الفصل السادس عشر
قال الراوي:
بدأت الصَّبَا تهبُّ رَفِيقةً من قِبَل نَجْد على النازلين في عُكاظ على مقربة من مدينة الطائف، وتدفَّق الناس إليها من الآفاق القريبة والبعيدة ليشهدوا الموسم في ذي القعدة، قبل أن يذهبوا إلى مكة ليحجُّوا إلى الكعبة المقدسة. وكان موسم العام أشدَّ زحمة مما عرف الناس من قبل؛ فإن قبائل العرب تسابقت إلى الحج منذ شاع فيها نَبَأُ انتصار قريش على أَبْرَهَة الحبشي، وعدُّوا ذلك النصر آيةً دالَّة على قدرة هُبل واللَّات والْعُزَّى ومَنَاة. وكانت الخيام تمتد في صفوفٍ متداخلة كأنها مدينة نبتت فجأة في الصحراء، بينها طرق متعرجة وميادين فسيحة، بعضها لمباريات الشبان في الرماية، وبعضها لمسابقات الخيل والرِّهان عليها، وبعضها لعرض السلع التي أتى بها الناس من أركان الأرض ليقضيَ كلٌّ حاجته من بيع أو مبادلة. وكان في سُرَّة الخيام ميدان في وَهْدَة من الأرض تحفُّ بها من جوانبها صخور مدرجة، وفي وسطه ربوة تبرز عالية فوق الْوَهْدَة، كأن الطبيعة أعدَّتها لتكون مجتمعًا عامًّا. فكانت الآلاف المتزاحمة تحيط بالْوَهْدة الواسعة على الصخور المدرجة؛ ليستمعوا إلى أناشيد الشعراء إذ يتفاخرون ويتهاجَوْنَ ويتنافسون في نشر مآثر قبائلهم، وهم وقوفٌ فوق الربوة الوسطى، فإذا ما فرغ أحدهم من نشيده أطلق الْحَكَم رأيه في قوله، فيقبله راضيًا أو ساخطًا، وخاشعًا أو ثائرًا. فكان ذلك الميدان لا يخلو من هزة تعقبها مشاحنة، قد تجرُّ أحيانًا إلى القتال بين العشائر أو المبارزة بين الأفراد.
فإذا ما انقضى النهار وهدأت الحركة في ساحات عُكاظ، خرج طُلَّاب المتعة إلى الأطراف البعيدة ليقضوا قِطَعًا من الليل في الحانات أو أندية السَّمَر، التي كانت تجمع أسباب اللهو من أطراف الشام واليمن والعراق. وكانت حانة النبطي مهبط المترفين من شيوخ القبائل وشُبَّانها؛ إذ كان صاحبها رجلًا مرحًا لَيِّن الْعَرِيكة، سريعًا إلى إرضاء ضيوفه بكل ما يشاءون من لهو. وكان يختار لهم الْمُعَتَّقَة من خَمْر الإسكندرية وأنطاكية، كما كان يختار لهم أجمل الراقصات وأبرع المغنيات، من فتيات العرب أو الروم أو أرمينية. وكان بين راقصات تلك الحانة في ذلك العام فتاة عربية عَرَضَها النبطي أول مرة، فتناقل الناسُ أخبارَها، وتحدثوا بأوصافها. قيل إنها من بنات حِمْيَر، سَباها جيشُ أَبْرَهَة فباعها حبشيٌّ إلى تاجر من قريش طفلةً صغيرة، وباعها القرشي لصاحب حانة في جزيرة فرسان عندما صارت شابة، ثم باعها صاحب حانة فرسان إلى صديقه النبطي الذي أُعجب بحسنها ونغم صوتها وبراعة رقصها، فبذل في ثمنها مِائة ناقة. وكانت الفتاة فيما يقولون ذات بَدَوات ونفرات، لا تعبأ بشيء إذا ثارت بها ثورة، فكانت تسوم صاحبها أعنف ما تنال حسناء قاسية من مطية ذليلة. ومع ذلك كان لا يغاضبها بكلمة، كأنه يتمتع بما يُصيبه من عذابها. وهي فوق ذلك متقلبة بين المرح والطرب، وبين الفتور والسهوم. كانت تنفلت أحيانًا من رقصها أو غنائها غاضبة لغير سببٍ ظاهر، فلا ترضى أن تعود وإن بالغ صاحب الحانة وزوَّارها في استرضائها. وكانت تغضب للكلمة التافهة تبدر من شاب عبثت به نشوة الخمر، أو من دفعة غير مقصودة من إحدى صويحباتها في الرقص، أو من صيحة ماجنة من خليع، أو من صيحة إعجاب في غير موضعها. بل كانت أحيانًا تغيب من غير غضب إذا بدا لها أن تغيب، ولا يجرؤ صاحب الحانة على أن يلومَها بكلمة. ولعلَّ النبطي الماكر كان يَرْضَى في نفسه عن بدواتها العجيبة؛ فقد كان يعلم أسرار النفوس، ويعرف أن رواد الحانة كانوا يَزِيدون بتلك الْبَدَوات حرصًا على التردد عليها ليلةً بعد أخرى.
