع الأضخم، ونتيجةً لذلك فإن الامتدادات الطرفية المباشرة ربما تنقص من حيث النِّسَب بالقياس إلى الامتدادات الذاتية الأصيلة الواصلة إلى المهاد. وهكذا فإن نقص نسب قشرة «الرسائل العصبية» وزيادة نسب قشرة «الترابط» مع زيادة حجم المخ؛ يمكن أن يعكس طوفانًا من عمليات إحلالٍ مُرتبطة بالحجم.

ويمكن أن تكون عملية الإحلال هي الأكثر إفادةً معلوماتيًّا في حالة البشر؛ إذ كما رأينا فإن الفوارق الأشد وضوحًا في التمييز بين أمخاخ البشر وأمخاخ الرئيسات الأخرى ذات علاقةٍ بالحجم، وتزوِّدنا عملية الإحلال في لغز المخ البشري بالرابطة الحاسمة بين التغيرات الكلية الشاملة في أنماط نموِّ المخ والتغيرات في التنظيم الوظيفي، إن مُخَّنا الأضخم نسبيًّا ونموَّه المُمتدَّ يوحي بأن الإحلال ربما أدى دورًا حاسمًا في إعادة هيكلة العلاقات في داخله، وأدى هذا في نهاية الأمر إلى نشوء بعض علاقاتٍ وظيفية مُغايرة تمامًا عن تلك لدى الرئيسات والثدييات الأخرى بعامة. وطبيعي أن التحولات الرئيسية في النسبة والتناسُب بين المخ البشري المُتضخم وتكوينات الجهاز العصبي الطرفي لجسمٍ غير مُتضخم نسبيًّا أدت إلى حدوث طوفان من ظواهر الإحلال داخل المخ، كذلك فإن التحولات الرئيسية في النسب الأولية لتقسيمات المخ الرئيسية أضافت بالضرورة ظواهر إحلالٍ باطنية فريدة؛ بحيث إن أيًّا منها ليست له سوابق في الرئيسات الأخرى، وتوجد قواعد نوعية للاستدلال لنا أن نُطبقها على تحليل التغيرات الكمية وتأثيراتها على الدائرة العصبية، وهذا على خلاف التأمُّلات النظرية بشأن الوظائف البشرية الفريدة المَبنية على طفراتٍ خاصة افتراضية تُعدل من الترابط الشبكي المحلي لهذه البنية أو تلك في المخ أو تضيف هذه المنطقة الجديدة أو تلك. وقد ظهر أن هذا كله قد أطاحت به الطبيعة الداروينية لنمو المخ، ونحن إذا عرفنا شيئًا عن الأنماط العامة للتحديد الباكر للهدف وعن أنماط التأثيرات الانحيازية التي تحولها إلى بنية معمارية نهائية، أصبحنا بذلك في وضعٍ أفضل كثيرًا لكي نصِل إلى تقديراتٍ استقرائية من أمخاخ الثدييات الأخرى التي نفهمها على نحوٍ أفضل، ونصل منها إلى الأمخاخ البشرية.

وها نحن الآن نرى لماذا من المُهم أن نعرف كيف أصبح المخ البشري مُتضخمًا بالقياس إلى الجسم، ولماذا يكشف كبر حجم المخ في سنِّ البلوغ عن أنه ليس ضروريًّا أن يكون على علاقةٍ مشتركة ثابتة عصبيًّا وإدراكيًّا. إن ما يُمايز كبر حجم المخ البشري عن غيره لدى الرئيسات الأخرى وعن كلاب شيهواوا ليس في الأساس مدى ونطاق كِبَر حجم المخ، بل عند أي نقطةٍ أثناء النمو ظهرت فوارق الحجم، وأي التكوينات تُفسر تغايُر النِّسب في النمو. إن عمليات الإحلال الرئيسية التي تُحدد شكل النِّسب وأنماط الدائرة العصبية تكتمِل عقب الميلاد تقريبًا أو بفترةٍ قصيرة، وعند هذا الحد في النمو يكون كبر حجم الجزء الأكبر من المخ ما يزال في مرحلته الأولى، ومن ثَم فإن التبايُنات في النِّسَب والتناسُب التي تنشأ لاحقًا في الحياة سيكون لها أقلُّ تأثير ممكن على بِنية المخ، إن الكلب من فصيلة شيهواوا الذي ينمو في موازاة مسار نمو المخ/الجسم يُماثل تمامًا الكلاب الأكبر حجمًا في الرحم، وينحرف بشكلٍ كبير فقط عند هذا النمط بعد الولادة، كذلك لا يُطور بنيتَه العصبية في سياق النِّسَب المركزية المُعدَّلة بوضوح مقابل النسب الطرفية، ومن ثم فإن مخ كلب شيهواوا يتكيف وهو في الرحم وبُعَيْدَ الولادة مع الحجم النمطي لجسم جنين الكلب.

