الفصل الحادي عشر
قال الراوي:
تأنَّق الربيع في شُطآن وادي ضهر وتفننت به الحياة في إبداعها، فكانت أزهاره تتبرج في ألوانها، وأعشابه تمتدُّ في نضرتها، والسماء تبسم فوقه بزُرقتها، والطير يسبح في جوه المعطر، والظلال تنتشر تحت خمائله وتنحسر عن بِطاحه، فكان منظره يشغل البصر والخاطر معًا.
وكان سيف يخرج فيه من طيِّ نفسه إلى عالم الحس، فيجد فيه راحة لم يذُقها منذ حين. وكانت صورة خَيْلاء تلازمه في كل ركنٍ ظليل وكل مَرْج نضير، وكلما وقع بصره على القرى المطمئنة التي تستند على جوانبه وترسل صورها على جداوله، تمنَّى لو كانت خَيْلاء معه في إحداها، يعيشان معًا بعيدَين عن ضيق غُمْدان الفسيح وعن بذخه الفقير، وينعمان وحدهما بحياةٍ وادعة، يقنع فيها كلٌّ منهما بصاحبه ويتخذه صومعته، ويتنسَّكان معًا في حبهما.
كان لا يمر يوم بغير أن يخرج إلى الوادي يسرح فيه وحده أو مع صاحبه الشيخ، ثم يعود إلى قصر جده يستزير طيف خَيْلاء.
ولكنه ما كاد يقضي هناك أيامًا، حتى جاءت إليه وفود تسعى من مواطنَ شتَّى لم يسبق له عهد بها، بل لم يسمع يومًا بذكرها. وكانوا يأتون إليه في أول الأمر في سرِّ الليل، ويجتمعون به حينًا فُرادى وثُنًى وثلاثًا، يسمون أنفسهم له ويسمون له القبائل التي ينتسبون إليها، ويذكرون له طرَفًا من صلتهم القديمة بآبائه من جهتَي أبيه وأمه. وكان يجد في لقائهم أنسًا وفي أحاديثهم متعة، كأنه يطَّلع منهم على عالمٍ جديد كان محجوبًا عنه، فكان يُنصت إليهم في شغف، ويحفظ الأسماء التي يرددونها، ويسألهم عن صلات العشائر والقبائل وعن تشابُك الأنساب ومجامع الأصلاب. فإذا ما انصرفوا عنه أعاد ما قالوه في نفسه كأنه درس يحفظه. وتكاثرت الوفود شيئًا بعد شيء، وتجرَّأتْ حتى كانت تلم بالقصر في ساعات النهار، وكثيرًا ما كان يعود من نزهته فيجد بعضها في انتظاره منذ الصباح. وقد تردد اسم ذي يَزَن في فِجاج اليمن كأن الرياح حملته معها، فكانت قبيلة تسمع أن أبا مرة عاد من مَهْرَبه وأقام في قصر صهره ذي جدن مُهادنًا لأَبْرَهَة، وتسمع أخرى أنه عاد خفية يدبر قتالًا جديدًا، وتسمع قرية أنه سَيْف بن ذي يَزَن الذي كان أَبْرَهَة يدَّعيه ويخلع عليه اسمه، عرف حقيقة نسبه وهاجر من صنعاء ليجمع قومه حوله، ويهبُّ معهم مطالبًا بالثأر لأبيه.
وكان سيف يستمع إلى هذه الأنباء في دهشة لا تخلو من ارتياحٍ وبهجة، فإنه إن انقطع عن نسبة أَبْرَهَة قد وجد عوضًا عنها بهذه الألوف التي تفتح له صدرها، وتهتف باسمه وأسماء آبائه في اعتزاز. وكان أحيانًا يحسُّ في نفسه حرجًا أو نفورًا من الأعراب الجفاة، الذين كانوا يلتفُّون به في غير تجمُّل، ويحيُّونه في غير تكلُّف، ويُقحمون عليه قرابة لا يعرفها، فكان يقلق في مجلسه ويودُّ لو قاموا عنه وخَلَّوْا بينه وبين الوحدة التي جاء يُنشدها.