على أن طليبة — وكان ذلك اسمها — كانت تُسْمِح أحيانًا وتُقْبِل صافيةَ الطبع على زُوَّار الحانة، فتخطر بينهم مثل النسيم خفيفة مُتفننة مُفاكهة مُتندرة، فتسحر ليلتهم وتُشيع من حولها جوًّا صاخبًا من المرح والنشوة.
ومضى صَدْر من موسم عُكاظ ولم يبقَ منه إلا أيام، ينصرف الناس بعدَها إلى مكة ليؤدوا مناسكهم فيها، ثم أقبلت قافلة من ناحية شاطئ البحر، تحمل تجارة لم يرَ الناس في عُكاظ مثلها، فيها بضائع شتَّى من كَتَّان مصر وأبراد اليمن وزَبِيب أَيْلَة وخيل نَجْد، وفيها من الحلي وصنوف الأمتعة ما يتهافت عليه أهل الثراء والترف من شيوخ القبائل وسادة القُرى. وكان صاحبها فتًى سَمْحًا في البيع، كريمًا واسع الرحاب لمن ينزل عليه، مُهذبًا في الحديث لا يحب اللجاجة في المساومة، فكان الناس يقصدونه في منزله للشراء، فيصيبون في ضيافته ما شاءوا من كرم الوفادة. وسرى ذِكْرُه بين النازلين في يومٍ وليلة، وصاروا يتحدثون عنه ويعجبون من يكون؛ إذ لم يعرفوا عنه إلا أنه مَعْدِيكَرِبَ، وأنه في هيئته وطريقة حديثه يشبه أن يكون من أهل صنعاء.
وذهب مَعْدِيكَرِبَ إلى حانة النبطي؛ ليستمتع بخمرها ويشهد ما فيها من رقص ويستمع إلى ما فيها من غناء، وليرى تلك الفتاة العجيبة البارعة طليبة التي سمع اسمها يتردد على الألسنة.
واستقبله النبطي مُسرعًا مُرحبًا واتخذ له مجلسًا في الصدر، والتفَّ حوله جمع من تُجَّار القبائل، وجلسوا إليه يتحدثون في شئونٍ شتَّى، وأنشد بعضهم ما خفَّ عليه من قصائد الشعراء التي سمعها … وأتت الكئوس تدور عليهم، ومعها أطباق من فاكهة الطائف وجِلِّق، ومن بُقول حَلَب وأزمير. ثم بدأ الغناء والرقص، فتطلَّع الفتى يُدير بصره ليرى الفتاة التي سمع عنها، ولكنها لم تظهر بعد أن مضت ساعة طويلة، وخشي أن يكون قد عرض لها بعض ما كان يعتادها، وظهر عليه شيء من القلق وكاد يهمُّ بالانصراف خائبًا. ثم تعالَتْ أصواتٌ من أقصى المكان، واضطربت المجالس بمن فيها، وأقبل جمعٌ من الشُّبَّان يتضاحكون وفي وسطهم طليبة، في ملابسَ برَّاقة زاهية من الحرير الْمُوَشَّى، وسارت تنثر بسماتها، وكلما مرَّتْ بجمعٍ أسفر وجهها عن بسمةٍ ضئيلة، وقالت وهي تلقي عليه نظرة شاملة: «عِمْتُمْ مساءً.»
ونظر إليها مَعْدِيكَرِبَ في دهشة، وأخذ الكأس التي مُدت إليه فرشف منها يحاول أن يُغطي دهشته. أتكون هي حقًّا؟ ومال النبطي على الفتاة يُحدثها، ثم رفع صوته قائلًا لها: هنا ضيف كريم يزورنا لأول مرة.
فالتفتت نحو مَعْدِيكَرِبَ لفتة سريعة، ثم ردَّتْ إليه نظرتها حتى وقعت عيناه في عينيها في حركة تصبغها دهشة مستورة، وأسرعت متخلصة من نظرته في شيءٍ يُشبه الجفول، وصاح الفتى في سرِّه: «إنها هي!»
ومضى النبطي قائلًا: أرى على وجهكِ نظرة خبيثة، فلا تدعيه يفلت.
وتعالت ضحكته وضحك الجميع وفيهم مَعْدِيكَرِبَ، وأظهرت طليبة شيئًا من التدلُّل، ثم ذهبت تخطر خفيفة وبدأت تغني.