ولكن وضع الرئيسات بالمقارنة بفصيلة كلاب شيهواوا وغالبية الثدييات الأخرى، وضع مُختلف؛ إذ حتى لو تصوَّرنا أن كِبر حجم مخ الرئيسات هو نتيجة نقص نمو الجسم، وليس نموًّا متسارعًا للمخ، كما تُشير مُنحنيات زيادة الحجم أثناء النمو، فإن تغير هذه النِّسب موجود طوال وخلال عملية النمو الجنيني. إن أمخاخ الرئيسات غير الناضجة تتكيَّف حقيقةً مع الأجساد التي تكون نسبيًّا أصغر من غالبية الثدييات الأخرى. معنى هذا أن حيود تنظيم مخ الرئيسات عن الأنماط الثديية الأكثر شيوعًا يعتمِد بالدقة والتحديد على الكيفية التي تتوزَّع بها هذه الفوارق في النسب والتناسُب داخل جسد الجنين، هل دماغ الرئيسات بما في ذلك المخ والعينان والأذنان (دون الوجه أو الفم أو منطقة الأنف) مُعفاة من هذا النقص في منطقة ما بعد الجمجمة أو من المخ ذاته فقط؟ إذ لو أن عيني الحيوان من الرئيسات — كمثال — لا تُسهم في هذا النقص في منطقة ما بعد الجمجمة، إذن لنا أن نتوقَّع أن الرسائل العصبية البصرية ستُحرز نجاحًا أكبر في حشد مناطق المخ الحسية عند مُقارنتها بالمنظومات اللمسية والحركية. وأشك في أن الأمر كذلك في ضوء النسبة المئوية الضخمة في قشرة مخ الرئيسات البصرية. ولكن لا المعلومات بشأن قطاعٍ من جسد الجنين ولا المعلومات الكافية عن منطقة المخ مُتوفرة الآن لاختبار هذه الإمكانية. وأيًّا كانت الوسيلة التي يُقسِّم بها هذا النمو النسبي أجسام الرئيسات، فإنه سوف يستهلُّ سلسلة من الانحيازات المتنافسة التي تتشعَّب داخل مخ الرئيسات أثناء النمو، ويجعلها تختلف بطريقةٍ منظومية من حيث أنماط الوصل والنِّسَب بين المناطق بالمقارنة بمجال الثدييات الأخرى. وحتى لو لم نكن راغِبين في استنتاج أن الرئيسات أكثر ذكاءً من الثدييات الأخرى لهذه الأسباب، فإننا نستطيع أن نتنبَّأ عن ثقةٍ أن أمخاخنا سوف تعمل من خلال مصادر إدراكية وحركية وحسِّية موزعة على نحوٍ مختلف.

وسوف تُحرز أمخاخ البشر تحولًا فريدًا في مصادر الإدراك، متمايزة عن الرئيسات الأخرى التي جاء كِبر مخِّها نتيجة نقصِ حجم الجسم خلال الفترة الجينية ومختلفة عن فصيلة كلاب شيهواوا التي جاء كِبر حجم مخِّها نتيجة التقزُّم. إن التمدُّد المُتفاوت لتكوينات المخ الأمامي الظهري البشري والمختلف من ناحية في النمو الجنيني الباكر كان من شأنه أن يؤدي إلى نشوء خاصيةٍ مميزة فريدة للتحوُّلات التوصيلية والوظيفية أيضًا، ونجد أن البعض — وبسبب التحول الشامل في نسب المخ/الجسم — سوف يُفيضون في استقرائهم للانحرافات في بِنية نمط مخ الرئيسات، هذا بينما آخرون وبسبب الفوارق القطاعية بين مناطق المخ لن يجدوا أي نظيرٍ غير بشري، وكلاهما وثيق الصلة بتطوُّر اللغة.

تجربة استزراع مخ غريب

بينما كنتُ حاضرًا مؤتمرًا في نيو مكسيكو قرأت عَرَضًا إعلانًا عن محاضرة يُلقيها الأب الروحي لجماعة العصر الجديد، ووعدت المحاضرة بتقديم رؤًى إلهامية جديدة من شأنها أن تُوحِّد كلًّا من رؤى الكتاب المقدس والأفكار التطوُّرية عن قصة الخلق، وأن تفسِّر الكثير من الأسرار ابتداءً من الطبيعة البشرية وحتى الأهرام المصرية. وعلى الرغم من أنني لم أتمكن من الحضور، فإنني علمتُ أن المُحاضر قدَّم الأدلة على أن البشر نوع اصطناعي، خلقته سلالة من غرباء/آلهة نتيجة لتقدُّم تجربة وراثية، ويقضي الزعم بأن هذه التجربة تضمَّنت تعديل المخ، ربما كنظيرٍ وراثي لعملية استزراع المخ. وعلى الرغم من أنني لا أذهب إلى الحدِّ الذي نفترض فيه سيناريو لتجربةٍ غريبة بشأن أصل نشأة البشر،٨ فإن هناك معنًى واحدًا على الأقل يمكن أن تُفضي إليه التجربة المزعومة عن نتائج ذات قيمةٍ بشأن استزراع مخٍّ شبيه بمخ البشر، إن عملية النمو المُتغير التي ينتج عنها مخٌّ بشري يمكن من الأفضل عرضها وكأن طفلًا بشريًّا نما له مخٌّ من نوعٍ من الرئيسات الأضخم حجمًا، ويكون النمط البشري لنمو المخ ملائمًا لإحدى القِرَدة العُليا الضخمة بينما نمَط نمو الجسم مُلائم لإحدى قردة الشمبانزي الضخمة؛ لذلك لنا أن نتخيَّل أن علماء غرباء استزرعوا حرفيًّا المخ من جنين إحدى القِرَدة العُليا العملاقة في رأس جنين شمبانزي، ونذكر هنا النوع المعروف باسم Gigantopithecus — وهو من القِرَدة العُليا ذوات الأربع التي انقرضت وخلَّفت حفريَّات في آسيا وأوروبا منذ بضع مئات من آلاف السنين — ووقع عليه الاختيار، وهو اختيار جيد؛ ليكون من النوع المانح. وإذا حاولنا تخيُّل كيف يمكن أن تؤثر هذه التجربة الخيالية في نموِّ مخِّ العائل سوف نجد أننا بصدد عددٍ من التنبؤات المهمة.
إن الحجم الضخم في سنِّ البلوغ لمخِّ الجنين المُستزرع إذا ما قُورن بحجم جسم العائل البالِغ من شأنه أن يُغير جذريًّا «التوازن» التنافُسي الطبيعي بين منظومات الاتصال الناشئة طرفيًّا ومركزيًّا، كذلك فإن الامتدادات من الأعضاء الطرفية — من مثل عينَي العائل والمدخلات الحسِّية اللمسية من جسم العائل — سوف تحشد مجموعاتٍ مستهدفة من الخلايا العصبية داخل مخِّ المانح كانت مُلائمة لعدد المدخلات التي تورِدها، ولكن نظرًا لأن جسم الشمبانزي ليس سوى جزءٍ مما يمكن أن يحمِل معه مخًّا بهذا الحجم، فإن الفراغ الموجود داخل هذا المخ المُهيَّأ — لكي تتجمَّع فيه هذه المدخلات — سوف ينكمِش كثيرًا بالمقارنة بما يُمكن أن يحدث في جسمٍ عادي للقرد العملاق المُسمَّى Gigantopithecus، ومثلما هو الحال في الأجنة؛ حيث يتم نقل الأطراف قبل التوصيل العصبي innervation الحركي، سيكون هناك على الأرجح قدْر كبير من الفقد في منظومات المُخرَج الحركي وقدْر من التعبئة لمناطق المخ المركزية للوظائف الحركية أقل من مخِّ القرد العِملاق Gigantopithecus، ونجد بعامةٍ أن التفاوت في النسب والتناسب بين الجسم والمخ، سوف ينتشر ويتشعَّب خلال المخ النامي مع تأثر كل مرحلةٍ من مراحل المنافسة على الوصلات بالانحيازات السابقة، وسوف ينتج مخٌّ بالغ عن ذلك، ويكون مختلفًا تمامًا عن مخِّ النوع المانح أو النوع العائل. ونلحظ أن الكثير من التكوينات والتقسيمات الوظيفية للمخ المُستزرع أصغر من المُتوقَّع لمخ القرد العملاق، لكن تكوينات وتقسيمات وظيفية أخرى ستكون أضخم إذا ما ورثت فضاءً عصبيًّا من تلك التي مارست عليها الوصلات الطرفية مزيدًا من الضغط.

