المخ المُتكلم
الصمت عميق عمق الأبدية، والكلام ضحل ضحالة الزمن.
مخ هوفر
ذات مساء في منتصف الثمانينيات كنت وزوجتي عائدين من رحلةٍ بحريةٍ مسائية حول خليج بوسطن، وقررنا أن نتمشى قليلًا قبالة البحر، مررنا أمام معرض يوسطون للأحياء المائية حينما سمِعنا صوتًا أجشَّ يصرخ «أنت هناك! أنت هناك! اخرج من هنا.» ظننَّا أننا أخطأنا الطريق وطوَّفنا في مكانٍ محظور، توقفنا والتفتنا حولنا؛ بحثًا عن حارس أمنٍ أو أي موظفٍ آخر، ولكن لم نر أحدًا، ولم نجد أي علامة تحذير، صرخ الصوت عاليًا للمرة الثانية «أنت هناك … أنت هناك.» بدا الصوت الآن وكأنه صادر عن لسانٍ ثقيل، ربما كان صوت إنسان ثمِل مُتشرد نصف واعٍ قابع في أحد الأركان المعتمة، تكرَّرت الكلمات مرةً ثانية وثالثة، وبحثنا بعيوننا عن مصدرها، وأخذنا نُنادي ولكن لا إجابة سوى تكرار الأوامر، وبينما نحن نتتبع الصوت وجدنا أنفسنا نقترِب من مسبح مُسيَّج بالزجاج أمام المعرض المائي؛ حيث توجَد ثلاث فقمات (عجل البحر) تستعرض ألعابها، لا حارس، ولا سكير، ولا أحد يهوى المزاح، وإنما فقط الفقمات، وأرجعتُ — وفي نفسي بعض الشك — مصدر الأمر إلى عجل بحرٍ كبير مُمدد رأسيًا في الماء ورأسه يشرئبُّ إلى الخلف وإلى أعلى، وفمه مفتوح قليلًا ويدور حول نفسه ببطء، ها هو عجل بحر يتكلم، لا يُكلمني أنا، بل يكلم الهواء، ويتجه كلامه عرضًا إلى أي شخصٍ قرب الشاطئ يعبأ بالإنصات إليه، ربما كانت دعابةً بينما شخص مختبئ بالقُرب من المكان، توقفتُ زمنًا طويلًا أحاول أن أكتشف الحيلة، وتوقعتُ أن أكتشف السر ويتبيَّن لي أن عجل البحر هذا دمية من النوع الذي يتكلَّم من بطنه، وشريك عن غير قصد مع شخصٍ ما مُختبئ في الظلال ويضحك لسلوك المارة، ولكن تبين أن لا صوت على الإطلاق حين يغوص تحت الماء أو إذا أغلق فمه، فضلًا عن لا مكان هنا أو هناك لاختباء شخصٍ آخر يتكلم، ورغبةً منِّي في التأكد طلبتُ في الصباح التالي بالهاتف المسئولين في المعرض المائي.
قيل لي: «آه، نعم. هذا هوفر، عجل البحر الذي يتكلَّم عندنا، لقد أصبح النجم الذي ينجذِب إليه الناس.» لزمتُ الصمت مذهولًا، كيف لم يكن هذا حديث المدينة، هل عُنيَ علماء بدراسته؟ هل القدرة على تدريب عجول البحر على الكلام عادة شائعة بين الناس دون العلماء؟ وحين جمعتني الظروف مع طاقم العاملين المسئولين عن الحيوانات عرفتُ منهم موجز قصة حياة هوفر، عرفت أن صيادًا من بلدة مين عثر عليه وهو جرو يتيم مريض وأخذه معه وتولَّى رعايته إلى أن استعاد صحَّته، ونعرف أن عجول البحر تكبر بسرعة وتحتاج إلى كميةٍ هائلة من الطعام، إنه سرعان ما يلتهم كل شيءٍ سواء صاحبه في البيت أم خارج البيت، ولذلك سمَّاه على اسم المكنسة الكهربائية الشهيرة، ثم سرعان ما اختار له معرض الأحياء المائية في يوسطون ليكون مسكنًا يأوي إليه.
وبذل طاقم العاملين بعض المحاولات لدراسة كلام عجل البحر هوفر، كما بذلوا بعض الجهد لتدريبه على إخراج الأصوات مع توقُّعه بالحصول على السَّمك جزاءً لذلك، وعرفتُ أن هوفر جدير بأن يحظى بالاهتمام، ولم يحتج الأمر جهدًا طويلًا لإقناع طالبٍ بجامعة هارفارد ومعنيًّا بدراسة هذه الظاهرة الغريبة لدراستها معًا، وبدأنا، الطالب تي. إتش. كولهان وأنا، في تسجيل كلام هوفر على شريط فيديو وتسجيل سلوكياتٍ أخرى له لتحليلها فيما بعد، وظللنا على مدى عامٍ دراسي نتتبع ونُراقِب أنماط كلامه وسلوكه، متى يتكلم؟ أي شيءٍ آخر يفعله وقت الكلام؟ هل يتكلم مع عجول بحرٍ أخرى أو ناس أو أي شخص؟ وكيف يستجيب إلى جهود تدريبه؟ وتبيَّنَت لنا بعض الأنماط المُهمة، مثال ذلك أنه لا يتكلم كثيرًا أثناء موسم التزاوج على الرغم من أن ذكور عجول البحر الكبيرة تُسرف في الأصوات التي تُخرجها في تلك الفترة، ولكن كلامه يقلُّ بينما تزداد في هذا الوقت الأصوات العادية التي يُخرجها عجل البحر، ولم تكن تنقُصه ذخيرة أصوات عجل البحر العادية من نباح وخوار وصياح، ولم تكن استجابته للتدريب واحدةً تمامًا، ولم يقتصر الأمر على عدم تعلُّمه أي كلماتٍ أو عبارات جديدة، وأفادت معلوماتنا أن التدرُّب ربما كان سببًا جعلَه يزيد من معدل العبارات القصيرة ويُقلل من العبارات الأكثر تعقدًا، وربما كانت هذه طريقة هوفر لزيادة حصة السمك المُلقَى إليه، أو بعبارة أخرى: إن كلامه فيما يبدو لم يتشكَّل من مخارج مُعدلة لأصوات عجل البحر، بدا شيئًا مستقلًّا.
والسؤال: ماذا لو تم تعليم هوفر الكلام؟ نعرف أن عجول البحر (سباع البحر عادةً) يجري تدريبها على أداء حِيَل معقدة مع سهولة تدريبها على النباح عند تلقِّيها أمرًا بذلك، وعرفنا أن معرض الأحياء البحرية يضمُّ عددًا كبيرًا من خبراء التدريب، وقدموا ألعابًا مُثيرة للإعجاب لعجول البحر والدلافين، وإن لم يكن هوفر من بينها، ترى هل اهتدى هؤلاء المُدربون إلى طريقةٍ لتدريب حيلة جديدة؟ لا أظن ذلك، كان هوفر من نوع جديد. وإن الجهود المبذولة لتدريب عجول البحر الصغيرة على مُحاكاة الكلام لم تؤدِّ، في حدود معلوماتي، إلى إنتاج عجول بحر جديدة تتكلم، كذلك فإن مجرد الوجود حول الناس أثناء النمو من شأنه أن يجعل عجول البحر الأخرى تتكلَّم، وتبيَّن أن هناك أسبابًا وجيهة للشك في ذلك، وهذا هو ما جعل كلام هوفر مثيرًا للدهشة.