وتضايقت حلقة الجلوس في الحانة وتزاحمت صفوفها، وعلت أنغام الغناء تبعثها طليبة متطربة، ثم انطلقت في فضاء الحلقة في وثباتٍ رشيقة أو خطواتٍ رفيقة. وكانت إذا اقتربت من مَعْدِيكَرِبَ تنظر إليه نظرة سريعة وتبتسم ابتسامة خفية، ثم تندفع في عنفٍ باعدة عنه إلى أقصى الحلقة، وتطامِنُ من وثبها وتهدئ من سرعتها كأنها تستروح بعد جهد شقَّ عليها. ونسي الفتى في نشوته أنه هناك في حانة، وأحسَّ في نفسه شيئًا يشبه الغيرة أن تَعْرِض هذه الفتاة محاسنها للأنظار المخمورة التي تتعلق بها. وخشع الجمع الْمُحتشد وغَشِيَه من سحر الفتاة ما أسكن ضجَّته، إلا همسات تقول إن طليبة لم تنطلق في ليلة كما انطلقت في تلك الليلة الرائعة. وإذا صرخة جُشاء تعلو فجأة ولم يتبيَّن أحد صاحبها، حتى تحول الموقف إلى منظر لم يتوقعه أحد، ولم يستطِع أحد أن يحول دونه؛ فقد اندفع من بين الجالسين رجل طويل القامة مفتول الأعضاء مرفوع الرأس، تدلُّ هيئته على التهوُّر والقوة، يتمايل في خطواته وهو يصيح صيحةً سَكْرَى، حتى إذا ما بلغ الفتاة طوَّقها بذراعيه وأهوَى عليها بقُبلةٍ مُعَرْبِدَة، ثم وقف أمامها يتمايل من أثر الشراب وهو باسط ذراعيه، ويقول لها بلفظٍ متعثر: «أنتِ ساحرة.» وبرقت العيون من الدهشة، ولم يهم أحد من موضعه، كأن الجمع يشهد منظرًا يريد أن يرى آخر مشاهده. ووقفت طليبة مذهولة لمدة لحظة، ثم نظرت إلى الرجل ثائرة، ورفعت رأسها وعلا صدرها مضطربًا، وفي مثل لمح البصر رفعت يدها فصفعته، ووقفت أمامه مُتَحَدِّيَة مُتنمرة.
وما كاد الناس يَرَوْن ذلك حتى عمَّهم الاضطراب وثاروا من مقاعدهم؛ إذ أحسُّوا أن الأمر قد تحول إلى مأزق، وارتدَّ الرجل إلى الوراء مُترنِّحًا يبتسم ابتسامة غِلٍّ، وقال لها: هِرَّة وحشية!
ورفع يده إليها، وما كاد يفعل حتى وثب مَعْدِيكَرِبَ من مجلسه، فدفعه بِجُمْع يديه وألقاه على الأرض ووقف ينتظر قيامه.
ووقف الناس سكوتًا في خشية وعجب، ينظرون إلى الأشخاص الثلاثة في وسط الحلقة، كأنهم يَرَوْنَ مَلْهاة. وقام الرجل كأنه ثعبان غاضب، فاندفع نحو مَعْدِيكَرِبَ، وابتدأ بينهما صراع عنيف يشبه أن يكون قتالًا للموت. ومرت ساعة قصيرة تردَّد فيها الفوز بين الْخَصْمين، وكانت طليبة تضع مِنْديلًا بين أسنانها وتنظر إليهما في لهفة، وفيما كان الجمع مُمسكًا لأنفاسه على إثر دفعة شديدة ألقى بها مَعْدِيكَرِبَ خَصْمه على الأرض، قام الرجل حانيًا جسمه إلى الأرض مُطرقًا في حقد، يختلس نظرة ثائرة إلى خَصْمه وهو مكشِّر عن أنيابه، وصرخ صرخة عالية وفي يمينه خنجر مسلول، ووضعت طليبة منديلها على وجهها في فزع، وهمهم الناس سخطًا، وارتدَّ مَعْدِيكَرِبَ إلى الوراء خطوات وهو يرى السلاح الخائن يلمع نحوه مُهددًا، ولكن خطوات الرجل لم تكن ثابتة، فاستطاع الفتى أن ينفلت إلى جانب، وجمع قوته في ضربة حانقة، فتزعزع الرجل واضطرب، وانتزع مَعْدِيكَرِبَ الخنجر من يده وقذف به تحت قدميه، ووقف ينظر إليه متحديًا.
واعتدل الرجل منكسرًا، ولكنه قال في حقدٍ وهو ينهج: سوف تعرف أيها الفتى جزاءك.
فقال مَعْدِيكَرِبَ باسمًا في سخرية: نلتقي إذا أفقت.
فقال الرجل حانقًا: ومن تكون يا بائع التمر؟ من تكون حتى يلقاك نُفَيْل بن حبيب؟
فقال الفتى في صرخةٍ مكتومة: نُفَيْل بن حبيب؟
فقال الرجل في مُباهاة: نعم، نُفَيْل بن حبيب، فافزع في صحوك وفي نومك، فلن تنجوَ طويلًا.
ثم تحرك منصرفًا.
وصمت الفتى لحظة ينظر إليه في هدوءٍ، ثم قال: تمهَّل يا نُفَيل بن حبيب، فما كنت أحسَب أن نلتقي على مثل هذا.
فنظر الرجل إليه في كراهة وقال: ماذا قلت؟
فقال الفتى في صوتٍ خافت: أما تذكر إذ بعثْتَ إليَّ لألقاك في شِعْب غيمان؟
فصرخ نُفَيْل وهو مضطرب بين السخط والعجب قائلًا: أنت؟
فقال الفتى في صوتٍ متردد: نعم، أنا سيف.