لذلك حريٌّ أن نعود إلى الحقيقة الواقعة، على الرغم من خرافة الشمبانزي العملاق التي هي نتاج خيالٍ علمي، فإنها تقدم لنا نظيرًا وثيق الصلة لفهم المشكلة الخاصة بنمو وتطور المخ البشري كما يُمثل نبوءةً لنسبة بِنية المخ البشري، ويقودنا هذا السيناريو المبني على الخيال العلمي إلى أن نتوقَّع بعض التناقُضات المُثيرة في أمخاخنا بالمقارنة بأنماط الرئيسات. لنا بوجهٍ عامٍّ أن نتوقَّع أن تكوينات المخ وثيقة الصلة بشكلٍ مباشر أكثر أو مُعتمدة على منظوماتٍ طرفية، وأن من الضروري أن تكون الأكثر تقييدًا من حيث الحجم حتى تتلاءم معها، ولنا أن نتوقَّع أيضًا أن الأكثر تشابُكًا في الوصلات العصبية المنقولة من الأطراف أن تكون الأقل تقييدًا في التنافُس من أجل فضاء عصبي.

ومنذ أكثر من قرنٍ وعلماء التشريح العصبي عاكفون على تجميع ومقارنة المعلومات بشأن أحجام تكوينات المخِّ في الأمخاخ البشرية وغير البشرية، ولكن لم يتوفَّر فهم كافٍ للكيفية التي تتفاعل بها عمليات النمو وظواهر المُنافسة التنموية لإنتاج هذه النتائج الكمية، ولذلك فإن تفسيرات هذه المعلومات غالبًا ما لم تعبأ بالوسائل التي يُمكن أن ترتبط بها فوارق الحجم النسبية على جميع المستويات، والنتيجة أنهم تعاملوا مع تطوُّر المخ باعتباره نوعًا من البِنية الفُسيفسائية؛ حيث بحثوا التغيرات في الأجزاء المختلفة باعتبارها مُستقلة بعضها عن بعض. وإذا تبين لهم أن إحدى التكوينات مُتضخمة ظنُّوا أنها أضحت أكثر أهميةً أو أنها مُعالج أكثر قوةً للمعلومات، ولكن مثال استزراع مخ القرد العملاق Gigantopithecus يفيد بأن التغيرات البنيوية المحلية يمكن أن تكون نتائج تنموية لتغيراتٍ كبيرة الحجم والتأثير في حجمٍ نِسبي للمخ والجسم، ومن ثم يمكن ألا تكون حالات تكيُّف مُستقلة حتى وإن أثر الجميع في العمليات العصبية.
ولنتأمَّل معًا قشرة المخ البصرية كمِثالٍ لهذا الرابط بين تأثيرات الحجم الكُلي والمحلي، ولنذكُر أن رالف هولوواي عالم أعصاب مُتعضِّيات عصور ما قبل التاريخ paleoneurolygist بجامعة كولومبيا كان من أوائل الباحِثين الذين لحظوا أن نسبةً صغيرة غير متوقَّعة في قشرة المخ اليُسرى تخصَّصت للرسائل العصبية البصرية،٩ وعلى الرغم من أنه ليس صغيرًا بالمعنى المُطلَق فإنه بالمقارنة بمساحة القشرة المُخيَّة البصرية في العديد من الرئيسات الأخرى، فإنه أصغر ممَّا كان متوقعًا لمخِّ إحدى الرئيسات التي تعادل ضخامة المخ البشري، وهكذا. وإذا توسعنا في تطبيق المثال مع تصويبه حسب حجم المخ البشري الكبير، فإن قشرة المخ البصرية الأولية فينا يبدو أنها تشغل سطحًا أقلَّ مساحةً مما كان يمكن أن تشغله في مخ القرد العملاق، وعرض هولوواي هذا كدليلٍ يؤكد أن المخ البشري لم يؤدِّ إلى تطوُّر حجمٍ زائد فقط، بل أصبح كذلك منظمًا على نحوٍ مختلف، ولكن هل يفيد هذا بشكلٍ ما بأن الإبصار أصبح أقلَّ أهمية، أو أن مناطق أخرى غير بصرية أصبحت أهمَّ من هذه وشغلت فضاءً أكبر في ماضينا التطوري؟١٠
إن المثال الخيالي عن تجربة استزراع مخٍّ غريب يزوِّدنا بوسيلة أخرى للنظر إلى هذه النِّسَب، ولنتأمل العلاقات المتداخلة بين العينين والتكوينات البصرية التي تمتدُّ إليها، إن كلًّا من النواة الجانبية الشبيهة بالركبة التي تستقبل مدخلاتٍ مباشرة من الشبكية، والمساحة ١٧ من قشرة المخ التي تستقبل مُدخلات النواة الجانبية الشبيهة بالركبة المحوَّلة من الشبكية أصغر بدرجة كبيرة مما هو مُتوقع في مخِّ إحدى الرئيسات التي بلغت النسب البشرية، وسبب ذلك أن أحد القِرَدة العُليا الذي حقَّق نسبًا عالية للغاية؛ بحيث يحمل مثل هذا المخ الضخم لا بد أيضًا أن تكون له عينان أكبر كثيرًا مما هي الآن؛ إذ إن عدد الرسائل العصبية البصرية الواصلة إلى المخ يتعيَّن أن تكون أكثر وأعظم مما هو حادث بالنسبة لشبكية العين البشرية. ونلحظ في القرد العملاق الخيالي أن نِسَب هذه التكوينات البصرية متلائمة مع مدخلاتٍ أقل نسبيًّا ومناسبة أكثر للشمبانزي العادي أكثر منها لنِسَب القرد العملاق، ويمكن تقديم حجةٍ مُماثلة بشأن أجهزة التحليل البصري البشرية. وجدير بالذكر أن قشرة المخِّ البصرية لدينا ليست صغيرة بالقياس إلى حجم المخ البشري؛ بسبب قلَّة أهمية الإبصار، وليس بسبب الإضافة المُستقلة لمساحاتٍ أخرى غير بصرية إلى قشرة المخ. إن المخ البشري ليست به قشرة بصرية مُخفضة، بل لديه الكمية الملائمة لقشرة مخٍّ بصرية خاصة بشبكية العين (انظر شكل ٧-٨).
