الفصل الثالث
الأمريكيون في زمن الكساد
مرَّتِ الولايات المتحدة بفترات كساد قبل ثلاثينيات القرن العشرين؛ إلا أن الكساد
الكبير،
من حيث النطاق الذي شمله والفترة التي استغرقها وحداثة تسجيل وقائعه، أدَّى أيضًا إلى
انضغاط عظيم في الأجور؛ فالدولة المترابطة حديثًا (كان بمقدور الأمريكيين في العشرينيات
من
أعمارهم أن يتذكَّروا الوقتَ الذي كانت لا تزال توجد فيه أقاليم غربية، بدلًا من الولايات
الكاملة) أصبح لديها المذياع والأفلام الإخبارية في جميع المدن كي تعرف منها بنفسها كيف
كان
شعبها يعاني. ومع استمرار الكساد، أخذ يضع الطبقة الوسطى أكثر فأكثر في ظروف الفقراء،
وشجَّع على المشاركة الوجدانية بين الطبقات.
كان بإمكان الأمريكيين في الأربعينيات من أعمارهم تذكُّرُ آخِر كساد عظيم مرَّ بهم،
عندما
أدَّى الاضطراب العالمي في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر إلى إضرابات مخيفة، ودفع
جحافل
العاطلين عن العمل إلى أن يضربوا الأرض إلى الريف بحثًا عن العمل الذي لم يجدوه. وفي
غمرة
الكساد، أدلى أغلب المصوتين بأصواتهم ضد ويليام جنينجز براين، الديمقراطي الذي ادَّعَى
أنه
يتحدَّث بلسان المقهورين. ولكن بوسع الأمريكيين الذين ينتمون إلى هذا الجيل أيضًا أن
يتذكَّروا أن تسعينيات القرن التاسع عشر وقعَتْ إبَّان عصر من العولمة، وأن يتذكَّروا
كذلك
كيف كان عدد كبير جدًّا من العمال بالدولة من المهاجرين؛ أي من شعب آخَر. وقُبيل الكساد
الكبير، لم يَعُدْ ذلك هو الواقع حينها؛ فالحرب العالمية الأولى أبطأت من الهجرة حتى
كادَتْ
تتوقَّف تمامًا، كما أوصد تشريعُ عشرينيات القرن العشرين المقيِّد للهجرة البابَ الذهبيَّ
لأمريكا على نحوٍ شبه كامل، وبدا أن المصانع لم تَعُدْ تعجُّ بالعمال الأجانب القادمين
حديثًا؛ وبذلك سُدَّتْ إحدى الفجوات التي كانت تفصل، منذ جيل مضى، بين الطبقة الوسطى
والطبقة العاملة.
كما عملت شدة نائبة الكساد على تقليص المسافة بين الأثرياء والمعوزين؛ فانتقل الكثيرون
من
فئة إلى أخرى سريعًا، حتى إن العاملين أخذوا على نحوٍ متزايدٍ يشعرون بالمشاعر نفسها
لبني
جلدتهم من العاطلين عن العمل. تضاءلت الفجوة بين شرائح الدخل، ومع أن الأمريكيين من الطبقة
الوسطى كانوا فيما مضى — ولم يكن ذلك من وقت بعيد — يعتبرون دون تفكيرٍ أيَّ شخصٍ دون
عمل
شخصًا كسولًا، ولربما كانوا يعتبرون أيضًا أيَّ شخص يدَّعِي أن الحكومة عليها تقديمُ
العون
له شخصًا ذا أفكار راديكالية، ازدادت نظرتهم في ثلاثينيات القرن العشرين إلى الملايين
الذين
يعانون بينهم على أنهم أناس لا يختلفون عنهم كثيرًا، عملوا لبناء الدولة التي بَدَا آنذاك
أنها تنهار. ويساعد زوال الهوة بين الطبقات على توضيح سبب احتفاء الأمريكيين بأغنية إي
واي
هاربيرج «أخي! هلَّا أعطيتني عشرة سنتات؟» التي كان الأمريكيون يستمعون إليها مرارًا
وتكرارًا خلال فترة الكساد:
اعتادوا أن يقولوا لي إنني أشيد حلمًا،
لذا سِرْتُ مع الجماهير.
عندما كان هناك مَن يحرث الأرض أو يحمل السلاح،
كنتُ دائمًا هناك أؤدِّي عملي …
مرةً شيَّدت خط السكة الحديد، وجعلت القطار فوقه يسير،
فوقه يطير متحدِّيًا الزمن.
مرةً شيَّدت خط السكة الحديد، والآن انتهى الأمر.
أخي! هلا أعطيتني عشرة سنتات؟
وكما شرح هاربيرج، «هذا هو الرجل الذي يقول: أنا مَن شيدت خطوط السكك
الحديدية، أنا مَن شيدت هذا البرج، أنا مَن خضتُ حروبكم … أنا مَن ضحَّيْتُ من أجل هذا
البلد. أين حصتي من الأرباح بحق السماء؟»
1 كان يمكن للأمريكيين الذين لم يكونوا أنفسهم من العاطلين عن
العمل — وكانوا يمثِّلون أغلبية القوى العاملة —
أن يتجاهَلوا هذا السؤال الغاضب المتألِّم، كما فعلوا في أوقاتٍ أخرى من تاريخ بلدهم،
ولكن
مع اشتداد الظروف قسوةً، قبِلَ الأمريكيون الذين كان بمقدورهم بذل شيءٍ على قِلَّته،
بصحة
الدعوى، وكما أوردت صحيفة ذا نيويورك تايمز في بداية عام ١٩٣٣:
2 «مُجزِلين العطاء للأيادي الممدودة.» فالدولة التي انقسمَتْ بسهولة كبيرة منذ
وقت قريبٍ إلى جماعات عِرقية وإثنية، أصبحَتْ تتقارب الآن بعضها من بعض، حتى إن كان ذلك
بقدر بسيط.
