الفصل الثالث عشر
قال الراوي:
خرج يكسوم يستقبل أباه، ولكنه استقبل جثة ممزقة. وأما جيشه المتدفق الذي سالت به رحبة صنعاء، والْفِيَلَة التي خرجت تهزُّ الأرض كأنها حصون، والخيل ذات الخُيَلاء، والجند العابس الذي كان يثير الغبار سحبًا، وحرابه تلمع من خلاله كأنها بروق، فقد اختفت جميعًا كما يختفي طيف الخيال.
وتلفَّتَ أهل صنعاء في دهشة يتساءلون: أحقًّا ما يَرَوْنَ وما يسمعون؟ أتلك هي الفلول التي نجتْ من الموت تُجَرِّر أقدامها خائرة القوى، وتتسلل في ظلام الليل إلى بيوتها مخافةَ أن تقعَ عليها العيون من وراء شرفات المنازل المغلقة؟ وأصبحت المدينة مَناحة على صَرْعَى القتال الباطل، الذي كان مثل فقاعة ارتجفَتْ حينًا على سطح غدير.
ولكن الهزيمة والخيبة لم تزيدا يكسوم إلا عنفًا وقسوة، فكان مثل فهد جريح في غابة، لا يكاد يسمع همسة حتى يَثِبَ غاضبًا مفترسًا. وكانت المفاجأة العجيبة مثل صدمة شديدة أذهلت أهل صنعاء، فلزموا بيوتهم في حيرة وذعر، فالوباء ينتشر في المدينة، لا يعلم أحد كيف يتدسس إلى الأصحاء، أيدخل إليهم مع الأنفاس؟ أم يَثِب إليهم مع أشعة الأبصار؟ ويكسوم يسلط عليه جنوده وأعوانه، فلا يجرؤ أحد أن يظهر شيئًا ينمُّ عن الفرحة المكبوتة لهلاك جيش الحبشة. وكانت الكارثة طاحنة مثل زلزال من الأرض أو صاعقة من السماء، لا يكاد الحس يدركها حتى تشلَّه صدمتها. وتلفَّتوا حولهم لعلهم يَرَوْنَ رجلًا يجتمعون إليه أو يجدون في رأيه عِصْمة، فلم يجدوا من السادة إلا هذه الأذناب التي تتمسح في أذيال يكسوم، وهم أشد عليهم من الحبشة وطأة. فكانت صنعاء مدينة ليس فيها سوى بيوت مفردة بعضها يخشى بعضًا، ويحسب كل منها أن جاره يسعى به عند الطاغية. وعاد سيف إلى القصر الحزين، وكان قلبه أشدَّ حزنًا، لم يكن يحسَب أن هلاك أَبْرَهَة يقع منه ذلك الموقع الذي كان أبلغ من حزن الولد على أبيه، فلو هلك أَبْرَهَة قبل سيره إلى قريش، إذ كان سيف موزعًا بين الشك واليقين لا يدري أهو أبوه حقًّا أم هو أجنبي عنه، لَوَقَفَ على جنازته حائرًا مضطربًا لا يذرف دمعة. ولكنه منذ عرف بموته ارتدَّتْ عليه موجة من حزن يشوبه الأسف والندم على ما خطر بقلبه من التنكُّر له وجحود فضله عليه. ولم يذكر في أثناء سيره إلى صنعاء سوى ما كان يَلْقَى من برِّه وعطفه ورحمته. تذكر كيف كان يُداعبه صغيرًا، ويحمل إليه الطُّرَف من الهدايا، وتذكر كيف كان يُعابثه ويُقهقه بضحكته العالية المزغردة في مُعابثته. طالما أركبه على رُكْبَته كما لو كانت مُهْرًا، ولقَّنه صيحات الحرب كما كان الأحباش ينطقون بها، وطالما سمعه يقول لمن حوله: «هذا أول أبنائي العرب.» وإذا كان الشك في أبوته قد أفسد عليه حكمه حينًا، فلم يكن ذلك من ذنب أَبْرَهَة المسكين ولا من قصور في مودته، بل لقد بدت رحمته لسيف في ذلك الحين أعظم نبلًا وأجدر بالشكر من رحمة الأب لابنه؛ لأنه لم يكن أباه.
وأسرع سيف إلى أمه، وعَجِبَ إذ رأى في جناحها حبشيين كأنهما تمثالان من نُحاس يَقِفان عند باب البهو وينظران نحوه جامدَيْنِ. ولمَّا رأته رَيْحانة هبَّتْ تستقبله فاتحة ذراعيها متهانفة بالبكاء وقالت: أهكذا تَغِيب عني؟
وجلسا حينًا في صمت لا تقطعه إلا شهقات الأم الحزينة. وقال سيف مواسيًا: تجمَّلي بالصبر يا أماه.
فنظرت إليه نظرة طويلة ثم قالت: لست أدري يا ولدي أينا أكثر شقاءً.
فقال: لم أعرف اليتم إلا في هذا اليوم يا أماه. عرفته اليوم جديدًا.
فقالت في حزن: عرفنا معًا كل ما تستطيع الأيام أن تمد به يديها. كنت أحملك على يدي طفلًا وأبكي كما أبكي في هذه الساعة، وأسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر لنا؟ وها أنا ذا أراك شابًّا وما زلت أسأل نفسي: ماذا يحمل الدهر في الغد؟
فقال سيف: لا يذهب بكِ الحزن إلى كل هذا أيها الأم العزيزة، فإني وإن كنتُ لا أزال محتميًا بظلكِ أعرف كيف أواجه الحياة، وليس حزني من أجل نفسي، بل هو خالص لفقد قلب كريم.
