الفصل التاسع

عقول للرمز

إذا كانت أمخاخنا بسيطة، فإننا نكون في غاية السذاجة أن نفهمها.

ماريو بوزو

الثقل – أمام

حدث تراكب تدريجي للسيطرة الحركية لقشرة المخ على المنظومات الحركية الحشوية لإخراج الأصوات، وهذا هو ما يُفسِّر نشوء قدراتنا على الكلام، ولكن القدرة على إصدار أصواتٍ منطوقة منفصلة ليست كافية وحدَها لكي ترفع الببغاوات عاليًا وتجتاز العتبة الرمزية، وكذلك ليس مجرد التحوُّل إلى قدرة الثدييات على عمل إشارة هيَّأ للقردة العليا إمكانية التحول إلى أفرادٍ ناطقة في مجتمع بشري، على الرغم من كل الآمال التي يعقدها بعض الباحثين، كذلك ولا حتى كانزي — التي أثبتت أكثر من أي كائن غير بشري آخر المدى الواسع من قدراتها على فهم اللغة دون أي تكيفات لغوية صريحة، وأثبتت كيف أن توفر منظومة كلام حاسوبية يمكن أن تُعزز الوصول إلى اتصالٍ رمزي — كل هذا لن يتقدم على الأرجح إلى ما بعدَ مستوى الصقل الرمزي الذي يكشف عنه طفل بشري في الثالثة من العمر (على الرغم من أنه ما تزال أمامه سنوات طويلة لكي يُثبت أنني شديد التشاؤم)، وهذا لأن القيد الأكثر أساسية المؤثر في تطوُّر اللغة مُشتق من صعوباتٍ خاصة بالذاكرة والتعلم وليست مقصورة على القدرات الحركية. إن تطور القدرات الصوتية يمكن النظر إليه بدقةٍ أكبر باعتباره نتيجةً وليس سببًا لتطوُّر اللغة، ومن ثَم فإن التغيرات الحادثة في تنظيم المخ التي هيأت للبشر الدعم الضروري لتجاوز عتبة التعلُّم الرمزي هي الشيء الأكثر حسمًا. ونعرف أن قُدرات اكتساب الرمز تُوفِّر مُنظم الإيقاع الخاص بتطوُّر اللغة التي تستمد منها حالات التكيُّف الأخرى للغة جدواها. معنى هذا أن قدرةً على النطق الصوتي مدعومة بقوة ستكون ذات قيمةٍ تكيفية مُتواضعة ما لم تتضاعف بقدراتٍ رمزية.

إن أمخاخ البشر ليست مجرد أمخاخ ضخمة لقردة عُليا، وإنما هي أمخاخ قردة عليا، بالإضافة إلى تغيُّرات مهمة في النِّسَب والعلاقات بين الأجزاء، ولنا أن نتوقَّع أن جزءًا مهمًّا من هذا التحول في النِّسب يعكس التكيفات مع مُستلزماتٍ غير عادية للإدراك المعرفي يقتضيها تعلُّم الرمز، أو بعبارةٍ أخرى: إذا كان المخ البشري هو مخ قردة عُليا أكثر مودةً واقترابًا من اللغة، فإن الشروط الخاصة لتكيف اللغة سوف تنعكس على الأرجح في الوسائل التي تُمايز بِنية المخ البشري عن بِنية المخ غير البشري، ومع التسليم بالمُتطلبات غير المسبوقة تمامًا والتعويضية في الحقيقة التي اقتضاها التعلُّم الرمزي بالضرورة، بالمقارنة بكل أشكال التعلم الأخرى، فقد كان حتمًا، حسب ما يبدو، أن تكون ثمة تغيرات تشريحية عصبية غير مسبوقة بالمِثل هي الكامنة وراء السهولة الرمزية البشرية. وهكذا فإن أقصى أشكال الانحرافات في بنية المخ بين أمخاخ البشر وأمخاخ غيرهم من الرئيسات تقدم لنا المفاتيح لفهم الحسابات العصبية التي تُمايز إلى أقصى حدٍّ العقول البشرية من غير البشرية.

fig35
شكل ٩-١
شكل ٩-١: رسوم في صيغة مثالية توضح هيمنة نفوذ المنطقة القبجبهية على تكوينات المخ الأخرى؛ الأسهم البيضاء في الصورة على اليسار تُمثل التوسُّع النسبي لمناطق قشرة المخ القبجبهية (١)، والأسهم الرمادية في كلتا الصورتَين تُمثل توسع الرسائل العصبية القبجبهية الواصلة إلى مناطق أخرى من قشرة المخ، والعقد الأساسية والمِهاد، وتُشير الأسهم السوداء إلى رسائل عصبية توسعت لتغزو أهدافًا جديدة: تتضمن (٢) رسائل عصبية قبجبهية زائدة إلى دارات النطق في المخ الأوسط وساق المخ (ناقشناها في الفصل السابق) من حيث علاقتها بمصادر أخرى طرفية والمخ الأوسط، و(٣) اتساع نطاق تواصُلية المناطق القبجبهية وقشرة المخيخ الجانبية، التي ربما تشتمِل على وصلات بقشرة المخ القبجبهية البُطينية (التي تتضمن روابط سمعية-فمية في قشرة المخ)، وهذا من شأنه — ولأول مرةٍ في مسيرة التطور — أن يضع منظومات المُخيخ في شبكة السيطرة عالية الرتبة للعمليات السمعية-الصوتية (سوف نُناقشها فيما بعد).
وكما رأينا في الفصل السادس، فإن هذه الانحرافات البنيوية الجذرية في مقدم المخ أدَّت إلى قشرة مخٍّ قبجبهية مُتضخمة وإلى تحولٍ في شبكة الاتصال التي آثرت الوصلات القبجبهية في المنظومات الأخرى، ولنُحاول فحص هذا التجديد الأشد إثارة ووضوحًا للمخ التماسًا للدلائل التي تكشف لنا أنواع مستلزمات الإدراك المعرفي التي قادت تطوُّر المخ البشري (شكل ٩-١)، ما التوافق الوظيفي الذي يُمكنه ربط هذا التفاوت العصبي المُثير بنمَطِنا غير العادي للاتصال؟ هل هذه البِنية التي تعدَّلت إلى أقصى حدٍّ تعكس المُتطلبات الأكثر إلحاحًا وغرابةً التي اقتضتها اللغة؟ إذا كان ذلك كذلك فإن المشكلة الرئيسية لن تكون صدور الكلام اليومي وفهم كلام الآخرين؛ إذ إنَّ هذه العملية هي التي تأثرت إلى أدنى حدٍّ بإصابة قشرة المخ القبجبهية؛ إذ إن مثل هذه الإصابة نادرًا ما تؤدي إلى صعوبةٍ دائمة في إصدار الكلام أو فَهم الكلام أو تحليل النحو اللغوي، ولكن تشوُّش وفساد هذه القدرات الأساسية للغة — حالات الحبسة — إنما تحدُث كقاعدةٍ نتيجة إصابةٍ تلحق بمناطق أوثق ارتباطًا بالتحليل الحركي والسمعي: منطقة بروكا Broca’s Area ومنطقة فيرنيك Wernick’s Area على الترتيب (وهذا سيكون موضوع الفصل التالي)، ويبدو أن المناطق القبجبهية بدلًا من ذلك تعبَّأت أثناء مهام مِن مثل التخطيط لسلوكيات مُركبة، بيد أن نطاق ومدى العمليات الإدراكية النوعية التي غيرتها إصابة المنطقة القبجبهية لا يمكن وصفها بمثل هذه العبارات البسيطة، كذلك فإن البحث عن نمطٍ مشترك أساسي في متلازمة أعراض المنطقة القبجبهية يقود إلى رابطة غير مباشرة وشديدة الأهمية باللغة وبالإدراك الرمزي.
وتمامًا مثلما أن التوسع القبجبهي لا يمكن فهمه إلا من حيث هو دالة ووظيفة للتفاعُلات المنظومية الدينامية بين الكثير من تكوينات المخ أثناء النمو، كذلك تستلزِم النتائج البنيوية والوظيفية فهمًا للنتائج المنظومية الناجمة عن تغيرات الحجم، وعند مقارنة هذا التضخُّم القبجبهي مع غالبية تكوينات المخ في قشرة المخ، وفي غيرها يتَّضح أنه ليس سوى نتيجةٍ للميزة التنافُسية التنموية التي أفادت بها مورداته afferent وتميزت بها على الأنماط الأخرى من موردات قشرة المخ، وتأتي هذه الموردات من نوايا المهاد من مثل النواة الظهرية الوُسطَى medial dorsal nucleus (التي تستقبل غالبية مدخلاتها من سطح المخ الأوسط midbrain tectum ومن الغطاء الظهري clorsal tegmentum) والنويات الأمامية anterior nuclei (التي تستقبل مدخلاتها من قشرة المخ الطرفية limbic cortex) ومن نطاقٍ واسع للغاية من مناطق قشرة المخ، بما في ذلك جميع الوسائل الحسِّية والحركية.
ومن الأمور المُهمة بوجهٍ خاص مخرجات قشرة المخ واسعة النطاق التي ترتد من القشرة القبجبهية إلى كل وسائل العمل في قشرة المخ بما في ذلك قشرة المخ الطرفية والرسائل العصبية لقشرة المخ على العقد القاعدية وفي المخ الأوسط وبخاصةٍ إلى الغطاء الظهري والسطحي dorsal tegmentum، وإذا سلَّمنا بالتضخم الكبير في حجم قشرة المخ القبجبهية بالمقارنة بحجم أهدافها، فإن لنا أن نتوقَّع لها أن تستحوذ على نسبةٍ أكبر من شبكات التوصيل في هذه التكوينات أثناء النمو، وإن هذه النسبة ستكون أكبر من التكوينات الأخرى التي تُرسِل موردات عصبية afferent إلى هذه الأهداف، وإذا قارنَّا هذا بأمخاخٍ أكثر نمَطية للثدييات والرئيسات، فإن لنا أن نتوقَّع أن شبكات التوصيل العصبي القبجبهية في المخ البشري سوف تستحوذ على نِسَب أكبر من تلك داخل مُستهدفاتها، وبناءً على ذلك فإن معالجة المعلومات القبجبهية سيكون لها على الأرجح دور أكثر هيمنةً من كلِّ جانبٍ من جوانب العمليات الحسِّية والحركية والإثارية، وإذا غضضنا الطرف عما إذا كانت هذه البنية تتمتَّع «بسعة» أكبر في معالجة المعلومات بسبب حجمها فإن لها «أصواتًا أكثر» في كلِّ ما يجري في تلك المناطق من المخ التي تستهدفها، ومن ثم نقول بوجهٍ عام: إن معالجة المعلومات بشريًّا ستكون منحازةً بفضل الاعتماد المُفرط على، وبتوجيهٍ من أنواع المعالجات التي تقتضيها دارات المنطقة القبجبهية وتفرضها على العمليات التي تُعالجها؛ لذلك فإننا نحن البشر نكشف عن «أسلوبٍ إدراكي معرفي» يُمايزنا ويفصلنا عن الأنواع الأخرى. نمط تنظيم المدركات والأفعال والتعلم الذي يتصف بأن الثقل أمام، إذا جاز هذا التعبير، ولكن كيف نُعبر عن ذلك بلغة علم النفس العصبي؟

وعلى الرغم من أن من المُحتمل أن تأخذ المنطقة القبجبهية أثناء النمو وضع مجال استقبال منفرد للرسائل العصبية فإن قشرة المخ القبجبهية في المخ مُكتملة النضج ليست بنية منفردة متجانسة ذات وظيفةٍ منفردة، ونحن هنا إزاء خطر استقراء المدلول من دراساتٍ مَبنية على منطقة قبجبهية واحدة وصولًا إلى مزاعم عن المنطقة القبجبهية كلها، ونعرف أن المناطق القبجبهية تستقبل مدخلاتٍ ومُخرجات مختلفة ومتنوِّعة من قشرة المخ تزوِّدنا بإلماحات عامة تتعلَّق باختلافاتها الوظيفية، وتستقبل مناطق كثيرة مدخلاتٍ من وسائل حركية أو حسِّية نوعية، كما تستقبل غيرها مدخلات تتلاقى معًا وصادرة عن أكثر من وسيلة واحدة، ولكن لا توجَد منطقة قبجبهية تستقبل مباشرةً مدخلاتٍ من المناطق الحسِّية أو الحركية الأولية في قشرة المخ، ونذكُر من أسباب ذلك أن المنطقة القبجبهية تظلُّ غامضة إلى حدٍّ ما بحيث يتعذَّر تمييز خارجة معالم بنيتها، ونجد من خلال طوبوغرافيا قشرة المخ لغالبية المناطق الحسية أن الأوضاع داخل المناطق القبجبهية — كما تبدو — ترتبط برباطٍ مشترك مع الطوبوغرافيا الطرفية لأي سطح لأي مُستقبل حسِّي، وكذلك لا توجَد خارطة واضحة لمعالم الطوبوغرافيا الحركية.