وثمة نمط مُماثل يميز المنظومتَين الحركية واللمسية بخصائص مُحددة. القشرة المخية الحركية الأولية مرتبطة على نحوٍ وثيق بالجانب الطرفي، ولكن عن طريق وصلات مُصدِّرة (مخرجات) وليست مورِّدة (مدخلات)، ويلاحظ أن حدود هذه المنطقة من قشرة المخ مُحددة المعالم بوضوح في القطاعات المجهرية بفضل وجود خلايا عصبية للمُخرجات وضخمة على نحوٍ غير عادي، وتتمركز في الغشاء الخامس من بين الأغشية الستة لقشرة المخ، وتُسمَّى هذه خلايا بتس Betz Cells، والعامل المُقيد الذي يُحدد كم عدد خلايا بتس في قشرة المخ الحركية، ومن ثم يُحدد حجمها الإجمالي، ربما يكون عدد الوصلات الطويلة المحورية العصبية المباشرة، التي يمكن أن تتأسَّس بخلايا عصبية حركية أولية في القرن البطني ventral horn للنخاع الشوكي، وهكذا فإن عدد الخلايا العصبية الحركية للنخاع الشوكي يُحددها بدورها منافستها من أجل الألياف العضلية، وإن هذه المنافسة الطرفية بين المحاور العصبية الحركية ربما نفهمها على نحوٍ أفضل من تلك التي تقع داخل الجهاز العصبي المركزي. ومثلما شاهدنا في مُستهل هذا الفصل فإن هذا يُفضي إلى أمرَين: انحسار الرسائل العصبية المتفوقة عدديًّا، وكذا اندثار بعض خلايا النخاع خلال عملية التلاؤم بين أعداد الخلايا العصبية مع عدد ألياف العضلات أثناء مرحلة النمو الباكرة (انظر شكل ٧-١ والمناقشات سالفة الذكر). وجدير بالذكر أن الدراسات عن المنظومة الحسية الطرفية الأخرى التي تم إثباتها منذ الولادة تفيد بأن هذه الظاهرة سوف تتلاءم مع المسار مباشرةً، وأن حجم المنطقة الحركية لقشرة المخ (كما تحدَّدت عن طريق خلايا بيتس) سوف تتحدَّد بدورها على نحوٍ غير مباشر بفضل إنتاج ألياف عضلية جنينية،١١ كذلك فإن الخلايا في المناطق الأولية اللمسية والحركية والبصرية في قشرة المخ ما هي إلا وصلة شبكية واحدة synapse أُزيلت من التمثيلات الطرفية المُقابلة، كما أن نويَّات المهاد المقابلة لهاتَين المنطقتَين الحسيتَين ليست سوى وصلةٍ شبكية عصبية واحدة أزيحت؛ لذلك لا غرابة إذ تكونت هذه التكوينات بين الحجم الأكثر ملاءمةً لوصلاتها الطرفية والأكثر تقلصًا بالنسبة إلى التوقعات النمطية لحجم المخ (شكل ٧-٨).
لذلك فإن وجود مخ أكبر في جسم له الحجم نفسه سيكون مخًّا مختلفًا جدًّا ولكنه سيكون مختلفًا من حيث إمكانية التنبؤ، كما أن الأسباب التنموية لذلك ونتائجه سيكون من غير الصعب تتبُّعها وصولًا إلى تغيُّرات في بِنية ونِسَب الجسم، إن الأحجام النسبية لتقسيمات المخ الوظيفية مُحدَّدة في إطار منافسةٍ منهجية من أجل فضاءٍ لها، ومدفوعة في النهاية بقيودٍ طرفية وتحوُّلات في النِّسَب والتناسُبات القطاعية التي تحدَّدت خلال الفترة الباكرة لنشوء وتكون الجنين، وهذا لا ينفي النتائج الوظيفية والتكيفية لتكوينات المخ المُتضخمة أو المُتقلصة بشكلٍ فردي، ولكنها مع ذلك تُجبرنا على أن نفهم مثل هذه التبايُنات الخاصة بالحجم في ضوء نتائج شاملة للمنظومة كلها؛١٢ إذ إنها ليست حالات تكيُّف منعزلة؛ إذ مع وجود منظوماتٍ مُخصصة طرفيًّا للمدخل والمخرج تحشد «فضاء» لشبكات التوصيل العصبي أقل مما هو متوقَّع في مثل مخٍّ ضخم كهذا لإحدى القِرَدة العُليا لا بد من وجود بعض المنظومات الأخرى تنتظر لتستفيد بدلًا منها، وإن تلك النويات ومناطق قشرة المخ — التي تستقبل قليلًا أو لا شيء من المُدخلات الواردة في التكوينات العصبية الطرفية — سوف تنتظر أن ترث فضاءً زائدًا؛ لأنها معزولة نسبيًّا عن القيود الطرفية.
fig30
شكل ٧-٨
شكل ٧-٨: الحيود الكمِّي لمساحات مناطق قشرة المخ البشري كدالةٍ للأحجام المتوقعة لمخٍ نمطي لإحدى القِرَدة العُليا خاصةً بحجم مخ بشري (يُماثل هذا دراسة المخ لإحدى القِرَدة العُليا التي تزن ١٠٠٠ رطل: حجم مُمكن لإحدى الرئيسات إذا افترضنا أن له مخًّا معادلًا لمخٍّ بشري، ولكنه ملائم للنهج النمَطي للمخ والجسم للقردة والقِرَدة العُليا)، يلاحظ أن الكثير من البيانات ناقصة وغير كافية لعمل اختباراتٍ إحصائية، ولكن بالنسبة لمناطق قشرة المخ القبجبهية والقذالية occfipital، فإن القيم منحرفة بنسبة كافية والبيانات مُكتملة بدرجةٍ كافية؛ لكي نعرف أن هذه التكوينات مختلفة إلى حدٍّ كبير من حيث الحجم المُتوقَّع. ويوضح الشكل نمطًا كليًّا شاملًا لهذه التغيرات في النسبة والتناسب، ونلاحظ أن التكوينات ذات الروابط الطرفية المباشرة نسبيًّا (من العينَين والأنف وحواسِّ اللمس والعضلات)، تميل إلى أن تكون مضغوطةً من حيث الحجم بسبب حجم هذه المصادر أو الأهداف (التي تتناسَب مع الجسم)، وتفتقر منطقة قشرة المخ القبجبهية prefrontal cortex إلى الوصلات الطرفية المباشرة كما هو حال المناطق السمعية والجدارية parietal areas التي لم تتوفر المعلومات بشأنها، ونلحظ هذا النمط أيضًا بالنسبة لنويَّات التحويل relay nuclei بين هذه المناطق والمنطقة الطرفية، وهكذا فإن قشرة المخ البشري تعكس ظواهر إبدالية مُهمة بسبب التغير في نِسب وتناسُب المخ/الجسم في تاريخنا التطوري.