ولا ريب في أن كلام هوفر يستوجب سؤالًا: لماذا الثدييات الأخرى شديدة الضعف عند تعلُّم الأصوات؟ إنها حقيقة مثيرة للأنظار أن الثدييات الأخرى، فيما عدا بعض الدلافين والحيتان، قدراتها الصوتية محدودة جدًّا، نعرف أن الثدييات ضعيفة في تعلُّم إخراج أي أصوات جديدة، كما أن تصويتاتها الطبيعية أمْيلُ إلى أن تكون محدودة من حيث تبايُن الفواصل والتعقد، والملاحظ أنها لا تُقارب أغلب الطيور في ذلك؛ إذ يبدو أن الرصيد الصوتي للطيور أكثر مرونةً بكثيرٍ وتعتمد إلى حدٍّ كبير على تعلُّمها وتطويرها بشكلٍ طبيعي، وتتعلم طيور كثيرة لهجات تغريد محلية مُتمايزة وهي ما تزال فراخًا في العش، ولدى بعضها قُدرة على تعلُّم أنماطٍ صوتية معقدة. ويبدو أن البشر وبعض أنواع الدلافين وبعض أنواع الحيتان قادرة على تعلُّم ما هو أكثر من صيحات النداء التي وُلِدوا بها، ولكن حتى هذه الأنواع الأخرى الصائتة تتعلَّم وتستخدم تصويتاتها الجديدة بطُرُقٍ محدودة جدًّا، والأهم من ذلك أنه ليس مصادفة أن الثدييات الأخرى ذات القدرة الكبيرة على التصويت هي جميعها من رتبة الحيتان (مرتبة الثدييات التي تضم جميع الدلافين والحيتان)؛ لأنها لا تُخرِج أصواتًا بالطرق التي تتبعها الثدييات الأخرى، ويبدو أن إخراجها للأصوات يعتمِد على مرور الهواء عبر جيوبٍ خاصة تُفضي إلى منخريها اللذَين هما فتحتان أنفيتان مُعدلتان عند قمة الرأس، ولا تعتمد على ذبذبات الطيَّات الصوتية للحنجرة، وما تزال تفاصيل هذه الآلية الفريدة غير مفهومة بوضوح، ولكنها تشتمِل يقينًا على تكويناتٍ وعضلات لا مثيلَ لوظيفتها لدى الثدييات الأرضية أو حتى عجول البحر، ولكن كلام هوفر من الزَّور لا يخرج بالدقة مثل صوتنا؛ إذ يلزم أن يميل برأسه إلى الخلف ويفتح فمه مع حركةٍ بسيطة فقط بلسانه وشفتيه، مثل مُتدرب حديث العهد على الكلام ببطنه، وبذا يقول مقولته، ولا تشترك في هذا أي عضلاتٍ خاصة أو تكوينات صوتية، وربما تكون أقل كثيرًا مما نستخدِمه نحن عادةً لإخراج أصواتٍ مُماثلة، وهذا يجعل صوت كلامه مُدغَمًا غير واضح جيدًا، ولكن كل مَن يسمعه يُدرك أنه كلام ويحتاج الأمر إلى قليل من الخيال لفهمه.
إذن، لماذا تعجز غالبية الثدييات عن التغريد أو التحدث؟ ولماذا تسطيع الطيور؟ ولماذا نستطيع نحن ذلك؟ أي تداخُل وتشابُك بين الوصلات أو تحول مواضع التأكيد في الوظيفة العصبية أو الخبرة التنموية غير المسبوقة هي التي غيرت مخَّ عجل البحر سالف الذكر هنا ومنحته شذرةً مُستقلة من التفرد البشري، ما الكنز المَخفي في مخ هوفر؟
لقد كانت لقصة هوفر نهاية مأساوية — سواء لهوفر أو للعلم — إذ بعد أقلَّ من عام من تاريخ سماعي لأول مرة عن أخباره نفق هوفر، حدث ذلك في موسم تغيير الإهاب السنوي عندما حلَّ صيف تساقُط الفرو، وبذا أصبح عُرضةً لعدوى أمراض الجلد وغيرها من أحداثٍ خطرة، علمت آنذاك بأن هوفر نفق، وأن جسده سيجري تشريحه، وتم إرسال أجزاءٍ من هذا الصديق القديم الثرثار إلى حيث يجري تحديد سبب الوفاة، وفقدتُ منذ ذلك التاريخ دليلًا للكشف عن قدراته العجيبة في مخِّه، وأشار تقرير التشريح إلى أن هوفر نفق بسبب إصابته بعدوى، علاوة على هذا لحظ الأطباء البيطريُّون الذين تولَّوا فحص الجثة أثناء المُعاينة وجود درجةٍ عالية من الكلس في داخل الجمجمة، وربما ارتطمت بإصابةٍ باكرة بالتهابٍ في الدماغ أو أي إصابةٍ أخرى للمخ، ولم يحدث — في حدود علمي — أي تحليل آخر لمخ هوفر، واعتبر كلٌّ من الطبيب المسئول عن الفحص بعد الوفاة وجميع العاملين بالمتحف أن القضية أغلقت، نفق هوفر لأسبابٍ طبيعية، ولا لوم على أحدٍ بسبب الإهمال.
وتظل المسألة عندي مفتوحة للنقاش وغير محسومة، لا يُوجَد ما يفسر هذا الحادث الغريب سواء «صدقته أم لم تصدقه»، ترى هل ثمة إصابة ولادية أو إصابة وقعت له في سنِّ الطفولة أسهمت في وضعه الغريب، وأصبح على عتبة عالَم الكلام؟ هل كان كلام هوفر نتيجة بضع دوائر كهربية قصيرة في مخِّه ولا شيء آخر؟ وعلى الرغم من أن مخ هوفر لن يُقدِّم لنا إجابة على ذلك، هل من المعقول أن نرتاب ونظن أن حادثًا مأساويًّا وقع له، وأدَّى إلى تعديله على نحوٍ ما جعله موازيًا لأمخاخنا، يدفعنا هذا على الفور إلى التساؤل عما إذا كان ثمة جانبٍ مُشترك في تنظيم المخ مشترك بين جميع الأنواع التي تُصدر أصواتًا ملفوظة بوضوح؟ إذا كان ذلك كذلك، فلربما يزوِّدنا هذا بدليل إلى ما حدث سواء لهوفر وللإنسان الهومو سابينس.
الأصوات الحشوية
يقودنا هذا إلى أن سلوكيات التواصُل على نطاقٍ واسع من أنواع الفقريات بما في ذلك أفراد كل الفئات من الأسماك إلى الطيور وإلى الثدييات، إنما هي تواصُلٌ ينسرِب عبر ممرٍّ نهائي مشترك مؤلَّف من تكوينات في المخ الأوسط المركزي وساق المخ. ويعتبر المخ الأوسط هو منطقة عبور بين ساق المخ والدماغ الأمامي، إنه النقطة الأولى الصاعدة من النخاع الشوكي؛ حيث الحواس بعيدة المدى والإبصار والسمع تتَّحد معًا وتتكامل مع معلوماتٍ عن اللمس والحركة، ونتيجةً لذلك نجد أن تكويناتٍ من المخ الأوسط تزوِّد وبقوةٍ الطبقة الأولى من التحكُّم السلوكي المُعقد، ويؤلِّف هذا — مع البرامج السلوكية المُدمجة في تكوينات المخ الأوسط — ما يمكن أن نُسميه «المرتبة الأعلى» أو «المستوى الثاني» للأفعال المنعكِسة، وتشتمل هذه على تشكيلةٍ متنوعة من الاستجابات التلقائية للتتبُّع والتوجيه للحواس علاوة على توحُّد حركات الرأس والجسم لدعم هذه العمليات التلقائية.