فقالت: ما أكرم قلبك يا سيف! كأن قولك يؤنبني. لست أحب أن أَكْذِبَك يا ولدي كما كَذَبْتُكَ كثيرًا، إنما أحزن من أجل نفسي ومن أجلك. ألم ترَ الحبشيين الواقفَيْنِ عند بابي؟ هذا ولم يمضِ إلا أيام على السيد الجديد، يكسوم! ألا تعرف أنني لم أستطِع أن أبعث إليك رسولًا؟ أبَى يكسوم أن يبعثَ إليك رسولي، أنا التي كنت بالأمس ملكةَ اليمن.
فقال سيف متماسكًا: سَلِمْتِ يا أماهُ ولا حَمَلَ لكِ الدهر إلا الكرامة. وإن كان أَبْرَهَة قد هَلَكَ فإنكِ أمي، وأنتِ بَعْدَ هذا أم مسروق بن أَبْرَهَة، فلا تجعلي هذه الأمور تضاعف أحزانكِ.
فمدَّتْ يدها إليه قائلة: اقترب مني يا سيف ودعني أبكي ساعة وأنت هنا. دعني أفتح لك صدري وأنفض ما فيه، لعله يُلقي سمومه التي توقده. اقترب مني حتى لا يسمع هؤلاء الذين أقامهم يكسوم يُحْصون عليَّ خطواتي ويحفظون همساتي.
فأمسك سيف بيدها قائلًا: لا يذهب بكِ الحزن والهم إلى كل هذا، والجزع لا يُغني شيئًا من القضاء الواقع.
فقالت في أَنَّة: ليس الحزن عِلَّتي، وليس الهم ما يحرقني. إنه قلبي الذي يخونني، إنه قلبي الذي يعصف بي. إن حياتي تجتمع في هذه الساعة تحت عيني كأنها صفحة أقرؤها، وكل سطر فيها يَزِيدني حَيْرةً وعذابًا. تقول إنك عرفت الْيُتم جديدًا؟ ولكنني أقول إنني عرفت عاري جديدًا. لا تنتفض هكذا كأنك تؤنبني. قلت إنني لن أَكْذِبَك مرة أخرى، تتمثل لي في هذه الساعة فداحة مُصابي عندما دخلت إلى هذا القصر كأنني أمة. فلِمَ أبقيت على حياتي؟ أأقول مرة أخرى: من أجلك أنت؟ كذبة أخرى؟ بل هو الخوف من الموت الذي حجزني عن الخطوة التي كانت واجبة عليَّ. نعم، هو الخوف على الحياة الحقيرة التي طال فيها هواني، فبقيتُ هنا أحسُّ البغضاء تملأ قلبي. اقترب مني يا سيف، فإن صوتي يعلو برغمي. كأن نظرتك تؤلمني.
فقال سيف في رقة: ليس بي إلا المواساة والرحمة.
فقالت: دعني أنفس عن صدري، لطالما كتمت ما في قلبي عنك، فدعني أنفضه مرة واحدة وإن ضاق به صدرك أنت. فلو ملكت أن أقطع نفسي أسفًا لكان أروَح لها.
فقال في نغمة عتاب: لا تخلقي من ذلك الماضي أوهامًا تعذبكِ، وأسدلي عليها السِّتْر الذي أسدلتِهِ عليها السنوات.
فقالت في شيءٍ يشبه الْحَنَق: هَيْهاتَ! هَيْهاتَ أن يدعَني ذلك الماضي وإن حاولت أن أدعَه؛ فذلك الستار الذي تسدله الأيام ما هو إلا الوهم الذي نخدع به أنفسنا، ذلك الماضي مستقر بأعماقي لا يفارقني، دعني أكشف عنه كأنك كاهن في المحراب أكشف له عن مكنون سري. ماذا قلت؟ أأقول كأنك كاهن؟ وهل آمنت بشيءٍ من هذا الدين الذي ألحقني به أَبْرَهَة؟ لا تحمل لي ضغنًا يا ولدي إذا أقررت لك أنني لا أومن بشيء، لا أومن بآلهة آبائي التي لم تستطِع حمايتي، ولا أومن بإله أَبْرَهَة الذي لم يمنعه من إذلالي. إنني أمقت الكهنة ومحاريبهم، فلتكن صديقًا مواسيًا، أو لتكن ابن أبي مرة.
فقال سيف في حزن: مولاتي!
فقالت: لا تتبرأ مني يا سيف. قل يا أمي، قل أيتها الأم البائسة، قل أيتها الصاحبة التي لا وفاء لها، لِمَ رضيتِ أن تكوني زوجًا لغير أبي؟ ما أشد ما ألقى من كبت حنقي، واضطراري أن ألقى يكسوم وأنا أداري كراهتي، ثم أنطق له قائلة: «لك العزاء أيها الملك!»
أقد صار يكسوم ملكًا؟ أنذهب بعد أيام لنصلي له في الْقُلَّيْس ونُلبسه تاج اليمن؟ لن تكون هذه الصلاة إلا لعنات أصبُّها على حظي وعلى قضائي وعلى الذي تحسبني أحزن عليه.
فرفع سيف عينيه في لفتة جافلة وقال: أمي!
فقالت في عنف: لا تتجه إليَّ بهذه النظرة، فإنها تزيدني حنقًا وحقدًا على نفسي وعلى الأحياء جميعًا. قلبي يفور كالْمِرْجَل وعقلي يَهِيم في جحيم.