فوقف الرجل مبهوتًا ينظر إليه حائرًا، ثم انفرج فمه عن بسمة ضئيلة وقال: كأنني أرى أبا مرة.
وكان في صوته بقية من حَنَقه.
وقال سيف في نغمة تشبه الرجاء: لحديثنا بقية يا نُفَيْل.
فطوَّح الرجل قامته الطويلة قائلًا: لا تكون هنا.
•••
وسار نُفَيْل مُسرعًا وسيف يلحق به حتى خرجا، والجمع الداهش ينظر صامتًا في إثرهما، كأنها قطعة من ألاعيب الملهَى قد دُبرت وأُحكم تدبيرها، وبقيَتْ طليبة في موقفها حينًا وهي مشدوهة ثائرة الأنفاس، تشخص ببصرها إلى حيث انصرف الخصمان، ثم مالت على الخنجر الملقى على الأرض، فأخذته وأسرعت تجري نحو خبائها، حتى إذا ما صارت وراء الستر ألقت بنفسها على أريكة، واستخرطت في البكاء.
وسار نُفَيْل وسيف بعد خروجهما يسرعان الخُطا في صمتٍ، لا يسأل أحدهما إلى أين، وكان ضوء القمر الذي أوشك أن يكتمل يفيض على الفضاء الرملي الذي يحفُّ بالخيام المتراصَّة، وأنوار المصابيح تخفق بينها خافتة كأنها يراعات تسنح ثم تختفي. وعرج نُفَيْل نحو ربوة منعزلة فصعد فيها لا يلتفت إلى ورائه، وسيف يُسائل نفسه ماذا عساه يُفاتحه به، وماذا يمكن أن يقع بينهما بعد ذلك التحول السريع الذي نزعهما من النزال العنيف. والتفت نُفَيْل إلى سيف عندما بلغ رأس الربوة، واستقبل وجهه بنظرةٍ طويلة وأشعة القمر المائلة تسطع عليه، ثم وضع يديه على عضديه قائلًا: أي فتًى لو قتلتك!
وكان في صوته هزَّة، كأنه صياد يتأمل شابًّا من الوعول ويُعجب بمحاسن أعضائه.
فتبسَّم سيف هادئًا وقال: ولو قتلتك لفاتتني بقية حديث أودُّ سماعه.
وكان في صوته نغمة من التحدي.
فقال نُفَيْل وهو يرفع يديه عن الفتى: أيُّ أقدار تجمعنا هنا! ما زالت هذه الأقدار تُعابثني ولا تبالي أين تُلقي عبثتها. هكذا ألقَتْ بأبيك يومًا في سبيلي.
فقال سيف في اهتمام: أكنت تعرفه؟
وانصرف نُفَيْل عنه كأنه لم يسمعه، فذهب إلى صخرةٍ ناتئة في الربوة، وكان ما يزال يترنح سُكْرًا، وجلس قائلًا: أحسُّ دبيب السن يا فتى. كنت لا أنهج في النزال هكذا. أتعرف هذه الفتاة من قبل؟
فقال سيف في غير اهتمام: أظنني رأيتها.
وقال نُفَيْل: كأنك معجبٌ بها.
فعجب سيف أن يسأله الرجل عن الفتاة في مثل ذلك الموقف، وأجاب في خُبث: أظنني كذلك.
ونظر إليه كما ينظر إلى باب مغلق يريد أن يعرف ما وراءه، وقال: كيف كنت مع أبي مرة؟
فلمعت عينا الرجل وتحسَّس مِنْطَقَته وقال في حَنَق: يا للشيطان، أين خنجري؟ وحقِّ مَنَاة إن لك مع الأقدار شأنًا.
فقال سيف ساخرًا: لقد نسيتَ خنجرك هناك.
فقال نُفَيْل في كراهة: سقطة أخرى. أنت لا تضمر غدرًا.
فقال سيف باسمًا: نحن في الشهر الحرام يا أبا حبيب. ولكن ما لنا نتحدث هكذا؟ هذه أول مرة ألقاك فيها، وكنت أود لو رأيتك قبل هذا.
فقال الرجل في جفاء: اجلس أيها الفتى حتى أجمع نفسي في حديثك.
وكان صوته الأجش ينمُّ عن نفسٍ متحركة. وجلس سيف مستندًا إلى صخرة، والرجل يتبع حركته في اهتمام، ثم قال له بعد لحظة: لم تكن هذه المرة أول مرة رأيت فيها الهواء يقطر دمًا.