وتبدو بين مناطق قشرة المخ وكأنها قشرة المخ القبجبهية قد ورثت نطاقًا إضافيًّا في المخ البشري، ربما من المناطق الحركية المجاورة التي تقلصت. وتفيد بعض الاستقراءات المتناثرة المأخوذة عن مصادر معلومات مستقلة (انظر شكل ٧-٩) أنني ذهبتُ في تقديري إلى أن قشرة المخ القبجبهية تكاد تقريبًا تكون ضعف الحجم المتوقَّع في مخ إحدى القِرَدة العُليا التي تعادل حجمنا،١٣ ولعل هذه المنطقة هي الأكثر انحرافًا من أي منطقة ضخمة في المخ (البصلات الشمية ربما تكون متقلِّصة بنسبة انحراف أكبر)، ولقد كان حجم هذا التوسع للفصوص القبجبهية prefrontal lobes كبيرًا، بحيث إن الباحثين عرفوه منذ أواخر القرن التاسع عشر تأسيسًا على مقارناتٍ إجمالية بين أمخاخ وجماجم بشرية وغير بشرية. وإذا شئنا تكوين فكرةٍ عن مقارنة هذا بالمنظومات التي تحدها التمثيلات الطرفية، علينا أن نُدرك أنها تقريبًا أضخم بستةِ أمثالها من قشرة المخ القبجبهية للشمبانزي، هذا على الرغم من أن أجسام البشر والشمبانزي متقاربة تقريبًا، وتستقبل قشرة المخ القبجبهية فقط معلومات محوَّلة عن طريقٍ غير مباشر من منظومات طرفية، ويأتي أكثرها عبر وصلاتٍ من مناطق أخرى من قشرة المخ، وترِد مدخلات المهاد من نوياتٍ تستقبل معلومات المخ الأوسط الطرفية والظهرية التي تتلاقى معها إشارات إثارية وتوجيهية، وتصدر كل هذه المدخلات من تكوينات المخ التي كانت جزءًا من مناطق المخ التي تمدَّدت في الفترة الجنينية؛ لذلك لا غرابة أن تكون قشرة المخ القبجبهية بين الأقل تقييدًا من حيث الحجم، وعلى الرغم من أن هذه الزيادة النسبية في الحجم هي نتيجة غير مباشرة لهذه العمليات الكثيرة المتنافسة عند تلاقيها أثناء النمو، فإنها مع ذلك تسهم في واحدة من أهم التحولات وأكثرها تأثيرًا في وظيفة المخ البشري بالمعنى المحض لها بالمقارنة بالأنواع الأخرى.
fig31
شكل ٧-٩
شكل ٧-٩: قياسات وأبعاد قشرة المخ القبجبهية عند البشر، واستخدمنا في تقديرها مجموعاتٍ من المعلومات المُستقلة وتم تصويبها لمُصطنعات جزئية/كلية.
(A) قياس سطح قشرة المخ القبجبهية بالقياس إلى السطح المُتبقي من قشرة المخ، ويوضح القياس في ضوء الاتجاه الذي استقرأناه من قردة وقردة عُليا أن النِّسب البشرية شاذة (البيانات من برودمان ١٩١٢م).
(B) تفاوت النسب البشرية في قشرة المخ القبجبهية بالقياس إلى قشرة المخ الحركية المجاورة (البيانات من بلنكوف وجليزر ١٩٦٨م)، ومقارنة بالاتجاه المَبني على أساس استقراءات من قِردة عُليا أخرى والبابون.
إذن، وفي ضوء كل ما سبق، نجد أن مثال استزراع مخ الشمبانزي العملاق Gigantopithecus يقدم لنا نموذجًا معقولًا لنوعٍ مُغاير من نِسَب بنية المخ البشري، ولكن لا المخ في إجماله ولا الدماغ الأمامي إجمالًا تضخَّم عند البشر، وإنما فقط الأجزاء الظهرية من الدماغ الأمامي (كما عرضنا في الفصل الأخير)، وهكذا فإن الآثار الواقعة على تنظيم التوصيلات أكثر تعقدًا إلى حدٍّ ما من تلك التي تصوَّرَتها تلك التجربة الخيالية. ونلاحظ أن الاختلاف في حجم الدماغ الأمامي الظهري عند البشر عن الدماغ الأمامي البطني قد أدَّى إلى تحول أنماط التوصيل بطرقٍ مختلفة جذريًّا عن أمخاخ الأنواع الأخرى. وتبين أن هذا أمر حاسم من أجل فهم قَسَمتَين من أهم القَسَمات المحورية في مجال تكيُّف اللغة البشرية: القدرة على الكلام، والقدرة على تعلُّم الترابُطات الرمزية، وأخصُّ بالذكر هنا أنني سوف أدفع بأن القدرة على إنتاج تلفُّظات ماهرة يمكن تتبُّعها وصولًا إلى تغيراتٍ في الرسائل العصبية الحركية motor projections إلى المخ الأوسط وإلى ساق المخ، بينما القُدرة على التغلُّب على مشكلة تعلُّم الرمز يمكن تتبُّعها وصولًا إلى تمدُّد منطقة قشرة المخ القبجبهية وتميز رسائلها العصبية projections خلال المنافسة على الوصلات الشبكية العصبية في كلِّ أنحاء المخ. وسوف نناقش تفصيلًا في الفصلَين التالِيَين النتائج الوظيفية لهذه الآثار الإحلالية، ولكن قبلَ عرْضِ رأْيِنا بشأن هذه القضايا نحتاج إلى التفكير في عجالةٍ بشأن بعض المشكلات العامة المَعنية بتفسير العلاقة بين حجم ووظيفة المخ وهي المشكلة التي صادفناها في الفصل السابق.