على أنه اعتاد كل يوم أن يعقد مجلسه في فناء القصر يتلقَّف من ضيوفه أخبار أبيه وجده وقومه، حتى انتزع من أحاديثهم صورة أبيه، وصار يراها من وراء ضبابها أكثر وضوحًا وأقل شحوبًا. وصار كلما سكن في خلوته يتمثَّلها ويسأل نفسه: أين يكون أبوه في تلك الساعة؟ وكان أحيانًا يشرد مسحورًا بها كأنه يراها تشير إليه أن يتبعها. أيستطيع في يوم من الأيام أن يرى ذلك الأب وأن يُسْنِد كتفه إليه؟ ولكنه كان كلما أجهده السبح وراء تلك الصورة اختفت عنه فجأة، كأنها كانت تسخر منه، فيذكر قول الشيخ أبي عاصم عندما قال له: «دع الصور في مراقدها ولا تقلقها»، فما جدوى ذلك الخيال العقيم الذي يضل معه وراء أمنية مجدبة، وتقطع ما بينه وبين الحقيقة الماثلة التي تملأ حياته؛ خَيْلاء. أيخرج من أرضه ويتركها وراءه ويُهْدِر السعادة التي تثوي عندها في طلب خيال؟
وعاد ليلة من مجلسه بعد أن مضى أكثر الليل، وكان مُجهدًا ضيِّق الصدر، فأراد أن يُذهب عنه الضيق بذكر خَيْلاء، ولكنه كلما تمثَّلها عادت إليه أصداء المجلس الذي كان فيه، فيشرد عنه ويستغرق في أمواج من الهم. وكأنه سمع هاتفًا يهتف به في صوت يُشبه الصوت الذي سمعه في كهف ينور قائلًا: «ألست تطلب مُلْكًا؟» وتمثلت له صورة العقارب والأفاعي والعظام والدماء، وأخاه «مسروق»، كأنه يراه عند باب غُمْدان. ألا يكون ذلك الذي يراه عند الباب هو يكسوم الغليظ القلب؟ إذن لجرَّدَ سيفه وأغمده في صدره بغير أن يُحِسَّ أسفًا.
أهو يطلب الملك حقًّا؟ إن هذه الجموع التي تلتفُّ حوله في كل ليلة لا تكاد تدع له سلامًا، وكأنها تصيح به هاتفة بصوت ساحرة الكهف قائلة: «ألست تطلب الملك؟»
وطلع عليه الصباح ولم تغمض عيناه، فعزم على أن يخرج مبكرًا إلى نزهته؛ حتى لا يلقى أحدًا من هؤلاء الذين كادوا يجعلون مقامه هناك حملًا ثقيلًا. ووجد الشيخ أبا عاصم حيث تركه مضطجعًا في مجلسه كأنه لم يذُق هو كذلك نومًا. فتبسَّم له الشيخ قائلًا: «لا أراك ذقت النوم في ليلتك.» فقال له سيف: أحب أن أرى مطلع الشمس في الوادي.
فهبَّ الشيخ ولفَّ عليه رداءه قائلًا: كدتُ أسبقك إلى هناك.
وخرجا معًا إلى الهضبة المقفرة التي في ظهر القصر، وكان الوادي ينحدر من هناك تحتها عميقًا في أخدود قائم الجدران، يتعرج في ثنيات متوالية، وكان قاعه يبدو في النور الخافت في ألوانٍ مختلفة، بين بياض الماء، وشُهبة الرمل، وسواد النبات، كأنه ظهر حيَّة تتلوَّى هاربة. وأشرفا بعد حينٍ على طَنْف بارز من جانب الوادي فيه أطلال بالية، تصف بقاياها رسم معبد قديم لم تَبْقَ منه إلا أركان شاحبة، لوحتها الشمس وبَرَتْها الأمطار ونَخَرَتْها الرمال السافِيَة مع الرياح. وكانت بقايا البناء قِطَعًا ضخمة ما تزال راسخة على أساسها، كأنها عماليقُ أدركتْها الهزيمة وهي تتعثر في أعقاب معركةٍ هائلة. كانت الأحجار تحمل آثار جراحها، والأعمدة المحطمة ملقاةٌ على الرمال معفَّرة مثل أشلاء الصَّرْعَى. هنا قطعة من عمود مرمري، ما زالت صفحتها الصقيلة تلمع في شعاع الشمس المشرقة، وفُتات الْحَصَى متعلق بأصلها، وأعواد خضراء من الحشائش والأعشاب تنشب جذورها في شقوقها، وهناك لوحة من صخورٍ داكنة أو وردية أو بيضاء، عليها نقوش وصور لا يدري أحد ماذا تصف من شئون الذين بَنَوْها وعاشروها حينًا ثم خلَّفوها. وفيما بين تلك قطع مُهشَّمة من تماثيل، لم يبقَ من ملامحها إلا ما يبقى من هيكل جثة محنطة، من تلك التي كان الأعراب يعثرون عليها في المقابر، ويُمَزِّقون عنها لفائفها في طلب ما قد يكون عليها من الذهب أو الجوهر. كان منظرًا حزينًا جليلًا، زاده روعة منظر الرمال المتموجة الصفراء، التي كانت تمتد إلى الأفق من وراء الحطام حتى الأفق الشرقي، لا يقطع صمتها صوت سوى طنين الحشر المتطاير، أو صدى صوت عصفور يزقزق من بعيد ثم يختفي سريعًا، كأنه يسخر ممن يدبُّ على الأرض بطيئًا.