فقال عاطفًا: ما قصدت سوى أن تترفَّقي بنفسكِ، وأن تذكري خير ما تبعثه الذكرى. كان أَبْرَهَة بنا رحيمًا، فلنترحَّم عليه ولنذكره بالسلام، فهذا أبعث للسلام في قلبَينا.
فحوَّلتْ رَيْحانة عنه عينيها قائلة: كأنني أسمع صوت خَيْلاء، كأنني أفزعتك يا سيف.
فقال: ليس في قلبي سوى المواساة والرحمة.
فقالت وهي أهدأ: أسألك العفو يا ولدي. إن ضعف المرأة ينطق على لساني، هكذا كنت دائمًا أثور بأَبْرَهَة كلما غضبت، فلا أدري ماذا يثيرني، ثم أهدأ وأذكر أقوالي فأزداد ثورة على نفسي. عفوك يا ولدي، فما أشقاني!
فوضع سيف يده على رأسها ونظر في وجهها قائلًا: بل ما أكبر قلبك!
فقالت في رنة الشكر: إنني كالريشة في مهبِّ الهواء، لا أعرف لنفسي وجهة. أقلت لك إنني لا أحسُّ حزنًا من أجل أَبْرَهَة؟ لقد كنتَ أكرم مني وأنبل قلبًا عندما قلت إنك عرفت اليُتم جديدًا، وإلا فما الذي حرَّك كل أشجاني؟ كأنني يا ولدي أعنف عليه ميتًا كما كنت أعنف عليه حيًّا، وألقي عليه اللوم كأنه هو الذي اختار أن يَهْلِك ويدَعَني تحت رحمة يكسوم. وما كان أجدرني أن أرحمه وأحس فقده. كان بي وبك رحيمًا، وما زال منذ دخلت هذا القصر يوسع لي من صدره ويصبر على بوادر غضبي، وقد طالما عنفت عليه وثُرْتُ به ورميته في وجهه بأنه عدوي وعدو قومي. وطالما أنكرت إلهه في سمعه، ولكنه لم يثُر بي مرة ولم يوجه إليَّ لفظًا قاسيًا. وها هو ذا يموت عندما كان عازمًا على أن يَهَبَ لك شَطْرًا من مُلكه. ها هو ذا يموت ويتركنا. أَعِدْ عليَّ كلماتك يا سيف، وعلمني كيف يكون القلب نبيلًا. أنت رجل وما أنا إلا امرأة.
وكان سيف ينظر نحو الباب في لهفة يتوقع بين دقيقة وأخرى أن يرى وجه خَيْلاء.
فلما سكنت أمه شيئًا قال لها: ما لي لا أرى خَيْلاء إلى جنبكِ؟
فنظرت إليه الأم في شيء يشبه الْوَجَل ولم تُجب.
فأعاد سؤاله في لهفة: ما لي لا أرى خَيْلاء هنا؟ ألا أذهب إليها فأرى ما عاقها عنكِ؟
فتحركت الأم حركة سريعة فيها ذُعْر لم تملك أن تخفيه، وقالت: دَعْ خَيْلاء حيث هي يا سيف.
فقال: أهناك شيء؟
فقالت مُتداركة: خير لي أن أبقى معك وَحْدَنا في هذه الساعة.
فقال: إذن سأذهب لأراها.
ولم يبقَ ليستمع إلى قول رَيْحانة وهي تحاول أن تمنَعه، وذهب مسرعًا وقلبه يتوجَّس. دع خَيْلاء حيث هي؟ لِمَهْ؟
وكانت خَيْلاء في حجرتها إلى جانب تمثال العذراء، فسمعت طَرْقًا على بابها، وقامت فاترة تجفف عينيها، وكان على وجهها ظلٌّ من فزَع تملكه قَسْرًا. وفتحت الباب وقالت في صيحة مكتومة: سيف!
ثم ردت بصرها مسرعة واكتسى خدَّاها حُمرة. واندفع سيف نحوها مادًّا يديه قائلًا: أحمد الله إذ أراكِ سالمة.
وتبسَّمتْ بسمة ضئيلة ومدت يدها قائلة: ما عَلِمْتُ أنك هنا.
وسارت أمامه إلى أريكة فجلست على طرَفها، وجلس على قِيدَ ذِراعٍ منها وهو يَعْجَب من فتورها. ما الذي ذهب بنضرتها وأذبل عينيها؟ أبَلَغ بها الحزن على أَبْرَهَة أن تغمرها مثل هذه الكآبة البائسة؟ وأحسَّ شيئًا من الخيبة في لقائها الساهم الجامد. أهكذا تَلْقاهُ فلا ترتمي بين ذراعيه وترسل دموعها الحزينة على عنقه، وتلتمس من وجودها عند صدره ظل الأمن والطمأنينة والعزاء؟ وشردت عنه الألفاظ فلم يدرِ كيف يفتح الحديث معها. كان يحسب أنها تُطالعه بوجهٍ فيه الحزن وفيه اللهفة وفيه إشراقة من سرور، وكان يحسب أنه يتدفق في الحديث ليقول لها إنه هناك، وإنه يبذل نفسه في سبيل حمايتها وإسعادها. ولكنها تستقبله بعينٍ كليلة وبوجه ساهم متردد ينمُّ عن انكماش وانطواء عنه، فماذا يجول في أعماق ضميرها ويقيم ذلك الستار بينه وبينها؟
وانتزعت خَيْلاء كلمة بعد لحظة صمت، فقالت: لك العزاء يا سيف.