بعيدًا عن فراسة الدماغ

هذا النهج التنموي في دراسة تشكُّل المخ يُضفي معنًى جديدًا على النظرية الكلاسيكية المعنية بعلاقة بِنية المخ بالوظيفة: مفهوم «الكتلة الملائمة proper mass»، وكما رأينا في الفصل السابق، فإن مفهوم «الكتلة الملائمة» يجري استحضاره عادةً مع فرضٍ يقضي بأن تكوينات المخ الأكبر حجمًا هي أجهزة تحليل أكثر قوةً أو أجهزة تخزين أوسع مساحةً من الأمخاخ الأصغر حجمًا؛ لذلك فإن وجود منطقة سمعية أكبر قياسًا يمكن أن يفيد بأن صاحبها يتمتع بطاقةٍ أكبر لتحليل الصوت وحاجة أكثر كثافة لتحليل الصوت داخل موطنه، ونلحظ أن منظور «الأضخم أقوى» جرى تطبيقه على مستوى التحليل الكلي والجزئي للمخ، ونذكر، للحقيقة، أن التفسير الجزئي ربما كان هو الأقدم؛ إذ كان الأساس لإحدى النظريات الأولى عن الوظائف المُتمركزة محليًّا في المخ — فراسة الدماغ phrenology — التي اقترحها فرانز جوزيف جول مع مَطلع القرن التاسع عشر؛ إذ ذهب جول وتلميذه سبورزايم في تفكيرهما إلى أنَّ شكلَ المخ والآثار الناجمة عن إصابةٍ محلية في المخ تعني أن وظائف المخ مُنظمة في مراكز محلية، وافترض أيضًا أن هناك بالضرورة فوارق فردية في بِنية المخ تتوافق مع الفوارق في المواهب والاستعدادات وغير ذلك من سِمات شخصية، وقال: إن هذا كله ينعكس بالضرورة في الأحجام النسبية للمراكز المُقابلة لها الخاصة بهذه الوظائف، مثال ذلك أن البشر الجشِعِين لديهم مركز ضخم للنَّهَم في الاكتساب، وأن الموسيقيين لديهم مركز ضخم نسبيًّا للموسيقى، وهكذا. وأفضى هذا إلى التنبؤ بأن شكل الدماغ يعكس حالاتِ تضخُّم أو تقلص تشكل أساسًا للمراكز المختلفة. ودفع هذا علماء الفراسة إلى تجميع الأدلة المؤيدة لنظرياتهم عن طريق دراسة أنماط التكوين الهندسي للجمجمة، وعلى الرغم من أن اختيار جول للوظائف التي يعزوها لمراكز المخ تبدو مُثيرة للدهشة من منظورٍ حديث فإن المنطق الذي تأسَّست عليه النظرية ما يزال على قيد الحياة ونافذًا.

واضح أن هذه الأفكار المُستمدة من إطار مفاهيمي خاص بفراسة الدماغ تتناقض إلى حدٍّ ما مع المعلومات التنموية التي تُفيد بأن حجم بِنية المخ للفرد لا يتحدَّد بمعزل عما حولها؛ إذ إن كلًّا من عمليات الملاءمة بين المركز والأطراف ونتائج المنافسة بين منطقةٍ وأخرى لهما دور في موازاة عمليات أولية لإنتاج خلايا أكثر شمولية، إن شبكية للعين أضخم حجمًا أو سطحًا للاستقبال اللمسي، الذي يتلقَّى إمدادًا عصبيًّا أكثر كثافةً، يتطلبان شبكةً أضخم؛ ضمانًا للمساواة والتعادل في ضوء معالجة المعلومات، كذلك فإن المحاور العصبية المسئولة عن الإمداد والتوصيل سوف تتنافس في تناسُبٍ مع أعدادها مع عمليات الإمداد العصبي في فضاء شبكات التوصيل التي تتوافق مع تلك الحاجة إلى المعلومات. ويمكن التوسُّع في تطبيق هذا القياس التقريبي؛ بحيث يشمل مناطق أخرى في المخ غير المرتبطة مباشرةً بالأطراف، هذا على الرغم من أن التحليل سوف يتعقَّد بسبب شلَّال من التأثيرات الوافدة من مصادر مختلفة كثيرة.