وذهب الشيخ إلى أقصى الطَّلَل، فاعتمد على أصل عمودٍ قائم، ينظر نحو ربوة تُكللها قطع رقيقة من السحاب الأبيض، وشعاع شمس الصباح يقع عليها في ألوانٍ ذهبية وردية، وتنفَّس نفسًا عميقًا عندما سمع صوت سيف يناديه: أشاعرٌ على طلل؟
فقال الشيخ باسمًا: ومن ذا الذي يقف هنا ولا يشعر؟
فقال سيف: أيُّ قومٍ ملئوا الأرض بهذه البقايا؟
فقال الشيخ: هذا ما كنتُ أقوله لنفسي. كانوا أجيالًا من الملوك يا سيف، لكأنني أرى هذا البناء المتهدِّم عندما فرغ الصنَّاع من صقله ونقشه، ووقف الملك الذي أحدثه ينظر إليه مُعجبًا ويقول: «ها أنا ذا قد خلَّدتُ ذكري.»
فقال سيف: أتذكر اسم أحد من هؤلاء؟
فقال الشيخ: نُسي اسمه كما تهدَّم بناؤه، ولكنه كان ملكًا عظيمًا.
وماذا عليه أننا لا نعرف اليوم اسمه؟ وهَبْك سمَّيْتَه تُبَّع أو مَرْثَد أو وائل، فماذا كان اسمه يَزيدك به علمًا؟ لقد كان ملكًا عظيمًا وكفى.
فقال سيف: ولكن هذا الفناء يملأ نفسي حزنًا. كل شيء هنا يُنادي قائلًا: «كنَّا»، أو يقول: «ما هذه الحياة سوى باطل وغرور.»
فقال الشيخ باسمًا: ولكني أسمع لغة أخرى. كأن هذه الأطلال تقول إن الألوف كانوا يحجُّون إلى هنا، يملئون الفضاء الذي تراه اليوم مُقْفِرًا، وكانوا ينظرون إلى هذه الأعمدة ويتأملون جمالها ويُعجبون بها خاشعين. وكانوا يدخلون إلى المعبد ويستمعون إلى أناشيده تتردد بين جَنَبات المحراب جليلة، فتمتلئ قلوبهم تقديسًا، ويخرجون بعد ذلك إلى الصحراء ويطلقون أنفاسهم في جوِّها، وهم يُحِسُّون أنهم أَلْقَوْا عن كواهلهم أثقالها، فالتوبة للآثم، والعزاء للحزين، والأمل للبائس.
وصمت هُنيهة وسيف ينظر إليه مستغرقًا: وكانت الشمس تخطر في موكبها، فقال الشيخ: لا يُلْهِنا الحديثُ عن جلال الصباح يا سيف، إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاءً من موكبها غاربة. هذا أجدر أن يكون تتمَّة حديثنا.
فقال سيف باسمًا وهو ينظر إلى الشمس: إنك تنطق الأشياء كما تحب يا سيدي المبجل. حقًّا ما أبدع الشمس في إشراقها على طللٍ مثل هذا. الحياة والفناء معًا.
فقال الشيخ كأنه يُحدث نفسه: حكمة أبدية تنطق بها الأشياء جميعًا؛ غروب وشروق، حياة وفناء، شباب وشيخوخة، وكلها تتعاقب في دوراتٍ متوالية. الحياة بعد الفناء، والشروق بعد الغروب، والشباب بعد الشيخوخة. لا عبرة هنا بالأفراد، فإن سُنَّة الحياة لا تقف عند حدود حياتنا الفانية.
الحياة في إبَّانها والفناء في إبَّانه، وكلها تخضع لحكمةٍ أزلية، تدبرها يدٌ عُليا.