سرعان ما تعاظَمَتِ الأزمةُ بعد الانهيار إلى حدٍّ مروع، لدرجة أن أبعاد الأزمة الكاملة
أصبح استيعابُها من الصعوبة بمكانٍ. وعندما ارتفع معدل البطالة لنحو ربع القوى العاملة
في
عام ١٩٣٢، فقد حوالي ١١٫٥ مليون أمريكي عملهم. ولقراءة الموقف من زاوية معيَّنة، يمكننا
أن
نتخيَّل أن كلَّ سكان نيويورك تقريبًا، التي كانت آنذاك أكثر الولايات سكانًا، فقدوا
عملهم؛
أي إنه من أقصى شرق لونج آيلاند إلى شواطئ بحيرة إيري، ومن الحدود الكندية إلى بنسلفانيا،
فقد الجميع عملهم.
إلا أن زاوية القراءة هذه لا تعطي الصورةَ الصحيحةَ تمامًا؛ فبعض سكان نيويورك —
الأطفال
والزوجات المُعالات — كانوا عادةً لا يمتهنون وظائفَ رسمية، فالعدد البالغ ١١٫٥ مليونَ
عاطلٍ عن العمل كان يمثِّل فقط «العمَّال» الذين لم يكونوا يتقاضَون رواتب، وكثير منهم
كانوا يعولون أُسَرًا تعتمد عليهم كي تجد قوتها؛ ومن ثَمَّ فالنسبة البالغة ١١٫٥ مليون
عاطل
عن العمل تمثِّل حوالي ثلاثين مليون أمريكي ممَّن فقدوا مصدر دخلهم.
3 وعلى ذلك، لعل ربع السكان ككلٍّ وجدوا أنفسهم دون أموال كافية لشراء المأوى أو
الطعام.
4
كما أن هذه الأرقام، على قدر الأثر الفظيع الذي تخلفه، لا تُطلِعنا تمامًا على كلِّ
ما
ينبغي أن نعرفه عن نطاق الكساد. فهذه البطالة كانت تخفي نوعًا آخَر وهو البطالة الجزئية؛
فالمحظوظون من الأمريكيين الذين احتفظوا بوظائفهم غالبًا ما شهدوا تخفيضَ ساعات عملهم
وأجورهم، فقد أراد أربابُ العمل الاحتفاظ بالعمَّال المَهَرَة بقدر ما يستطيعون؛ لذا
بدلًا
من تسريح العمَّال، حثُّوا العاملين لديهم على مشاركتهم العبء الواقع على كاهلهم، وبَدَا
الأمر لكثير من الموظفين عادلًا؛ وعليه بحلول صيف ١٩٣٢، كان أكثر من نصف الأمريكيين يؤدُّون
عملهم بدوامٍ جزئيٍّ، محتفظين بنسبةٍ مقدارها في المتوسط ٥٩ بالمائة من وظيفة وأجر الدوام
الكامل.
5
كان المعوزون من الأمريكيين يطلبون المساعدة على مضضٍ، وعندما أجبرتهم الظروف على
طلب
المساعدة، توجَّهوا إلى الأقربين منهم، إلا أنه في وقت الكساد خذلَتْهم كلُّ مصادرهم
الاعتيادية للدعم، واحدًا تلو الآخَر. وكما صرح أحد المسئولين في مدينة نيويورك في عام
١٩٣٢
فإنه «عندما يقعد ربُّ البيت عن العمل، فإنه يستنفد مدخراته إن كان لديه من الأساس …
ويقترض
من أصدقائه ومن أقربائه حتى لا يطيقون تحمُّل هذا العبء أكثر من ذلك. ويأخذ السلع من
البقال
بالحي، واللحم من الجزار بالآجل. ويؤجِّل صاحب العقار تحصيل الإيجار حتى يحين دفع الفائدة
والضرائب ويتعيَّن القيام بشيءٍ ما. يستنفد كل هذه المصادر في النهاية على مدار فترة
من
الزمن، ويصبح من الضروري لهؤلاء الناس، الذين لم تكن لديهم حاجة أبدًا من قبلُ، أن يطلبوا
المساعدة.»
6
عندما خذلت الأسرة والجيران العمَّال، كان بإمكانهم أحيانًا الحصول على المساعدة
من
صناديق المساعدة المشتركة التي كان يجري تنظيمها محليًّا مثل خطط الأيام العصيبة أو أموال
الأرامل والأيتام التي يخصِّصها اتحاد من الاتحادات العمالية أو مجموعة من مجموعات العمل
المدني. وغالبًا ما أعَدَّ الأمريكيون تلك الخطط في إطار مجتمعاتهم الدينية أو العِرقية،
من
باب الكبرياء، للحئول دون اضطرار واحد من بني جلدتهم إلى اللجوء إلى المؤسسات الخيرية
أو
إلى ما كانوا يشعرون أنه أكثر مهانةً، وهو اللجوء إلى الغوث الحكومي. ولذ استمر الأمريكيون
البولنديون والأمريكيون الألمان وكنائس الأبرشيات ومرتادوها وغيرهم من مختلف المجتمعات
في
مساعدة الوكالات التي حاولَتْ تقديم العون إلى المكروبين منهم ومؤازرتهم حتى يأتيهم العمل.