وكانت الخمر ما تزال تفور في صوته وتفوح في أنفاسه، ومضى يقول: إذًا فأنت تحبها يا بن ذي يَزَن. لو علمت أنك ابنه … كنت أسمع صوتًا يصيح بي: اضرب، اقتل، بغير أن أعرف، ولو عرفت … ويل لشيطان الجحيم! ما شعرت في حياتي خِزْيًا كما شعرت الليلة. وأمامَها؟ أمام تلك الهرة الوحشية؟ هكذا شعرت يومًا منذ عشرين عامًا عندما كان ينازلني شاب مثلك وكنت أنا شابًّا كذلك، كان كل منَّا يريد أن يفوز بها. ألستَ تقول أيضًا إنك تحبها؟ دع هذا الحديث فإنه يحرج صدري. ويل للشيطان، فإنه تخلى عني مرة ثانية، ووجدت يدي ترتعش بالخنجر كما اهتزَّتْ من قبل.
وضحك ضحكة مزعجة، ثم وضع مرفقيه على ركبتيه وأسند بهما رأسه حينًا، ثم رفعه قائلًا: لستُ أبالي أيها الفتى ما تظن بي، فلستُ مخمورًا كما قد تحسب، ولم تدركني بعد الشيخوخة كما قد يذهب ظنك. إن نفسي هي التي خانتني هذه المرة أيضًا، كانت تقف من ورائك، ولو رميت خنجري فلم يُصبكَ لوقع في صدرها هي. كنت أريد أن أُبْقِيَ عليها حتى أُغْمِدَ خنجري في صدرها عمدًا وهي ترتعد في قبضة يدي.
وكان سيف يُنصت إليه وهو بين العجب والازدراء، أهذا نُفَيْل بن حبيب؟
ومضى الرجل قائلًا: لا تسخر مني أيها الفتى في سِرِّك، وإن كنتُ لا أبالي سخريتك، فإني مستعد لمنازلتك مرة أخرى أمامها وإن كنت لا أريد قتلك. كان خنجري تحت قدميك ولم تَرُدَّه إلى صدري. قُل ما شئت في سرك، فإن كرهي لك أشد من حقدي القديم على أبيك. بل إني أمقتكَ وأمقتها، ولو كان خنجري معي الآن لقذفته عليك ولم أخشَ أن يقعَ في صدرها. أنت شاب في ربيع الحياة وأنا شيخ في الخمسين؛ أليس هذا ما تقوله لنفسك؟ كان أبوك يشبهك، أو أنت تشبهه في هذا الرونق الذي أراه عليك؛ ولهذا فاز عليَّ في المنافسة. لست في حاجة إلى التوسُّل عند النساء بجاهٍ ولا بمال يا بن ذي يزن. أعرفتكَ طليبة؟ لم أرَ من هذه الهرة الوحشية من قبل نفورًا كما رأيت الليلة. أذلك لأنك كنت هناك؟
ووقف فجأة كأنه يريد أن يستأنف القتال، ولكن الفتى لم يتحرك، بل نظر نحوه ثابتًا يترقب حركته. وعاد الرجل إلى الجلوس في عنف، وأسند رأسه على يديه وانفجر باكيًا.
وامتلأ قلب سيف شعورًا بالخيبة يشوبه شعور آخر من الرثاء. كان يتمنى أن يعثر يومًا بنُفَيْل بن حبيب الذي يتحدثون عنه في كل وادٍ كما يتحدثون عن بطل أسطورة، ولكنه رآه آخر الأمر مخمورًا يسخر من سنه، كأنما هو أحد صعاليك الخلعاء، لا شيخ فرسان خَثْعَم، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يخلط ذلك التخليط في أقواله ويتهالك في ختامها باكيًا، كأنه طفل أو فتاة بائسة. أهذا نُفَيْل بن حبيب؟!
ولم يدرِ أينصرف عنه فيكون ذلك آخر العهد به؟ أم يبقى حتى يرى المهزلة إلى ختامها؟ ورفع الرجل رأسه بطيئًا ومسح عينيه وقال في صوتٍ كسيف: ماذا كنت تقول لي آنفًا؟ أظنك سألتني عن أبي مرة.
ونظر سيف إليه وهو يحس نحوه انجذابًا يشبه انجذاب من يرى أُعجوبة، ثم قال له: نعم سألتك عن أبي، وتحدثت لي عنه.
فوضع نُفَيْل يده على جبينه ثم قال: لا شك أنك كرهت ما قلته لك. كلهم يكرهون ما أقول إذا استولت الخمر على لبي، أما أنا فلا أذكر شيئًا سوى خيال غامض من صور متفرقة. إني أعتذر إليك يا سيف مما لست أعرف، فإني لا أذكر ما قلته لك. لست أدري ما ذلك الذي يلتبس بي إذا سكرت.
