الفصل العاشر
قال الراوي:
كان نسيم الجنوب يشيع الراكبَيْن مترفِّقًا وهما يسيران بين الرُّبى الخضراء الممتدة إلى الأفق كأنها أمواج في بحرٍ هادئ، وكان سيف يسير صامتًا يُناجي الصورة التي ودَّعته عند باب حجرتها في الصباح وتقول له في صوتٍ خافت: لقاء قريبًا!
والتفت نحو المدينة المتباعدة تتضاءل بين نُقَم وعيبان، وثبَّت بصره عند قصر غُمْدان الباسق، يسمو بقُبَّته الْمَرْمَرية التي تلمع تحت شمس الصباح كأنها منارة في رأس علَم. لقد عرف طبقاته السَّبْع ركنًا ركنًا، وحُجْرةً حُجْرةً، وها هو ذا ينظر إليه متحرك الشَّجَن بعد أن كان يحسَب أنه لن يُحِسَّ نحوَه حنينًا. فهل يقف أحدٌ وراء شرفة من شرفاته الْمَرْمَرية يُرسل بصره في آثاره خافق القلب، كما كان قلبه يخفق وهو يلتفت إليه؟ وخطرت له خاطرة من الندم لأنه أسرع بالخروج قبل أن يفضيَ إلى خَيْلاء ببقية الحديث الذي كان يَجِيش في صدره. فهَلَّا تمسَّك بيديها وهي تَسُلُّهما من يديه في رفق؟ وهلَّا تجرَّأ فضمَّها إلى صدره حينًا ليهدِّئ من عنف خفَقانه؟ وهلَّا أطال ضمَّ بَنانها إلى شفتيه ليُطفئ مِنْ حرِّهما قبلَ أن يغادر موقفه منها؟ فقد ذهب في الصباح ليودِّعها قبل أن يسيرَ إلى وادي ضهر، وليقول لها إنه سيغيب بضعة أيام في صحبة شيخه، ثم يعود إليها ليخرجا معًا من غُمْدان آخِرَ الدهر. ولم تكن خَيْلاءُ أهدأَ نَفْسًا ولا أهدَى سبيلًا، بل كانت عيناها مُبلَّلتين ووجهها يشبه الزهرة الذابلة. أأمضَتْ ليلتَها ساهدة كما كان يقضي لياليه ساهدًا؟ ألم تكن مثله سعيدة قانعة به من الحياة كلها؟ وتنبَّه على صوت الشيخ يقول له: أما ملأت عينيك من غُمْدان؟
فأجاب في تأثُّر: بل أملأ منه قلبي. وأجدني أتشبَّثُ به وأنا أبعد عنه، وأحنُّ إليه وأنا أضيقُ به.
فقال الشيخ: هكذا نحن يا سيف، نضيق بالحياة حتى نملَّها، فندفعها بإحدى يَدَيْنا ونتمسَّك بها بالأخرى.
فقال سيف: ما كنت أحسَب منذ ساعة أنني أعبأ بغُمْدان ولا بصنعاء كلها، ولا أنني أجد مثل هذه اللوعة التي أجدها وأنا ألتفت من بعيدٍ إلى الوراء. ومع هذا فإني أُحِسُّ كأن في الجو غناءً مُشْجِيًا، ليس كله طرب ولا كله سعادة، بل مزيج من الطرب والكآبة.
فقال الشيخ باسمًا: هو الشباب يا سيف. سوف تلتفت إلى أيامك هذه بعد حين كما تتلفَّتُ في هذه الساعة نحو غُمْدان. سوف تحنُّ إلى شبابك وأشجانه، وتراها من بعيدٍ زاهية زاهرة، سوف تأسى على أحزانه كأنما هي أمنية، وتودُّ لو تعود إليها كرة أخرى.
قال سيف: فأنت تحنُّ إلى ما قاسيتَ فيه؟
فقال الشيخ: هي أحلام الشيوخ دائمًا.
فقال سيف: وتودُّ لو عدت إليه؟
فقال الشيخ: أمنية جوفاء.