ولا غرابة في أن السلوكيات التي توصل حالات الإثارة والحالات الوجدانية في الغالبية العُظمَى من الفقريات تعتمد على هذا المركز الموجود في قلب المخ الأوسط، والملاحظ أن غالبية إشارات التواصل المتولدة عن الحيوانات، سواء صوتية أو غير صوتية، مقترنة بالمنظومات الحسية/الحركية في الرأس، وتعتبر الدماغ مصدرًا حاسمًا للمعلومات عن اتجاه نوايا الحيوان والاستعداد الحركي والحالة الوجدانية، مثلها في ذلك مثل «الدرع» المتحرك المثبتة عليه جميع أعضاء الحسِّ بعيدة المدى، وكذا الحامل في أغلب الأحيان لبعض الأسلحة «الاجتماعية» الأشد تخويفًا (مثل الأسنان والقرون). وجدير بالذكر أن مثل هذه المؤشرات المهمة عن استعدادات الكائن حاليًا ومستقبلًا، تُعتَبر أجزاء حاسمة من المعلومات المُتاحة لأعضاء الجماعة التي ينتسِب إليها الكائن؛ لكي تُساعده على سلوكيات جمعية غير مباشرة، ونظرًا لأن المخ الأوسط وساق المخ يقعان على رأس النخاع الشوكي، فإنما يعتبران المحل الهندسي لمنظومات المدخلات-المخرجات للدماغ، ومن ثم لا غرابة إذ نجد لها دورًا لأداء وظائف اتصالية حاسمة.
وتُوجَد أسباب أخرى لملاءمة دفق الهواء عبر الحنجرة، نذكر من ذلك انقباض ممرِّ الهواء بدرجةٍ كبيرة أو أقل أثناء أساليب التنفُّس المختلفة، وهكذا يمكن تعديل الضغط داخل الرئتَين، وهذا من شأنه أن يؤثر في عملية الأكسدة في حالة الإجهاد، وكذلك في حالة التصلُّب المعتدل للجسم في تزامُن مع الأنشطة الحركية التي تحتاج هي أيضًا إلى استخدام عضلات الجسم.
وإن هذه المشكلات الخاصة بتآزُر عمليتي البلع والتنفُّس وكذا ملاءمة ضغط الهواء تحت المزمار فرضت رابطةً قديمة بين التحكُّم الحركي لمِثل هذه العمليات. ونعرف أن المنظومات العضلية المُشتركة في عمليتي الأكل والتنفُّس تلقائية إلى حدٍّ كبير، مثلها مثل الكثير من العضلات الحشوية الأخرى ومثل تلك المُتحكِّمة في الهضم، يحتاج التنفُّس، كمثال، للاستمرار، سواء كنا على وعيٍ به أم لا، ولهذا هو سلوك انعكاسي مُستقل، بيد أن هذه السلوكيات المُحددة سابقًا يمكن أن تكفَّ إراديًّا أحيانًا، وتتعدل استجابةً للظروف المُتغيرة، ويحدث أحيانًا أن يكون من الضروري بشكلٍ حاسم إيقاف التنفُّس لمدة ثانية أو ثانيتَين، ولكن الملاحظ في أغلب الأحيان أن الروابط بين سلوكيات البلع/التنفس ليست قابلة للتعديل، وسبب ذلك واضح؛ إذ إننا إذا ما احتجْنا عن وعيٍ إلى توقف استنشاق الهواء أثناء البلع فإننا يمكن إن آجلًا أو عاجلًا أن نُخطئ ونُصاب بغصَّة.
وكثيرًا ما نسمع عن حالات توقُّف فيها الجهاز المُستقل، وربما نجد هذا أكثر شيوعًا بين البشر دون غيرهم من الأنواع بسبب طول المسافة من الفم إلى الحنجرة؛ مما جعل الطريقة التي اصطنعها الجرَّاح الأمريكي هنري جي. هايمليتش إجراءً ضروريًّا، ومع ذلك فإن الحيوانات أقلُّ عرضةً للغصة وانحشار الطعام بسبب أن الحنجرة في وضعٍ أعلى مما هي عند البشر مما يسمح بتناوب التنفُّس والبلع، أو إحداث تعديل مُهم في تنفُّسها أثناء البلع.
وثمة احتمال أن الأجهزة الحركية الحشوية خُصِّصت للاتصال خلال حقبة تطوُّر الفقريات على اليابسة؛ لأن التغيرات في أنماط التنفُّس تزوِّدها ببعضٍ من أنفع المؤشرات الدالة على حالة الاستثارة كذلك فإن زيادة حدَّة أعراض التنفُّس عن طريق اصطناع أصوات صفير حادٍّ — يحدُث كهواءٍ يمر عبر الانقباض الشديد للزور والفم — ربما يسَّرَ حدوث البعض من أقدم أشكال الاتصال الصوتي، واختلفت فيما بعد صور وتخصُّصات أنماط التنفُّس الصائت — أي إخراج الصوت عبر التنفُّس — التي أصبحت الأساس الذي بُنِيَت عليه الأصوات التي كانت في البداية دالَّةً على الاستثارة، وبسبب هذا النمط القديم ورِث الاتصال الصوتي الكثير من القسمات التنظيمية المُميزة لجهاز حركي تلقائي جزئيًّا، ويمكن التحكُّم فيه جزئيًّا أيضًا، وتشتمل هذه على توليد أصواتٍ تلقائية تُشبه الفعل المُنعكس حين يكون في حالة إثارةٍ ملائمة، وإخراج أصواتٍ نمطية، مع حدٍّ أدنى من الدور اللازم للتعلُّم.
وطبيعي أن عمليات إخراج الأصوات أو التلفُّظ لا تجري في فراغ سلوكي، إنها بالحتم إحدى المكوِّنات في عرض سمعي-بصري أكثر تعقدًا، يشتمل أيضًا على معلوماتٍ يجري التعبير عنها بأوضاع الجسم أو إيماءات (مثل تعبيرات الوجه)، ونحن نعرف أن الشبكات التي تُجسِّد البرامج الحركية الفطرية التي تُشكل أساسًا للسلوكيات الصوتية النمطية للنوع مُتمركزة في دارات المخ الأوسط وساق المخ، ولكن يمكن — على الرغم من ذلك — تنشيطها عن طريق إثارةٍ من جانب عددٍ من التكوينات العُليا التي تتضمَّن تكوينات منظومة ما تحت المِهاد والمنظومة الطرفية الموجودة في العمق داخل مقدم الدماغ، وتحتوي المنظومة الطرفية على مناطق المخ المسئولة عن الجانب الأكبر من الخبرة الوجدانية وعمليات الحفز وإثارة الانتباه ومسئولة كذلك عن الاستجابات الهرمونية والتلقائية المُقترنة بها، ويعتبر التصويت الفطري، قبل أن يكون سلوكًا منعزلًا أحد التجلِّيات الظاهرية لحالة موحدة للإثارة الوجدانية والسلوكية، وثمة منظومات أخرى لمُخرجاتٍ يجري تنشيطها تلقائيًّا يمكن أن تشتمِل على تغيُّرات في وضع الجسم، وتغيرات هرمونية، وتغيرات في الجهاز المُستقل ذاتيًّا، وجرى على مدى عقود دراسات كهروفسيولوجية وتشريحية عن هذه التكوينات في أمخاخ القردة، وأفادت في رسم معالِم مواقع مقدم الدماغ التي تُسهم بشكلٍ مباشر وغير مباشر في توليد النداء، ونجد بوجهٍ عام أن هذه المواقع كلما انزاحت بعيدًا عن المخ الأوسط، من حيث الروابط والاتصالات، كانت تأثيراتها على التصويت أكثر توحُّدًا وأقل مباشرةً، ويتجلَّى هذا في غالب الأحيان في طول المسافة الفاصلة أكثر بين التنبيه الكهربي لموقعٍ ما وتوليد صوت، ونلحظ أن التصويتات في بعض المناطق لا تتولد إلا بعد توقف التنبيه الكهربي لينتج نوع من التأثير المُرتد، وتهيئ هذه المنظومات في مقدم الدماغ مُستوياتٍ كثيرة من التحكُّم في التصويتات، أي مخارج الصوت.