فقال سيف: أتؤمن يا سيدي الشيخ؟
فقال الشيخ باسمًا: لست أدري يا ولدي، بل كأنني لا أفهم ما أقول. هي معانٍ في النفس غامضة، فإذا حاولت أن أُفْصِحَ عنها تعثَّرَتِ الألفاظ وناءتْ بحملها.
ولو فتح الناس قلوبهم لأدركوا بها فوق ما يدركون من هذه الألفاظ التي ندَّعي أنها وسيلتنا إلى البيان. كل ما في الكون ينطق لمن يستطيع أن يدرك كلماته. كل حركة بميزان، وكل شيء لحكمة، حتى الأمم في حياتها وفنائها تتكلم.
فقال سيف: قائلة؟
قال الشيخ: تقول إنها تفنى عندما يحقُّ عليها الفناء، وتحيا إذا استحقَّتْ الحياة.
فقال سيف: ولا تملك شيئًا من أمرها؟
فقال الشيخ: بل تملك كل أمرها. ليتني أستطيع يا سيف أن أبين لك ما أريد، فإني كلما نطقتُ بشيءٍ سمعته في أذني غامضًا فاترًا لا يصور الحقيقة التي أُحِسُّها.
فقال سيف بعد صمت لحظة: كأنني أفهم طَرَفًا مما تقول يا سيدي المبجل. وأسأل نفسي: كيف ذهب قومي؟
فقال الشيخ: صدقت يا ولدي، فإن المعاني لا تتجسد إلا في حادثة. وصمت لحظة ثم قال: لك أن تعجب إذا قلت لك إن هذه أول مرة ينصرف فيها فكري إلى سؤالك هذا. كيف ذهب قومنا؟ أهي غضبة من الأقدار؟ هكذا يقول بعض الذين يُخادعون أنفسهم ويريدون أن يُلقوا ذنبهم على وهمٍ غامض لا يستطيع أن يقول لهم كذبتم. إن للأقدار حكمة كما قلت، ولكنها حكمة نستوحيها نحن من الحوادث، أما الأقدار نفسها فليست شخصًا يغضب فيَعْصِف بالناس، أو يرضَى فيُحابيهم، الأقدار لا تغضب على أحدٍ ولا تحابي أحدًا، وهي مثل الدهر الذي يمرُّ علينا فنَهْرَم ونَفْنَى، ومثل الْفَلَك الذي يدور في دوراته، فيُطْلِع النجومَ في أوانها ويُغَيِّبها في أوانها.
ومع ذلك فإننا نستطيع أن نستوحيَ حكمتها من الحوادث، أو من أنفسنا.
فقال سيف: أنفسنا؟
فقال الشيخ: نعم يا ولدي. إن في أنفسنا عالمًا كبيرًا لو تمكنَّا من إدراكه لكان ذلك حسبُنا. فينا كل عناصر الضعف وعناصر القوة، فينا الحيوان والحكيم، وفينا الشيطان والْمَلَك، أو هو الشر والخير، ولنا أن نختار في سلوكنا ما نشاء في نفوسنا.
فقال سيف: والناس يختارون دائمًا؛ لأنهم يطيعون طبيعتهم.
فقال الشيخ: وهذه هي التي أسميها حكمة الأقدار، فإذا اختار الناس ما فيهم من ضعف ومن حيوان ومن شيطان حقَّ عليهم الفناء.
فقال سيف: أهكذا اختار ذو جدن؟ أهكذا اختار ذو يزن؟
فقال الشيخ: من يكون ذو يزن وذو جدن؟ لن يستطيع فرد أن يُقاوم سُنة الخليقة.
فقال سيف: إذن فلا حيلة لنا؟ فما معنى اختيارنا؟
فتبسَّم الشيخ قائلًا: مَرْحَى يا سيف! حُجَّة قوية. نعم يا ولدي، لن يستطِع فرد أن يختار لأمة. لن يستطيع فرد أن يرد تيَّار أمة، ولكنه يقدر على أن يضرب المثل الأعلى.
فقال سيف: لقوم يختارون لأنفسهم؟
فأجاب الشيخ: صدقت مرة أخرى يا سيف، الناس يختارون لأنفسهم حقًّا، ولكن الإنسان على ما فيه من أخلاط الضعف ينطوي على ضمير، نعم، للإنسان ضمير يتعلق دائمًا بالمثل الأعلى.
فقال سيف كأنه يُحدِّث نفسه: المثل الأعلى!
فقال الشيخ في حماسة: نعم يا ولدي. هو الذي يمس ضمير الإنسانية دائمًا، هو الذي تتعلق به الأمم دائمًا حتى في أشقى حالاتها. لن تجد أمة تنطق بلسانها العام إلا ردَّدَتْ مَثلًا أعلى، هي لا تنتظر إلا من ينطق لها أولًا، هذا هو المنبع.