ولكن إحدى هذه الإلماحات تتعلق بنوع خارجة مَعالم الوظائف داخل مناطق ما قبل الجبهة، غير أن مصدرها دراسات عن الانتباه البصري وتكوينات ما تحت القشرة الداعمة لها؛ إذ أثبتت باتريشيا جولدمان راكيك وزملاؤها بجامعة ييل أن جزءًا ما في القشرة القبجبهية للقردة (المنطقة القبجبهية الجانبية الظهرية أو المنطقة الأساسية principalis region، وقد سُميت كذلك لموقعها حول الأخدود الرئيسي principal sulcus) يُحدد الحركات الموجهة لانتباه العين بالنسبة لمركز التحديق،١ ونتيجةً لذلك فإن إصابة أحد قطاعات هذه المنطقة يمكن أن يعوق القدرة على تعلُّم إنتاج أو كفِّ حركات العين الموجهة في اتجاهٍ بذاته، أو استجابة لأدلة تُرشِد في اتجاهٍ بذاته، ولا غرابة في أن هذه المنطقة الفرعية من القشرة القبجبهية موجودة لصقَ منطقةٍ معروفة باسم مجال العين الجبهي (الحركي) الذي يوجه حركة العين، كذلك لن ندهش حين نعرف أن قسمات الانتباه/حركات العين لهذه المنطقة في القشرة القبجبهية إنما نعتبِرها ضمن سياق ارتباط مُدخلاتها/مخرجاتها بالطبقات العميقة للرابية العُليا superior colliculus، كذلك فإن لها اتصالاتٍ واسعة بالمناطق البصرية الصدغية والجدارية temporal and parietal areas.٢
وتُوجَد مباشرةً تحت وفوق منطقة الانتباه البصري القبجبهية المشار إليها مناطق تجمعها روابط مُتبادلة بالمناطق السمعية ومناطق القشرة السمعية/البدنية مُتعددة الوسائل التي تربطها بالفص الصدغي temporal lobe،٣ وترسل على الأرجح أيضًا رسائل عصبية إلى المناطق السطحية tectal regious للرابية العُليا والرابية الدنيا، ونجد من بين الوسائل لفهم المناطق السمعية لقشرة المخ الجبهية هي أنها «تُحدِّد معالم وأماكن العمليات الموجهة سمعيًّا بطرُق مناظرة لطريقة قشرة المخ الرئيسية في «رسم معالم» التوجُّه البصري، وهناك بالإضافة إلى التقسيمات الفرعية القبجبهية المُرتبطة حسيًّا على سطحها الجانبي توجَد أيضًا مناطق مدارية ووسطى لقشرة المخ القبجبهية، وإن العثور على خارطة للعلاقات المشتركة أقل يسرًا من تلك، وتتوفَّر لها روابط قشرية قبجبهية متاخمة وتغلب عليها الروابط الطرفية، وتكشف عن مساراتٍ لمُخرجات تحتوي على تكويناتٍ أكثر ارتباطًا بالوظائف الحشوية والإثارية أكثر من الوظائف الحركية الحسية».
ويتعيَّن أن نفهم وظيفة الأقسام الجانبية للقشرة القبجبهية في ضوء آليات الانتباه، سواء بالنسبة إلى منظومات الرابية، وكذا بالنسبة إلى منظومات قشرة المخ التي تُرسل إليها مخرجاتها، هذا بينما وظيفة الأقسام المدارية orbital divisions والأقسام الوُسطى medial لقشرة المخ القبجبهية، فيجب على العكس أن تكون أكثر ارتباطًا بالوظائف الإثارية والحشوية والمستقلة ذاتيًّا، وهاتان المنظومتان ليستا فقط مرتبطتَين هيكليًّا، بل إنهما على الأرجح مُعتمدة إحداهما على الأخرى وظائفيًّا. وجدير بالذكر أن عمليات الإثارة والتوجيه والاهتمام هي جميعًا جزء من العملية ذاتها لنقل الحفز؛ بغية تنظيم الاستجابات التكيفية إزاء تغير الظروف. ويمكن أن تهيئ التقسيمات الجانبية قاعدة للسيطرة العمدية على الأفعال المنعكسة الموجهة من الرابية، مُستخدمة في ذلك المعلومة التوجيهية كدلائل للذاكرة العاملة بشأن المُنبهات البديلة، أو للاختيار من بين التكوينات الحسِّية الكثيرة لتحقيق المزيد من التحليل الحسِّي، ويمكن للأقسام المدارية والوُسطَى أن تُهيئ تحولاتٍ مترابطة من حيث الاستعداد الإثاري والتلقائي لدعم تحولاتٍ في الانتباه وكفِّ المَيل نحو مُنبهات جديدة من شأنها توجيه أوامر خاصة بالإثارة للانتباه.
والسؤال إذن: ماذا تفعل قشرة المخ القبجبهية؟ هذا ليس سؤالًا سهلًا، بل إنه سيظل موضوعًا مثيرًا للمزيد من الجدل في مجال علم النفس العصبي neuropsychology،٤ وسبب الصعوبة أن التفسير لا يمكن ربطه مباشرةً بأي وظيفةٍ حسية أو حركية، ونعرف أنه عند إصابة المناطق القبجبهية لا نجد أي مشكلاتٍ حسِّية أو حركية مميزة. والملاحظ أن الجرَّاحين الذين أجرَوا جراحات خزع مقدم الفص الجبهي prefrontal lobotomy اعتادوا بيان أنها لا تُقلل من معامل ذكاء مرضاهم، ومن ثم فإن النتائج المترتبة على إصابة المنطقة القبجبهية تتمثل فقط في أنواعٍ بعينها خاصة بسياقات التعلم، بيد أنها يمكن أن يتسع نطاقها ثم تؤدي في النهاية إلى حالة من الضعف، ولكن فهم هذه الارتباطات عملية صعبة أيضًا نظرًا لأنه لا يوجد نمط واحد فقط للعجز الخاص بمنطقة مقدم الجبهة، وذلك لسبب بسيط وهو أنه لا توجد منطقة قبجبهية واحدة ومتجانسة، ونظرًا لأن المناطق القبجبهية المختلفة مرتبطة بتكوينات مختلفة في قشرة المخ وتحت قشرة المخ، فإنها في حالة الإصابة تنتج عنها أنماط مُختلفة من الإعاقات. وحريٌّ بالذكر أنه لا توجد فقط نظريات عديدة متنافسة تحاول تفسير أنماط مفردة من الإعاقات الخاصة بمنطقة مقدم الفص الجبهي، بل لا يُوجَد تفسير لمظاهر التماثل الأسرية التي تربط مظاهر العجز المختلفة على كثرتها بالمناطق الفرعية المُختلفة للفص الجبهي.

وليسمح لنا القارئ بألا نستهل هذا العرض الشامل لوظائف الفص الجبهي بالتعامُل مع قشرة الفص الجبهي باعتبارها تكوينات متجانسة، بل بالبحث بين مجالات ووصلات ومظاهر عجز الفص الجبهي عن موضوعاتٍ مشتركة ومظاهر تَشابُه أُسرية. إن لديَّ ما يحفزني على الاعتقاد بوجود بعض الخيوط المشتركة بسبب أوجه التماثُل الشاملة في البِنية الترابُطية التي تربط هذه المجالات ببقية المخ، ويُساورني الظنُّ بأن مناطق الفص الجبهي المختلفة، مثلها مثل المجالات الفرعية العديدة للمنظومة البصرية في قشرة المخ، تشترك معًا في مشكلةٍ حاسوبية ولكنها قسمتها إلى مهام فرعية قابلة للانفصال في الأمخاخ كبيرة الحجم، وربما تكون قد انفصلت وفقًا للاختلافات من حيث الشروط والظروف.

ولنبدأ باستعراض ضروبٍ مختلفة لأمثلةٍ ذات دلالة لمهام تأثرت نتيجة إصابةٍ لحقت بقشرة مخ الفص الجبهي في القردة (انظر الشكل ٩-٢)، وأحسب أن من المُلائم لنا أن نبدأ بالمهمة الكلاسيكية للفص الجبهي التي حدَّدها جاكوبسون منذ عقود طويلة مضت،٥ ويصور الرسم التخطيطي العلوي الاستجابة المُرجأة في حاوية مُغطاة أمام عيني القرد، ثم نلهي القرد عن ذلك لبضع ثوان، وغالبًا ما يكون ذلك بإسدال ستارة معتمة، ثم نسمح له أخيرًا باستعادة الطعام عن طريق كشف الغطاء، هذه ليست مشكلة، ولكن يلاحظ في محاولة تالية أن الطعام المخبأ موضوع في الحاوية البديلة، وعلى مرأى من القرد، ولكن الآن وبعد فترة الانتظار نجد أن القرد ذا الإصابة في الفص الجبهي لا ينظر في المخبأ الجديد، وإنما يتَّجه للنظر في المكان الذي وجد فيه الطعام قبل ذلك، وليس في المكان الذي خُبِّئ فيه الطعام أمام عينيه.٦
fig36
شكل ٩-٢
شكل ٩-٢: رسم بياني يوضح ستة مظاهر مختلفة لحالات العجز الإدراكي وضحت خلال التجارب على قردة أصيب الفص الجبهي عندها بإصابات لحقت بمناطق فرعية مختلفة (يشار إليها بمناطق سوداء).
(A) مهمة استجابة مرجأة (إبدال مرجأ) واقترنت المهمة بإصابة الفص الجبهي الظهري الجانبي (جاكوبسون ١٩٣٦م).
(B) عينة لمهمة منظمة ذاتيًّا مرتبطة بإصابة الفص الجبهي الجانبي الظهري (مأخوذة، مع التبسيط، من باسنغام ١٩٨٥م).
(C) مهمة مرجأة غير مطابقة للعينة ومرتبطة بإصابة في الفص الجبهي الأوسط البطيني (ميشكين وماننج ١٩٧٨م).
(D وE) مهام ارتباط شرطي (دلائل مكانية مقابل أخرى غير مكانية على التوالي) مرتبطة بإصابة شبه مقوسة حول الفص الجبهي (بترايدس – ١٩٨٢م، ١٩٨٥م).

وفسر البعض هذا بأنه مشكلة خاصة بالذاكرة قصيرة المدى، بمعنى أن القرد ربما عجز عن استخدام معلومات محاولةٍ ماضية للتأثير على اختياره في محاولةٍ قادمة، ولكن مشكلة الذاكرة البسيطة ربما تُفضي إلى أداءٍ عشوائي. ونرى بوجهٍ عام أن مثابرة الحيوان تشير إلى أنه يتذكَّر بالفعل المحاولة الماضية الناجحة جيدًا، ويبدو واضحًا أحد أمرَين؛ إما أنه عاجز عن كفِّ الميل نحو العودة إلى المكان الذي أُثيبَ فيه في المرة الماضية، أو أنه عاجز عن إخضاع هذه المعلومة الماضية المختزنة واستخدامها في المشكلة الجديدة. والملاحظ تاريخيًّا أن مَن عمدوا إلى تفسير حالات عجز الفص الجبهي قد انشقُّوا إلى فريقَين متساوِيَين، سواء حددوا هذه الاستجابة في ضوء الذاكرة أو كفِّ الاستجابة، ولكن قبل الانحياز لأيٍّ من الجانبَين علينا أن نتأمَّل عددًا قليلًا من الأمثلة الإضافية.