وجدير بالذكر أن البرامج الحركية لغالبية التصويتات الفطرية للثدييات هي برامج معيارية لدرجةٍ عالية، إنها ثابتة نسبيًّا منذ الميلاد، وليس للتعلُّم سوى دورٍ بسيط، وربما لا دور له، في تحديد شكلِها، وكثيرًا ما يكون تأثيره ضعيفًا من أجل توليد أو كفِّ التصويت، ونجد كذلك أن الروابط بين التصويتات النوعية والحالات المُميزة للإثارة الوجدانية تتَّسِم أيضًا بأنها تلقائية إلى حدٍّ كبير وغير مُتغيرة. وتصدر الصرخات الملائمة عندما تكون الإثارة أعلى من مستوًى مُعين في سياقاتٍ نمطية معينة، ونلحظ أن حالاتٍ مختلفة من الإثارة، مثل الخوف أو الإثارة الجنسية مرتبطة على نحوٍ مشترك بأنماط نشاطٍ جد مختلفة داخل تكوينات المنظومة الطرفية وما تحت المهاد، ويمكن أن نقول بمعنًى من المعاني: إن الدارات التي تنشط في وقتٍ بعينه تُعطي إشارة دالَّة على حالةٍ وجدانية بعينها، ومن ثم لا غرابة إذ نجد دارات طرفية مُختلفة تمدُّ مخرجاتها لتصل إلى جهاز التصويت في المخ الأوسط عبر دروبٍ مستقلة ومُقسَّمة على امتداد مساراتٍ تتوافق مع حالات إثارة بديلة، والملاحظ أن هذه الدروب عند تنبيهها مباشرةً يُمكنها أيضًا أن تستثير عمليات تصويت، ونظرًا لأن كل حالة إثارة مميزة لها طابع نشاط مُميز، فإن نمط مخارجها يمكن أن يفيد كشفرةٍ مرسلة إلى المخ الأوسط، وتُحدد أي برنامج صوتي يعمل، ونجد لهذه الرابطة نتائج أخرى أيضًا؛ إذ بسبب هذه الرابطة الثابتة نسبيًّا تمثل النداءات الصوتية حرفيًّا أعراضًا دالَّةً على حالاتٍ وجدانية مُحددة وحالات إثارة مميزة.
وتتضح الروابط شبه الانعكاسية بين إدراك وإصدار الصيحات، والحالات الوجدانية المُرتبطة بها، من خلال الانتقال المعدي «لبعض الصيحات المُميزة الفطرية لنوعِنا البشري»، وبخاصة الضحك والبكاء، ونعرف أن الأطفال حديثي الولادة وهم رقود داخل جناح الولادة بالمُستشفى يثبتون هذه الرابطة الفطرية الأولية حين يُستثارون للبكاء حال سماعهم بكاء أطفالٍ آخرين، ولكنَّ كثيرين منَّا على أُلفةٍ أيضًا من خلال الخبرة الشخصية؛ إذ تُستثار دموعهم بسبب بكاء آخرين حزنًا على موت شخصٍ لا نعرفه، ويجدون أنفسهم يضحكون بسبب «سلسلة من الضحك» مُثيرة ومؤثرة لما تتضمَّنه من مواقف مضحكة «كوميدية» من دُعابات في مشهد تلفازي، وإن عملية تحليل الصياح، مثلها مثل المنظومات الحركية التي تُشكل أساسًا للتصويتات الفطرية، تعمل هي أيضًا على مستوياتٍ عدة في وقتٍ واحد، والملاحظ أن المدخلات السمعية تتحوَّل إلى أدوات التحليل في المخ الأوسط ربما حتى قبل وصولها إلى مراكز السمع في مُقدم الدماغ؛ إذ هنا قد يتم تصنيف أوَّلي، كافٍ لتنشيط استجاباتٍ أولية موجهة إلى فئاتٍ تطورية مهمة من المُنبهات، كذلك فإن الاستجابة الوجدانية التي تستثيرها صيحات فطرية خاصة بالنوع ربما يشارك فيها تحليل من قشرة المخ؛ نظرًا لأن قشرة المخ هي المصدر الرئيسي للمُدخلات الحسِّية الواصلة إلى التكوينات الطرفية، ولكن الروابط بين تكوينات المخ الأوسط ربما تُمثل أساسًا لمَيلٍ مُستقل للصياح استجابةً إلى صيحةٍ تؤدي في الواقع إلى قِصَر دارات التحليل عالي الدرجة.
لماذا تُغرد الثدييات مثل الطير؟
يمكن تتبُّع الدليل لفهم الفارق الصوتي بين الطير والثدييات إلى بعض الفوارق المُهمة ذات الدلالة في تشريحها؛ إذ على الرغم من أن كلام البشر يعتمِد بشكلٍ حاسم على تكويناتٍ في قشرة المخ، وعلى الحركات السريعة الماهرة للعضلات الفموية والصوتية، فإن هذا لا ينطبق على عمليات التصويت لدى ثدييات أخرى، إن «الحلول» البشرية وعند الحيتان والطير لعملية التصويت الماهرة مختلفة تمامًا، ولكن ثمة بعض التوازيات ذات الدلالة التي تُعطينا مفاتيح مهمة؛ إذ إنها تتجنَّب ما هو مشترك بينها في هذه الاستثناءات للقاعدة: وهو بقاء الاتصال الصوتي تحت سيطرة الأجهزة الحركية الحشوية في المخ.
إن تعلم وإصدار حركات ماهرة لا بد أن تشترك في إنجازه مناطق كثيرة في المخ تُعتبر ضرورية للإيماءات والتصويتات الفطرية، ونعرف أن الأجهزة العضلية الحشوية ملائمة لأداء هذه المهمة؛ لأن هذه الأجهزة تحديدًا لا بد أن تكون قادرة على العمل في استقلالٍ ذاتي وفقًا لمجموعةٍ مُحددة من البرامج الحركية، وهذه البرامج هي صورة مُصغرة لوظائف المخ المعيارية والمُغلقة دون أي تدخُّل أو تشوش من الأجهزة الأخرى، وما إن يتم تنشيطها حتى تنزرع إلى تشغيل مسارها النمَطي بغضِّ النظر عن وعينا أو مُتابعتنا للعملية، علاوة على هذا فإن مثل هذه البرامج المعيارية تميل إلى أن تتمركز في موضعٍ مُميز ومُحدد في صورة دارات للاتصال المشترك بين نويَّات المخ الأوسط وساق المخ، ونجد في المقابل أن السلوكيات الماهرة مرتبطة بالأجهزة العضلية الهيكلية من مثل عضلات الأطراف. ونظرًا لتبايُن احتياجات الحركة تباينًا كبيرًا بحيث يصعُب التنبُّؤ بها لدى غالبية الأنواع، فإن هذا الجهاز لا بد أن يكون قادرًا على التحلِّي بقدْر كبير من المرونة وإمكانية التعديل، ولكن السلوكيات المُتطوِّرة لا بد أن تكون مُهيَّأة لرصدها كما يتعيَّن أن تكون مُهيَّأة للتوقُّف والتعديل. إنها النقيض التام للسلوكيات المُستقلة ذاتيًّا والمعيارية، ولكن ما إن يتم تعلُّم برنامجٍ سلوكي ما حتى يمكن «تفريغه» ونقله إلى أجهزة حركية أخرى يُمكن معالجتها باعتبارها برنامجًا معياريًّا لم يتم تحليله، ونتيجة لذلك يُمكن للسلوكيات الماهرة عالية الدرجة أن تكون سريعةً ومستقلةً ذاتيًّا مثل أي سلوكياتٍ فطرية، ومِن ثم لا غرابة في أنَّ منظومات المخ الداعمة لهذه القدرات الحركية المَرِنة موزعة على نطاقٍ واسع، ونعرف أن قشرة المخ والمُخيخ في الثدييات هي من أهمِّ التكوينات الجوهرية لأداء حركةٍ واعية مُستثارة مثلما هي كذلك لتطوير وتعديل السلوكيات الماهرة.