إن منطق العمليات التنموية التي تُحدد أحجام بِنية المخ يمكن أن تُقدم بعض الدلائل الأولية بشأن النتائج الوظيفية المُترتبة على ذلك، وحيث إن عمليةً شِبه داروينية في نموِّ المخ تُحدد الأحجام النسبية للمناطق الوظيفية في المخ وأنماط اتصالها، فإن لدينا ما يُبرر القول بأنه سوف تتمخَّض عن ذلك نتيجة وظيفية شبه داروينية، ويتحدَّد تزويد المخ بشبكة الاتصال بفضل تفاعل المعلومات التي تَصِله عبر وصلاته؛ بحيث إن طريقة تحليل المعلومات تنعكس في النهاية في طريقة تصميم مناطق المخِّ بفضل هذا النشاط، وهذه عملية انتقائية تنافُسية، وهي نوع من عملية تطوُّرية محلية سريعة حسب مِقياسٍ مجهري (ميكروسكوبي). ويبدو مفهومًا هنا أن نتوقَّع أن التأثير الطرفي للتغيُّرات حسب درجة نسبية داخل المخ سوف تترتَّب عليه نتيجة انتقائية تنافُسية تؤثر في الوظيفة، وإن التضخُّم النسبي لتكوينٍ ما بالقياس إلى غيره يُمكن أن يهيئ للأكبر نوعًا من الميزة التنافسية في المعركة لتحقيق نفوذٍ على النشاط المُستهدف لشبكات التوصيل العصبي، أو لِنقُلْ بعبارةٍ أخرى: إذا حدث وتضخَّمت إحدى تكوينات المخ نسبيًّا بالقياس إلى أخرى، فإن هذا سوف يأخذ شكلَين: إحلال الوصلات أثناء النمو، وإحلال التأثير الحسابي في سن البلوغ بالنسبة إلى المدخلات الأخرى المنافسة الوافدة من تكوينات المخ الأخرى، وإن المزيد من المدخلات يعادل مزيدًا من الأصوات المؤثرة في الناتج الحسابي.

وعملية التقسيم هي لعبة الكل أو صفر؛ إذ حينما يُصبح تكوينٌ ما متضخمًا جزئيًّا فإن الآخَر يتقلَّص، وإذا طبَّقنا هذا المثال على الوظائف الإدراكية، فإنه يُفيد بأن التحوُّلات في النِّسَب والتناسُب بين الأطراف سوف تُترجَم إلى مُستبدلات وظيفية. ونلحظ هنا أن فئة الحسابات العصبية — التي تدعمها منطقةٌ متضخمة — سوف تنزع إلى أن يكون تأثيرها على المُخرجات الكلية الأخيرة أكثر من التأثير الذي تدعمه المنطقة التي تقلصت، وهذه الحجة تحمل بعض عناصر التماثل مع بعض تأثيرات إصابة المخ؛ إذ حينما تُصاب بِنيةٌ ما، فإننا لا نرى فقط فقدانًا لوظيفة، بل نرى أيضًا وبالحتم كسبًا لوظيفة — وإن لم يكن تحسنًا — في صورة سلوكياتٍ «طليقة» تبدو أنها انطلقت من عقالها نتيجة إزاحة نفوذ تنافُسي، ونجد أن ظاهرة الحجم إما صفر أو الكل قد أفادت بها أيضًا دراسات عن نتائج الفوارق الكمية وتأثيراتها في الوصلات، مثال ذلك اختلاف عدد ومدى الألياف المُمتدة بين تكوينَين رئيسيين في قرن آمون١٤ (بنية طرفية تشارك بقوة في دعم أنواعٍ مُعينة من الذاكرة)، التي تتوافَق مع أنماطٍ عكسية لحالات تحسُّن أو إعاقة التعلُّم لمهام تكميلية (مثل متاهة التعلُّم مقابل تجنُّب التعلم سلبيًّا)، ونلحظ أن الفوارق في الحجم النسبي لقرن آمون بالقياس إلى بقية المخ قد ارتبطت على نحوٍ مُشترك بسلوكيات الطيور لإخفاء الطعام وقُدرتها على تذكُّر عددٍ كبير من أماكن الإخفاء في الاختبارات. وإذا كان هذا أيضًا يعكس عملية استبدال، فإن لنا أن نتنبَّأ بأن الأنواع التي لديها قرون آمون أصغر حجمًا نسبيًّا، سوف تتفوَّق في أدائها عن نظيراتها لتخزين الطعام، وذلك في مهام أخرى تكميلية تعتمد على الذاكرة. بيد أنني أعتقد أن هذا موضوع لم يحظَ بالدراسة بعد.

ولكن منطق صفر-الكل هذا الذي ينطبق على عمليات التقسيم في النمو، ينطبق أيضًا على عمليات النضج وكِبر الحجم الذي يدخل في الموضوع أيضًا، وله أهمية خاصة لتمدُّد المخ البشري. وجدير بالذكر أن النمو الفارق يُغير سياق المنافسة الوظيفية والتقسيم، ولذلك فإن فئاتٍ مُعينة من الوصلات — تلك التي لها وصلات مدخلات ومخرجات إلى مناطق متضخمة أخرى — تُحقق ميزةً تنافُسية في منافسةٍ غير عادلة؛ إذ تكون المنافسة بالنسبة لها أقل حدةً واللعبة تدور لصالحها. وهكذا فإن التفسير التنموي الذي قادنا إلى افتراض تفسيرٍ وظيفي عن علاقات الحجم لا يمكن أن ينطبق بدقةٍ على هذه المنظومات، أو لنقُلْ بعبارات النمو: إن هذه التغيرات هي آثار إضافية سابقة على ومستقلة عن عمليات التقسيم التنافسية، ولكن لنا أن ندفع بالمِثل بأن مجالات الحشد الأضخم تعكس قدرًا من التقسيم التنافُسي «الافتراضي»؛ إذ يبدو وكأنها تجمَّعت بواسطة امتدادٍ لمدخلات كثيفة، أو صادفت دعمًا من جانب مُخرجات كثيفة مُستهدفة من الخارج، على الرغم من أن الحقيقة ليست كذلك. ويمكن القول من منظور تكيفي: إن مصدر الانحياز التنافُسي غير وثيق الصلة، وطبيعي أن النسب النهائية للوصلات هي التي ستُحدِّد الوظيفة.