ثمة صيغة أخرى أكثر صقلًا وتعقدًا للمهمة نفسها بحثها ريتشارد باسنغام،٧ تقدم الصيغة قدرًا من الرؤية النافذة لبيان كيف حقَّقت هذه المهمة نتائج تكيُّفية خاصة بعالَم الواقع؛ إذ عمد الباحثون في هذه التجربة، مثلما حدث في تجربة الاستجابة البسيطة المُرجأة، إلى وضع الطعام في أوانٍ خاصة بالطعام بينما القرد يرقُبهم (على الرغم من أن المشاهدة ليست عاملًا مؤثرًا بالضرورة)، ولكن في هذه التجربة جرى تخبئة الطعام في كلِّ أو في كثيرٍ من الأوعية من بين عددٍ كبير منها، ومن ثم لا ضرورة للإرجاء، وبذلك يتعيَّن على القرد أن يسير بين الأوعية يتحسَّسها أو يختبرها لكي يستعيد الطعام، ويُلاحَظ أن القِرَدَة التي لدَيها استراتيجيات اختبارٍ كافية لن تحاول اختيار الأوعية ذاتها مرتَين؛ إذ ما إن يوضع الطعام في مكانٍ واحد، ويأخذه القرد منه لم يعُد هناك مِن سبب للعودة إليه ومراجعته، ولكن القردة المصابة في الفص الجبهي تفشل في الاختبار، إنها لا تكفُّ عن المثابرة وتعود كثيرًا إلى الأوعية التي سبق فحصُها وتفشل في فحص غيرها، وأعود لأقول ثانيةً: ليس واضحًا لنا هل ننظر إلى الأمر باعتباره نسيانًا أم عجزًا عن كفِّ تكرار استجابات ماضية. غير أن الأهمية العملية لمِثل هذه القدرة واضحة، إنها بالدقة والتحديد من نوع المشكلة التي يُمكن أن يُواجهها حيوان يبحث عن طعام في أماكن كثيرة مختلفة؛ إذ ما إن يتم أكل كلِّ الطعام الموجود في مكانٍ واحد حتى يُصبح لا معنى للعودة بحثًا عنه مرة أخرى حتى وإن تميز الطعام هناك بمذاق جميل.

وإذا اتجهنا الآن إلى القردة المُصابة في الجبهة الوسطى نجد نوعًا من العجز مختلفًا اختلافًا طفيفًا، وعلى الرغم من أن هذه القردة تنجح في المهام سالفة الذكر، فإنها تفشل في مهام يقترن فيها مكان الطعام بتغيير المُنبه أيضًا؛ إذ الطعام مُخبَّأ في مكانٍ يُميزه مؤشر لمُنبهٍ ما، وبعد أن ينجح القرد في المهمة يُعاد إخفاء الطعام مع وضع علامة تتمثَّل في منبهٍ جديد يُميز المُخبَّأ، بينما المنبه السابق يُشير الآن إلى أنه لا طعام. وهكذا يتعين على القرد أن يتعلَّم أنَّ الطعام سيظل دائمًا مُخبَّأً؛ حيث يوضع المنبه الجديد للاثنين، ويبدو أن إصابة الفص الجبهي الأوسط يؤثر على هذا النوع من التعلُّم دون الاستجابة المرجأة، أو الإبدال المرجأ أو مهام الفحص والاختبار وهي مهام حسَّاسة إزاء إصابة الفص الجبهي الجانبي الظهري.

ولنُقارِن هذا بمهام حساسة لمناطق خلف مقدم الفص الجبهي، وهذه المهام لها شكل مُتعدد الأجزاء، ولكن الشيء المشترك بينها جميعًا هو الاعتمادية بين فئتَين من العلامات، أو خيارات بين العلامات والسلوك، ويُشير منبه لإحدى العلامات أن الطعام مُخبَّأ في الوعاء ذي الضوء الباهت، بينما تُشير العلامة البديلة إلى أن الطعام مُخبَّأ في الوعاء غير المُضاء بأي ضوء، والنمط هنا هو «إذا كان س إذن سيكون ص، وإذا كان أ فلن يكون ب.» إنها علاقة مشروطة؛ حيث يُشير مُنبه إلى العلاقة بين مُنبه آخر وموضع الطعام، وثمة مُتغيرات أخرى تشتمل على علاقةٍ اعتمادية مُماثلة، ولكنها تختلف من حيث شروط نوع الاستجابة (مثل اختيار الأزرار للضغط عليها بدلًا من فحصها)، علاوة أيضًا على حساسيتها لإصابة هذه المنطقة. والملاحظ — على عكس المهمة السابقة — أنه لا فارق مكانيًّا خاصًّا بموضع الطعام، ولكن مثل المهمة الأخيرة تُوجَد علاقة شرطية؛ حيث المُنبه هنا يُشير إلى أيٍّ من البديلَين مرتبط بالطعام، واعتمادًا على طبيعة المنبه الماثل في التجربة يتعيَّن على القرد أن يعكس توقعه بشأن الرباط بين الثواب واختيار السلوك.

وهذه المهام جميعها مختلفة بعضها عن بعض، ولكن القاسم المشترك عدد من الصفات المشتركة؛ إذ على الرغم من أنها جميعًا تتضمن قدرًا من العجز الواضح عن كفِّ الاستجابة، فإن هذا ليس هو على الأرجح مناط العجز عندها؛ إذ الملاحظ أن الحيوانات المصابة في مقدم الفص الجبهي لا تكشف عن أي مشكلةٍ إزاء مهام المواصلة/عدم المواصلة — التي تستلزم كبح الاستجابة، ولكن عرض أحد المُنبِّهَين المختلفَين في هذا النوع من المهام يوضح ما إذا كانت استجابة مباشرة أم الاستجابة ذاتها التي أُرجئت لبضع ثوانٍ ستفضي إلى الثواب، وتبيَّن أن الحيوانات التي تعاني من صعوبة كبح استجابةٍ ما سوف تعجز عن تعلُّم مثل هذه المهام؛ لأنها ستفشل في مهمة التواصُل المُطَّرد، بيد أن هذه الصعوبة تأكدت لدى الحيوانات التي تُعاني من إصابة قبحركية من شأنها أن تضيف مشكلاتٍ خاصة بالتَّتابُع الحركي والحركات الماهرة.

وثمة مجموعة كاملة من قدرات التعلم تضعف نتيجة إصابة مقدم الفص الجبهي — وهي تلك التي تشتمل على نقل المعلومات من مهمة تعليمية إلى أخرى — ويشار إليها في غالب الأحيان بعبارة نقل «حالة التعلم». إن وجه التماثل مع مهام مقدم الفص الجبهي الذي أسلفنا الحديث عنه هو أن النقل يستلزِم استخدام معلوماتٍ من تجارب سابقة، مع فصلها عن مُنبهات بذاتها، ولعلَّ أصعب المشكلات الخاصة بحالة التعلُّم تتضمَّن نقل نمطٍ عكسي من الروابط من مهمةٍ إلى أخرى، ولوحظ أن بعض الرئيسات ذات الأمخاخ الكبيرة هي فقط التي تنجح في أداء هذه المهام المزدوجة (انظر رومبوغ وآخرين، ١٩٩٦م)، يفيد هذا بوجود بعض الفوارق النوعية المهمة بين الأنواع التي ترتبط بروابط مشتركة خاصة بالحجم والنسب المُتعلقة بقشرة المخ لمقدم الفص الجبهي.

وقد يدفع المرء بأن جميع هذه المهام تنطوي على حفظ المعلومات في العقل أثناء العمل بها، وهذه وظيفة سماها البعض الذاكرة الشغالة working memory، ولكن ثمة حقيقة تناهض تفسير هذه الأخطاء على أساس الذاكرة، وهي أن نمط العجز يشتمل دائمًا على حالات الفشل في المثابرة أي أخطاء ناتجة عن تكرار الأداء السابق الناجح. ونستطيع — كمثالٍ — أن نُفسر مظاهر الفشل بأنها ناتجة عن معلومات خاصة بذاكرة قصيرة المدى تهيمن خطأً على الميل للاستجابة، وعلى الرغم من الاحتفاظ بأثرٍ مختلف عن المحاولات السابقة للنجاح في هذه المهام، فإن ما يجب «الاحتفاظ به في العقل» في هذه المهام ليس فقط المعلومات السابقة وإنما أيضًا معلومات عن إمكانية تطبيق تلك المعلومات في سياقٍ مختلف، ونجد من بين أبرز القسمات المشتركة لهذه المهام الحسَّاسة إزاء إصاباتٍ تلحق بمقدم الفص الجبهي هي أنها جميعًا بطريقةٍ أو بأخرى تتضمَّن التحول بين بدائل أو نقائص، إبدال مكانٍ مِن محاولةٍ إلى محاولة، والتحول من مُنبه إلى منبهٍ آخر جديد، أو من ارتباطٍ مزدوج إلى ارتباطٍ آخر مُعتمِد على وجود مؤشرات مغايرة. وهكذا تشتمل المهام الحسَّاسة إزاء إصابة مقدم الفص الجبهي على ذاكرة قصيرة المدى وانتباه وقمع استجابات وحساسية للسياق، بيد أنها جميعًا تشترك في قسمةٍ أخرى مهمة؛ إذ تتضمَّن كل منها نوعًا من علاقة السلب بين علاقات المُنبهات أو المنبه السلوكي، ويتعين عليها جميعًا العمل على أساس استخدام معلوماتٍ عن شيء ما أنجزته توًّا أو رأت أنه مما يُناقضها ذاتيًّا أن تكفَّ الميل لمتابعة العلاقة المشتركة وأن تعمد، بدلًا من ذلك، إلى تغيير الانتباه وتوجه النشاط إلى روابط بديلة، ويمكن القول تحديدًا إنه بسبب أن إحدى الروابط تعمل وتُحقق إنجازًا في سياقٍ أو في محاولةٍ ما، فإنها تستثني، تحديدًا في المحاولة التالية أو بموجب ظروفٍ، مُنبهًا مغايرًا.
وثمة مظاهر عجز مُماثلة شائعة بين مرضى البشر،٨ على الرغم من أن الروابط بين المهام النوعية والمجالات الفرعية المُختلفة لمقدم الفص الجبهي لم تتم دراستها تفصيلًا في البشر، مثال ذلك أن مرضى البشر المُصابين في مقدم الفص الجبهي غالبًا ما يفشلون في أداء مهام فرز أوراق اللعب التي تستلزم منهم تغيير معايير الفرز، ويميلون أيضًا إلى الوقوع في مشكلاتٍ خاصة بإعداد قوائم الكلمات، وإذا حاولوا وضع قوائم للكلمات وفقًا لمعيارٍ ما أو تعاليم ما، فإنهم نادرًا ما يستطيعون تجاوز عددٍ محدود من أول أسماء الأشياء قبل التوقف جامدين أو تكرار أسماء الأشياء التي سبق تحديدها، وتشبه هذه المهام من حيث الشكل الرابط الشرطي ومهام الاختبار على الترتيب. ونعرف أن من الضروري، لعمل قائمة كلمات، الانتباه دومًا لمعيار الاختبار وبالكلمات التي سبق تحديدها حتى لا تتكرَّر أو على الأصح وضع بدائل إضافية مُلائمة لهذه المعايير ذاتها.
كذلك نلحظ أن المرضى الذين لحقت بمقدم الفص الجبهي لديهم إصابة ما كثيرًا ما يجدون صعوبةً في تعلُّم المتاهات المَبنية على أساس نجاح/فشل عملية التغذية المرتدة وإعداد خطط والتنظيم التلقائي لنتائج السلوك وأداء مهام تستلزم تبني منظورٍ آخر (المحورية الشاملة allocentric مقابل المحورية الذاتية egocentric)، وتشبه هذه الأخيرة النظر في المرآة، ولكن لكي يفكر المرء في ضوء المحورية الشاملة، فإن هذا يقتضيه عمل العكس الذهني المنهجي لميول الاستجابة، وبهذا يتعيَّن العمل باستمرار على استخدام المعلومات المحورية الذاتية باعتبارها الإطار المرجعي، مع كفِّ وقلبِ الاستجابات المؤسَّسة عليها، ولنا أن نقول بوجهٍ عام: إن المهام التي تستلزم التلاقي على حلٍّ واحدٍ فقط يكون تأثرها بإصابة مقدم الفص الجبهي عند الحد الأدنى لها، بينما تلك التي تستلزم توليد أو فحص واختيار بدائل متنوعة تكون معطوبة، وأطلق جي. جليفورد٩ على هذه القدرة اسم التفكير المُتضارِب divergent thinking. ولعل هذا يفسر لماذا لا يبدو أن لإصابة مقدم الفص الجبهي أثرًا كبيرًا على جوانب كثيرة من اختبار الورقة والقلَم في اختبارات الذكاء. ويكشف المرضى المصابون في مقدم الفص الجبهي عن مَيل؛ لكي تتحكم فيهم العلاقات المترابطة المباشرة بين المُنبهات وعوامل التعزيز والتقوية، وهذا من شأنه أن يشوِّش قُدرتهم على الاحتفاظ بعلاقاتٍ ترابطية رفيعة المستوى. والخلاصة أن هذه النظائر البشرية المقابلة لأوجه النقص المختلفة في الفص الجبهي في القردة تشتمِل أيضًا على صعوباتٍ في استخدام المعلومات على نحوٍ سلبي، وإن عطب العمليات الحسابية العصبية التي تتسبَّب عنها هذه المجالات في قشرة المخ يجعل من الصعب إخضاع مجموعة من الروابط لأخرى خاصة حين تكون الروابط التابعة أكثر مباشرةً وبروزًا.