فقال سيف: هذا هو المنبع؟
فقال الشيخ: نعم يا سيف؟ هذا المنبع الذي تستمد الأمم منه حياتها. لسان صادق يهتف أولًا بالمثل الأعلى.
فقال سيف: ولِمَ لا ينطق به الناس، لمَ لا تنطق به أنت مثلًا؟
فقال الشيخ: تسألني لمَ يا ولدي؟ لست أدري. ولكنه قد كان. من السهل أن نتحدث هكذا، فإنه لا يكلفنا إلا أن نتكلم. ولكن الصعوبة هي أن نفعل وأن نستطيع.
فقال سيف: إذن فلا جدوى من كل هذا، إنها أُحجية يا سيدي، وعفوًا إذا قلتُ هذا، إنه لغز. تقول إننا نستطيع أن نختار وأن ننطق بالمثل الأعلى وأن هذا هو المنبع، ثم تقول إننا لا نستطيع أن نفعل.
فقال الشيخ هادئًا: مَرْحَى مرة أخرى يا سيف. حُجَّة قوية. نعم يا ولدي صدقت، فإنَّا نستطيع أن نفعل إذا كان لنا القلب الذي يؤمن، والْجَنان الذي يقوي، ثم …
وصمت قليلًا وسيف ينظر إليه في لهفة. واستأنف قائلًا في تمهُّل: ثم التوفيق يا سيف. التوفيق إلى أن يستمع الناس ويؤمنوا.
وأطرق سيف حينًا طويلًا ثم قال في صوتٍ خافت: حدود وقيود لا يكاد يلوح فيها أمل.
فقال الشيخ: بل فيها الأمل يا سيف؛ القلب المؤمن، والْجَنان القوي، واسم ذي يَزَن.
فقال سيف في صيحة: ذو يَزَن؟
فقال الشيخ: نعم يا سَيْف بن ذي يَزَن، كأنني أرى مشرق الشمس غدًا إذا كان لك القلب المؤمن والْجَنان القوي.
فقال سيف كالحالم: المؤمن!
فقال الشيخ في حماسة: نعم يا ولدي. القلب الذي يحسُّ أن الحياة لا تستحق شيئًا إذا لم تكن في ظل الكرامة والحرية، والذي يؤمن بأن الحياة تكون دنسة كريهة في ظل العبودية، والذي يمتلئ اعتقادًا أن الذي خلق الإنسان يغضب عندما يراه لا يسمو إلى إنسانيته.
ثم رفع بصره إلى سيف باسمًا، وكان الفتى يُعلق بصره في وجهه مستغرقًا.
ومضى الشيخ قائلًا: انظر إلى الشرق يا سيف، ولا تضيع ما خرجنا من أجله، هذه هي الشمس المشرقة التي غابت تحت الأفق بالأمس.
وكانت شُطآن الوادي تتفتَّح للصباح وتتضح فيها الحدود بين الماء والمروج الخضراء. وخرجت الطيور إلى غصونها، ورفَّ النسيم على الصحراء الصامتة. وسارا يصعدان حينًا ويهبطان حينًا نحو القصر في صمت، وكان في الفناء جمعٌ كبير من الوفود، فاتَّجه سيف إليهم بقلبٍ يَفِيضُ أملًا، إنهم قومه الذين يستطيع أن يَصِيح فيهم بقلبٍ مؤمن وجَنان قوي، وأن يرى معهم شروق الحياة مرة أخرى على اليمن السعيدة.
ومرَّ به اليوم وصدر بعده من الليل، لم يُحِسَّ ضيقًا ولم يَفْتُر نشاطه، حتى خلا إلى نفسه مرة أخرى في الليل، وكان القمر الناقص يَرْمُق النجوم فاترًا، والهواء البارد يحمل أريج الزهر من الوادي. وعاد إلى سبحه في أصداء أحاديث الوفود الْمُثرثرة، وكان طلَل المعبد يبرق له في شمس الصباح، وصوت الشيخ يرنُّ في سمعه يقول له: «إن موكب الشمس مشرقة أعظم بهاءً من موكبها غاربة»، وخُيِّلَ إليه أن الصوت الذي كان يهتف به قائلًا: «ألست تطلب ملكًا؟» قد صار عاليًا يُشبه هدير الرياح في كهف ينور. أحقًّا يقتحم الْمَعامِع التي تذيقه لَسْع الأفاعي والعقارب، وتطعمه العظام والدماء، وتجعله يقتل أول مَنْ يَلْقاه وإن كان أخاه؟ وأين إذن خَيْلاء؟ أين الآفاق العُلى التي يسمو إليها إذا استمع إلى نَجْواها؟ أهذا بعض الثمن الذي تتقاضاه الأقدار إذا شاء أن يسير بقومه نحو الشروق؟ وخُيل إليه أن الفضاء الأغبش الذي يترامى تحت عينيه قد امتلأ عظامًا رميمًا تسيل من بينها الدماء الحمراء. وقام مُسرعًا من مجلسه يهرب من المنظر المرعب، يلتمس السلام في صورة خَيْلاء، ويستعيد أحاديثها إلى جانب الوعاء الْمَرْمَري.