وزادت خيبته عندما سمع كلمتها. أتقول لك العزاء كما يقول الألوف من المواسين الذين لا تزيد مواساتهم على لفظة؟ لم تُفْضِ إليه بحزنها ولا بجزعها ولم تلجأ إليه هو، ولم تَقُلْ له: «ذهب مَنْ كان يُظِلُّني برحمته، ولم يَبْقَ لي غيرك.»
وقال في ارتباك: حق لنا أن نحزن على أَبْرَهَة يا خَيْلاء، ولكن لا تدعي الحزن يبلغ منكِ ما أرى. أرى عليكِ أثرًا لا أدري ماذا أسميه. ألا تحدثينني عمَّا بكِ؟
فقالت: ليس بي شيء سوى أنني كنت أصلي. كنت أصلي من أجل روح أَبْرَهَة المسكين الذي تعذَّب وتألم.
فقال سيف مواسيًا: لن يَرُدَّ الحزنُ أَبْرَهَة إلينا. ولو كنت أعرف كيف أصلي لجثوتُ إلى جانبكِ أشارككِ في الدعاء، ولكن لا مفر لكِ ولا لي من أن نفكر معًا فيما ينبغي لنا أن نفعل بعد هذا، فلنفكر معًا يا خَيْلاء منذ الساعة، فإن الوقت أضيق من أن نقطعَه في حزن عقيم لا يقدِّم ولا يؤخر شيئًا. متى نغادر غُمْدان؟
فأطرقت خَيْلاء وهي تعبث بالصليب الفضي المعلق في عنقها، ومضى سيف فقال: لقد آنَ لنا أن نفارق هذه الأبهاء المظلمة التي تحجبها الأستار الحريرية عن ضوء الشمس. آن لنا أن نبعد عن هذه الأحجار المغلقة التي يقف الأحباش عند أبوابها.
ولكن خَيْلاء لم تنطق بحرف، وخُيِّلَ إلى سيف أنها كانت بعيدة عنه مغلقة دونه. ماذا؟ أهذه خَيْلاء التي وقفت تودعه منذ أيام عند باب حجرتها وتقول له: «لقاء قريبًا» وهي تغمره بعينيها؟ كانت أجفانها الوطفاء تطرف في شيء يشبه الوجل، كأنها منصرفة إلى حديث مفزع بينها وبين نفسها. ماذا تقول في سرها؟ أهي تحاول أن تخفيَ عنه سرًّا لا تجرؤ على الإفضاء به؟ أَبَدَا لها شيءٌ جديد منذ ذهبَتْ حماسة الصدمة الأولى، بعد أن عرفت أنه ابن ذي يَزَن؟
وقال في شيءٍ من القلق: معذرةً يا خَيْلاء إذا قلت لكِ إنني ألمح عندكٍ شيئًا غامضًا لست أفهمه، لست أدري كيف أتكلم، فخبريني أنتِ عما يضطرب تحت صمتكِ وإطراقكِ. أنتِ بغير شك تجاهدين ألا ينم لسانكِ عما عندكِ، ولكن وجهكِ ينطق ويعصيكِ. لِمَ تحولين بصركِ عني هكذا؟ ولِمَ تردين الألفاظ التي تتبادر إلى لسانكِ؟ ليس يزعجني بكاؤكِ ولا جزعكِ، ولكن يزعجني إطراقكِ وحركة وجهكِ ونظرة عينيكِ. فارفعي ذلك الستر الجامد الذي يحجب عني خَيْلاء التي أعرفها.
فقالت خَيْلاء في صوتٍ خافت وهي تحاول النظر إليه: إنه المصاب الذي حلَّ بنا يا سيف. هو وقع الكارثة التي لم يكن أحدنا يحلم بها، وإن موت أَبْرَهَة لم يكن كموت الناس، فيه لوعة الفراق وحدها. كان موته …
ثم ترددت وحولت عينيها ومنعت اللفظ الذي كادت تنطق به في تتمة حديثها.
فقال سيف: افتحي صدركِ يا خَيْلاء، وانثري ما فيه ولا تردي من قولكِ حرفًا. لست أفهم من قولكِ إلا أن الحزن قد غلبكِ، فخيل إليك أن الكارثة فوق طوق الاحتمال، ولكنني هنا فلا تجعلي الجزع يحملكِ إلى أبعد مما ينبغي له.
واقترب منها مادًّا يده إلى يدها، ولكنها تخلَّصتْ منه في رفقٍ قائلة: دعني يا سيف! بحقك دعني الآن، فلست أدري ماذا أقول لك. إنني لا أملك أنفاسي ولا أقوى على الحديث.
وكان في صوتها فزع ظاهر.
فوقف سيف وقال في لهفة: أبِكِ عتب عليَّ يا خَيْلاء؟ إن كان شيء من ذلك فلا تخفيه عني حتى أبادرَ فأجثوَ إليكِ معتذرًا. كم غبتُ عنكِ حتى يعتريكِ كل هذا التغيُّر؟ أم أنتِ تخفين عني سرًّا رهيبًا؟
فقالت في حزن: ما غبتَ عني ولن تغيب عني.
ووقفت مرتدة إلى الوراء كأنها تريد أن تهرب من موقفها.
فقال سيف: إذن فما هذا الجفاء الذي تطالعينني به؟ أسمِعيني صوتكِ الذي عرفته، وانظري إليَّ ببسمة تعوَّدتها وإن كانت حزينة. قولي ما في نفسكِ فإن هذا الصمت يفزعني، بل يكاد الشك يتسرب إلى قلبي. لست أجرؤ أن أقول إن قلبي يشك في مودتكِ، فإن قلبي نفسه يكذبني. قولي إنكِ ما زلتِ على عهدي لم يُداخلكِ شك في حبي. قولي هذا وهو يكفيني.