وقد صرَّحَ أحد الكهنة قائلًا: «ليكن لدينا من الكبرياء ما يكفي «لمنعنا» من أن نقتات
على
الدعم الحكومي، بينما لا يزال بِر الكاثوليكية قادرًا على العناية بأبنائها.»
7
إلا أن شبكات الدعم هذه، الكافية لتغطية يومِ توقُّفٍ عارضٍ عن العمل لدى صناعة بعينها،
انهارت تحت وطأة الحاجة التي قصمت ظهرها، وعلى ذلك ازدادَ تحوُّلُ الناس في خجل إلى مصادر
الغوث الحكومية، مع أن ذلك كلَّفَهم كثيرًا، وأحيانًا ما كانوا يتمسَّكون باحترامهم لذاتهم
ويمتنعون عن طلب المساعدة، لإنقاذ حياتهم، لفترةٍ أطول مما ينبغي. يتذكَّر طبيب يعمل
في
عيادة مجانية ما حدث قائلًا: «حصَلَ الفقراءُ على قدرٍ من الرعاية، وكان بإمكانهم الذهاب
إلى المستوصفات المجانية، أما الأغنياء فحصلوا على قدرٍ وفيرٍ من الرعاية لأنهم كانوا
يستطيعون سداد ثمنه، ولكن كانت هناك تلك الطبقة الوسطى الكبيرة التي لم تتلقَّ أيَّ رعاية.
لقد وصل الحال كثيرًا بالطبقة الوسطى إلى حال الفقراء … والناس في هذا الموقف يشقُّ عليهم
كثيرًا قبول الإحسان … كل يوم … شخص يُغشَى عليه في عربة الترام، فيحضرونه إلى هنا، ولا
يسألون أية أسئلة … إنهم يعرفون علته! الجوع! وعندما يستعيد وعيه، يعطونه شيئًا
ليأكله.»
8
على مرِّ التاريخ، كانت المدن الأمريكية
تقدِّم من خلال خزائنها المساعدةَ للفقراء، ولكن سريعًا ما عجزت المدن نفسها عن مساعدة
مواطنيها. وفي عام ١٩٣٢، وصَفَ مسئولٌ بمدينة ديترويت الموقف كما يلي:
جرى تخفيض كثيرٍ من الخدمات العامة الضرورية تحت الحد الأدنى الضروري دون شكٍّ
لحفظ صحة مواطِنِي المدينة وأمانهم … وخُفضت مرتبات موظفي المدينة مرتين … وجرى
تسريح مئات الموظفين المخلصين. وهكذا اقترضَتِ المدينةُ من أموال الرعاية
الاجتماعية المستقبلية كي تُبقِي العاطلين فيها على أدنى مستويات الكفاف … وانهارت
خطة الأجور التي كانت تدعم ١١ ألف أسرة الشهرَ المنقضي؛ لأن المدينة كانت غير قادرة
على تدبير أموال للدفع لهؤلاء العاطلين، وهم رجال كانوا يأملون في أن يكسبوا قوتهم.
وبالنسبة للعام التالي، لم تكن توجد أية إمكانيةٍ أمام مصادر ديترويت غير المدعومة
لمنع انتشار الجوع والموت البطيء جوعًا.
9
وأحيانًا ما تجد أموال البلديات طريقها إلى المحتاجين من خلال سُبُلٍ غير تقليدية؛
ففي
نيويورك، حيث وجدَتْ وزارة الصحة أن طفلًا من بين كل خمسة أطفال بالمدرسة يعاني من سوء
التغذية، ساهَمَ مدرِّسو المدارس الخاصة، المهدَّدون بخفض أجورهم، في صندوقٍ من جيوبهم
الخاصة لمساعدة تلاميذهم.
10 ومع تداعِي المنظمات المدنية والسلطات تحت وطأة الأزمة، غالبًا ما كان يحدث
الأمر نفسه للعائلات؛ فقد أطْلَعَ أحد العاطلين مراسِلًا صحفيًّا قائلًا: «ليس الرجل
برجل
دون عمل!»
11 هؤلاء الرجال الذين شعروا بشعور مختلف — الذين صنعوا لأنفسهم مكانًا في العالم
خارج مكان العمل، الذين كانوا يعلمون باعتبارهم أزواجًا وآباء وأصدقاء وهواةً ما يستحقُّ
العناءَ من أجله — تحمَّلوا عبء الأزمةِ بقدرٍ أكبر من السهولة، لكنهم كانوا أقلية عددًا.
وكما كتب أحد علماء الاجتماع: «كان المواطن الأمريكي المتوسط يشعر أن العمل … هو السبيل
الكريم الأوحد للحياة … وفي حين أن الأنشطة الاقتصادية يُفترَض بها نظريًّا أن تكون وسيلةً
لحياة كريمة، لم تكن الغاية، ولكن الوسيلة نفسها، هي صاحبة المكانة الأعلى.»