تكوين الرموز

هذه الاستبصارات العامة بشأن إسهامات قشرة مخ مُقدم الفص الجبهي في حل المشكلات عند الرئيسات والبشر ربما لا تُجيب على لغز وظيفة مقدم الفص الجبهي بعامة، ولكنها تُقدم بعض الإشارات المفيدة إلى أهمية الحجم الضخم غير المتناسِب لهذه البنية في أمخاخ البشر، ترى ما الذي يمكن أن يعمله حجم ضخم على نحوٍ شاذٍّ لهذه المنطقة من مقدم الفص الجبهي بالنسبة لهذا الوجه الشاذ البشري الآخر، أي اللغة؟ أو لكي نضع السؤال في صيغة أكثر دقة وتحديدًا: هل ثمة شيءٌ خاص باللغة يستلزم استعدادًا سابقًا للعمل مع علاقاتٍ ترابُطية شرطية صعبة، والحفاظ على المفردات في ذاكرة شغالة في ظلِّ ظروف متغيرة إلى حدٍّ كبير، أو استخدام معلومات سلبية لنقل استراتيجيات ترابطية من ارتباطات يحفزها مُنبه موضوعي مجسد إلى ارتباطات مجردة؟

الصياغة على هذا النحو وبتلك العبارات من شأنها أن توضح الموازيات لهذه العمليات الإدراكية المعرفية اللازمة لاكتساب الرمز، وجدير بالذكر أن إسهامات مجالات مقدم الفص الجبهي في التعلُّم تشتمل بطريقةٍ أو بأخرى على تحليل علاقات ترابُطية رفيعة المستوى، أو بعبارة أكثر دقةً وتحديدًا: إن الحكم تأسيسًا على آثار العطب الذي يُصيب مناطق مقدم الفص الجبهي يوضح أنها ضرورية لتعلُّم العلاقات الترابُطية؛ حيث يتعين أن تخضع كل عملية تعلُّم ترابطي لعمليةٍ أخرى، وهذه هي مشكلات التعلم الأكثر حسمًا التي تواجِه اكتساب الرمز، وواضح أن التنظيم الأقل فعاليةً لميول التعلم التنافُسية بسبب قشرة مخ مقدم الفص الجبهي يُمثل على نحوٍ شبه يقيني أول عقبةٍ في الطريق إلى تعلُّم الرمز لدى الأنواع غير البشرية. ونجد على العكس أن توسُّع هذه البنية في الأمخاخ البشرية يمكن أن يعكس ميزة المُبالغة في الاستعداد السابق لاستخدام هذه الاستراتيجية التعليمية ومنحها قوةً إضافية تربو على الميول التعليمية التنافُسية؛ حتى يتسنى لها أن تجتاز بفعاليةٍ أكبر العتبة لتنتقل من روابط الدليل الموضوعي إلى الروابط الرمزية. ولقد أوضحت التجارب على الشمبانزي كيف يمكن إضافة المُتطلبات الخاصة بالانتباه والذاكرة لتعلُّم الرمز منذ البداية، ولكن على الرغم من ذلك فإن الحاجة الدائمة لهذه العملية التحليلية على مدى مسيرة التطور البشري اختارت — كما هو واضح — نمطًا خاصًّا لإعادة تنظيم المخ الذي دعم باطنيًّا هذا العبء أكثر فأكثر.

وتساعدنا قشرة المخ في مقدم الفص الجبهي على كفِّ الميل نحو العمل على أساس علاقات مُنبه بسيطٍ مُترابط ويوجِّه اختياراتنا للترابُطات التراتُبية أو المتعاقبة التبادلية، بيد أن دوره في تعلم اللغة والرمز بخاصة ليس مجرد زيادة شيء يمكن أن نُسمِّيه ذكاء مقدم الفص الجبهي prefrontal intelligence، ولعل الأصح ما يذهب إليه الظن بشأن أهمية تغير الحجم، وأن بالإمكان أن نُفكر فيه على أساس عملية الإحلال، وأنماط الإدراك المعرفي مثلما هي في أنماط نموِّ المخ، ونعرف أن حسابات مُقدم الفص الجبهي تبز حسابات الإدراك المعرفي الآخر، وتميل إلى الهيمنة على التعلُّم عندنا مثلما هو الحال عند الأنواع الأخرى، معنى هذا بعبارةٍ بسيطة أننا أصبح لدينا استعداد سابق لاستخدام هذه الأداة الخاصة بالإدراك المعرفي حينما تحين الفرصة لذلك؛ نظرًا لأن قدرًا مفرطًا من سيطرة العمليات الأخرى في المخ أصبح ثابتًا وفاعلًا في قشرة مخ مُقدم الفص الجبهي عندنا، وحريٌّ أن نُوضح أن الطريقة التي تُعالِج بها قشرة المخ الجدارية parietal cortex المعلومات الحركية واللمسية، والطريقة التي تُعالج بها قشرة المخ السمعية auditory cortex المعلومات السمعية أو الصوتية، والطريقة التي تعالج بها قشرة المخ البصرية المعلومات البصرية أصبحت الآن مُقيدة بنشاط مقدم الفص الجبهي أكثر ممَّا هو الحال لدى الأنواع الأخرى.
ولكن حريٌّ بنا ألا نقع في خطأ التفكير بأن قشرة مقدم الفص الجبهي هي المكان الذي تعالج فيه الرموز داخل المخ، إنه ليس كذلك، إن الإصابة الشاملة التي تلحق بقشرة مقدم الفص الجبهي لا تزيل قدرة المرء على فهم معنى كلمة أو جملة، وواضح أيضًا أن الروابط الرمزية التي تُشكل أساس شبكة معاني الكلمات ربما تعتمد كثيرًا جدًّا على دعم الذاكرة بصورة «مبنية على الحس»، وهذا ما دعمته عملية تواتر أحداث الاضطرابات الدلالية «السيمانطيقية» بعد إصابة القشرة الخلفية للمخ posterior cortex، وعزز هذا الرأي أيضًا بدهياتنا بشأن تصوراتنا الذهنية التي تتولَّد عندما نقرأ القصص، أو «التصورات» الحركية الصوتية، ونحن نبحث في ذاكرتنا عن الكلمات الصواب لكي نقولها أو لتصحيح أسماء لكي تتطابق مع وجوه مألوفة، ولكن سوف نضِل الطريق إذا توقعنا أن هذه الصور هي كلُّ شيءٍ بالنسبة للرموز؛ إذ لا تزيد عن الكلمات المطبوعة على هذه الصفحة التي تكفي بذاتها لنقل معانيها، إنها مجرد علامات عصبية، إنها مِثل العوَّامات في المياه تُشير إلى ممرٍّ ترابُطي مُحدد، والمسار الأفضل الذي نُعيد على أساسه بناء المرجعية الرمزية الضمنية، وتنبثِق المرجعية الرمزية مِن نمطٍ لروابطَ افتراضيةٍ بين مِثل هذه العلامات التي تؤلِّف نوعًا من المجال الموازي للروابط بتلك التي تربط تلك العوامات بخبراتٍ وإمكانات حسِّية حركية واقعية؛ لذلك لا معنى لأن نُفكر في أن الرموز تحتلُّ موقعًا ما في أي مكانٍ داخل المخ؛ ذلك لأنها علاقات بين علامات، وليست هي العلامات ذاتها، ونحن حتى إذا افترضنا أن الوصلات العصبية المُحددة يمكن أن تُشكِّل قاعدةً لهذه العلاقات فإن الوظيفة الرمزية ليست مؤلَّفةً نتيجة رابطةٍ مُحددة، بل تؤلفها مجموعة روابط افتراضية يجري اختبارها جزئيًّا في أي موقفٍ واحد. وطبيعي أن المنظومات العصبية المُنتشرة على نطاقٍ واسع لا بدَّ أن تُسهِم بأسلوب متآزر لخلق وتفسير العلاقات الرمزية، وهنا نرى أن قشرة مقدم الفص الجبهي ليست إلا واحدةً من هذه.

وإن الدور الحاسم لقشرة مقدم الفص الأمامي هو أساسًا بناء الطراز المعماري للذاكرة المنتشرة الذي يدعم المرجعية الرمزية، وليس من أجل تخزين أو استعادة الرموز، وهذه ليست مجرد عملية محصورة في نطاق تعلُّم اللغة. إن بناء علاقات رمزية جديدة يملأ الإدراك المعرفي اليومي، ونعرف أن قدرًا كبيرًا من حلِّ المشكلات اليومية يشتمِل على تحليلٍ رمزي أو جهود لإبراز واستيضاح بعض الروابط الرمزية الغامضة، وما إن تترك عملية معالجة اللغة نطاق العبارات والاستخدامات العادية نسبيًّا، فإنها تتضمن أيضًا قدرًا من البناء الرمزي الجديد. وواضح إلى حدٍّ اليقين أن الأساليب المُرتَّبة عشوائيًّا — وما لها من خصوصيةٍ مميزة في نسج المعلومات في صورة جُمَل وفقرات في هذا الكتاب — تقتضي من قُرَّائها شروطًا مُهمة للتحليل الرمزي، وهذه هي الظروف والملابسات التي يكشف عنها المرضى المُصابون بعطَبٍ لُغوي مقترنٍ بإصابةٍ في قشرة مقدم الفص الجبهي. ونعرف أن عمليات الاستدلال من أهم استخدامات اللغة، وهي العمليات التي تعمد إلى أخذ معلومةٍ واستقرائها وصولًا إلى نتائج لا تبدو ظاهرةً في المعلومات موضوع البحث، وتستخدِم هذه بالضرورة رموزًا؛ بغية استنباط أو بناء رموزٍ جديدة.

وجدير بالذكر أن قشرة مقدم الفص الجبهي ليست غير مشاركة بالكامل في عملية مُعالجة اللغة المُتصلة بشكلٍ مُطَّرد؛ إذ إنها مهمة على نحوٍ خاص في معالجة اللغة؛ حيث تلزم عمليات تحليل للروابط المتوالية والتراتُبية والتابعة، كذلك فإن عملية التضمين المُتكرر للعبارات المتداخلة التي تزوِّد اللغة بنظامها الاقتصادي في التعبير تُفيد هي أيضًا مما نتمتع به من سيولة ملحوظة في التعامُل مع التراتُبيات الشرطية للروابط، وتتحدَّد معالم مثل هذه الأبنية النحوية للُّغة بالتشكُّل الصرفي للجملة (استخدام وضع الكلمة أو علامات الصرف)، ومن ثم قد يستلزم هذا حدًّا أدنى من دعم مقدم الفص الجبهي لاستخراجها، ومع ذلك قد تنشأ مناسبات يكون فيها البناء النحوي غير مُحدَّد بوضوحٍ أو المؤشرات الدلالية تتداخل مباشرةً مع التحليل النحوي (مثل القط الفأر قتل)، وهو بناء يستلزِم إسهاماتٍ خاصة من وظائف مقدم الفص الجبهي، زِد على هذا أن مهام ربط الكلمات تكشف عن أن سيطرة مقدم الفص الجبهي حاسمة، على الأرجح، لتوجيه اختيارات الكلمة وتحولاتها حسب المنطق أثناء الخطاب. ونلحظ كثيرًا أنه على الرغم من سيطرتها على ميكانيكا إنتاج اللغة، فإن المرضى المُصابين في مقدم الفص الجبهي يتَّصفون بتشوش في «دفق» الأفكار واختيار الكلمات، ناهيك عن ضربٍ من «الواقعية العيانية» في تفسيراتهم لمعنى الجملة.