ويلاحظ أن إصابة قشرة المخ الحركية الأولى في مخِّ إحدى الثدييات يمكن أن تؤدي إلى فقدانٍ كامل للحركة على الجانب المقابل للجسم الذي يُطابق وضع المنطقة المُصابة في خريطة معكوسة للعضلات ابتداءً من الساقَين والقدمَين، وصعودًا إلى أعلى حتى الدماغ والفهم عند قاعدة الشريط الحركي. والمعروف أن القشرة الحركية مُمتدَّة على طول شريطٍ رأسي مُتصل على جانبَي القشرة إزاء نقطة المنتصف من الظهر إلى المُقدمة، كذلك فإن إصابة المنطقة القشرية لعضلات الفم والوجه على أحدِ الجانبَين يتسبَّب في شللٍ جزئي يمكن أن يؤثر في استخدام الفم واللسان أثناء الأكل، ويمكن للإصابة الثنائية على الجانبَين أن تتسبَّب في شللٍ تامٍّ لهذه العضلات، أما عن الأجزاء الأخرى من المخ المشتركة في السلوك الماهر مثل العقد الأساسية والمُخيخ، فإن لها دورًا تكميليًّا لقشرة المخ، ويبدو أنها مهمة بشكلٍ خاص لدقة ضبط أنماط الحركات الماهرة وعملها تلقائيًّا. ولعل من الدقة النظر إلى القشرة الحركية كعاملٍ مُساعد في تكوين واختبار سلسلةٍ من السلوك الفرعي الذي تُديره عمليًّا هذه المنظومات القشرية الفرعية عن طريق تدخُّلٍ محدود، مثال ذلك في الطيور؛ إذ على الرغم من عدم وجود شيءٍ يُماثل تمامًا القشرة الحركية؛ (إذ لا يُوجَد في الواقع قشرة مخية مثل الثدييات) فإنه تُوجَد نويَّات مقدم الدماغ التي لها دور مُماثل في التنسيق المُتعمَّد للحركات المرصودة وبرمجة منظوماتٍ عميقة للمخ لإدارة برامج السلوكيات المكتسبة.
ويرتبط هذا الفارق بين الطير والثدييات بالفارق بين اللسان والتحكم في عضلة الحنجرة في الثدييات، إذ إن الحنجرة — كما رأينا — تحكمها المنظومة الحركية الحشوية التي غالبًا ما تصدر عنها حركات نمطية مبرمجة؛ هذا بينما نجد في المقابل أن اللسان تحكمه منظومات وسيطة بين المنظومات الحركية الحشوية والهيكلية، وقادر على كلٍّ من الحركات النمطية وبعض الحركات العمدية أكثر، وتتحرك عضلات اللسان طوليًّا وبشكلٍ نصف قطري، ونلحظ أن عضلات اللسان الموجهة في حركةٍ نصف قطرية تتحكَّم في استطالتها عن طريق الانقباض في شكلِ زوايا قائمة وانضغاط الحنجرة على نفسِها مثل ضغط بالونة بطريقةٍ تجعلها تستطيل، وتنبسط عضلات اللسان المُتجهة طوليًّا لتمتدَّ من ملحقاتٍ موجودة خلف اللسان وتوجه اللسان المُمتد إلى أيٍّ من الجانبَين أو إلى أعلى وإلى أسفل.
وهذه النقلة إلى قدرةٍ أكبر على التحكُّم العمدي لدفق الهواء إنما حدثت على الأرجح كنوعٍ من التكيُّف إزاء متطلبات خاصة للطيران؛ إذ إن الطيران والتنفُّس مرتبطان أحدهما بالآخر على نحوٍ وثيق جدًّا لدى الطيور؛ إذ توجَد عضلات كثيفة للطيران ومشدودة بقوة إلى عظم الصدر، وتجذب بالتبادُل القفص الصدري وتبسط وتقلِّص القفص الصدري، وذلك لأن التنفُّس يمكن أن يصبح عمليةً معقدة إذا لم تكن الوظيفتان متآزرتَين معًا، وهذا ما لا يمكن أن يتم، للأسف عن طريق الاكتفاء بربط التنفُّس ورفرفة الجناح معًا في برنامجٍ حركي نمَطي، ويستلزم التحليق في الجو قدرةً دائمة على تعديل حركات الجناحَين في مواجهة مُتطلبات غير متوقعة تتمثل في تغيُّر الريح وغير ذلك من عقبات. كذلك فإن القُدرة على تعديل حركات التنفُّس ذات الصلة وحركات الجناحَين تستلزم مشاركة المنظومات الحركية الهيكلية أيضًا في التحكُّم في دفق الهواء، ونظرًا لأن التحكُّم في دفق الهواء هو الأساس لتوليد الصوت، فقد أصبح هو أيضًا تحت سيطرةٍ عمدية بنسبةٍ أكبر باعتباره نتيجةً جانبية لتطوُّر الطيران.
علاوة على نوعنا نحن، وربما هوفر أيضًا، توجَد مجموعة من الثدييات التي تكشف عن درجةٍ عالية من المرونة الصوتية والقدرة على التعلم: رُتبة الحيتان (الدلافين والحيتان)، إنها من نواحٍ كثيرة تُعتبر الاستثناء الذي يُثبِت قاعدة التحكُّم الحركي الحشوي مقابل التحكُّم الهيكلي، وعلى الرغم من أنَّ قدرًا كبيرًا من عملية إصدار الصوت عند الحيتان ما تزال غير مفهومة جيدًا، فإن الاعتقاد السائد أن بإمكانها إصدار أصواتٍ كثيرة، وربما لا تصدُر عن الحنجرة. ويبدو — بدلًا من ذلك — أن الدلافين والحيتان تصدُر عنها أصوات قصيرة حادة مثل الصفير وطقطقات وصفير من خلال منظومة مُحكمة من الفجوات الموجودة في مُقدم الجمجمة، تمر عبرَ المنخارَين عند قمة الرأس، ويتحكَّم في هذا على الأرجح مرور الهواء من خلال انقباضاتٍ بين الجيوب التي تضيق بفعل انقباض العضلات التي تعتمِد عليها، وتتوافق عضلات المنخار هذه مع عضلات الوجه في الثدييات الأخرى التي تخضع على نحوٍ شبهِ كاملٍ لتحكُّم النويَّات الحركية الهيكلية لساق المخ (ربما النواة الحركية للوجه)، وطبيعي أن التحكُّم العمدي في دفق الهواء من وإلى المنخارَين أمر مُهم بخاصة في هذه الثدييات البحرية، وهذا التكيُّف المُميز للثدييات للتوافُق مع دفق الهواء (وربما الماء أيضًا)، يُشبه تكيُّف الطير للتنفُّس أثناء الطيران وإن اعتمد على منظومة عضلية مختلفة تمامًا، قد فتح الطريق عرضًا للمزيد من إصدار الأصوات التي يمكن التحكُّم فيها.