12
وعادةً ما كان الرجال يؤمنون بهذا الإحساس بالواجب من أعماق قلوبهم؛ فقد كانوا يعلمون
أن
صغارهم يراقبونهم عن كثب، ويعرفون كمَّ الأشياء المعلَّقة على استطاعتهم الحصولَ حتى
ولو
على عمل بسيط، ويدركون كمَّ السرور الذي يمكن أن يُدخِله ذلك العمل على البيت، أو على
الأقل
كمَّ الحزنِ الذي يمكن أن يدفعه عنهم. ويذكر أحد الأشخاص، وكان صبيًّا إبَّان الكساد:
كثيرٌ من الآباء — ومن بينهم أبي — كانت لديهم عادة المغادَرةِ، فكانوا يغادرون …
بحثًا عن عمل … ويتركون الأسرة خلفهم بالمنزل، في ترقُّبٍ وعلى أمل أن يجد ربُّ
الأسرة شيئًا. وكانت هناك دائمًا محنة ليلة السبت والتساؤل إذا كان ربُّ الأسرة
سيعود إلى المنزل بأجره أم لا … وأحيانًا ما تستجيب السماء ويحصل ربُّ الأسرة على
عملٍ لمدة أسبوع … رائحة نشارة الخشب المنشورة حديثًا على بذلة النجار، ووجود
الوالد بالمنزل، وتوافر أجر أسبوع … هذا هو الجانب السعيد الذي تتذكَّره. ثم دائمًا
ما يأتي الجانب الحزين؛ عندما ترى والدك عائدًا إلى المنزل يحمل صندوقَ أدواته على
كتفه أو في يده؛ فهذا يعني أن العمل انتهى.
13
وأحيانًا لم يكن يعود الرجال الذين غادروا بحثًا عن عمل قط، ليجدوا مأواهم في مداخل
البيوت والأنفاق ومجتمعات الأكواخ عند أطراف المدن أو مقالب القمامة، التي سرعان ما أطلق
عليها الأمريكيون «مدن هوفر». كان الأطفال أنفسهم الذين بلغوا سنًّا مناسِبةً ويتمتعون
بالاستقلالية يغادرون المنزل، ضاربين في الأرض بدلًا من الاعتماد على الوالدين المُثقلَين
بالأعباء، وعادة ما يكون هؤلاء المتجوِّلون شبابًا على استعدادٍ للذود عن أنفسهم، يهرعون
للَّحَاق بعربات الشحن بالقطارات والسفر دون دفع التذكرة. وأحيانًا ما يغضُّ مفتِّشُو
السكة
الحديد الطرف عن حمولتهم البشرية غير المخطَّط لها، وأحيانًا أخرى لا يغضون الطرف عنها.
بوجه عام، ربما جعل حوالي مليونين من الأمريكيين الطرقاتِ منازلَهم في السنوات التي أعقبَتِ
الانهيارَ.
14
عندما كان أرباب العمل يُعلِنون عن وظائف، كانوا يتمتَّعون بالحرية في انتقاء العمَّال،
وربما أخضعوا ذلك لتفضيلاتهم وتحيُّزاتهم. وعلى نحوٍ متزايدٍ، كانوا يستعينون بخدمات
البِيض
من أصحاب خبرة العمل أو يُبقُون عليهم، تاركين الصغار والكبار والنساء والأمريكيين من
أصول
أفريقية حتى أصبحوا يمثِّلون شريحةً ضخمةً جدًّا من العاطلين. وقبل الانهيار، مع انضمام
المرأة إلى القوى العاملة لأول مرة بأعداد ملحوظة، وجد الأمريكيون أنه من السهل الاعتقاد
بأنه إذا عملَتِ المرأة، فإنها تقوم بذلك من أجل أن تنفق المال ببذخٍ، وأنه من القويم
أن
تعتمد المرأة على الرجل الذي سيوفِّر سبيلَ العيش لزوجته وأطفاله، باعتباره ربَّ الأسرة.
وفي ظلِّ وفرة العمالة في زمن الكساد، كان أرباب العمل — أحيانًا من باب سياسة العمل
وأحيانًا أخرى من قبيل العادة فحسب — يستعينون بخدمات عدد أقل من النساء المتزوِّجات،
وأخذوا باستمرار يستغنون عن خدمات العاملات لديهم.
15 إلا أنه ازدادت وتيرة بحث النساء عن العمل، لا سيما للحفاظ على الأسرة بمأمن من
المصاعب، وأحيانًا للتمتُّع بحياة الطبقة الوسطى رغم الكساد.
16 وقد واجه النساءُ سوقًا أصعب مما واجهها آباؤهن وأزواجهن وإخوانهن وأبناؤهن.
وإنِ اضطُررْنَ إلى مغادرة أُسَرِهن، فالحياة في الشارع مثَّلَتْ لهن تهديدًا بالاستغلال
البدني أخطر بكثير مما مثَّلَتْه لأقربائهن من الذكور. والقصص التي تُروَى عن النساء
اللائي
تركن عملهن والنساء اللائي عشْنَ دون أُسَرٍ؛ تحكي عن تأسيسهن مجتمعاتٍ لحماية أنفسهن،
وتَشارُكهن المواردَ المتواضِعةَ والحجراتِ الصغيرةَ، وتنظيمهن مناوبات لاستخدام
الأَسِرَّةِ والملابس. وقد عقَّب أحد الساسة بأن المرأة العاملة في أمريكا كانت «اليتيمَ
الأولَ في العاصفة.»