فقال سيف: ولكنك تتمنَّاها؟
فقال الشيخ: لا أملك أحيانًا إلا أن أرحل إليها في خيالي.
فقال سيف: بي سؤال أيها الخال الكريم، فعفوًا إن كان فيه جرأة.
فقال الشيخ باسمًا: أجيبك قبل أن تسأل.
فقال سيف باسمًا: القلوب تتحدث؟
فقال الشيخ في عطف: نعم تتحدث. تسألني هل أنا بشر؟ تسألني أما عرفت الحب؟ بلى يا ولدي.
فقال سيف: أنت؟
فقال الشيخ: ومن أنا حتى لا أعرفَه؟ بل ما لي لا أعرفه وهو ما تهديه الحياة لنا؟ ولو خَلَتِ الحياةُ منه لكانت قطعةً من الْمَلال والسَّأَم. بل لقد ارتطمتُ على صخور الأيام، وانزلقتُ في مزالق الأهواء، وذُقتُ أَمَرَّ المرارة حينًا وأحلى الحلاوة حينًا، ولستُ أدري إن كانت هذه الشيخوخة قد أخلتْ صدري من ضعف البشر. نعم، فأنا كما تراني، مثل جِذْع نخلة تقادَمَ عهدُها كما وصفْتُ لك نفسي، وقد تساقطت عنها سعفاتها وانثنَى عُودها وجفَّتْ عُصارتها، ومع هذا فلستُ أَكْذِبُك، إن قلب الإنسان لا يفارقه ضعفُه، أو إذا شئتَ: لا تُفارقه قوَّتُه.
فقال سيف في رنة شكر: أهي مواساة منك يا سيدي المبجل؟
فقال الشيخ: بل هو الحق يا ولدي. ليتني أجرؤ على أن أكشفَ لك نفسي، إذن لما وجدت في نفسك شيئًا تُحِسُّ فيه حَرَجًا إذا كشفته. نحن نغلق أنفسنا على أنفسنا، وكلٌّ منا يحسَب الآخرين أقل منه ضعفًا، ولكن أيُّ ضعف في سنن الطبيعة؟ إننا نحن نُفسد هذه الطبيعة بأن نُلقيَ عليها الأستار كأننا نخجل منها، إنه كذب لا يقل في بشاعته عن التدنيس. نحن نُدنِّس الحب إذا تبرأنا منه، كما ندنسه إذا لهونا به، إنه كالميلاد والموت، لا محل فيه للخجل أو الخفاء، بل إن الذين يخفونه إنما يخفون شيئًا آخر غير الحب؛ لأنه صريح بطبيعته السليمة. وأما الذين يخجلون منه أو يُسدلون عليه الأستار المظلمة فإنما يتهربون من جريمة تدنيسه أو الإسفاف به، يتهربون لأنهم يخونون سُنته الواضحة ويسخرون من رسالته العليا؛ رسالة الحياة نفسها.
وكان سيف يستمع إلى الشيخ في دهشة وأنس.
ولم يُلاحظ أحدهما أن السماء قد تلبَّدَتْ بالغيم وأن الهواء قد استدار إلى الغرب، حتى لمعت لمعة من البرق فجأة، وفرقع في أعقابها الرعد عنيفًا، وأحسَّا قطرات من المطر تتوالى. فقال الشيخ: ألا نميل إلى هذا الشِّعب قليلًا؟ إنه جبل ينور.
وكان سيف يعرفه ويُحِسُّ رهبةً كلما مرَّ به، ودخلا في كهفٍ فسيح به فجوات داخلة في الصخر من جانبيه، كأنها حجرات حولَ رَدْهة. وكان الظلام في جوف الكهف دامسًا، يكاد يُسمع فيه خفق أشباح خفية. وكانت بين الفجوات في رَدْهة الكهف مَساطِبُ ضخمة على جدرانها نقوش وصور عجيبة، بعضها ظاهر كأنما رفع الصانع يده عنها منذ ليلة، وبعضها مطموس تجري من بينه أخاديدُ مصقولة، كأن الماء كان يتحلَّب عليها من شقوق في سقف الكهف. فقال سيف في صوتٍ حالم: لو اتخذتِ الجن قصورًا لما اختارت خيرًا من هذا.