فقالت والعبرات تغالبها: ليس بي جفاء ولا شك يا سيف، وهذا صوتي الذي عرفته يقول لك إنني ما زلت على عهدي كأقوى ما كنت مودة، وما زلت على حبي كأصفى ما كنت حبًّا. بل أقول لك إنني كنت في هذه الساعة أُصلي لك كما كنت أصلي لروح أَبْرَهَة. كنت أفزع إلى العذراء بما في قرارة نفسي، وأقول لك ما قلته في اعترافي لها إن حبي لك أبقى من الحياة وأقوى من الموت.
فصاح سيف: إذن فما أسعدني! ما أسعدني أن أجثوَ عند العذراء أكرر لها مثل هذا القول، فإني الآن أومن بها وأحبها.
ومدَّ يده إلى يدها مرة أخرى، وتباعدت عنه في رفق مرة أخرى وقالت: لم أُتِمَّ لك حديثي بعدُ يا سيف.
فقال سيف: إن اشتياقي إلى حديثكِ أشدُّ من حرصي على بث ما في نفسي. قولي وأفيضي حتى أروي سمعي وأُطَمْئِنَ قلبي وأجلو عني المخاوف التي ساورتني. ما لي أراكِ تُباعدين يدكِ كلما مددتُ إليكِ يدي؟ هاتي يدَكِ حتى أعرفَ أنكِ حقًّا أمامي. تكاد الوساوس تعاودني فأتوَهَّم أننا في حلمٍ مضطرب.
فقالت بعد تردد: لا تُسئ بي الظن والتمس لي المعذرة إذا وجدت قولي مضطربًا. أُعيد عليك أن حبي مقيم على الدهر، عميق عمق البحر الزاخر، مشرق إشراق الصباح الزاهر. هو غذائي الذي يغذيني وهو عزائي الذي يعزيني، فلنجعله خالدًا صافيًا عميقًا أبد الدهر.
فقال سيف: حسبي هذا يا خَيْلاء، فلا تقولي بعد ذلك كلمة. كأنني أحس رهبة من كلمة أخرى.
فقالت خَيْلاء: اسمع يا سيف تَتِمَّة قولي. فإن الحب الذي بيننا أنصع من أن يُداخلَه الرياء أو الخوف، هو مودة الأرواح، فلنجعل مناجاتنا فيه مثل مناجاة الملائكة، ولا نسلم أنفسنا إلى غرور السراب.
فصاح سيف: ماذا قلتِ يا خَيْلاء؟ ألسنا هنا حقيقة؟ والعالم الفسيح من حولنا حقيقة؟ أهي الأحزان التي استولت عليكِ فجعلتكِ تنطقين بهذه الكلمة؟ السراب؟ ما لنا والسراب؟ ألستِ أنتِ أمامي وأنا هنا معكِ؟ تعالَيْ نغادر ذلك القصر الحزين الذي يشيع في القلب ظلامه. تعالَيْ نبدأ حياتنا جديدة في موطنٍ آخر نكون فيه وَحْدَنا، مجرَّدَيْنِ من كل شيء سوى نفسَينا، فلنذهب إلى قصر ذي جدن لنعيش فيه وَحْدَنا، خَيْلاء وسيف، ثم نضرب بيننا وبين هذا العالم كله حجابًا.
فقالت خَيْلاء: تمهَّلْ يا سيف، فلا مفرَّ لي من أن أكشفَ لك مأساة كنت أحاول أن أؤجلَ كشفها.
فصاح في ذعر: مأساة؟ حماكِ الله يا خَيْلاء أن تكون لكِ مأساة. أفصحي عنها أو أبقي عليها حتى تجدي نفسكِ أكثر هدوءًا، فليس بي لهفة على سماع خيال ووهم. بغير شك إنه خيال ووهم. نفسي فداؤكِ من كل مأساة. ومن ذا يستطيع أن يسوق إليكِ الأسى؟
فقالت في صرامة: بل استمع إلى تتمة الحديث يا سيف. لست أملك نفسي، لست أملك نفسي، هذه هي المأساة.
فقال سيف في دهشة: لست أفهم. ماذا تقولين يا خَيْلاء؟ لستِ تملكين نفسكِ؟ ومن ذا يملكها؟
فقالت: يملكها الذي لا أستطيع أن أعصيه.
فصاح في حَنَق: من ذا الذي لا تستطيعين أن تعصيه؟ لا أكاد أصدق أذني.
فقالت في هدوء: بل هو الحق.
فقال كالحالم: فأين إذن أحلامنا؟ أين أحاديثنا الطوال؟ وأين آمالنا الحلوة؟ بل أين قولك إنكِ ما زلتِ على عهدي؟ لا تملكين نفسكِ؟ يملكها من لا تستطيعين أن تعصيه؟ بل أعصيه أنا وأرده عنكِ بسيفي. من ذا الذي …
فقالت خَيْلاء: لا تُخطئ يا سيف. قد وهبته، قد وهبته راضية.