وكلما كانت العلاقات التوليفية أكثر تعقدًا، أو كلما كانت العلاقات المُشتركة أيسر تشوشًا، كانت منظومات مقدم الفص الجبهي مُثقلة بالأعباء، وهذا ما أثبتته بوضوح الدراسات التصويرية للعلاقات الأيضية المُشتركة للمهام الإدراكية المختلفة عند المفحوصين من البشر؛١٠ إذ يتبين بوضوح أن مشكلات الفرز المعقدة ومهام الترابط الصعبة بين الكلمات تؤدي بخاصةٍ إلى تنشيط عمليات الحياة والحركة لمقدم الفص الجبهي. ويوجد دليل آخر غير مباشر وهو أن صعوبة المُهمة تُحدد الكم الذي يتعين على قشرة مقدم الفص الجبهي أن تُعبئه لأداء تلك المهمة، وأوضحت دراسات التنبيه الكهربي لمرضى الجراحات العصبية وهم يقِظون أن المرضى من أصحاب المستوى المُنخفض في اختبارات الذكاء اللفظي تكون لديهم مناطق أكبر من مقدم الفص الجبهي وقشرة المخ الجدارية مهيَّأة للتشوُّش عند أداء مهام لغوية،١١ علاوة على هذا لوحظ عند أداء مهمةٍ تقتضي ترابطًا صعبًا بين الكلمات (من مثل توليد أفعال مناسبة لأسماءٍ يجري عرضها سريعًا)؛ بحيث إن صيغة المهمة والكلمات المعروضة لم تعُد جديدة، فإن مستوى ونطاق التنشيط الحيوي للقشرة الجبهية البطيئة وقشرة الحزام ينخفِض كثيرًا؛ (انظر مناقشة دراسات عن PET؛ التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني). وتؤكد مهام عديدة تتضمن مجالات أخرى من قشرة المخ نمطًا مُماثلًا لتعبئة فضاء إضافي من قشرة المخ للاستجابة على الجديد والصعب، كما تؤكد خفضًا في نشاط ونطاق المجالات المُشار إليها بعد الممارسة، وهذا يقدم دليلًا على الترابُط المشترك بين حجم المساحة من قشرة المخ والنتائج ذات الصلة. معنى هذا أن توفر مساحة أكبر من قشرة مخ مقدم الفص الجبهي تُماثل توفر مساحة أكبر للتصويت كاحتياطي؛ لضمان الأغلبية حتى وإن جرى التصويت في إطارٍ من المنافسة الشديدة. ويمكن بشكلٍ عام أن تؤدي منطقة أكبر من مقدم الفص الجبهي إلى زيادة المجالات التي يسهل تعبئتها لمهام متنوعة والتي تقتضي حسابات نوعية لمقدم الفص الجبهي.

وحريٌّ أن نوضح أن النتيجة الأكثر حسمًا لحدوث اضطرابٍ في وظائف مقدم الفص الجبهي — فيما يختص باللغة — نراها أكثر وضوحًا في عمليات بناء الرمز خلال الفترة الأولى من تعلُّم اللغة؛ إذ إن إصابة مقدم الفص الجبهي بعطبٍ ما في المرحلة الباكرة من الحياة تكون كاسحةً أكثر منها في مرحلة متأخِّرة؛ وذلك لأنها مع التحول الحاسم بعيدًا عن الاستظهار أو الصم، ستجعل تعلُّم الكلمات والعبارات المُرتبطة بالمنبه أكثر صعوبة، كذلك حال الطفل الذي لحقت بمخِّه إصابة حدَّت من قُدرته على صرف انتباهه بعيدًا عن الترابُطات المشتركة الظاهرية بين المُنبهات سوف يحتاج إلى دعمٍ خارجي أكثر وأوسع نطاقًا لكي يبني الحدَّ الأدنى من كلِّ مجموعةٍ على حدة من العلاقات بين الرمز والرمز، وهكذا يمكن أن يجد عملية اكتساب اللغة بخاصةٍ عمليةً شاقة في أدائها وللأسباب نفسها التي تُعاني منها الأنواع الأخرى.

ونجد في دراسةٍ مسحية أجراها بيتس وثال وزملاؤهما عام ١٩٩٤م دليلًا مباشرًا على أن إصابة مقدم الفص الجبهي لدى صغار الأطفال يعوق اللغة؛ إذ اكتشفوا حالات إعاقة خاصة في نموِّ كلٍّ من المفردات ونحو اللغة بعد إصابة مقدم الفص الجبهي خلال الفترة الحرجة بين الشهر التاسع والشهر الحادي والثلاثين من العمر. والملاحظ أن واقع هذه الإصابة يؤثر في كلٍّ من الجانب الدلالي والجانب النحوي للغة، وهو ما يتَّسِق مع حدوث إعاقةٍ رمزية عامة. كذلك فإن إصابة الجانبَين من مقدم الفص الجبهي في هذه السن تتسبب في عجزٍ دائم، ولكن إصابة أيٍّ من الجانبَين يمكن أن يتسبَّب في تأخُّر اللغة.

وغالبًا ما تكون صعوبات تعلُّم اللغة مقترنةً بالاعتماد على العبارات المحفوظة عن ظهر قلب (الصم)، وعلى استجاباتٍ تأويلية عيانية صريحة. والملاحظ أن هذه الميول هي من السمات المميزة بوجهٍ خاصٍّ لمُتلازمة أعراض داون والذاتية Down’s syndrome & autism، وغالبًا ما نجد من يقارن بين هذه الحالات للعجز الإدراكي الأكثر شمولًا وبين الحالة المرضية التنموية العكسية. وتُعتبر متلازمة وليامز واحدةً من أكثر الأمثلة إلغازًا التي تتميز بقدرةٍ تعليمية إضافية للغة؛ إذ إن من أهم خصائصها قدرة الأفراد العالية على صياغة الألفاظ الذين يبدون أكفاء في سرد الحكايات وحفظ المعلومات الكلامية، ولكنهم أيضًا يكشفون عن عجزٍ إدراكي كبير في تحليل المستوى الفكري لعمليات اللغة والضعف الشديد لقدرات حلِّ المشكلات، فضلًا عن العجز الشديد في التفكير المكاني. إنهم على الرغم من حصولهم على تقديراتٍ عالية في اختبارات الذكاء في حدود ٥٠، فإن مهاراتهم اللغوية والكلامية ربما تكون أعلى من المستوى العادي في مراحل العمر الباكرة. وعلاوة على حالاتهم التي هي مزيج خاص بين مظاهر القدرة والعجز معًا في اللغة، فإنهم أيضًا يتَّصفون بحُب شديد للعلاقات والمعاشرة الاجتماعية، بل يكشفون عن شخصيةٍ مفرطة في الروح الاجتماعية، ويتَّصفون أيضًا بحالة من الشذوذ الطفيف في شكل الوجه، وهو ما يُوصَف كثيرًا بأنه وجه عبثي مقترنًا بابتسامةٍ دائمة وعريضة.

والملاحظ أن مظاهر التناقُض في المهارات اللغوية الزائدة عند الأطفال المرضى بمُتلازمة وليامز أثارت انتباه أورسولا بيلوجي، وهي واحدة من بين الروَّاد في دراسة التحدث بلغة الإشارة عند الصُّم والبكم، وبذلت هي وزملاؤها جهدًا كثيفًا بُغية دراسة هؤلاء الأفراد، وجمعت رصيدًا من المعلومات التي تُمثل حصاد تجارب واسعة، علاوة على قدْرٍ من البيِّنات الأولية المُتعلقة بمظاهر الشذوذ في المخ لدَيهم. ونعرف أن أطفال مُتلازمة وليامز مُثيرون للاهتمام بوجهٍ خاصٍّ بسبب ما يبدو لديهم من مهارات لفظية مبكرة لها أنماط غريبة، إنك حين تسألهم أن يقصوا عليك ما يعرفونه عن موضوعٍ عادي مألوف تراهم يقدمون قائمةً طويلة من الخصائص الفيزيقية ويذكرون أسماء أماكن؛ لعلك تجد فيها مكانًا تعرفه، ويحكون عن أشياء وفائدتها … وهكذا. ولكن إذا ما سألت عما إذا كان هذا الشيء نفسه يمكن استخدامه لغرَض جديد يبدو واضحًا للعيان من خلال خصائصه المادية، فإنهم غالبًا ما يشعرون بالحيرة والارتباك. ونعرف أن الأطفال الأسوياء من ذوي الأعمار نفسها قد لا يكشفون عن مثل هذا القدْر في وصف الشيء وخصائصه عند الإجابة عن السؤال الأول، ولكنهم سيجدون سهولةً للتخمين بمضمون الإجابة على السؤال الثاني. ويمكن أن تكون معرفة الأطفال المرضى بمتلازمة وليامز بالكلمات أمرًا يُشبه حالة شخصٍ تذكر مدخلات قاموس أو موسوعة دون أن تكون لدَيه أي خبرة بالأشياء التي يتحدَّث عنها، لقد اكتسبوا معرفةً واسعة بالترابطات اللغوية، ولكنهم يعرفون شذرة من شبكة الترابطات الإضافية وليدة الخبرة العملية التي تربط الكلمات بالعالم.

ونظرًا لأن الأطفال المُصابين بمتلازمة وليامز يَبدون مُتمتِّعين بقدرات لفظية متطورة على الرغم من حصولهم على تقديرات منخفضة في اختبارات الذكاء، فقد استخدم البعض هذه الحقيقة لدعم حجج عن معيارية وظائف اللغة، والملاحظ أن الأطفال المُصابين بمتلازمة وليامز يثبتون في ظاهر الأمر أن لدَيهم قدرة نحوية ولغوية زائدة، ولكن فهمهم للغة يكون ضمن سياقِ فهمٍ براجماتي ضحل، ويبدون أدنى مستوًى من حيث القدرة على حلِّ المشكلات، ولهذا السبب يذكرهم بعض الباحثين باعتبارهم دليلًا يؤكد أن المعرفة النحوية للغة فطرية؛ أي مُستقلة عن القدرات المعرفية الأخرى، ويتسق هذا التفسير أيضًا مع أقلِّ النتائج المُترتبة على حالة الحبسة aphasia والتي لها علاقة بمقاييس الذكاء التي تستثني اختبارات الأداء اللفظي، بيد أننا نُخطئ إن تصوَّرنا في ضوء هاتَين الوسيلتَين أن اللغة والذكاء العام منفصلان بسبب ظروفٍ مرضية؛ مما يعكس استقلال اللغة عن الذكاء. إن الذكاء ليس وظيفة للمخ كوحدةٍ واحدة، كما أن اللغة ليست معزولة عن الوظائف المعرفية الأخرى، بيد أننا مع ذلك نرى في متلازمة وليامز قصورًا يتمثَّل في تشظِّي الوظائف الإدراكية بطريقةٍ تستبقي على نحوٍ اختياري عمليات بذاتها لها دورها الحاسم في نمو اللغة، ومن ثم تُفيد في تعزيز الزعم بأن نمط انحيازات التعلُّم التي تَفضل التعلُّم الرمزي قد تكون مختلفة تمامًا، بل متعارضة مع تلك الانحيازات المُفيدة في غالبية سياقات التعلُّم الأخرى.
وأفادت معلومات تشريحية حديثة بوجود بعض المظاهر الغريبة في أمخاخ مرضى متلازمة وليامز التي يمكن أن تكون مفتاحًا لفهم هذا الانفصال المُحير؛ إذ كشف كلٌّ من التحليل عقب الوفاة وتحليل التصوير بالرنين المغناطيسي MRI-magnetic resonance imaging عن وجود أمخاخٍ بها نقص لكل قشرة المخ الخلفية، ولكن مع تضخم للمخيخ والفصوص الجبهية، بل ربما أيضًا مبالغة في حجم المُخيخ. ولا يتوفر لدينا الآن سوى القليل جدًّا من المعلومات التي تؤكد لنا أن جميع المرضى بمتلازمة وليامز لديهم قشرة المخ لمقدم الدماغ والمخيخ سليمة تمامًا، وأن السبب الأساسي للمرض يمكن ألا يؤدي دائمًا إلى مثل هذه المظاهر المتضخمة الشاذة، ومن ثم ما يزال هذا التضخم هو الدليل الأكثر ثباتًا واتساقًا لمعرفة أعراضهم اللغوية الغريبة (انظر شكل ٩-٣).
fig37
شكل ٩-٣
شكل ٩-٣: مقارنة مثالية إلى حدٍّ ما بين أوجه القصور العصبية في متلازمة وليامز، وبين أوجه القصور العصبية لحالة الذاتية؛ مما يؤكد تكامل أنماطهما العصبية (وكذا أنماط القصور والعجز)، وتبدو متلازمة وليامز (التي تتسبَّب في زيادة القدرات اللغوية السطحية — مقابل خلفيةٍ لقصور فكري واسع النطاق.) تتسبَّب في زيادة قشرة مقدم الفص الأمامي والمخيخ، ولكنها مقترنة بنقصٍ كبير لمنظومات قشرة المخ الخلفية (جالا بورد وآخرون، ١٩٩٤م). وتبدو بعض أشكال الذاتية (المقترنة بصعوباتٍ شديدة نسبيًّا في الاتصال من حيث اللغة وبعض الوسائل الأخرى) مرتبطة في الغالب بضعفٍ واضح لوظائف مقدم الفصل الجبهي، ولكن مع زيادة نسبية لوظائف قشرة المخ الخلفية، فضلًا عن الارتباط بمظاهر شذوذ في المخيخ، وتشير الأسهم إلى المناطق التي من المرجح أكثر أنها تكشف عن نقص تشريحي أو شذوذ.