إذن، كيف يمكن لهذا المنطق التشريحي أن يُلقي ضوءًا كاشفًا على السهولة الصوتية عندنا نحن؟ إنَّ البشر لم ينقلوا إخراج أصوات الكلام برمَّته إلى منظوماتٍ عضلية هيكلية كما هو الحال عند الطير ورتبة الحيتان؟ إننا، مِثلنا مثل الثدييات الأخرى، نُصدر غالبية الأصوات الكلامية عن طريق انقباض عضلاتنا الحنجرية، وما يزال جزءٌ كبير حتى الآن من التبايُن الصوتي في الكلام في حدوده الدنيا من التفسير على أساس تغيُّراتٍ في توترات الحنجرة، وتشارك في غالبية أصوات الكلام كل من المنظومتَين العضليتَين: تعديل أو إيقاف الأصوات الصادرة عن الحنجرة بفضل حركات العضلات الهيكلية الحاكمة للفكِّ والشفتَين واللسان، ولكن بعض أصوات تصدُر بالكامل عن عضلاتٍ فمويَّة — من مثل الصوت الاحتكاكي (س س س أو ففف) والأصوات الانفجارية التي تخرج من بين شفتين مغلقتَين (پي) وأصوات طقطقة (وهذه أصوات غير مُستخدَمة في اللغات الأوروبية، ولكن يستخدمها على سبيل المثال البوشمن في إفريقيا وتصدُر عن طريق إصدار فرقعة بضربة اللسان في سقف الفم أو الخد أو الأسنان مع ضغطٍ طفيف) — معنى هذا أن هناك بعض التوازيات التشريحية المُهمة بين رُتبة الحيتان والطيور والبشر من حيث مرونة إصدار الصوت، ويثبت هذا القاعدة العامة: فقط عندما تشارك منظومة التحكُّم العضلي الهيكلي في العملية تتوفَّر قُدرة مهمة على سهولة التعلم والتحكُّم القصدي في إصدار الصوت.
ولكن الغناء يؤكد مدى قُدرتنا بشكلٍ مُنظم على التحكُّم في إصدار نغمةٍ مُحددة ومُميزة عن طريق آلية مُستقلة، وإن مثل هذا التحكُّم الدقيق في التواتر الصوتي النِّسبي والتوقيت يُعتبر نموذجًا لسعةٍ غير مسبوقة للتحكُّم في الحنجرة لا نجد سوى الحد الأدنى منه فقط مُجسدًا في أي لغة، علاوة على هذا فإن الدور الحاسم لإصدار الصوت الحنجري في فونيمات (وحدات صوتية) متمايزة (مثل الاختلافات في وقت صدور الصوت) لتقسيم الكلمات وتحديد العبارات لا بدَّ من أن يكون هذا كله متآزرًا ومنسقًا بدقةٍ تقاس بجزءٍ على ألف من الثانية مع حركات الشفتَين واللسان، ويتعين اكتساب هذه التوليفات المُنظمة حركيًّا بدقةٍ بحيث يمكن وزعها في لمح البصر ضمن تشكيلة واسعة من السياقات، وهكذا يبدو واضحًا أن قُدراتنا الكلامية ترتكِز على ما هو أكثر من تحوُّل من موضع التأكيد إلى العضلات الفمويَّة؛ إذ يجب أن يكون هناك فارق في قدرتنا على التحكم في الحركات الحنجرية التي تعكس الاختلاف داخل المخ وليس في الأطراف فقط.
ولدى البشر درجة من التحكُّم الحركي الإرادي في إصدار الصوت داخل الحنجرة، يتفوَّقون بها على أي أنواعٍ أخرى صائتة، وهذه الدرجة من التحكُّم الإرادي لا نجِدها في الحقيقة إلا في المنظومات الحركية التي تتحكَّم فيها الممرَّات الحركية لِلِحاء المخ والمُخيخ، وتمتدُّ لتصل في النهاية إلى العضلات الهيكلية. ويُشير هذا إلى فارقٍ في التحكُّم العصبي في الحنجرة البشرية، وهذا هو المعادل العصبي للتحول من العضلات الحشوية إلى الهيكلية التي تُمثل أساسًا للمهارة الصوتية لدى الطير ورتبة الحيتان. ولكن على الرغم من عدم توفر دليل مباشر حتى الآن على مثل هذا التحول في المخرجات الحركية للمخ البشري إلى الحنجرة، فإن القرائن الدالة على ذلك وفيرة، وإن الشيء المؤكد أن الحنجرة البشرية محكومة بالضرورة بالمنظومات العُليا للمخ الموجودة في التحكُّم العضلي الهيكلي وليس بالتحكم الحشوي فقط، ويتوفر لدينا دليل آخر على مثل هذا التحول بفضل الفصل الجزئي لتوليد الصوت عن حالات الإثارة الوجدانية في اللغة مثلما هو الحال في الطير ورتبة الحيتان.
ولكن الفصل بين الحركة والوجدان ليس مُطلقًا، إننا لا نكشف فقط عن مزيجٍ من التصويتات المكتسبة المُستقلة عن أي إثارة (الكلام والغناء)، وعن التصويتات النمطية إلى حدٍّ كبير والمُرتبطة فطريًّا بعواطف مُعينة (الضحك والغناء)، بل إن منظوماتنا الوجدانية — الحشوية ومنظومات تعلم المهارات العضلية الهيكلية — غالبًا ما تتنافس للتفوُّق في التصويت، وكذا ليُكمل أحدها الآخر في أحيانٍ كثيرة بسلوك صوتي واحد. ويبدو الأمر وكأننا لم ننقل بالكامل التحكُّم من الوسائل الحشوية إلى الوسائل الإرادية، وإنما تراكبت إحداها على الأخرى.
وغالبًا ما يواجِه الناس ظروفًا من هذا النوع، مثال ذلك ما يحدُث كثيرًا عندما تقع أحداث هزلية تدفعنا إلى الضحك، ولكننا ولأسبابٍ تتعلق بآداب السلوك نشعر بأننا مضطرون إلى كظم الميل إلى الضحك، ونحن لكي نقمع ضحكةً لا سبيل إلى مقاومتها نلوذ ببعضٍ من مثل هذه الحيل كأن نُطبِق على فكَّينا وشفاهنا، أو نُحدث صريرًا بأسناننا أو نضع يدَينا فوق فمِنا أو أن نشيح بوجهنا جانبًا؛ حتى لا نكون في مواجهة شخصٍ قد يضيق بذلك، ولكن ما هو أكثر من ذلك بالنسبة للبشر أن الطبيعة التلقائية وغير الواعية في جوهرها للكثير من الصيحات النمطية تكون سببًا في الانفجار دون أي تحذيرٍ سابق، وغالبًا ما يحدث ذلك قبل أن يجد المرء وقتًا للتدخُّل في إخفاء التعبير، وقد يلزم أن يتوفر قدْر من الوعي الذاتي كشرطٍ سابق للتحكُّم في ذلك، وإن هذا الصراع المُثير للفضول بين سلوكياتٍ تصدُر في آنٍ واحدٍ عمدية وغير عمدية يُمثل لنا فرصة لنظرةٍ نافذة وفريدة إلى طبيعة اللغة: إن تراكب السلوكيات الحركية العمدية لقشرة المخ فوق السلوكيات الصوتية التلقائية لما تحت قشرة المخ إنما يُمثل، من ناحية، نموذجًا للطرح الخارجي لعلاقة عصبية تم استدخالها سابقًا عند صدور الكلام البشري، إنها تصور بيانيًّا الجسر الوظيفي الذي يربط الاتصال الصوتي للرئيسات بكلام البشر، ولقد حدث تطوُّر الكلام بصورةٍ فعلية عند هذا التداخُل العصبي، ويُمثل فهم هذه العلاقة خطوةً أولى على الطريق من أجل تفكيك اللغة إلى سوابقها التطورية.