فقال في دفعة: بل قوليها صريحة، قولي أنكِ آثرتِ غيري وأنكِ قد تبدلتِ، ولا تموِّهي الحقيقة بكلمات لا غناء فيها. ما هذا الحب العميق القوي الذي تحدثتِ عنه إن كنتِ قد بعتِ نفسكِ لغيري. وتقولين لي «لا تُخطئ» إذا قلت إني أرده عنكِ بسيفي؟ من هذا الذي قد وهبتِ له قلبكِ؟ كان أحق لو أعدتِ ما قلتِ أولًا: «يملكه الذي لا تستطيعين أن تعصيه.» أمة تتكلم؟
ومضى في قوله يَهِيم في شكوكٍ غامضة، ويهدر بأقوالٍ كأن فيه شيطانًا هائجًا. وكانت خَيْلاء تنظر إليه في حزنٍ وذعر، وكلما نطق بكلمة اضطربت أهدابها الوطفاء كمن يحس وخزة. ووجد سيف في دفعته شيئًا يشبه الراحة، وفي إثر كلماته العنيفة شيئًا يشبه الرضى. ووقف لحظة ينظر إلى وجهها الصافي الحزين وضميره يَصِيح به قائلًا: «ماذا فعلت؟ ماذا تقول لخَيْلاء؟»
فانثنى يقول: خَيْلاء! ماذا قلتُ لكِ؟ وماذا اعتراني حتى جرؤت على كل هذا؟ أحقًّا صَدَقَني سمعي أم هو وهم خَيَّلَتْه لي شقاوتي؟ أقلت لكِ إنكِ آثرتِ غيري ورجعتِ عن عهدي؟ بل أنتِ لي كما أنني لكِ، ولن نستطيع إلا أن نكون هكذا. أنتِ الحياة التي أتعلق بها وأطرح كل شيءٍ ما عداها، فإن كان أساءكِ شيء مني فإني أعتذر منه. لم أذهب إلى قصر جدي إلا لكي أفكر في أيامنا المقبلة. لم أغِب عنكِ هذه الأيام إلا لأنني كنت مع قومي وقومكِ الذين سنذهب إليهم. قولي إنكِ كنتِ تمتحنين حبي، أو قولي إنكِ كنتِ تعبثين بي؛ فهذا أرفق بي. قولي شيئًا آخر غير ما قلتِ، فإني أنتظر في كلمتكِ قضائي.
فقالت خاشعة: عفا الله عنك يا سيف، فما بي ألم من شيء تقوله، بل إني أرحمك كما أرحم نفسي. ما كنتُ لأتخذ عنك بديلًا، وكل ما سمعته منك وإن كان قاسيًا لا يؤلمني.
وتحدَّرَتِ الدموع من عينيها.
فقال سيف في صوتٍ متهدج: ليتني أملك هذه الكلمات الحانقة التي خرجت من بين شفتَيَّ، أو أستطيع أن أردها من الهواء إلى حيث كانت في ظلمة النسيان. لم أفهم ما قلت، فإن عقلي وقلبي يكذبان هذه الألفاظ التي قلتها. بل قلبكِ لي يا خَيْلاء، ولا يمكن أن يكون لغيري. لن يملكه سواي ولن تَهَبِيه إلى أحدٍ غيري. انطقي يا خَيْلاء بما يُعيد السلام إلى قلبي. أأقول لكِ بحق حبي؟ أم نسيتِ ذلك؟ أحقًّا قلت هذا؟
وكانت خَيْلاء تستمع في صمتٍ ودموعها تبلل وجنتيها الصفراوين، وقالت: أقول لك مرة أخرى عفا الله عنك، وإن كنت حزينة.
فجثا سيف إلى جنبها قائلًا: دعيني أتوسل إليكِ بحبي أن تعفي عني وأن تكشفي هذه الغمة التي تُحير لُبِّي.
فقالت في عطف: قُم يا سيف، فلست أنكر حبك ولا أنكر حبي، كنت أحسبك تفهم قولي منذ بدأت. إنني لم أخجل أن أقول لك إن حبي أبقى من الحياة وأقوى من الموت. ولكنك تتصور أنني وهبت قلبي لبشر. ما كان لبشر أن يملكَه وما كان لي أن أهبَه لأحد من الأحياء غيرك، ولكن غضبك لا يجعلك تفهم. ما وهبته إلا للذي يملك قلوبنا جميعًا، ومن نجد فيه سَلْوتنا، ومن نستمدُّ منه سلامنا. وهبته للسيد المسيح!
فقال سيف في نشوة: فلِمَ إذًا لم تقولي ذلك من أول كلمة؟ السيد المسيح! فليكن ذلك، بل هلم نهب له نفسينا معًا، أنا وأنتِ. وإني أعاهدكِ أن أومن به إيمانًا لا شك فيه. سأتخذ له عندي صورة أجثو عندها، أو نتخذ له صورة عندنا، نحن معًا، أصوم له معكِ وأصلي صباحًا ومساءً، وأحارب باسمه أعداءه حتى يؤمن به الناس جميعًا. أذهب من فوري إلى الْقُلَّيْس أُقبل يد القس، ونذهب معًا إلى قسطنطينية لنرى خليفته. وسأخدمه وأضرب بسيفه حتى يؤمن أهل الأرض جميعًا. أهذا يُرضيكِ يا خَيْلاء؟ فلنهب نفسينا له.
فقالت خَيْلاء في حزن: لست تفهم يا سيف. من تهب نفسها للمسيح لا تعرف رجلًا.
فقال في حنق: أيُّ خيال يسيطر عليك؟ ماذا يفعل المسيح بقلبك إذ يسلبه مني؟ لو كان رجلًا لذهبتُ إليه أجالده عنكِ؟ ولكن أين هو؟ خيال؟ صورة؟ سراب؟ أليس هذا هو السراب؟
فقالت خَيْلاء: لا تتحدث هكذا، فإنه قول عظيم. سوف أستغفره لك ولن يحمل لك غضبًا، فهو قلب رحيم.