وهذا النمط لقشرة مقدم الفص الجبهي في حالته السليمة ومقترنًا بقشرة مخٍّ خلفية دون المستوى السوي يُمكن أن يُمثِّلا لنا إلماحةً إلى مظاهر القدرة والعجز المتناقِضة لدى المُصابين بمتلازمة وليامز، وتُمثل هذه النسب انحرافًا مهمًّا فيما يتعلق بالنقلة البشرية في نِسَب مقدم الفص الجبهي بالمقارنة بالرئيسات الأخرى، وحجتي هنا تقضي بأن تضخُّم قشرة مقدم الفص الجبهي بالقياس إلى المناطق الحسِّية الخلفية وتحت القشرة هو المسئول عن التعلُّم المنحاز الذي هيأ للبشر إمكانية استخدام استراتيجيات التمثيل الرمزي. وجدير بالذكر أن التعلم وغير ذلك من انحيازات إدراكية ووجدانية — في متلازمة وليامز — يمكن أن تقدم لنا مفتاحًا لفهم هذا الانتقال إلى الحدِّ الذي تتضمَّن فيه أيضًا انحيازًا خاصًّا بمقدم الفص الجبهي وإن كان لأسبابٍ جدِّ مختلفة. ونعرف أن متلازمة وليامز ليست تضخُّمًا لمقدم الفص الجبهي، وإنما هي فقط هيمنة كبيرة لمُقدم الفص الجبهي بالمقارنة بالمخ البشري السوي العادي؛ ويرجع ذلك إلى حالةٍ مرضية تضاعف من دور قشرة مقدم الفص الجبهي في سياق إصابةٍ أخرى تنموية واسعة النطاق. ونحن لا نملك حتى الآن رؤية تحليلية كافية في مجال علم النفس العصبي عن مُتلازمة وليامز لكي نتحقَّق من هذا التنبؤ، بيد أن ما لدينا يمكن أن يُساعدنا على فهم القدرات الخاصة باللغة لدى هؤلاء. وحريٌّ أن نتذكَّر في ضوء تعلُّم الرمز أن إسهام مجالات مقدم الفص الجبهي حاسم جدًّا لعمل النقلة بعيدًا عن الترابُطات بين علامة الدليل الموضوعي والشيء للاعتماد على أنماط ترابطِ العلامة والعلامة لتنظيم المرجعية، وهذه نقلة صعبة لأن ترابُطات الدليل الموضوعي مكتسبة عن طريق خبرةٍ ثابتة بالعلاقات المشتركة المباشرة بين الأحداث الواضحة بدرجة عالية، بينما أنماط العلامة والعلامة لا يتسنى اكتشافها إلا بمقارنة هذه الأنماط للتوليف من خلال تفاعُلات كثيرة مع متحدِّثين آخرين. وتبدو هذه غامضة؛ لأنها موزعة داخل التفاعُلات وليست بينها علاقات مشتركة ثابتة ومُتسقة. وثمة احتمال بأن هيمنة مقدم الفص الجبهي تساعد هذه العملية عن طريق انحياز استراتيجيات التنبُّه والذاكرة لإيثار تحوُّل الانتباه من روابط العلامة والشيء إلى علاقاتٍ أرفع مستوًى بين العلامة والعلامة.