وإعادة صياغة مشكلة الوظيفة الخالصة مقابل الوظيفة الكلية الإجمالية لمناطق المخ المختلفة على هذا النحو يزوِّدنا بأداةٍ جديدة للتفكير بشأن النتائج الوظيفية لتكوينات المخِّ البشري المُتضخم وفقًا للنِّسب المُلائمة، ولكن لا يكون هذا تأسيسًا على فهم أنها «أقوى» من الحواسب، بل تأسيسًا على، وهو الأصوب، تحوُّل ميزان المؤثرات الحاسوبية في المخ إجمالًا: فارق الحجم كمصدرٍ للانحياز الإدراكي، ويبدو الأمر وكأن حصة البنية المُتضخمة من حمل المعلومات التي تُعالج قد زادت، وأنَّ قُدرتها على الحشد والهيمنة على الحسابات الجارية في تكويناتٍ أخرى قد زادت أيضًا، وأن المناطق التي تضخَّمت جزئيًّا في مخ الإنسان، سوف تميل في هذا الوضع إلى تغيير ميزان معالجة المعلومات نحو أنواع العمليات الحسية والحركية والذاكرية التي تُميز هذه التكوينات في الأنواع الأخرى.

صفوة القول: إن الطبيعة الداروينية لنمو الوصلات العصبية تفيد بتفسيرٍ جديد عن النتائج الوظيفية لقياس الأبعاد العصبية؛ إذ الوظائف سوف تتعدَّل في استجابةٍ إلى التغيرات في النِّسَب والتناسُب عن طريق نوعٍ من الإحلال الوظيفي لبعض الاتجاهات الحسابية وليس فقط مجرد زيادةٍ أو نقصٍ لقدرات وظيفية متمركزة محليًّا، وإذا تأملنا إحلال الوصلات التي تُمايز الأنواع ذات الأحجام المختلفة والنِّسَب الخاصة، وإحلال عملياتٍ حسابية ذهنية منافسة ناتجة عن ذلك إنما يُرغمنا على أمرَين: أن نوسع من نطاق — مع تعديل — الأفكار الكلاسيكية عن الكتلة الملائمة على النحو الذي طبقت به على بنية المخ، وأن نستقرئ تحليل علاقات الدائرة وتركيب أجزائها.

وتقدم نظرية الإحلال أدلةً تنبؤية قوية لتفسير دلالة الفوارق الكمية في بِنية المخ، ونخصُّ بالذكر أن نتائج الإحلال يمكن أن تساعد في الإجابة على السؤال المُشكِل المُثار؛ بسبب اختلاف النمو لدى فصيلة كلاب شيهواوا والرئيسات والبشر، متى وكيف نشأت وظهرت هذه التفاوتات في النِّسَب؟ وكيف توزَّعت في أجسام وأمخاخ هذه الأنواع المختلفة أثناء النمو؟ وكيف ترسَّخت وثبتت كجزءٍ من التكوين الشبكي العصبي في النهاية، ونعرف أن أمخاخ وأجسام كلاب شيهواوا تكبُر وفق النظام النمَطي للكلاب خلال المرحلة التي تُقسَّم فيها المنافسة بين شبكات التوصيل في المخ، ولهذا السبب لن تتباين أمخاخها كثيرًا من حيث التصميم عن أمخاخ الكلاب الأخرى، ولكن الرئيسات تَحيد عن مسار المخ/الجسم للثدييات الأخرى منذ بداية النشوء التكويني للجنين؛ ولذلك لا بد أن تحيد أمخاخها بوسائل مهمة أيضًا، كذلك فإن التغيُّرات الأولية في النِّسب والتناسُب داخل المخ البشري تتجلى واضحةً في مرحلة النمو، ومن ثم ينتج عنها حتمًا نمطٌ جديد لنسب وتناسُبات بنيوية باطنية، ثم تغير في المقابل في توزيع العلاقات الوظيفية. وعلى الرغم من أن عمليات الإحلال لم يتسنَّ بعد تحليلها في الأمخاخ البشرية فإن تفاصيلها يُمكن على الأقل التنبُّؤ بها في ضوء عمليات عامة مشهورة لنمو المخ، وسوف تكون هذه الاختلافات أفضل أدلة توضح المُتطلبات الوظيفية التي اختيرت لها، وإن النمط المُتغير الناتج عن هذا والخاص بتقسيم المناطق في المخ البشري يمكن تفسيره وكأنه منظومات مُتضخمة غارقة في مجموعةٍ جديدة كثيفة من المدخلات الطرفية، وهذه المدخلات ليست واردة من الأطراف، بل من الباطن نتيجة التحوُّلات في الخلايا العصبية في مطلع تكوينها، إنها استجابة تطورية لنوع من المدخلات الافتراضية مع زيادة في متطلبات المعالجة، ويفيد هذا بأن الفارق بين المخ البشري وغير البشري ربما يكون أكثر تعقدًا وتعددًا من مجرد كونه زيادةً محضة في الخلايا العصبية الزائدة عن المعدل المُعتاد لدى الرئيسات أو الثدييات. ولعلَّ البحث — عائدين إلى الماضي — بدءًا من تغيُّرات المخ المشار إليها إلى التحوُّلات في الوظيفة يُهيئ لنا أفضل أملٍ لاستحداث نموذج يوضح ويكشف أي أنواع المدخلات الافتراضية هي التي كانت مسئولة عن هذه التغيُّرات في المحل الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