فمدَّ يديه نحوها قائلًا: دعي هذه الأوهام يا خَيْلاء. تعالَيْ أحدثكِ حتى تهدأ نفسكِ، فلا شك أن الحزن زعزعها. ماذا بعث إليكِ هذا الوهم الذي يكاد يكون مضحكًا؟ كنتُ في أثناء غيبتي لا أفارقكِ في ساعةٍ من ليل ولا من نهار. كنتِ أمامي في الزهرة والطير وفي الجدول الصافي والمرج الأخضر. كنتِ في السماء والنجم وفي الرمال الممتدة والنسيم الطلق. فلنذهب من هنا.
فقالت بصوتٍ متهدج: بحقِّك يا سيف لا تمضِ في هذا القول، فإنه يُدمي فؤادي.
فاستمرَّ سيف: لنذهب من هنا إلى حيث نعيش وَحْدَنا، لا نعرف سيدًا، هناك تشرق الشمس فلا تشرق إلا لنا، وتطلع النجوم لتزين سماءنا وتُؤْنِس مجلسنا، ويضيء القمر لكي يحلوَ تحته حديثنا. هناك كل ما يقع تحت بصرنا ملك لنا. هناك نستمع إلى نجوَى الليل وأنغام الكون دون حجاب من سمعنا، ونقف وجهًا لوجه أمام الحياة دون حجاب من نظرنا. هلم نهرب بحبنا.
فقالت خَيْلاء في رقة: هو حبي الذي أريد أن أهرب به. سوف أحمله في قلبي لا يعتريه سأم ولا ملل، سوف يكون هو القربان المقدس الذي أتقرب به إلى مورد الحب الأسمَى. أتذكر إذ كنا نقف إلى جانب الوعاء الْمَرْمَري ونتأمل صورته؟ أما تذكر إذ قلت لي إن تلك الصورة تتحدى الزمان وستبقى إلى الأبد نابضة حيَّة فتيَّة؟ هكذا تبقى صورة حبنا منقوشة على قلبي.
فنزع سيف يديها وتمسَّك بهما قائلًا: ما هذه النقوش التي نتخذها بديلًا من وجودنا؟ نحن هنا حقائق، فلا تجعلي هذه الألفاظ تضل بنا. دعي الأسماء، ولا تسيري بنا أنتِ نحو السراب.
فقالت في صوتٍ خافت: الحزن يغمرني يا سيف. ماذا أقول لك؟ لا تجعل حزن الساعة يُطفئ القبَس الذي أتعلل بنوره. دع لي صورتي. ماذا أقول لك؟ سأهرب إلى الدَّيْر، دَيْر نَجْران، لن يصل أحد إليَّ هناك. سوف يعصمني الدَّيْر وأعيش فيه حرة محتفظة لك بحبي. لم أقل لك كلمة أخجل أن أقولها. لست إلا أمة. لست إلا أمة مملوكة.
وتغيرت لهجتها الوديعة إلى حَنَقٍ ثائر، ومضت قائلة: نعم، أَمَة مملوكة يستطيع مالكي أن يَجُرَّني قَسْرًا إلى حيث أكون له متعة، وقد يقتلني إذا شاء أو يجعلني أُمْثُولةً للذُّلِّ والْهَوان. ما أنا إلا أَمَة مملوكة مثل الإبل والضأن ومثل أثاث البيت أو …
فصاح سيف: ماذا تقولين يا خَيْلاء؟ من ذا يجرؤ أن يقول هذا؟ من ذا يجرؤ أن يمد إليكِ يدًا؟
فقالت في حَنَق: يكسوم! الطاغية يكسوم. كنت أَمَة لأَبْرَهَة ووَرِثَني. ألم أقل إنني مثل الشاة أو الناقة؟ أسيرة صغيرة قُتل قومها في الحرب فصارت أمَة. أليس هذا هو شرع الناس يا سيف؟ لو لم يكن يكسوم سوى أحد العامة لاستطاع أن يجرَّني حيث شاء قَسْرًا. ولكنه يكسوم الذي ورثني.
وبلغ بها الحنق أن جفَّ دمعها ولمعت عيناها كأنها لم تكن خَيْلاء الوديعة.
وأنصت سيف إليها مُتكئًا على سيفه والدهشة تَعْقِل لسانه.
ومضتْ قائلة: سأذهب إلى نَجْران حيث لا يستطيع أن يمدَّ يده إليَّ، هناك يعجِز أن يكون سيدي. هكذا أشار عليَّ الناصح المشفِق، فذهبتُ إلى القس وعرضتُ عليه أن أكون راهبة.
فقال سيف: أيُّ ناصح!
فقالت: الملكة! الملكة التي تعرف حُبَّنا ويذوب قلبها شفقة علينا، ولولاها لكنت اليوم في بيت الطاغية.
فتمسَّك سيف بها في ضراعة وقال: بل نخرج الليلة من صنعاء.
فقالت خَيْلاء: لا يخدعك السراب.
وكان صوتها صارمًا كصوت القضاء. وأطرق سيف كسيفًا، وعادت إليه رؤياه في قصر ذي جدن.
وخرج آخرَ الأمر صامتًا يُجَرِّر قدميه حتى صار في مخدع أمه، فقامت إليه في لهفة وقالت: تجلَّدْ يا سيف.
فقال لها: قلبي يتمزق. الحياة تسخر مني، ولا أكاد أصدق أنني لست في خيال الأحلام.
فقالت رَيْحانة: تجلَّد يا سيف فما هي سوى الحقيقة.
فقال في دفعة: أية حقيقة يا أمي! أأرضى أن أُضِيعَ خَيْلاء هكذا؟
فقالت: إذا شئت أن تبقى لك.