17
إن كان ذلك هو وضع النساء، فقد تبعهن العمَّال من السود مباشَرةً في قسوة الظروف؛
ففي مدن
الولايات المتحدة، فقَدَ الأمريكيون من أصول أفريقية وظائفَهم بمعدلٍ أسرع من أقرانهم
من
البِيض. وقد عانَى السود جزئيًّا من سوء حظٍّ مردُّه إلى التوقيت التاريخي؛ فالأمريكيون
السود، الذين كانوا لفترة طويلة سكانًا للريف، انتقلوا عمومًا إلى المدن منذ وقتٍ ليس
ببعيد، وأُتِيحت لهم فُرَصٌ أقل لتطوير حياتهم المهنية كعمَّال مَهَرَة مقارَنَةً
بالأمريكيين البيض. ولكن لم يشكِّل نقصُ المهارات النسبي إلا جزءًا من معدلات البطالة
العالية لدى الأمريكيين من أصول أفريقية، وقد لاحَظَ العمال السود أنهم «آخِر مَن يُعيَّن،
وأول مَن يُطرَد من العمل»، وأن أرباب العمل يسرحون العمال السود عن عمدٍ من أجل أن
يستبدلوا بهم عمَّالًا بيضًا. وقد خلصت دراسة أجرتها الرابطة الحضرية الوطنية في عام
١٩٣١
إلى أنه «كانت هذه الممارسة شائعةً جدًّا بما يجعل المرء يجد ما يبرِّر ظنه بأن هذا الإجراء
كان يجري تطبيقه كوسيلةٍ للتخفيف من بطالة البيض دون اعتبارٍ لتبعات ذلك على
الزنوج.»
18
وقد ضمنَتْ حالات عدم تكافؤ الفرص هذه في سوق العمل أن أصبح جُلُّ الطبقة العاملة
فعليًّا
في زمن الكساد من البيض، وأغلبها من الذكور، وبوجهٍ عامٍّ بدَتْ هذه الطبقة أكثر تجانُسًا
من مثيلاتها في الحقب السابقة. كان العمَّال المتقلِّدون الوظائف يجمعهم الكثيرُ في مظهرهم،
وتضاءلت قضايا الصراع الثقافي التي استحوذَتْ على الأمريكيين في حقب سابقة، وانصبَّ اهتمام
الأمريكيين على ربِّ الأسرة الذكر الأبيض المعرض للخطر، الذي يرون أن الصعاب التي يُواجِهها
هي مبعث قلقِ الأمةِ.
19
وتجاوزَتْ تلك الصعاب التي انتشرت بطول الأمة وعرضها الفواصلَ بين سكان الحضر وسكان
الريف
إلى درجةٍ غير مسبوقة؛ فالبطالة — باعتبارها
مشكلة دورية — كانت تضرب المدن ما دامت هناك مدن، وكان لدى الأمريكيين تقليد شعبي بالعودة
إلى الريف عندما تنزلق المدن إلى حالةٍ من الركود. وعادة ما كانت تتمتع الوظائف الزراعية
بالحصانة من المشكلات التي كانت تضرب المدن، وفي زمن الكساد بحث كثير من الأمريكيين عن
أمان
توفِّره مزرعة إعاشة؛ في عام ١٩٣٢ ارتفع عدد سكان المَزارِع إلى أعلى نقطةٍ وصل إليها
في
الفترة ما بين الحربين العالميتين.
20 إلا أن سلسلةً من النكبات أدَّتْ إلى أن يعاني الريفُ من الكساد الكبير كما
عانَتْ منه المدن.
بلغت دخول المزارع ذروتها في فترة الحرب العالمية الأولى، عندما عملت مخاطر الشحن
وشيوع
الندرة على رفع سعر المنتجات الزراعية، وشجَّعَ ارتفاع الأسعار المزارِعين على زراعة
المزيد
من الأراضي، وسمحت لهم الجرارات المتاحة حديثًا بحرثها بسرعة. وأعقب ذلك في فترة كساد
ما
بعد الحرب أن انخفضَتْ أسعار المزارع انخفاضًا حادًّا، حتى بعدما ارتفعَتْ مجدَّدًا في
منتصف عشرينيات القرن العشرين، إلا أن أسعار السلع التي كان على المزارعين شراؤها ارتفعَتْ
بمعدل أكبر، وكان نتيجة الانتشار الحديث لآلات الزراعة أن انخفضت تكلفة إنتاج مزيد من
السلع
الزراعية على نطاقٍ كبيرٍ، ومع ظهور الجرارات رحل البغال والرجال؛ فغادرت الأيدي العاملة
«التي طردتها الجرارات» الريفَ للبحث عن فرصةٍ في مكانٍ آخَر.
21 وحتى رخاء المدينة الجديد أضرَّ بالفلاحين؛ فمع تحسُّن الأحوال المعيشية
للأمريكيين بالحضر، كانوا يتخيَّرون أنظمتهم الغذائية بناءً على الطعم وليس الحاجة؛ ففيما
مضى كان الخصر السمين دليلًا على الصحة والنجاح، أما حينذاك فقد أصبحَتِ النحافة شيئًا
عصريًّا، فانخفض دخل منتجي الغذاء. علاوة على ذلك، اقترَضَ الفلاحون، مثل غيرهم من
الأمريكيين، ديونًا في إطار توسُّعهم وإدخالهم للميكنة؛ مما جعلهم عرضةً للصدمة.
22
عندما اهتزَّت أركان هذا النظام جرَّاء الانهيار العظيم، تهاوَتِ الدعائم الهشة التي
اعتمدَ عليها الفلاحون، واتجهت دخول المزارع نحو الهبوط، وأجبر الدائنون الفلاحين على
بيع
ممتلكاتهم لتغطية دفعات الديون المتأخرة.
23 وحاول الفلاحون وجيرانهم، في أغلب الأحيان وعلى نحوٍ متزايدٍ، إحباطَ محاولات
تجريدهم من ممتلكاتهم؛ فربما اتحدوا معًا واشتروا الممتلكات المعروضة في مزادات الديون
المتأخِّرة، ثم أعادوها إلى صاحبها دون مقابل، أو ربما هدَّدوا رجالَ القانون الذين سَعَوا
قسرًا إلى بيع الممتلكات.