وحريٌّ أن نتأمل أن إحدى نتائج متلازمة وليامز هي ضعف التعلُّم وضعف حلِّ المشكلة (انظر شكل ٩-٣)، وهذه — في ضوء القدرات المرجعية — ستؤدي حتمًا إلى ضعف التعلُّم القائم على الدليل الموضوعي، ومن ثم فإن العلاقات المادية والبرجماتية بين الإشارات المادية والأشياء وصفاتها — التي هي بالنسبة لغالبية الناس والحيوانات عملية متراكمة سريعًا ودون مجهود في الذاكرة، وتشكل شبكة كثيفة من المرجعيات الدالة موضوعيًّا — ستكون علاقاتٍ محدودة لدى الأفراد المُصابين بمتلازمة وليامز. وعلى الرغم من أن وضوح وبروز هذه الترابُطات من شأنه أن يعوق نمو القدرات الرمزية، لدى الأنواع الأخرى فإنها أيضًا «تؤسس» المرجعية الرمزية. ونعرف أن القسمات الدلالية تتأسس على هذه الترابطات الدلالية الموضوعية المُحتملة. ويبدو — حسب هذا الرأي — أن متلازمة وليامز عند الأطفال تكشف عن نضجٍ مبكر للقدرات على بحث واكتشاف الروابط التوليفية بين الكلمات، وقد تحدُث مبالغة لهذه المهارة لسببٍ مُحدد، وهو أنها أضعف من قدرات التعلُّم السوية على أساس الدليل الموضوعي، وإن اكتشاف استراتيجية ذاكرية بديلة تُحقق تماسكًا لشبكةٍ ضعيفة من ترابُطات الدليل الموضوعي يمكن دفعها إلى الاعتماد أكثر وبقوةٍ على أنماطٍ توليفية أرفع مستوى أكثر مما هو الحال عند الأطفال الأسوياء، بيد أن الافتقار إلى دعم الدليل الموضوعي من شأنه أن يجعلها تقع أسيرةً لمنطق ترابط الكلمات وحدَه. والملاحظ أن من بين القسمات الخاصة المميزة لقاموس المُصابين بمتلازمة وليامز ميلهم الشديد للكلمات غير المألوفة، ويُمكن فهم هذا الأمر في ضوء نقص المعلومات التي في حوزتهم لتقييم مفرداتٍ قاموسية مختلفة ومقارنتها بعضها ببعض، كذلك فإن افتقارهم للألفة وليدة الخبرة من شأنه أن يُقلل كثيرًا من التأثير على مدى وضوح الكلمة، وبهذا يقل الاختلاف بين التواتر النسبي للكلمات النمطية وغير النمطية.
وأخيرًا، تمثل روح المعاشرة الاجتماعية المبالَغ فيها لديهم مفتاحًا مُهمًّا لفهم كلٍّ من الآثار الوظيفية لهيمنة مقدم الفص الجبهي، وكذا لفهم انحيازات الانتباه التي تدعم تعلم الرمز. ولقد كان معروفًا منذ زمنٍ طويل أن إصابة مقدم الفص الجبهي يمكن في كثيرٍ من الأحيان أن تتسبَّب في اضطراب السلوكيات الاجتماعية. ومن أوائل من وصفوا وروَّجوا لحالات إصابة مقدم الفص الجبهي لدى البشر رجل يُدعى فينياس جاج؛ إذ بينما كان يعمل ضمن طاقمٍ في السكك الحديدية في فيرمونت عام ١٨٤٨م لتركيب بودرة متفجرة وحشوها في ثُقبٍ مع قضيبٍ من الحديد، انفجرت البودرة عن غير قصد، وقذفت حشو الحديد في وجهه في المنتصف تمامًا في فصي مقدم الدماغ، عاش جاج ولكن وهو يُعاني من اضطرابٍ مزاجي وعاطفي شديد، وأصبح سلوكه الاجتماعي غير مُلائم بين الناس، وهكذا ساد الاعتقاد بأن حالات الشذوذ التي تُصيب مقدم الفص الجبهي يمكن أن تكون أساسًا لمظاهر السلوك غير السوي لدى المُصابين بالانفصام (الشيزوفرينيا)، وأصبح هذا مُبررًا لاستخدام عمليات تشريح مُقدم الفص الجبهي وعمليات خزع الألياف البيضاء الأقل إصابة لمقدم الفص الجبهي (قطع الألياف المُتجهة إلى ومن المناطق المدارية لمقدم الفص الجبهي orbital prefrontal) كوسيلةٍ للتحكم في مرضى الطب النفسي، وأُجريَت حديثًا بحوث على قردة تم استئصال المساحات الوسطى والمدارية في مقدم الفص الجبهي لأمخاخها، وأثبتت هذه البحوث فقدانًا موازيًا للصلاحية الاجتماعية؛ إذ أصبحت هذه القردة غير اجتماعية مُفضِّلة العزلة وغير صالحة اجتماعيًّا إذا ما اضطرتها الظروف إلى العيش في سياق اجتماعي،١٢ ومن ثم إذا كانت متلازمة وليامز تتسبب في حدوث هيمنةٍ لمقدم الفص الجبهي نتيجة عطب خلفي، فإن بوسعنا أن نفسر المبالغة في المعاشرة الاجتماعية بآلية عكسية: استغراق وفرط حساسية hypersensitivity إزاء المعلومات والعلاقات الاجتماعية، وهذا يمكن أيضًا أن يساعد عملية اكتساب الرمز بفضل الاهتمام المُبالغ فيه بالمنبهات الاجتماعية خاصة أنماط استخدام الكلمات، وذلك على حساب المعلومات الأخرى، ومن ثم فإن الكلام والعلاقات بين الكلمة والكلمة ستكون من بين أبرز العلاقات الترابطية.
وثمة مرض وثيق الصلة يظهر بداية في صورة نُضج مبكر للقدرة على القراءة، واختير له مؤخرًا اسم هايبر لكسيا hyper lexia؛ إذ الملاحظ في المرحلة العمرية التي يبدأ فيها أغلب الأطفال تعلُّم كيف يكوِّنون أُولى الكلمات والجُمَل في حياتهم، نجد عددًا قليلًا جدًّا من الأطفال يكشفون عن قدراتٍ فذة تفوق التصوُّر في تحديد الرمز، إنهم يقرءون الكلمات المطبوعة على صناديق الغلال ويتعرفون على علامات الطريق، ويُحددون العلامات التجارية ويعرفون أسماء جميع الحروف والأعداد، ولكن جميع هذه القدرات التي قد تُبشر بأن الطفل سيكون أعجوبةً فذة في اللغة والرياضيات، تتكشَّف لسوء الحظ فيما بعد بأنها قدرات منعزلة لعقلٍ مُصاب في الواقع بحالة تخلُّفٍ شديدة من حيث القدرة على تفسير الرموز، إن فهم اللغة يكون عند الحدِّ الأدنى، وقُدرتهم على إدراك أو فهم الصِّلات والروابط بين الأشياء التي يقرءونها ضعيفة أيضًا، ونحن لا نعرف سوى القليل عن العلاقات المشتركة العصبية بحالة الهايبر لكسيا، بيدَ أن بالإمكان التنبُّؤ بأنماطٍ مُماثلة لحالات عطب عصبية وانحياز للتعلُّم والانتباه، وثمة حالات مرَضية أخرى من مثل الاستسقاء الدماغي hydrocephaly يمكن أن تتسبب في حدوث أنماطٍ مُماثلة لإعاقة اللغة؛١٣ لذلك فمِن المُحتمل أن متلازمة وليامز لا تحدُث بسبب فرط ظهور جينةٍ خاصة باللغة، بل لعلَّ الأصح أنها تعكس الإدراك المنحاز الناتج عن نمطٍ ثابت مُتعلق بتلفٍ وضعف في قشرة المخ والمخيخ.
ولعل من المُثير للاهتمام أن هناك — على ما يبدو — دليلًا جيدًا يوضح بالدقة أيَّ الجينات مسئولة عن متلازمة وليامز؛ إذ حدَّد علماء الوراثة نوعَين من الجينات يغيبان بوضوحٍ في جميع حالات المرض، وأُولى الجينتَين هي جينة المرنين gene of elastin، وهي بروتين من نسيجٍ ضامٍّ يؤدي في حالة غيابه إلى خلل في القلب والذي يُمثل خاصيةً مميزة لمتلازمة وليامز. وكشف توماس شي وزملاؤه من جامعة ماساشوسيتس في لو ويل في دراسة تعاونية عن أن المرنين يمكن أن يُفيد أيضًا كأساسٍ تنمو عليه المحاور العصبية، ولذا فإن غيابه قد يُمثِّل مشكلةً أثناء نمو المخ، ولكن أمكن حديثًا اكتشاف جينةٍ أكثر ارتباطًا بالموضوع وموجودة مباشرةً بجوار جينة المرنين، وتختفي كذلك في حالة التعرُّف على متلازمة وليامز،١٤ ويُسمى المنتج البروتيني لها باسم أنزيم إل. آي. إم. ١ LIM1 kinase؛ نظرًا لتماثل بِنيته مع مُنتج جيني مُماثل يُسمى إل. آي. إم. ١، وليس مصادفة أن جينات كلٍّ من إنزيم LIM1 kinase وLIM1 تظهر في منطقة دماغ الأجنَّة حال نموِّها، ونحن ما نزال بحاجةٍ إلى أن نعرف الكثير عن السبب في أن اختفاء جينة إنزيم LIM1 يمكن أن يُسهم في ظهور متلازمة وليامز، ولكن يمكن مع هذا أن نقول: إنه إحدى القسمات المُميزة للجينة المناظرة ﻟ LIM1 وثيقة الصلة جدًّا، ولوحظ أن أجنة الفأر الناقلة للجينات التي تشتمل على كلٍّ من نسختَي جينة LIM1 غير الفعالة تفشل في تكوين رأسٍ تمامًا حتى وإن بدا أن بقية الجسم اكتمل بشكلٍ سوي. وجدير بالذكر أن مُتلازمة وليامز هي في جوهرها إنزيم بشري مُعطل، ويبدو أنه مِثله مثل هذا الفأر المُهندَس وراثيًّا بتعطيل الجينة يتسبَّب في تأخُّرٍ واضح لنمو منطقةٍ كبيرة مجاورة في المخ (وقد تكون مسئولة أيضًا عن النمو غير السوي للوجه الذي يُعطي خاصية مظهر الوجه العابث لمتلازمة وليامز).
وتعطينا متلازمة وليامز صورةَ مرآة مشوشة للتغيرات الجينية التي يتعين أن تشكل الأساس للانحياز الرمزي البشري؛ ذلك أن تخلف القطاع الأكبر من المخ دون قشرة مقدم الدماغ والمخيخ — وهو ما يحدث لدى الشخص المُصاب بمتلازمة وليامز — قد هيأ لهذَين التكوينَين سيطرة أكبر على كل العمليات المعرفية، والنتيجة هي مبالغة الانحياز لتعلم الترابطات الرمزية، حتى وإن كانت القدرة على تعلُّم ترابُطات غير رمزية تُعاني عطبًا شديدًا. ويفسر هذا ميول هؤلاء الأطفال التي تُشبه حالة الهايبر لكسيا؛ أي النضج المبكر لديهم في قواميسهم من المُفردات وكذا قدرات القراءة وشغفهم بالكلمات غير المألوفة، بل وربما إحساسهم المُفرط بالروح الاجتماعية؛ (انظر الفصل ١٣ حيث نعرض مناقشةً لبعض النتائج الاجتماعية والعاطفية الأخرى المُترتبة على انحياز مقدم الفص الجبهي)، ولكن هذا العيب في جينة التكوين المتماثل homeotic gene لدى المُصابين بمتلازمة وليامز يُحقق انحيازًا مسرفًا لمقدم الفص الجبهي على حساب المستوى الأضعف للتعلُّم في جميع المجالات، الذي ينتج عنه أن يظلَّ فهمهم للرموز شبه مقصورٍ بالكامل على العلاقات الاجتماعية، بمعنى علاقات كلمةٍ بكلمة، ويقترن هذا بقصور في الروابط المعجمية الداعمة للأشياء والأحداث؛ لذلك تُثبِت متلازمة وليامز أن الذكاء المرتفع ليس حاسمًا لعبور العتبة الرمزية مثلما هو الحال في كِبر السن مقترنًا بانحيازٍ خاصٍّ في ميول التعلم، ولكن متلازمة وليامز هي أكثر من أن تكون مجرد استثناءٍ يُثبت القاعدة بشأن تطوُّر القدرات اللغوية. إنها أيضًا دليل يكشف أنواع التغيرات الجينية والعصبية في النموِّ التي تكمُن وراء هذا التطور.
وتمثل الذاتية autism١٥ الوجه المقابل والمهم لمتلازمة وليامز؛ إذ إن أهم ما يمايز الذاتوية هو الانسحاب الكامل من المجتمع ونقص في القدرة و/أو الرغبة التواصلية في المجتمع. والمعروف أن الأطفال الذين يعانون من حالة ذاتية شديدة يتجنَّبون التواصُل والمواجهة عن طريق النظر، وغالبًا ما لا يرتاحون بل يضطربون عند التلامُس البدني، ويبدون وكأنهم لا يشعرون بوجود الآخرين أو يجدون في حضورهم سببًا للاضطراب، ويميلون إلى العيش عند الكبر في عزلةٍ نسبية، وقادت هذه الأنماط الاجتماعية العديد من الباحثين للتركيز على افتقارهم الواضح لما يُسمى «نظرية العقل» أي قراءة عقول أو فكر الآخرين theory of mind، وهو ما يعني الوعي أو إدراك الآخرين باعتبارهم قوى واعية وكائنات لها مشاعرها، وكثيرًا ما يقال: إن الأطفال الذاتِيِّين يميلون إلى معاملة الآخرين (بشرًا وحيوانات) وكأن لا فارق بينهم وبين الأشياء الأخرى، وأفضى هذا إلى تطرُّفٍ نظري مماثل للمزاعم عن وجود عضو اللغة، وراج أخيرًا عدد من الفروض عما يُسمى «النقص الإدراكي الاجتماعي الأول»، أو فساد «نظرية وحدة أساسية للعقل» theory of mind module موجودة في مخ الأفراد الذاتِيِّين. وهذه الآراء على أحسن الفروض غير ناضجة؛ إذ إن الأمر ليس مقصورًا على أن الزعم بوجود وحدة أو مكوِّن أساسي هو زعم سطحي، بل إن التركيز على العطب الاجتماعي وحدَه هو أمر قاصر ومُبتسر. إن القول بعطب وفساد الإدراك الاجتماعي (أيًّا كانت صورته في المخ) لا يمكن أن يُفسِّر وحده الفشل في نموِّ لغة سوية، ولا يفسر أيضًا مجالات قصور الانتباه الأخرى وانحيازات التعلُّم المشتركة في حالة الذاتية. ويبدو على الأرجح أن القصور الاجتماعي مرتبط بشيءٍ أكثر أساسية، بل ربما يكون نتيجة له، وثمة دلائل أخرى ومفاتيح لفهم ذلك تُيسِّرها لنا الاستعدادات السابقة الإدراكية والسلوكية لدى الأطفال والكبار الذاتِيِّين؛ إنهم يميلون بقوةٍ نحو استحداث أنماط سلوك نمطية للغاية وأشبه بالطقوس وعلى نطاق واسع، سواء بشكلٍ اجتماعي أو في أساليبهم لأداء مهام حياتية ومعالجة أشياء وموضوعات مألوفة، ويسوون حياتهم عند الكبر في الغالب الأعم وفقًا لجداول أعمال صارمة وقوائم راسخة في الذهن؛ بحيث يجدون أنفسهم فريسة لحالةٍ من التشوش إذا ما خرجوا عنها.
وحريٌّ أن نذكر أن الأساس العصبي للذاتية لم يُحسَم بعدُ؛ إنه على خلاف متلازمة وليامز المُقترنة بحالةٍ محددة من الشذوذ الجيني. نجد أمامنا الكثير من الاحتمالات العصبية التي يمكن أن تكون سببًا للذاتية، ولقد أخفقت دراسات كثيرة في تحديد أي حالة شذوذٍ نجد بعضًا من الأنماط المُكملة لتلك التي نُشاهدها في متلازمة وليامز، والشيء اللافت للنظر أنه على الرغم من مُجمل أعراض العطب الإدراكي المرتفع الذي يتضمَّن اللغة والتعلم نجد أيضًا الحد الأدنى من الدلائل والتشوُّش التي تُشير إلى حالات شذوذ بنيوية يدخل ضِمنها النصفان الكرويان للدماغ. وافترض باحثون كثيرون أن المنظومة الطرفية تدخُل ضمن ذلك نظرًا للقسمات العاطفية المُميزة لهذا المرض، ولكن لا دليل آخر واضحًا يوضح أعراضًا مرَضية طرفية، ويبدو أن حالات الشذوذ البنيوية لها الهيمنة في ساق المخ والمُخيخ، وتفيد أمخاخ المُصابين بالذاتية أن فصَّي المخيخ أصغر حجمًا خاصةً على الخط الوسطي، وكذا ساق مخ أصغر حجمًا من السوي، وفتح هذا البابَ لكلِّ أنواع المُراهنات والتخمين بشأن دور المخيخ في النمو الاجتماعي والعاطفي، ولكن نجد على الأقل دراسةً كشفت عن أن مثل هذه العيوب ليس لها الدور الأول في تشخيص الذاتية مثلما هو الحال في تحديد الأمراض العصبية التي تتكشَّف في فترةٍ متأخرة في النموِّ عند الجنين أو الوليد حديثًا. وحيث إن المخيخ مقارنةً بغيره هو أحد المكونات التي يكتمِل نُضجها آخر الأمر ويكشف عن آخر أنماط النمو الضخم، فإن من المُمكن أيضًا أن يكون أكثر تعرضًا للإصابة بأعراضٍ مرَضية مميزة ومتعلقة بالخلايا. ويبدو أن الدليل المباشر الوحيد على أن قشرة المخ داخلة ضمن التشخيص إنما يُركِّز على نشاط الفصوص الجبهية لدى البالِغين والكبار من الذاتِيِّين. وجدير بالذكر أن علامات الفص الجبهي مثلها مثل العوامل التشريحية الظاهرية في الذاتية، مُتغيرة، بيد أن بعض الدراسات التي عُنِيَت ببحث الفوارق الأيضية في مناطق قشرة المخ كشفت عن نقص دفق الدم في المخ وانخفاض أيضِ منطقة مقدم الفص الجبهي،١٦ وكشف أخيرًا عدد من علماء النفس أن مرضى الذاتية يُعانون من صعوبات نوعية ومُحددة إزاء المهام التي تستلزِم تصورًا لما يدور في أذهان الآخرين، ويجد الذاتيون مشكلةً في تصوُّر منظور أو رؤية الآخرين أو إدراك أن الآخرين لديهم معلومات مختلفة بسبب اختلاف الرؤى إزاء مُهمةٍ ما. وليس مصادفةً أن هذا ما نتوقَّعه بالنسبة لشخصٍ يُعاني من إصابةٍ في قشرة مقدم الفص الجبهي.
ويبدو غريبًا دلالة أن يكون المُخيخ إما نشطًا بشكلٍ زائد (متلازمة وليامز) أو ناقصًا (الذاتية) في هاتَين الحالتَين من متلازمات الأعراض الخلقية، بحيث تؤثر في القدرة اللغوية، وذلك لأن المُخيخ ليس مُتضمَّنًا بشكلٍ عام في نظريات مُعالجة اللغة، ولا داخلًا ضمن الدراسات عن الحبسة «الأفيزيا»؛ إذ يسود الاعتقاد بأن المُخيخ ضالع في تنظيم الحركات التلقائية نسبيًّا (من مثل الحركات الدفعيَّة ballistic movement المبرمجة سابقًا مثل قذف كرة أو القفز فوق حاجز أثناء العَدْو أو العزف وفقًا لمعايير مُحددة على البيانو)، وثمة أسباب جيدة لتصوُّر أن له دورًا ما في ضبط مخارج الكلام، ودليل على أن إصابة المُخيخ يمكن أن تؤثر على طلاقة الحديث، بيد أن هذا — فيما يبدو — ليس العامل الذي يؤكد الأهمية المحورية له في متلازمة الأعراض الخلقية المذكورة. ويبدو أن هاتَين المُتلازمتَين للأعراض المرضية تتضمَّنان مستويات أعلى لتنظيم اللغة، وتكشف دراساتٌ عن التخيُّل عن دلائل مقابلة بشأن وظائف لُغوية للمخيخ؛ إذ على الرغم من أن المخيخ يجري تنشيطه لدرجةٍ ما أثناء الكلام؛ حيث يتكثف نشاطُه حين يكون إزاء مهام صعبة تتعلق بترابُط الكلام (مثل سرعة بيان الفعل الملائم لاسمٍ ما في المهمة سالفة الذكر)، والملاحظ حتى في دراسات عن التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني PET = positron emission tomography أنه حتى مع طرح مساهمة المُخيخ في الكلام، فإن نشاطه المُستقل ضخم في المُهمة الترابُطية؛ ذلك أن نشاط المخيخ يمكن أن يساعد هذه العملية عن طريق توفير وسيلةٍ للوصول إلى تحديد مساهماتٍ ثانوية للتسلسل اللفظي التلقائي، وربما يدعم التحولات السريعة اللازمة للانتباه (انظر شكل ١٠-٤) ومناقشتنا للموضوع في الفصل التالي.
وأصبح من المُعترف به الآن أن للمخيخ دورًا محوريًّا في عمليات الانتباه لدى البشر، وذلك بفضل دراساتٍ تمت حديثًا على المرضى الذين أُجريت لهم عمليات استئصال جزئي للمُخيخ أو لديهم إصابات به،١٧ ونعرف أن إصابة المخيخ في الرئيسات يمكن أن تتسبَّب في إفساد عددٍ من المهام التي تتَّصف هي نفسها بالحساسية لإصابة مقدم الفص الجبهي. ويبدو بوجهٍ عامٍّ أنها تعطب عددًا متنوعًا من المهام الإدراكية والمعرفية التي يُمثل التوقيت الزمني فيها عاملًا مُهمًّا. وإنه علاوة على ما للمخيخ من وظيفة مختلفة تمامًا فإن من المُحتمَل أن له وظيفةً مماثلة لدور المخيخ في الوظائف الحركية. والملاحظ أن الكثير من قسمات الأنشطة الحركية تستلزِم عملياتٍ عصبية مُماثلة لتلك العمليات التي تتضمَّنها الحركات بما في ذلك التوقُّع والاستعداد التلقائِيَّين. وإذا كان المخيخ يضاعف المُعالجة التي تؤديها قشرة المخ بما يُهيئه من مخزونٍ لإعادة أداء سلسلةٍ من الأنشطة المكتسبة سابقًا وما يُهيئه من تنظيمٍ توقيتي دقيق لأدائها، فإننا نرى أن بالإمكان أن يؤدي دورًا مهمًّا في دعم عمليات متنوِّعة من العمليات اللغوية السريعة وشبه التلقائية التي قد تشمل عملياتٍ كانت مرتبطة بتكويناتٍ مُتخصصة في المخ.