فقال: وما بقاؤها لي هناك في نجران؟
فقالت: ستبقى لك بَتُولًا حتى تَلْتَقِيا في السماء. نعم، في السماء يا سيف. ما أشقَى الذين لا يجدون في أنفسهم إيمانًا!
ثم انتفضتْ بعد لحظة صمت وقالت: ماذا قلت لك يا سيف؟ السماء؟ ما هي سوى أكاذيب أداري بها عداوتي وحقدي. لن يصل إليها يكسوم؛ وهذا كل عزائي. لن يحرمك منها لكي يجعلها في قصر غُمْدان أَمَة أخرى. لن تكون خَيْلاء أمة ثانية أو ملكة ثانية في مثل شقائي، وهذا كل شيء.
فقال سيف: لن تكون له. سأقف دونها بسيفي أدفع عنها، بل سنخرج الليلة من صنعاء وننجو معًا من العبودية واليأس.
فقالت: أنت تلقي بها إليه إذا فعلْت. استمِعْ إلى أمك يا ولدي، أو استمع إلى صديقة عرفتْ الحياة في أبشع صورها، مكشوفة كالحة لا تداري قُبحها. ليتني وجدتُ دَيْرًا يعصمني.
فصاح في غضب: خَيْلاء أَمَة؟
فقالت: ليست بأول أمة في هذا القصر، دعها تخرج إلى نَجْران، فهناك تكون حرة حقًّا. كم من الحرائر يَبِعْن حريتهن من أجل فقاعة، ولا عيب على امرأة تكون في أعيُن الناس أمَة وهي في حقيقتها صافية الحرية. دع يكسوم يَزْدَرِد غيظه وهو يراها تنجو من مخالبه.
فقال سيف في حزن: وأما أنا!
فقالت رَيْحانة في عطف: تجلَّد يا ولدي ودع الأيام تُداوي جُرحك، وعزاؤك أنها لم تصبح أمَة.
فقال في غضبة: وأبقى أنا عبدًا؟ أماه! لا بقاء لي هنا.
فقالت رَيْحانة في ذُعر: سيف! ماذا قلت يا سيف؟
فأجاب: لن أبقى هنا!
فقالت: بل ابقَ إلى جنبي، لا تتركني يا سيف لوحدتي وشقائي.
فقال: لقد حرصتِ على حرية خَيْلاء، فلا تكوني أقل حرصًا على حريتي. لن أبقى هنا لأكون عبدًا ليكسوم، بل إن دماء أجدادي تناديني أن أذهبَ إلى قومي وأدعوهم إلى استرداد إنساتيتهم وحريتهم. هذا فرض تُوجِبه عليَّ الدماء المنحدرة إليَّ من آبائي.
فقالت رَيْحانة في حزن: وأمك يا سيف؟
فقال: أنتِ أولى بأن تدفعيني إلى أداء هذا الفرض يا أمي، وألا تَرْضَيْ عن ولدكِ إن كان يقنع بحياة تُدنسها العبودية. إنها حياة مثل شجرة بغير جذور ولا ثمر، وفي عُصارتها سُمٌّ ناقع. إنها تدنيس لإرادة الخالق الذي جعل الإنسان حرًّا عندما خلقه. لقد كنت موزعًا بين خَيْلاء وبين هذا الفرض الذي لم يبقَ لي غيره. كانت خَيْلاء تعِدني بالسعادة، وكنت أطمع أن نعتزل الحياة وَحْدَنا ونتعبَّد في صومعة حُبِّنا، ولكنها ذهبت تتعبَّد وَحْدَها في نَجْران، فلأذهب أنا إلى واجبي.
وكانت رَيْحانة تنصت في لهفة وصدرها يضطرب وعيناها تنطقان عطفًا. ثم قالت: ولدي! كأنني أسمع صوت أبي مرة. اذهب يا ولدي كما شئت، فقد امتحنك القضاء في هذه الساعة واختار سبيله. صدقت يا ولدي، فلست أرضى لك أن تكون عبدًا، فاهرب كما هربت خَيْلاء. أنت ابن ذي يَزَن، وقومك هناك في أودية الجبال وسواحل البحر ينتظرون قيادتك، اذهب وقُم بالفرض الذي تُوجِبُه عليك دماءُ أجدادك كما تقول … وأمَّا أنا … يعزُّ عليَّ أن تفارقني، ولكني فارقتُ أباك من قبل مُكرهة، فلأفارقك أنت راضية. سأتجرَّع الغصص كلَّ يوم وكلَّ ليلة وأنت بعيد عني لا أدري أين ولا كيف أمسيتَ. هكذا كنت أتجرع الغصص من أجل أبيك.
وألقت رأسها بين يديها، وجعلت تنشج نشيجًا مُرًّا، ووقف سيف حيالَها في صمتٍ مُضطرب بين الْحَيْرة والْحَنَق، ثم انصرف مُسرعًا لا يدري أين يتجه، ولا يعرف ما يريد في ساعته. وتقدم له الحارس الحبشي عند الباب فقال له: الملك في انتظارك.
ولكنه مضى في سَيْرِه حتى أدركَه الحارس، فأعاد عليه القول أكثر غلظة وهو يُمسك بكتفه: الملك يدعوك.
فهزَّ نفسه من يده وخرج إلى فناء القصر، فاعترضَته ثلة من الأحباش بحرابها الطويلة، ولمس سيف مقبض سيفه، ثم أرسله وذهب صامتًا في وسط الحلقة الجاهمة إلى حيث كان يكسوم. وكانت كلمات أمه ترنُّ في سمعه: «لست أرضى لك أن تكون عبدًا، فاهرب كما هربت خَيْلاء.»