وتآمَر الطقس مع الكارثة التي صنعها
الإنسان؛ فبدءًا من عام ١٩٣١، قلَّتْ معدلات هطول الأمطار على السهول العظمى حتى انخفضَتْ
تحت المستوى الضروري للإبقاء على المحاصيل. وسرعان ما جفَّتِ التربة وتشقَّقَتْ بحيث
لم
تَعُدْ متماسكةً، وأصبحت تذروها الرياح الشديدة بسهولة.
24
وعانَى الجنوب من سمة خاصة به لازَمَتْه؛ فمنذ عهد الرقِّ، كان أهل الجنوب يعتمدون
على
وظائف المزارع الزهيدة الأجر ليجدوا ما يسدُّ رمقهم. ومع أن الجنوب لا يقطنه سوى حوالي
ربع
سكان الدولة، فإنه يشكِّل أكثر من ٤٠ بالمائة من عمَّال أمريكا الزراعيين، وكانوا أسوأ
العمَّال أجورًا على مستوى الدولة.
25 وغالبًا ما كانوا مزارعين مستأجَرِين يدينون بجزء من المحاصيل التي ينتجونها
لملَّاك الأراضي، ولم يكن لديهم سيطرة على أسباب وسُبُل عيشهم إلا بقدرٍ ضئيلٍ. تتذكر
إحدى
السيدات ذلك الوقت قائلةً: «في عام ١٩٢٩، كنتُ أنا وزوجي من المزارعين المستأجَرِين نسدِّد
الإيجار من المحصول، وقد أنتجنا محصولًا في هذا العام فأخذه منَّا المالك كله. لم تكن
طريقةُ العيشِ الفظيعةُ هذه حياةً.»
26
ومع عمل كلٍّ من التقدم والكارثة على دفع الناس بعيدًا عن المزارع، فقَدْ غادروها،
كسُنَّة القادرين على مرِّ التاريخ، بحثًا عن فُرَصٍ أفضل. وكما فعل المهاجرون قبل الكساد،
توجَّهَ كثيرٌ منهم صوب الغرب، إلى ولاية كاليفورنيا، على أمل أن تكون سوق العمل بها
أفضل،
وحيث كان الطقس بها عمومًا أحسن حالًا. وقد وفد إليها المهاجرون الأوفر حظًّا بسياراتهم؛
ففي عام ١٩٣١ دخل أكثر من ٨٠٠ ألف سيارة الولاية الذهبية.
27 أمَّا المهاجرون الأقل حظًّا فأتوا مستقلين القطار؛ فخلال شهر واحد من عام
١٩٣٢، قدَّرت شركة خطوط جنوب الباسفيك الحديدية، التي تمتد خطوطُها بطول كاليفورنيا،
أنها
طردَتْ من قطاراتها ٨٠ ألف شخص استقلوا عربات الشحن خلسةً.
28 وانتهى الحال بكثيرٍ من كلا النوعين من المهاجرين إلى إقامة مخيمات في جميع
وديان كاليفورنيا الطويلة، حيث عاشوا في خيام وكبائن صغيرة، يلتقطون المحاصيل التي زُرِعت
من قبلُ من أجل العيش، مقتاتين الفول والأرز وقد لا يحصلون عليهما. ووفق تقديرات المراقبين
فإن أكثر من ربع الأطفال في تلك المخيمات عانَوا من سوء التغذية، كما أن بعضهم وافَتْه
المنيَّة.
29
وسرعان ما انطبعت صورةُ الأمريكيين الذين لا يجدون شيئًا تقريبًا يعيشون عليه — يدفعهم
القحط والرياح خارج ديارهم، وهم يرزحون تحت نِير المِحَن ويثابرون بقوة إرادتهم — في
عقول
الناس في كل أرجاء الدولة. وفي الأعوام التالية، في روايات الصحفيين، وفي حكايات الناجين،
وفي المشاهد التي التقطَها ووكر إيفانز ودوروثيا لانج، وفي قصص جيمس أجي ولورينا هيكوك،
باتت تلك الصور التي صوَّرَتِ الفقرَ في أرض الوفرة المأمولة، ترمز إلى الكساد.
ولكن الجدير بالذكر أيضًا أن تلك الصورة لم ترمز وحدها إلى الكساد، وبنظرة محايدة
إلى
التاريخ، لعل المحنة المفاجئة التي ألمَّت بالموسرين هي التي استحوذَتْ على قدرٍ أكبر
من
الاهتمام. فعلى سبيل المثال، لم يكن جميع المهاجرين السيئي الحظ ينتمون إلى الفقراء الذين
اعتادوا الفقر أو حتى إلى طبقة العمال؛ فكثير منهم وجدوا أنفسهم وقد خسروا ممتلكاتهم
مع
تراجُعِ اقتصاد المنطقة واستسلامه بالكامل للانهيار. ويتذكر ابن أحد بائعي الجرارات
الناجحين قائلًا: «كنَّا نعيش في بيتٍ كبيرٍ جدًّا، ونتحصل على مالٍ وفيرٍ. وفجأة! لم
يَعُدْ لدى والدي وظيفة.»