وعزم على أن يجعل الليلة خاتمة تردده، وأن يعود من الغد إلى صنعاء ليلقَى خَيْلاء، ويُتم معها حديثه الذي لم يبلغ بعدُ منه المدى. سيذهب إليها فاتحًا لها ذراعيه مُؤْثِرًا معها السلام والأمن، مؤثرًا إياها على كل المطامح التافهة التي أخذت تراوده عن سعادته، وسيخرج بها من غُمْدان إلى قصر جده، ويصد عنه تلك الجموع التي تريد أن تلوي به إلى تيهٍ بعيد الأغوار مُعقَّد الشِّعاب. ولمَّا واتاه النوم بعد حينٍ ألمَّ به طيف خَيْلاء، وكانت باهرة الحُسن، لم يرَها يومًا في مثل ذلك البهاء. ولكنها كانت دامعة العين، تمدُّ إليه يديها في ضراعة كأنها تُعاتبه على هجرانه. وقال لها: فديتكِ يا خَيْلاء، لمَ تبكين؟
فقالت تعتذر: أكنا نسير في صحراء؟ أكنا نتجه إلى سراب؟
فناداها في لهفة: لِمَ تتكلمين هكذا؟ ما تلك الصحراء التي تذكرينها؟ وما ذلك السراب؟ كأنكِ تنطقين ببعض ما كنت أنطق به في سَوْرة جنوني ويأسي. تعالَيْ نذهب معًا إلى حيث نجد السعادة، فليس هناك صحراء ولا سراب، هناك سلام وحقيقة. ألا تعرفين أنني وجدت قومكِ وقومي؟ فلنذهب إليهم ولننسَ كل شيء هنا.
وذهب إليها ليضمها بين ذراعيه، ولكنها لم تكن سوى خيال فاختفت عنه، وهو يفتح عينيه ويحسُّ في قلبه حسرةً وضيقًا، وكان قلبه يخفق تأثُّرًا وقطرات من الدمع تبلل عينيه، وكان القمر الناقص ما زال يخوض في السحب هابطًا في السماء نحو الغرب، شاحب اللون مثل طَعِينٍ منهزم يتوارى في جثث القتلى، مثل أبيه. وقام من مرقده يحاول أن يعيد إلى نفسه هدوءها، ولكن الحلم كان في نفسه كالحقيقة.
وطلع عليه الفجر مثل الطفولة البريئة تطلع على الشيخ الفاني، فتبعث إلى قلبه شيئًا من الدفء والبهجة، وبدأ الطير يتناجى ويسبح بتحية الإشراق، ثم تزايد النور شيئًا بعد شيء حتى لمعت من الأفق خيوط ذهبية تصبغ السحب. إنه موكب الشمس المشرقة مرة أخرى. ثم سمع صوت طارق يدقُّ باب مخدعه، فأجفل وداخله شعور غامض بأنه أمر خطير: ورأى أمامَه الشيخ أبا عاصم، وكانت نظراته تنمُّ عن حديث.
فبادره سيف قائلًا: عِمْ صباحًا يا خال.
فقال الشيخ: عِمْتَ صباحًا يا ولدي.
ووقف ينظر إليه صامتًا.
فقال سيف في لهفة: نظرتك تتحدث يا سيدي.
فقال الشيخ وفي صوته رنَّة من الأسى: أَبْرَهَة!
فصاح سيف في فزع: ما لأَبْرَهَة؟
فقال الشيخ: لك طول البقاء.
ثم دخل وأخذ يُحدثه بما سمعه من وفودٍ أتت في الليل، تحمل ما سمعته من أنباءٍ تطايرت إليهم مع الركبان العابرة.