والملاحظ أن قشرة المخ في غالبية الثدييات تشتمل على مناطق تحكُّم في حركات العضلات الفموية والصوتية، ولكن هذه المناطق القشرية تُشارك في الغالب الأعم في التحكُّم في حركات الفم واللسان والشفتَين أثناء الثرثرة وإعداد الطعام والأكل، وإذا أُصيبت هذه المناطق أو تمَّ قطع أعصاب مخرجاتها يُصاب الوجه وعضلات الفم بالشلل، وتبيَّن أن التدمير الثنائي لهذه المناطق في مخِّ القردة يجعل من المُستحيل عليها أن تأكل، ولكن على الرغم من الشلل والعجز الشديد عن الاستخدامات الأخرى للمسار الفموي، فإن هذه الحيوانات ما يزال بإمكانها إصدار صيحاتٍ لم يتغير شكلها جذريًّا عن الصيحات العادية، وعلى الرغم من أن الإصابة الحركية لقشرة المخ لا تتسبَّب في تشوش وفساد إصدار الصيحات لدى القردة التي تمَّت دراستها، فإن المناطق القشرية الحركية يظلُّ لها دور غير مباشر. ونلحظ أن وصول التنبيهات إلى النويات الحركية الفمويَّة والصوتية في ساق المخ يمكن أن يُمثل مسارًا لعملية الكفِّ العمدي المباشر للصيحات، كذلك فإن التضاعف المباشر لإشارات المُخرجات الحركية الأخرى المنافسة يمكن أن يساعد على كفِّ أو إعاقة صدور الصيحات في ظروفٍ لا يمكن فيها قمع الإثارة، ولكن حيث يمكن أن تحدُث مثل هذه الصيحات بسبب نتائج مأساوية. ولنتأمَّل على سبيل المثال المَيل إلى إصدار صيحاتٍ حزينة عند فصل الحيوان وإبعاده عن مجموعته، أو صيحات خوفٍ عند الفزع، ويحدث عندما يشعر الحيوان أن حيوانًا آخر مفترسًا ربما اقترب منه، فإنه يميل إلى أن تكون لدَيه القُدرة على قمع هذه الميول رغبةً منه في ألَّا يتخلَّى عن موقعه.
وثمة سبب واحد هو المسئول عن أن الصيحات لا تتأثر كثيرًا بإصابة القشرة الحركية، وهذا السبب هو أنها لا تشارك بوجهٍ عام في الحركات المفصلية المعقدة للفم واللسان، ونجد بدلًا عن ذلك أن التصويت يصدُر في موازاة أوضاع وأشكال نمطية مُحددة للشفتَين واللسان، وهو ما يحدث أحيانًا مع إضافة حركات نمطية تكرارية بسيطة للفم، وكثيرًا ما تتميز مقاطع الصيحات بانطلاق وتوقف دفق الهواء وما يقترِن به من تحولات تكرارية (إصدار ووقف الصوت أو رفع وخفض النغمة)، وتتجسَّد هذه القسمات أيضًا في نوعَين من أكثر الصيحات الفطرية البشرية تمايزًا، وهما الضحك والنشيج؛ إذ يتضمَّن الاثنان إصدار صوتٍ إيقاعي وأنماط نمطية للتنفُّس التي تقسم الصوت إلى وحداتٍ مُتكررة (ضحك وتنهُّدات)، ويرتبط الاثنان أيضًا بأوضاعٍ ثابتة نسبيًّا للفم-اللسان ولا تحريك للشفتَين أو للسان على خلفية تكويناتٍ فموية أخرى. والملاحظ أن الوضع النمطي الثابت للفم واللسان أثناء هذه الصيحات البشرية غالبًا ما تجعل الكلام مُستحيلًا في الوقت نفسه.
ويشتمل الكلام — في المقابل — على حركةٍ للسان سريعة ومنبسطة مع الشفتَين واللسان وسقف الحلق في موازاة مع تغيُّرات في شكل الشفة وفتح وغلق الفك. وعلى الرغم من أن النطق غالبًا ما تقطعه حركات مِفصلية تؤدي إلى توقُّف الزفير للحظة مع احتمال تغيُّر طفيف في اللحن التنغيمي أثناء الكلام بهدف الإشارة إلى قسماتٍ مميزة أو لإثارة معلوماتٍ عاطفية أو تستوجِب الانتباه، فإن إخراج الأصوات أثناء الكلام يظلُّ متصلًا وغير مُتبايِنٍ بالمقارنة بحالات التوقُّف والتشغيل النمطية كما تأكَّد في الصيحات. وقد تكون الوقفات في إصدار الصوت ضروريةً لأخذ النفس أو إشارة إلى فصل بين الأفكار أو الجُمَل، ولكن الكلمات أو المقاطع المنطوقة مفردة وتقطعها فترات صمتٍ ليست بالشيء السويِّ العادي، ويمكن أن تحدث كعرضٍ لبعض أنماط إصابةٍ في المخ (انظر عرض موضوع الحبسة لمنطقة بروكا في الفصل ١٠).
وتتميز الصيحات، حسب مصطلحات علم الأعصاب، ببرامج حركية حشوية في المقدمة وعلى خلفية أوضاعٍ ثابتة نسبيًّا للوجه والفم، ويتبع الجهاز الحركي الهيكلي الجهاز الحركي الحشوي، ويعكس الكلام هذه العلاقة، إذ حينما يتكلَّم البشر نجد أن المكونات الحركية الهيكلية تحتلُّ المقدمة مقابل خلفية صوتية-تنفسية أكثر ثباتًا نسبيًّا، وإن أغلب المعلومات المُميِّزة لوحدات الكلام الفردي مُشفرة في حركاتٍ مفصلية سريعة، وتتراكب هذه على خلفيةٍ من ضغط زفيري ثابت وتبايُن في النغمة أكثر بطئًا، ومن ثم، فعلى الرغم من أن كلًّا من الصيحات والكلام يستلزمان الفعل المتآزر للمنظومات الحركية تحت القشرة أو الحاكمة للتنفُّس وإخراج الأصوات وكذا المنظومات الحركية الهيكلية الحاكمة للفك والشفتَين واللسان، فإن الأنماط تكون معكوسة؛ إذ ربما أن البشر يشغلون مرحلةً وسطى بين الطير الذي انتزع التحكم الصوتي من المنظومات الحركية الحشوية، وبين الشمبانزي بيده فوق خطمه في محاولةٍ لكتم صيحةٍ صدرت عن المنظومات الحشوية مُستخدمًا أحد أطرافها الخاضعة لسيطرة المنظومات القشرية الإرادية. والملاحظ أن الحركات المحكومة بالمنظومة الحركية لقشرة المخ أثناء الكلام تتراكب على نشاط حركي حشوي مستقر نسبيًّا، وفي هذه الحالة، تشارك العضلات الفمويَّة دون عضلات اليد في تعديل المخرج الصوتي، وبذا يكون التحكُّم أكثر احتمالًا والتعديلات أكثر سهولةً ورقَّةً، وثمة حقيقة وهي أن قردة الشمبانزي (والغالبية الساحقة في الحقيقة من الثدييات) لا يُمكنها ممارسة تحكم مباشر أكثر للمنظومة الحركية لقشرة المخ على أيٍّ من إصدارها لأصوات الكلام، أو على حركاتها الفمويَّة، ويقوم هذا برهانًا على أنه حتى عند هذا المستوى المتدني للسيطرة العصبية على إصدار الصوت، تُمثل أمخاخ البشر بالضرورة شيئًا غير عادي.