30
ومع اهتزاز أركان الدولة بأكملها — إنْ لم تكن قد انهارت تمامًا — جاء الوقت الذي
أصبح
فيه الأمريكيون الموسرون — الذين قلما فكروا في شأن الفقراء — يفكرون مليًّا في الأمر،
رغم
أنهم أنفسهم لم يكونوا عاطلين عن العمل، رغم أن الكساد أتاح لهؤلاء الأمريكيين — على
نحو
معاكس — أن يعيشوا حياة أفضل بتكلفة أقل، لأن البائعين خفضوا من أسعارهم يأسًا منهم.
بَيْدَ
أنه لم يستطع أحد أن يعيش تمامًا دون قلق؛ فقد كانوا يُصلِحون جلود أحذيتهم باستخدام
الورق
المقوَّى، ويلحمون أجزاء أغطية الفراش بعضها ببعض عن طريق الخياطة.
31 وحقَّقَ منتج السيلوفان اللاصق المطروح حديثًا، والذي عُرِف باسم اسكوتش تيب أو
الشريط الاسكتلندي، مبيعاتٍ كبيرةً بسبب أولئك الذين حاولوا إصلاح ما في حوزتهم بدلًا
من
شراء الجديد.
32
واستفحلت الأزمة لمدًى أكبر، وبدَتْ أكثر شموليةً وأكثر استمراريةً من ذي قبلُ، وازداد
اقتناع الأمريكيين بأنهم لا يمكنهم تحميل سوء الحظ مسئوليةَ مَأْزِقهم، كما ازداد اقتناعهم
بأنه مهما بلغ ذكاء مواطني الأمة وجديتهم في العمل، فإن كلًّا منهم تقريبًا عرضة لأن
يتخلَّى عنه الحظ في يوم من الأيام. ومع اكتشافهم أن مجتمعاتهم المحلية غير قادرة على
مواجهة الكارثة، استمعوا أكثر إلى الأصوات الوطنية التي وصلَتْ إليهم عن طريق
المذياع.
كان أحد تلك الأصوات صوت الأب تشارلز كوكفلين الذي كانت برامجه الأسبوعية تصل إلى
الأمريكيين في جميع أنحاء الدولة عبر المذياع.
33 بدأ كوكلين عمله في مجال الإذاعة في أبرشية خارج ديترويت، مستهلًّا موجات
البثِّ في منتصف عشرينيات القرن العشرين بمواجهة جماعة «كو كلوكس كلان» المحلية، وقد
أكسبته
مواهبه وآراؤه حول مختلف الموضوعات قاعدةً جماهيريةً ما انفكَّتْ تزداد، وكان الناس يقولون
إنه بإمكانك أن تسير لعدة مربعات سكنية في المدن الأمريكية عندما كان كوفلين يتحدث عبر
موجات الراديو دون أن تفوتك كلمة، حيث كانت رسالة الكاهن تنساب من نوافذ بيوت مستمعيه
المخلصين إلى الشارع. ولما كان يتحدَّث عبر شبكة تصل إلى الأمة بأسرها في وقت الكساد،
فقد
زاد من حديثه عن الشئون السياسية.
34
كان كوكلين يتحدَّث إلى جمهورٍ من الطبقة الوسطى في الأساس، إلى أناسٍ أحبَّتِ الأشياءَ
كما كانت عليها قبل الانهيار، مع أنهم لم يملكوا الكثيرَ بحيث يعزلون أنفسهم عن التأثيرات
المادية والنفسية للكساد.
35 هاجَمَ كوكلين الشيوعية، ولكنه كما صرَّحَ أمام إحدى جلسات الكونجرس، رأى أن
القوة المحرِّكة العظمى للشيوعية في العالم كانت الرأسماليين المتعنتين من أمثال هنري
فورد،
الذي بإنكاره حقَّ عمَّاله المنطقي في المطالبة بمساعدةٍ متواضِعةٍ، تعرَّضَ لخطرِ مطالبةٍ
ثوريةٍ من جانبهم بكلِّ شيء.
36 وبحلول عام ١٩٣٢، كان لدى كوكلين والمستمعين له سببٌ وجيه لوضع هربرت هوفر ضمن
الفئة العنيدة نفسها مثل فورد. وفي آخِر صيفٍ قضاه هوفر في منصب الرئيس، عارَضَ مطالَبةً
بالمساعدة من شريحةٍ خاصةٍ من الأمريكيين؛ وهم قدامى المحاربين.
صوَّتَ الكونجرس في عام ١٩٢٤ بالموافقة على صرف مبلغ إضافي خاص أو مكافأة لقدامى
محاربي
الحرب العالمية الأولى بناءً على مدة الخدمة وموقعها، وأصدرت الحكومة شهاداتٍ تبيِّن
المبلغَ المستحقَّ لكل محارب، ويمكنه الحصول عليه إما في عام ١٩٤٥ أو حال وفاته. ومع
اشتدادِ الظروف قسوةً وتَوْقِ المحاربين إلى تلك المبالغ المستحَقَّة لهم في المستقبل
البعيد، ظنوا أن الحكومة يمكن أن تلين وتدفع لهم القليل في وقتٍ أقرب؛ فمكافأة مستحَقَّة
لهم حال وفاتهم لن تفيدهم بالكثير؛ لذا من الأفضل أن يحصلوا عليها على الفور. وكان الكونجرس
قد أنشأ لتوِّه، بناءً على مناشدة الرئيس، مؤسسةَ تمويل إعادة الإعمار، التي ستضخُّ ما
يصل
إلى ملياري دولار إلى البنوك والسكك الحديدية كي تستمر في عملها. وتساءَلَ كوكلين: «إذا
كان
بمقدور الحكومة أن تدفع ملياري دولار إلى المصرفيين وقطاع السكك الحديدية، فلِمَ لا يمكنها
أن تدفع ملياري دولار إلى الجنود؟»
37
قرَّرَ بعض الجنود الذي فكَّروا على النحو نفسه أن يتوجَّهوا إلى واشنطن العاصمة
لعرض
قضيتهم بأنفسهم. أتى التنظيم الكبير الأول من مدينة بورتلاند بولاية أوريجون، ولكن قبل
انقضاء وقت طويل ألهمَتْ أخبارُ التحرك متظاهرين آخَرين، فرادى وجماعات. بدأت شرطة واشنطن
الاستعداد لوصول عشرين ألف رجل، أُطلِقَ عليهم «جيش المكافأة»، وتسلَّلَتِ الشرطةُ السرية
المسيرةَ للبحث عن تهديدات، ووجدَتْ «أنه بوجهٍ عامٍّ كان هناك عدد قليل من الشيوعيين
…
ولكن لم يكن لهم تأثير يُذكَر على تفكير الرجال. كان المحاربون القدامى أمريكيين سيئي
الحظ،
ولكنهم لم يكونوا على استعدادٍ بأي حال من الأحوال للإطاحة بحكومتهم».