وكان صوته عند ذلك صافيًا ونظرات عينيه هادئة، واكتسى وجهه مسحة من سماحة، وعاد فاتَّكأ على مرفقيه شاخصًا ببصره إلى الأفق الأغبش، وقال كالحالم: هي أيام مضت وتباعد العهد بها، أتأملها في هذه الساعة كما أتأمل صورة صاحب سايرته حينًا في مفازة، ثم ثرت به في ساعة لعبت بها الخمر برأسي فقتلْتُه ودفنتُه في الرمال وخلَّفته وراء ظهري، لا يعرف مقره أحد غيري، فإذا ذكرته يومًا ملأ الأسف قلبي وشعرت بالجريمة، فلا أجد مفرًّا منها إلا بأن أنسى. لست أحب أن أَكْذِبَك، وحسبي ما كان مني. عرفت أبا مرة منذ كنا شابين نتنافس على ما يتنافس الشباب عليه، وكان أبرعَ مني في الرماية والفروسية، وأقوى مني في المصارعة والمسابقة، وكان فوق ذلك أحب إلى الفتيات مني. ولست أحب أن أطيل عليك، فإن قلبي كان يتقد منه غَيْرَة؛ لأن فتاتي تعلقت به، وإن كان هو متعلقًا بابنة عمه. لم يكن له ذنب سوى أنها أحبَّته، وكان ذلك كافيًا. فلم يقف بي الحقد عند غاية، ولم أتورع عن شيء في منافستي. وأقبلْتُ على الخمر في شراهة وحنق، وعُرفت بين الناس بأنني عِرْبِيد، لا تؤمن وثبتي إذا أخذ الشراب مني. اقترب مني يا سيف، فإنني إذا أعليت صوتي شعرت بقشعريرة، ويُخيَّل إليَّ أن أشباحًا ترقص في ضوء القمر. كم قتلت من الناس في هذه الثورات بغير وعيٍ مني، حتى ملَّني الصديق وتبرأت مني عشيرتي من خشية ما أجرُّه عليها من جرائري.
وانحدرتُ إلى هوَّة عميقة مع خنجري الذي رأيته، كم قذفت به إلى صدر عدوي، وكنت أحسُّ نشوة من الفرح كلما أصاب قلبًا، كأنني صائد يحسُّ السرور عندما يصيب صيدًا. لم يَخُنِّي ذلك الخنجر إلا مرتين، وهذه الليلة إحداهما، أما الأخرى فكانت عندما كنا نحارب أَبْرَهَة. كان أبوك عائدًا من موقعة منصورة، وأوقدت النيران ونُحرت الإبل ودارت علينا الخمر احتفاءً بالبطل الظافر، ووجدتُ نفسي أُكثر من الشراب، وكانت النيران تلتهب في صدري من الحقد، فلما أخذ الشراب مني عربدتُ عليه — على أبي مرة — في أقوالٍ لا أذكر منها حرفًا، وانقلب السامر إلى مُنازلة عنيفة، وقذفته بخنجري رمية كادت تخترق صدره، ولكن يدي خانتني. وكانت تلك الليلة فاتحة الهاوية. أتسمع يا سيف؟ تخلَّى عني قومي ولم أجد لي صديقًا، وشعرتُ بوحشة زادت قلبي غليلًا، فانقلبتُ على قومي، وساعدتُ أَبْرَهَة. أتسمع قولي؟
وكان سيف يَكْبَح نفسه قَسْرًا. ومضى نُفَيْل قائلًا: وانتصر أَبْرَهَة، فشعرتُ بشيءٍ يشبه السعادة عندما عدتُ إلى قومي سيدًا على رغم أنوفهم. وعرفتُ أن أباك جُرِحَ في المعركة وتسلَّل هاربًا في الليل يَهِيمُ على وجهه، فالتهب الفرح في قلبي.
ثم تبيَّن لي بعد قليل أنني صرتُ عبد أَبْرَهَة. نعم، عرفت أنني بعتُ حريتي بحقدي، فاستعنتُ على النسيان بالخمر أعبُّ منها حتى أنسى، ولكن قلبي كان ينطوي على حقدٍ آخر من عبوديتي لأَبْرَهَة، فأطلق السكر أقوالي تفوح بما في نفسي.
فلما ذهبت إليه يوم عزم على الخروج إلى مكة …
وضحك ضحكة جُشاء حتى ظن سيف أنه يعود إلى تخليطه، ولكنه قال في هدوء: قَلَبَ لي أَبْرَهَةُ ظَهْر العداوة، وخاطبني كما ينبغي للعبد أن يُخاطَب. وخرجتُ من عنده وأنا عازمٌ على استرداد حريتي. ولكن … ولكن قومي لم يَنْسَوْا، أتسمع؟ تخَلَّوْا عني وتركوني في المعركة مع حفنة من عشيرتي أمام جنود أَبْرَهَة، ونجوتُ بنفسي من حراب الحبشة بأعجوبة، وتسللت في الليل أحسُّ المطاردة من ورائي.
ثم وقعتُ أسيرًا، وذهبوا بي إلى أَبْرَهَة، وهناك وجدت زميلًا استسلم قبلي، أتسمع عن ذي نفر؟ كان الشيخ يحسَب أن مَنَاة تنصره، فلما رأيته هناك عاد حب الحياة يملأ نفسي. ولست أدري أأنا الذي خدعت أَبْرَهَة أم هو الذي خدعني؟ فاستنجدت بالشيطان ورضيت أن أعود عبدًا لأَبْرَهَة وأكون دليلَه، أدَبِّر له المكائد في حرب قريش.