هيمنة فعالة
كيف إذن تحققت هذه الهيمنة للنويات الحركية بنقل مدخلات قشرة المخ في تطور مخ الرئيسات؟ إن اتساع نطاق مقدم المخ عند الرئيسات يخلق نوعًا من الأداء الشامل لعملية الإحلال المسئولة عن التغيرات الخاصة بالاتصال في مخ فأر الخلد الأعمى المعروف باسم سبالاكس، ونعرف أنه قد حدث انخفاض في نِسَب الجسم الخلفي للجمجمة مقارنةً بالدماغ والمخ، وحدث نتيجة ذلك تغيُّر في النِّسَب والتناسُب بين مقدم المخ مقارنةً بساق المخ والحبل الشوكي، وتُمثل هذه النقلة الجنينية في النِّسَب العصبية طريقةً لعملية الإحلال؛ إذ زاد كثيرًا عن المحاور العصبية النازلة والمُتنافسة بحثًا عن فضاء لها في المنظومة الحركية للرئيسات. وطبيعي أن الزيادة الكبيرة في عدد المحاور العصبية لقشرة المخ تزيح الروابط المحلية الأقل عددًا وتحلُّ محلها؛ نظرًا لأن هذه الروابط المزاحة نشأت من منظوماتٍ يتناسَب حجمها مع جسمٍ أصغر حجمًا، ونلحظ في أمخاخ غير الرئيسات أن الرسائل العصبية من قشرة المخ التي كانت في البداية متوفِّرة بكثرةٍ وغير محددة النوعية والمُرسَلة إلى النويات الحركية لساق المخ قد فازت عليها الرسائل العصبية المحلية، وقلَّت أثناء النمو لكي تترك فقط تلك المرسلة إلى المناطق القبحركية لساق المخ والنخاع الشوكي، ونجد على العكس في أمخاخ الرئيسات أن الرسائل العصبية الأولية من قشرة المخ كثيرة العدد بحيث إنها تنتصِر في المنافسة على الروابط المحلية وتثبت بأعدادٍ كبيرة، في كثير من النويات الحركية الإضافية.
ويمكن استخلاص هذا المنطق ذاته وتطبيقه على حالة البشر؛ إذ يمكن وصف الفارق بين الرئيسات/البشر بأنه زيادة إضافية في نسب وتناسُب قشرة المخ/ساق المخ، وعلى الرغم من أن هذه النقلة الإضافية البشرية من منشأٍ جنيني مختلف، فإنها سوف تُحدث إحلالًا مُماثلًا في أعداد الخلايا العصبية الجنينية مقارنةً بالنمط الخاص بالرئيسات، ونظرًا لأن أعداد المحاور العصبية لقشرة المخ البشري كبيرة وواسعة الانتشار، فإنها سوف تتمتع بقدرةٍ أكبر للاستحواذ على أهدافٍ في ساق المخ والنخاع الشوكي أثناء النمو، ولكن هل من مكانٍ آخر به أهداف تُعززها المحاور العصبية لقشرة المخ البشرية؟ إنها سوف تزداد يقينًا في نويات عضلات الوجه واللسان؛ مما يؤدي إلى زيادة التحكُّم الإرادي لهذه المنظومات وتكون أكبر من مثيلاتها في الرئيسات الأخرى، ولكن علاوة على هذا فإنه كلما زادت مجالات الرسائل العصبية لقشرة المخ البشري ربما عزَّزت أيضًا نويات في ساق المخ وخلايا عصبية في النخاع الشوكي التي لا تملك حتى الرئيسات تحكمًا إراديًّا فيها: منظومات عضلية حشوية حاكمة للنويات، ونخصُّ بالذكر هنا اثنَين منها وثيقَتَي الصلة بالكلام: الخلايا العصبية الحركية الحاكمة للحنجرة (النواة الملتبسة)، وتلك التي تتحكَّم في التنفُّس (ساق المخ والجزء العلوي من النخاع الشوكي).
ولكن حفريات الإنسان الأول تشتمل على مصدرٍ إضافي للدلالة على حدوث تحول في سيطرة قشرة المخ على التنفس، ويظهر أول معامل ارتباط للهيمنة الكبيرة لقشرة المخ على التنفس، وهو ما يتمثل في تضخم المنطقة الصدرية للنخاع الشوكي بالقياس إلى الرئيسات الأخرى؛ إذ إن هذه هي المنطقة في النخاع الشوكي التي تحتوي خلايا عصبية حركية تتحكَّم في العضلات بين ضلوع القفص الصدري، وفي عضلاتٍ أخرى للجذع المشاركة في عملية التنفس، وقد يعكس هذا التضخم زيادةً نسبية في أعداد الخلايا العصبية الحركية في هذا القطاع من النخاع (هل بسبب نقص موت الخلايا؟) وربما يعكس زيادة أيضًا في الوصلات النازلة التي تنتهي عند هذه النقطة، وحريٌّ أن نذكُر هنا ما قالَه عالِما الإحاثة (وهو العلم الذي يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية القديمة) بات شيبمان وآلان ووكر بجامعة هوبكنز في كتابهما الذي صدر حديثًا؛ إذ يشيران إلى أن تطور الكلام ربما كان مشروطًا بهذا التضخم؛ إذ عمدا إلى بحث هذه الظاهرة في العمود الفقري الكامل نسبيًّا في حفريةِ صبيٍّ من الهومو أريكتوس أي الإنسان مُنتصب القامة، ولكنهما لم يجدا تضخمًا مقابلًا في الصدر، وخلصا من ذلك إلى أن الكلام لم يكن قد نشأ حتى هذه المرحلة من التطوُّر البشري، ولكن مع التسليم بالمعلومات الخاصة بالتطوُّر العصبي التي تُشير إلى هيمنة قشرة المخ وتحكُّمها في عملية التنفس، وأن هذه الهيمنة هي نتيجة تغيُّر كمِّي في الأبعاد والمقاييس — وليست على الأرجح نتيجة طفرتَين من نوع الكل أو لا شيء اللتَين أضافتا خلايا عصبية جديدة إلى هذا الجزء من الحبل الشوكي، وغيرت أهداف المحاور العصبية لقشرة المخ — لهذا يذهب ظني إلى تفسيرٍ وسطي أراه الأرجح عندي؛ إذ مع وجود حجمٍ وسطي نسبي للمخ يحتل موقعًا وسطًا بين القِرَدة العُليا الحديثة والبشر المُحدثين، فإن هذا الصبي من الهومو أريكتوس كان لدَيه على الأرجح مستوًى وسطي من سيطرة قشرة المخ على التنفس، وإن هذه السيطرة وجدت دعمًا جزئيًّا بفضل الزيادة في الرسائل العصبية من قشرة المخ إلى الخلايا العصبية الحركية الصدرية، وكذلك إلى المراكز الأخرى الأرقى للجهاز التنفسي.
وهل استخدام الكلام كان لا بد أن ينتظر إلى حين أن تبلغ هذه التعديلات مستوًى حديثًا؟ أم أن ضرورات الاتصال الكلامي أسهمت بقدْر من الضغط الانتخابي الذي أفضى إلى هذه التعديلات؟ هذه أسئلة سنعود إليها لاحقًا (الفصل ١١)، ولكن لنا بوجهٍ عام أن نستنتج أن المستوى البشري الحديث للسيطرة على إخراج الأصوات لم يتطوَّر بين يومٍ وليلة، هذا علاوة على أن قدرات النطق للجهاز الصوتي كانت على الأرجح دائمًا في مقدمة قدرات الحنجرة، بسبب انحياز الهدف لصالح النويات الحركية الهيكلية على النويات الحركية الحشوية، معنى هذا أن هذا الصبي من الهومو أريكتوس ومُعاصريه إذا كانوا يتواصلون مُستعينين بشيءٍ مثل اللغة، فإنه كان يعتمِد أكثر على تنوُّعاتٍ لأصواتٍ تصدر من الفم أكثر من الاعتماد على أصواتٍ تصدر من الحنجرة، أو بعبارة أخرى: إنهم ربما استخدموا أقلَّ قدرٍ من التبايُنات النغمية السريعة وقدرًا أقل من الأحرف المُتحركة، بينما اعتمدوا أكثر على أحرفٍ ثابتة وطقطقاتٍ فموية، وإن هذه ربما اقتصرت على عباراتٍ قصيرة، ولهذا استلزمت مزيدًا من الدعم غير اللفظي أيضًا.