38 وفي ٧ يونيو، نظَّمَ الآلاف من الجنود مسيرةً في أنحاء المدينة أمام مائة ألفٍ
من المشاهدين المهلِّلين لهم.
39
قيَّمَ آخَرون من بين المدافعين عن العاصمة المتظاهرين على نحوٍ مختلفٍ. بدأ الجنرال
دوجلاس ماك آرثر، رئيس أركان الجيش آنذاك، يحشد القوات، بما فيها الدبابات، للدفاع عن
المدينة ضد تهديد المتشردين الذين بدءوا يُقِيمون مخيمات، بمساعدة شرطة المدينة، بطول
نهر
أناكوستيا من مبنى الكابيتول. وحيث إن المتظاهرين تلقَّوا تحذيرات كثيرة بأنهم قد يظهرون
بمظهر المخرِّبين، راقَبَ المتظاهرون أنفسهم دون هوادة، ونظَّموا محاكم ومجموعات أقل
رسمية
للتخلُّص من الشيوعيين بينهم، ولكن لم يَعُدْ عليهم ذلك بالفائدة؛ فقد علَّق الكونجرس
جلساته دون أن يصوِّت بالموافقة لهم على المساعدة، وازداد انشغال البيت الأبيض والجيش
بأمرهم كلما طال المقام بهم. وفي نهاية يوليو، قرَّر ماك آرثر، حسب كلماته، «كسرَ شوكة»
جيش
المكافأة باستخدام القوة العسكرية الكاملة، فتقدَّمَ الجنودُ وثبَّتوا الحِراب حول فوهات
أسلحتهم، وأطلقوا الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين والمارة أيضًا، وتقدَّمَ الفرسان
وسط
الحشود. يتذكر الرائد جورج إس باتون هذا الحدث قائلًا: «طار الطوب في الهواء، وارتفعت
السيوف لتهوي بصوتٍ يبعث على الاطمئنان، وفرَّ حشد الغوغاء.»
40 بعد ذلك، زعم ماك آرثر، كما كان دأبه دائمًا، أنه سمع صيحات الامتنان من
المارة.
41
بالتأكيد كان مؤيدو ماك آرثر أقليةً، هذا إنْ وُجِدوا. أظهرت مشاهد الأفلام الإخبارية
التي عرَضَتِ الصدامَ بين الجيش المسلَّح والجيش غير المسلَّح دباباتٍ تجول في شوارع
واشنطن، ومخيم المحاربين القدامى وهو يحترق، والدخان يتصاعد بجانب قبة مبنى الكابيتول.
وقد
ذكر ماك آرثر وهوفر أنهما لم يصدِّقَا قطُّ أن الرجال كانوا — في الأساس — محاربين قدامى،
إلا أن الصور التي تجسِّد جنودًا أمريكيين يطاردون جنودًا أمريكيين أعياهم الفقر يناشدون
نوابهم بالكونجرس؛ استدَرَّتْ تعاطُفَ المشاهدين. وقد قالت إحدى السيدات: «شعرتُ بأنني
واحدة منهم.»
42
وفي مقاطعة ألباني، قرأ فرانكلين دي روزفلت — حاكم ولاية نيويورك والمرشَّح الرئاسي
الديمقراطي — عن «مسيرة المكافأة» في صحيفة ذا نيويورك تايمز، وبعدما ألقى نظرةً على
التغطية، أطْلَعَ أحدَ مساعديه على أنهم لم يكونوا بحاجةٍ بعد هذه الكارثة إلى أخذ خصومة
هوفر على محمل الجد. وقال روزفلت إنه ربما يشعر بالأسف على هوفر إنْ لم يكن شعر بالأسف
بالفعل على المتظاهرين. وفي واقع الأمر، لم يظن روزفلت نفسه أن الحكومة قادرة على دفع
مكافأة للرجال — بل إنه كان سيرفض مشروعَ قانونِ المكافأة إن كان هو الرئيس — ولكنه كان
يرى
أن الرجال لا يزالون يستحقون قدرًا من الاهتمام الداعم لقضيتهم، وأخذ يفكِّر لبرهة وهو
يدخِّن، ثم قال إن الرجال الذين توجَّهوا بمطالبهم إلى الحكومة، وأساءت الإدارةُ التصرُّفَ
معهم، «يشكِّلون موضوعًا لحملته».
43
هوامش