وتبين أيضًا أن المخيخ واحدٌ من بين مجموعةٍ من تكوينات المخ التي تضخَّمت على أساسٍ انتقائي لدى البشر بالمقارنة بالرئيسات الأخرى، ويعني هذا أيضًا أنها أزاحت رسائل عصبية من منظوماتٍ أخرى لم تتوسَّع، وعلى الرغم من أن المخيخ يتلقى مدخلاتٍ من النخاع الشوكي تحمِل معلوماتٍ بدنية عن التوتُّر العضلي والوضع المِفصلي، وتسهم بمخرجاتٍ حركية رئيسية من النخاع عبر النواة الحمراء في المخ الأوسط، فإن الرابطة بين المُخيخ ومنظومات قشرة المخ مُتسعة النطاق أيضًا، وإن الرسائل العصبية الحركية والقبحركية ومن مقدم الفص الجبهي تؤلِّف معًا نسبةً كبيرة من المدخلات إلى المُخيخ عن طريق تمريراتٍ في الجسر، وهو التضخُّم عند رأس ساق المخ، ونجد المكوِّن لمنظومة المدخلات هذه من مقدم الفص الجبهي عند البشر قد تضخَّم على الأرجح، وأزاح مدخلاتٍ أخرى من منظومات النخاع الشوكي والمنظومات الحركية لقشرة المخ، كذلك فإنَّ نويَّات مخرجات المخيخ تُعيد إرسال رسائل عصبية إلى قشرة المخ عن طريق تمريراتٍ في الجزء الجانبي البُطيني من المهاد الذي يُرسِل في الأساس رسائل إلى الأماكن الحركية والقبحركية.

ونجد في الرئيسات الأخرى خليطًا واسع النطاق من مناطق قشرة المخ التي تُرسِل رسائل عصبية إلى المُخيخ بما في ذلك غالبية المناطق الحسِّية واللمسية، وهناك أيضًا رسائل متواضِعة من الأجزاء الظهرية لقشرة مقدم الفص الجبهي، التي تصِل على الأرجح من مناطق تستقبل معلوماتٍ لمسية وحركية من مناطق أخرى لقشرة المخ، ولكن لا يبدو أن الأجزاء البُطينية لقشرة مقدم الفص الجبهي في أمخاخ القردة ترسِل أي مُخرجات إلى المخيخ، غير أن تضخُّم قشرة مقدم الفص الجبهي الواسع لدى البشر قد حول على الأرجح هذه العلاقات الرابطية؛ بحيث إن عددًا كبيرًا من الروابط الخارجة من مساحةٍ أكبر من قشرة مقدم الفص الجبهي تستهدف المُخيخ بالقياس على أنواع الرئيسات الأخرى، ومن ثم فإن مناطق من قشرة مقدم الفص الجبهي التي لا تستهدف المخيخ في الرئيسات الأخرى — من مثل المناطق البطينية — يمكن أن تشارك لدى البشر في الدارات القشرية؛ المُخيخية-القشرية. ويستقبل هذا القطاع من قشرة مقدم الفص الجبهي مدخلات سمعية محولة، ويرتبط ارتباطًا وثيقًا بكلٍّ من مناطق قشرة المخ الصوتية-اللفظية ومنظومات التصويت أو النطق في الخط الأوسط؛ (انظر الفصل التالي لمزيد من التفاصيل)، وطبيعي أن انضمام منظومة المُخيخ — إلى دائرة وظائف مقدم الفص الجبهي المشار إليها — سوف يُضيف مساعدة حسابية فريدة إلى تحليل العلاقات الرمزية، وهي مساعدة لها رابطة نسَب جديدة بالرموز التي يجري تشفيرها كأصوات.

لذلك فإن المُخيخ ربما يكون ضالعًا في تحليل الصوت لدى البشر بنسبةٍ أكبر مما هو في أي أنواعٍ أخرى، وقد يكون هذا مهمًّا لتوليد ترابُطات الكلمات بمعدلٍ كافٍ للكلام؛ إذ لا بد أن يكون المتكلِّم أو المُستمع قادرًا على توليد الكلمات المترابطة بسرعةٍ تُعادل عرض الألفاظ أثناء الكلام، وأن يتجنَّب المُتكلِّم أو المستمع تدخل الترابُطات الأسبق، ويتعين أيضًا أن تكون عملية البحث المعرفية سريعة بالقدْر نفسه مع بقائها ضحلةً قدْر الإمكان. ولا ريب في أن أيَّ مَيل ولو كان طفيفًا نحو الدأب والمثابرة سيؤدي إلى خروج العملية عن مسارها؛ إذ المطلوب أداؤه لزامًا ليس هو إجراء تحليل سلبي، بل التوليد السريع المحكوم لاستجاباتٍ جديدة نسبيًّا وإن لم يتعدَّ كونه جديدًا نسبيًّا؛ لأن روابط الكلمات يجري استدعاؤها من بين روابط سابقة لا حصر لها، يجري استثارتها معًا في صورة جُمَل، وتُماثل عملية توليد الكلمة عملية تصريف أو اشتقاق فعل لاسم بحيث التبادل السريع يُكوِّن بالحتم جزءًا من كل عمليات تكوين الجمل، ويبدو أن النجاح في أداء هذه المهام تُيسره بقوة الربط بحاسوب التنبؤ السريع للمخ؛ أي المخيخ، ويمكن أن يمثل المخيخ مولدًا مستقلًّا لنقلاتٍ جديدة ولكن متوقَّعة للروابط من سياقٍ إلى آخر، بينما توفر قشرة مقدم الفص الجبهي كفًّا انتقائيًّا للجميع فيما عدا المثال الوحيد الملائم للمعايير الجديدة، ويبدو أيضًا أن قشرة الحزام cingulate cortex، علاوة على المخيخ، يجري تنشيطها بكثافة في مهام متنوعة تستلزم تحولًا عمديًّا للانتباه من أعلى إلى أسفل.

وها نحن هنا إزاء مجموعة متنوعة من الروابط الخاصة بمقدم الفص الجبهي ذات الأوجه الحاسِمة المُميزة لوظائف اللغة الحديثة؛ القدرة على بناء الرمز، ونقل التحكم في النطق بعيدًا عن المنظومات العاطفية، وتعزيز الميل نحو المحاكاة الاجتماعية، والتحول السريع لمنظومات التنبُّؤ في المخيخ لخدمة التحليل السمعي الصوتي. وتبدو جميعها وكأنها إلى حدٍّ كبير تَوافُق عرضي، ولكن هذه التغيرات في قشرة مقدم الفص الجبهي، المشتقة من تغيُّرٍ شامل في النِّسَب وثيقة العلاقة، لماذا حدثت فقط لمجرد توفير احتياجات اللغة؟ وواقع الأمر أن هذه التوافقات العرضية في ظاهرها إنما تبدو عرضيةً فقط إذا تفكَّرنا فيها من خلال الواقع الحالي؛ أي في ضوء طريقة عمل اللغة اليوم.

ويبدو واضحًا أن اعتبار هذه الوسائل الداعمة لقدراتنا الحديثة شروطًا سابقةً للغة من شأنه أن يعكس المنطق التطوري المؤسِّس لها، وإن التفاعل خلال التطور المشترك بين تطوُّر المخ وتطوُّر اللغة يلتقِيان معًا على الطريق إلى أيسر تكيُّف مع المشكلات الإدراكية والحركية المطروحة وقتذاك. ومثلما أن الصعوبات الرمزية خفتت حدَّتها بفضل تضخم قشرة مقدم الفص الجبهي، كذلك فإن التحولات في العلاقات الرابطية التي نتجت أيضًا مصادفةً هيَّأت قدراتٍ صوتية وسمعية زائدة، كما زودتنا باستعداداتٍ للمحاكاة الصوتية، وأفادت تلك المنظومات الخاصة بالتواصُل الرمزي من تلك القدرات المدعومة؛ مما هيَّأ لها فرصةً لمزيدٍ من النجاح، وهذا بدوره عزَّز — على أساس انتقائي — مزيدًا من الإحكام والاستخدام الناجح لمثل هذه القدرات، وتكفُل الطبيعة العرضية للعمليات التطورية المُشتركة نجاح هذا كلِّه حين تتهيَّأ الفرصة للاستفادة بذلك، ولكنها إذ تفعل ذلك تدفع إلى الحركة بعملياتٍ تنحاز للاتجاهات التطوُّرية المُستقبلية في هذا الاتجاه نفسه. وليس معنى هذا أن قشرة مقدم الفص الجبهي في صورتها المُتضخِّمة كانت شرطًا تطوريًّا سابقًا لتحقيق كلِّ حالات التكيُّف هذه الكثيرة والداعمة للُّغة، بل إن القسمات المميزة للُّغات تطورت لتُفيد بالمثل من الانحيازات العرضية لمقدم الفص الجبهي التي ولَّدها عن غير قصدٍ التطوُّر الرمزي.

وسوف نستكشف بصورةٍ كاملة — في الباب الثالث والأخير من هذا الكتاب — المنطق الغريب والمُثير للانتباه لدينامية التطور المشترك الذي تولَّدت عنه وظائف لغوية غير وثيقة الصِّلة بعضها ببعض، علاوة على التعلُّم الرمزي لكي تتلاقى ضمن المجموعة ذاتها من التغيُّرات العصبية، ولكننا وقبل التحول إلى هذا الموضوع، أجد أننا بحاجة إلى أن نُكمل دائرة المنطق التي تربط التحولات في تطور المخ البشري بالطريقة التي تستخدم بها الوظائف الأخرى للغة المخَّ بعد أن تمَّ عبور هذه العتبة اللغوية في الطفولة، كيف تسنى لهذا التحليل الجديد لجوهر تكيُّف اللغة البشرية أن يُغير الطريقة التي نحن بحاجةٍ إليها للتفكير في موضوع اللغة في المخ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