ولما بلغتُ مكة ورأيت الكعبة تحت بصري، صاح قلبي قائلًا: «اضرب ودمر واقتل.» وتمنيت لو رأيت الكعبة ذليلة محطمة وقد نُقضت من أساسها حَجَرًا حَجَرًا، وتصورت ذُلَّ قريش أمام أَبْرَهَة، وتصورت ذا نفر عندما تقع عينه على أصنام مَنَاة واللَّات والْعُزَّى مُعَفَّرة في الرمال، والتهب صدري شماتة. كان كل العرب أعدائي؛ لأنهم جميعًا يَتَخَلَّوْنَ عني.
ثم رأيتُ رجلًا لم أرَ مثله في حياتي، رجلًا شعرتُ عندما لَقِيتُه كأنني طفل إلى جنب أبيه. لم أكن أومن بشيءٍ من تلك الآلهة الصماء، ولم يكن في صدري مودة لأحد، ومع ذلك حدثت الأعجوبة. ألم تسمع بعبد المطلب بن هاشم؟
فقال سيف: بلى يا نُفَيْل، وأظنه منا.
فقال نُفَيْل ضاحكًا: تقصد أن أمَّه خَزْرَجِيَّة؟ إنها قرابة بعيدة لم أذكرها. ولكنه فتح قلبي بصوته العميق عندما رحَّب بي قائلًا: «يا ولدي!» ولم يقل لي: «أيها الخائن.» وأخذ بيدي وطاف بالكعبة، وجعل يحدثني قائلًا: «يا بن أخي.»
وأطرق نُفَيْل حينًا كأنه ينتظر حتى تهدأ نفسه، ثم استأنف قائلًا: وقال لي الشيخ: أحقًّا جئت مع هؤلاء لتهدموا الكعبة؟
فقلتُ له متحديًا: هي كومة من حجارة.
فقال الشيخ: وما بقاء العرب إذا انتصر أَبْرَهَة على قريش؟
فقلت له: أتهلك نفسك وقومك؟
فقال الشيخ في حِدَّة: وإذا لم نَهْلِك اليومَ أَمَا نَهْلِك غدًا؟ وماذا ينتظرنا إذا لم نَهْلك؟ أليست هذ العبودية؟ لا يا نُفَيْل. ما هكذا ينبغي لك أن تقول. بل قُل: إن العبودية شر من الهلاك.
ووقعت كلماته في قلبي كأنها أسِنَّة حراب لا وخزات لوم. وانصرفتُ إلى نفسي أنظر إليها مكشوفة، فإذا هي نفس عبد آثر الحقد والحياة على الحرية والكرامة، وتواريت عن نظرات الشيخ وهو ينتظر إجابتي، حتى قال في صوته الضخم: عُد إلى أَبْرَهَة يا نُفَيْل وقُل له جوابي.
فقلتُ له في دفعة: بل أبقى ها هنا، سأبقى مع قريش، سأحارب معكم يا أبا عبد الله لعلي أُقتل في المعركة. سأحارب من أجل هذه الكعبة وإن كنت لا أومن بآلهتها.
فقال الشيخ: لسنا نحارب من أجل الكعبة ولا من أجل الآلهة، ولسنا نعبد الحجارة كما يزعم أَبْرَهَة. أترى العلَم في المعركة يا نُفَيْل؟ أيعبد حاملها الخرقة التي في يده؟ هكذا نحن مع هذه الكعبة التي بناها آباؤنا، إنما هي علَم العرب الذي يجتمعون تحته. وما هذه الآلهة الكثيرة سوى رموز تتجسد فيها أرواحنا، ويتمثل فيها إيماننا. نحن نخلقها لنتمثل فيها ما نحب وما نخشى، فابقَ معنا إن شئت أو اذهب إلى أَبْرَهَة إذا شئت، فلن يُجيبك القوم هنا إلا بما قلت لك. ليس عندنا إلا الجهاد حتى تحكم الأقدار بيننا.
فقمتُ إلى الشيخ وقبَّلتُ يده، وعرفت أنني في حضرة زعيم.
وأحسَّ سيف نحو نُفَيْل رحمة خالصة، وقال في حماسة: وحاربتَ مع قريش؟
فقال نُفَيْل: حاربتُ كمن يريد أن يغسل ذنوبه. حاربتُ كالمنبوذ الذي يوعَد قلبًا يأوي إليه، وعقدت لأَبْرَهَة عُقدة لا يستطيع جِنِّيٌّ أن يَحُلَّها. أنا الذي حفرت له الحفرة التي تردَّى فيها.
وكان ينطق بحماسة فيها غضب، وفي صوته رنين الاستعلاء.
وسكت لحظة ثم قال في مرارة الخيبة: كنتُ أحسب أنني غسلتُ أدران الماضي فأعود إلى قومي ويعودون إليَّ. بل لقد بعثتُ إليك — إليك أنت يا بن ذي يزن — لأضع يدي في يدك. ولكن قومي لم يَنْسَوْا ولم يفتحوا لي قلوبهم في شِعْب غيمان.