ورنَّتْ كلماته بين الجدران عميقة مُدوِّية، ثم أضاءت لمعة من البرق فتوهَّج الكهف لحظة، فانكشف باطنه بعيدًا رهيبًا، وانطلق صوت الرعد مُجلجلًا فيه كأنه صوت شياطين غضبَى، وكانت الريح تزفُّ فيه بما يشبه زئير السباع.
فقال سيف: كأن السماء غاضبة.
وأحسَّ في نفسه قبضة. لِمَ أرعدت السماء هكذا وأبرقَتْ؟ وما الذي قذف هذا الكهف المظلم في سبيلهما في تلك الساعة؟
وعاد إليه شيء من الأنس عندما سمع صوت الشيخ يقول له: حقًّا إنه مقر جدير بالجن إن أرادت مقرًّا. فمن هنا يستطيعون أن ينفذوا من ظلمات باطن الأرض فيسترقوا منها فُنون السحر الأسود، ومن هنا يستطيعون أن ينطلقوا إلى فضاء السموات ليسترقوا أسرار الغيب وطلاسم الكنوز المغلقة.
فقال سيف: وماذا تصنع الجن بالغيب والكنوز؟
فقال الشيخ باسمًا: إنه الإنسان الذي يتطلع إليها في حماقته، هكذا تقول القصة.
فقال سيف في حماسة: أية قصة؟
ورحب في نفسه بأن يسمع قصة تقطع تلك العاصفة، حتى تسفر السماء ويخرجا إلى الفضاء الطلق.
فأخذ الشيخ يقصُّ عليه قصة حسَّان بن تُبَّع.
وكان تُبَّع الأكبر ملكًا عظيمًا، ولكنه كان فانيًا، ولمَّا أحسَّ اقتراب الأجل بعث بولده حسَّان إلى كهف ينور ليستطلع له أخبار الغيب، وكان يؤمن بمن في هذا الكهف من الجن. فلما جاء حسَّان إلى الكهف لَقِيَتْهُ جِنِّيَّة في صورة ساحرة عجوز شوهاء، وقدمت له وسادة يجلس عليها، وكانت محشوَّة بالعقارب والأفاعي، فأبى حسان أن يجلس. ثم قدمت له صفحة من عظام وكأسًا من دماء ليطعم منها ويشرب، فعافهما كارهًا. ثم قالت له: إذن فاقتل أول من تلقى إذا عُدت إلى قصر أبيك.
فصاح بها حسَّان: إنه هُراء.
فقالت: ألستَ وارث الْمُلْك؟ ألست تطلب مُلْكًا؟
فأجابها في جفاء: بلى!
فقالت: هذا سبيلك إليه. هذا سبيلك إلى الملك، فافهم عني.
فقال لها في اشمئزاز: كفاكِ هذرًا.
والتفتَ عنها مُنصرفًا.
فصاحت في إثره: من لا تقتله يقتلك.
ثم رنَّتْ منها ضحكة مخيفة وقف لها شعر رأسه وأسرع كالهارب. ومضى حتى بلغ قصر أبيه، فلقيه أخوه عمرو عند الباب، فضحك في نفسه قائلًا: أأقتل أخي؟ إنها عجوز مشئومة.
وسكت الشيخ لحظة، ثم قال: أتدري كيف تمَّتِ القصة يا سيف؟
فقال سيف: أحسُّ قشعريرة ها هنا، وكأنني ألمح الساحرة هناك تبصُّ بعينيها. ماذا كان يا سيدي؟
فقال الشيخ: تقول القصة إن حسَّان لم يقتل أخاه، ولكن أخاه قتله. قتله عمرو بن تُبَّع.