فصاح سيف: يوم بعثت إليَّ؟
فقال الرجل: نعم، يوم بعثت إليك، وكنت أنتظرك عندما جاءت جنود يكسوم مع حناطة الْحِمْيَرِيِّ، ولَقِيتُ جُنْد يَكْسُوم كما لقيت جُنْد أَبْرَهَة مع حفنة من عشيرتي.
وضحك ضحكة أخرى مُفزعة ثم قال: تخلَّى قومي عني مرة أخرى.
فقال سيف حزينًا: وأُسر أبو عاصم؟
فقال نُفَيْل: ألم يحمل إليك رسالتي؟
فقال سيف: لم أرَه إلا في أغلاله بين يدَي حناطة.
فقال نُفَيْل في حزنٍ: أهذا هو الحديث الذي أردته؟ هذا أنا تراني أَهِيم على وجهي، لا أجد مخلصًا إلا في هذه الخمر التي تُمكِّن الشيطان مني، وهذه الْمَعَرَّات التي أُلطخ بها شيبي.
فقال سيف: ألك في خطةٍ أخرى؟
فقال نُفَيْل: هَيْهاتَ!
فقال سيف: بل تَهَبُ نفسك للحياة يا أبا حبيب. هب ما بقي لك من حياتك لغايةٍ أسمى مقصدًا وأكرم موردًا. هَبْها لِمَا هو أكبر من كرامة نفسك ومن حرية شخصك. هب نفسك للجهاد من أجل بلادك.
فقال في حزن: هَيْهاتَ يا ولدي. إنها آثام أكبر من التوبة وأعمق من المغفرة.
فقال سيف: ليس من الآثام ما هو أكبر من التوبة والمغفرة. انظر إلى أعماق نفسك تجد علَّة الشقاء. إنك تنتظر الجزاء دائمًا، فاحمل نفسك مرة على العطاء بغير أن تتوقع الثواب. تحمَّل المشقة بغير أن تتمنى الجزاء. هناك سعادة أكبر من الجزاء ومن الثواب، وهي سعادة من يعرف أنه يجاهد ويشقى في سبيل غاية نبيلة. أتعرف أين أبي؟
فأجاب: أظنه عند كِسْرَى. أظنه هناك ما يزال يأمل أن يعودَ يومًا. إنه هناك يعرف أن أَبْرَهَة هلك وأن يكسوم يوشك أن يَهْلِك.
فصاح سيف: أحقًّا؟
فقال نُفَيْل: لم أكن لأنسى ثأري.
وقال كأنه يُحدث نفسه: العطاء والجزاء، والحرمان والجهاد. ماذا تقول يا سيف؟
وكان سيف منذ سمع بنبأ يكسوم غاب في سبحةٍ بعيدة إلى غُمْدان. أيهلك يكسوم حقًّا؟ ومسروق؟ أهو الذي يلقاه عند باب القصر إذا عاد إليه؟
وقال عندما تنبَّه إلى سؤال نُفَيْل: ماذا تقول يا أبا حبيب؟
فقال نُفَيْل: أعيد ألفاظك التي نطقت بها، كأنك تبعث الأمل إلى نفسي.
فقال سيف: أتسير معي؟
فقال نُفَيْل: إلى أين؟ لست أحب أن أُغَرِّرَ بك في هذه اللحظة يا ولدي. إنني أحدثك في هذه الساعة ولست أدري ماذا أقول لك في بُكْرة الصباح.
فقال سيف: ماذا كنت تفعل لو قُتل أبوك ظلمًا؟
فقال نُفَيْل: كما يفعل الناس يا سيف.
فقال سيف: ألست تُقسم ألَّا تذوق خمرًا ولا تقترب من امرأةً حتى تُدْرِكَ ثأرك؟
فعلَّق نُفَيْل بصره في وجه الفتى لحظة ثم قال: استمع إليَّ يا سيف: إنني أعرف من ضميري ما لا تعرف، ولكني سأبذل جهدي. وأضرع إليك أن تضع سيفك في صدري إذا وجدت ضميري يخونني.
سأسير معك يا سيف، وآليتُ لا أشرب خمرًا ولا أقرب امرأةً حتى أكفِّر عن آثامي. آليتُ أن أضع يدي في يدك وأن أحميَ ظهرك وأَفْدِيَكَ بنفسي حتى أبلغَ عُذري.
أتُقسم أنت يا سيف؟
فقال سيف: علامَ أقسم؟
فقال الرجل: أن تضع سيفك في صدري إذا لمحت مني غدرًا.
فقال سيف: لن تغدر يا أبا حبيب، ولن أضع سيفي في صدرك أبدًا.
فقام الرجل يمدُّ إليه يده في حماسةٍ وشكر.
وكان القمر ينحدر إلى الغرب بطيئًا متعبًا كئيبًا، عندما نزل الرجلان عن الربوة يقصدان نحو الخيام المظلمة، وذهب أحدهما إلى اليمين والآخر إلى اليسار يقصدان منزلَيهما، وكانا في طرَفَي السوق من جانبيها المتقابلَين. وتواعدا على اللقاء أول شيء في الصباح.