فقال سيف وهو يسير نحو فم الكهف: ولكن ما العقارب والأفاعي، وما العظام والدماء؟
فقال الشيخ: هذا سبيل الْمُلْك يا ولدي، هكذا تقول القصة. هكذا قالت الساحرة العجوز أو جِنِّيَّة ينور. هذا سبيل الْمُلْك؛ تحطيم العظام والولوغ في الدماء، ولسع الشدائد كما تَلْسع العقارب والأفاعي.
وساد الصمت، وكان سيف يحسُّ كأن بردًا يتمشَّى في فقار ظهره، وصورة الساحرة العجوز تتخايل له ولا يستطيع أن يطردها، وتنفَّس في فرَجٍ عندما تكشَّفَتِ السماء شيئًا وهدأت الريح كما بدأت فجأة، إلا قطرات من المطر ما زالت ترسم حلقات صغيرة على وجه المياه المتجمعة في فجوات الصخر.
فجلسا على صخرة وشرد كلٌّ منهما في عالمه، وكان سيف ما زال يُدير في نفسه قصة ينور وصور النقوش التي على مصاطبه، ويسأل أهي من صنع البشر أو هي من صنع الجن الذين يسكنونه؟ وخُيِّل إليه أن صوتًا يُشبه صوت الرياح العاصفة يزداد في الكهف وينادي قائلًا: ألست تطلب مُلْكًا؟
والتفتَ إلى الشيخ قائلًا: أما قلت إنك تعرف أبي؟
فهزَّ الشيخ رأسه في هدوءٍ وقال: دع الأرواح في مراقدها.
فقال سيف: ولكني أسألك عن أبي.
فقال الشيخ: لا تُثِر الأرواح يا سيف إن كنت تريد سلامًا.
فقال سيف: صِف لي صورته التي لم أرَها، فما أعجب أن يكونَ أبي ولا أعرف عنه شيئًا. صِفْه لي حتى كأنني أراه، فهذا آنَسُ لقلبي، صِفْه لي كيف كان إذا سار وإذا ركب؟ وكيف كان صوته إذا تحدث؟ وما كان لونه وهيئته؟ ماذا كانت حاله إذا طرب وإذا غضب، وإذا صادق أو عادَى؟ صفه لي أيها السيد المبجل، فإني أحسُّ في هذه الساعة شوقًا إلى أن أملأ منه الفراغ الذي خلال منذ أن عرفت أن أَبْرَهَة لم يكن أبي.
فقال الشيخ هادئًا: إن الصور حقائق يا سيف، فلا تُسرع إلى إثارتها. ها قد أسفرت السماء، فهلُمَّ بنا قبل أن تُدركنا عاصفة أخرى.
وسارا على الهضبة الصخرية، تبدو لهما الربى في زينتها وقد زادها المطر اخضرارًا، وهبَّ النسيم كأن لم تكن قبلَه زوبعةٌ بارقة راعدة. وأرسلت الشمس شعاعها الخافت من خلال فلول السحاب المتناثرة، فما لبثا أن صرفا بصريهما إلى الآفاق الباسمة وسارا يتأمَّلان مناظرها في صمت، ثم لاحتْ لهما جوانب وادي ضهر من بعيد، وماء النهر يبرق بينها متعرجًا، وبدا قصر ذي جدن مُشْرِفًا فوق رابيته عابسًا مُسيطرًا على الوادي.
وبلغا الطريق الصخري الصاعد إلى القصر، فوثب الجوادان فوقه تحفُّ بهما هُوَّتان عميقتان عن يمين وشمال.
ولمَّا خلا الشيخ في مخدعه تلك الليلة تذكَّر صاحبه أبا مرة، وهو يودعه في ليلة النكبة من بين جثث القتلى، ذلك الوداع الذي لم يَلْقَه بعدَه، ويوصيه بامرأته رَيْحانة وولده سيف. أما رَيْحانة فهي هناك في غُمْدان، وما جدوى الأسف؟ وأما سيف فهل آنَ له …؟
وسبح في ذكريات تلك الأيام البعيدة، التي مرت منذ عشرين عامًا كأنها دهر طويل.