الفصل التاسع عشر
قال الراوي:
كان القمر يضيء الليلة التي تسبق المعركة بعد أن مضت أيام الهدنة العشر، التي جاد بها مسروق على الكتيبة الضئيلة التي جاءت من فارس تغرر بنفسها إلى شاطئ اليمن وتتحدى جيشه العظيم.
وكان الشط الممتد على الساحل لا يَزيد على شريط ضيق نزلت الكتيبة الصغيرة على لسانٍ منه يحيط به البحر من جوانبه، وتطل عليه الهضبة الفسيحة منحدرة نحوه في سفحٍ صخري تشقه أودية صغيرة. وكانت جوانب الأودية تبدو أمام صفحة السماء ضروسًا مسنمة، مثل أمواج تتلاطم عند شاطئ وعر.
وكان وهرز القائد الفارسي في خيمته على ربوة في الطرَف الأقصى من المعسكر على الشط، ينتظر الغد في هدوء، ولا يُبدي شيئًا من القلق الذي كان يثقل قلوب جنوده. كان وجهه المجعد لا ينم عن حركة من جَزَع أو رجاء، كأنه لم يُفجع منذ يومين في أعز أبنائه عليه (نوزاذ). وكان جسمه الضخم، ومنكباه العريضان، وذراعاه اللتان يغطيهما الشعر الكثيف، وصوته الجهوري العميق تجعل حولَه هالة أسطورية، كأنما هو أحد أبطال قصص رستم وأسفنديار التي كان الناس يستمعون إلى إنشادها في مواسم عدن وصنعاء وفرسان. وكان جبينه العريض تشقه خطوط من أخاديد وندوب جراح عميقة، وشعره الأبيض يكلِّل ويصبغ شاربه الغزير وحاجبيه البارزين اللذين يتدليان على عينيه.
وكان سيف يقبع وَحْدَه في خيمته، والهواجس على عادتها تتزاحم عليه كما لم يزدحم حولَه جمعٌ صاخب. وكلما همَّ بالذهاب إلى الشيخ ليحدثه عن معركة الغد تردد ولم يجد في نفسه جرأة، فماذا يقول له والمعركة تبدأ إذا طلع الصبح، وليس معهما إلا ستمِائة جندي من الدَّيْلم، هم بقية الجيش الصغير الذي بعث به كسرى لينصر أهل اليمن على الأحباش؟ وكان يحسب أن قومه يسارعون إليه إذا ما سمعوا بمقدمه، ولكن رسله الذين بعثهم إلى أودية حِمْيَر لم يعودوا إليه، وقد مضت الهدنة وستبدأ المعركة في الصباح. فكان في خيمته الصغيرة يجادل نفسه في حَنَق وضيق يكادان يقذفان به إلى اليأس. أمن أجل هؤلاء الذين كانوا يدعونه ويستفزونه في حماستهم الجوفاء خرج يضرب في الآفاق كل تلك السنين؟ وهل من أجلهم قاسى ما قاسى من مخاطر البر والبحر؟ فلما عاد يدعوهم كان جنود الحبشة أسرع منهم إليه؟ وكان كلما رفع بصره إلى الهضبة الواسعة أحسَّ قلبه يغوص في جوفه؛ إذ كانت عيناه لا تكادان تبلغان طرَفي المعسكر الحبشي العظيم. وكانت حسرته تشتد كلما تذكر أن ذلك الجيش الذي جاء يحاربه، كان يضم جموعًا من فرسان القبائل التي جاء يخلصها من الأحباش، وكلما تمثل معركة الصباح امتلأ قلبه غيظًا؛ لأنه سيقف مع حفنة من جنود الدَّيْلم في وجه هؤلاء الفرسان الذين كان يدعوهم قومه، وقد جاءوا ليضربوا وجهه وليرجعوه بالخيبة، فلم يبقَ له إلا أن يقتحم صفوفهم حتى يشيط في رماحهم، ويختم حياة ضل بها الخيال.
وتذكر حديث كهف ينور وصاحبه الشيخ، وعَزِيف الريح العاصفة التي كانت تُدَوِّي بين الجدران، كأنها تعيد عليه نبوءة الساحرة، وخُيل إليه أن الهضبة التي تمتد من فوقه تثور بزوبعة ذات برق ورعد وسيل، وأن من تحتها حشدًا عظيمًا من العقارب والأفاعي. أهذا كل ما تحقق له من النبوءة؟ أهكذا غررت به الأوهام حتى عاد إلى أرض اليمن بعد تلك السنين المضطربة؛ ليستمع إلى سخرية الحقائق؟ وكان الْحَنَق على نفسه يتزايد كلما أوغل في الفكر، بل لقد أحسَّ لأول مرة بشيء يشبه الحقد على صديقه الحكيم أبي عاصم، وخُيل إليه أنه شارك في تضليله بتلك الأحاديث التي كان يحشوها بأوهام الشمس المشرقة، وحكمة المقادير وكرامة الحياة. وتمثلت له اللعنة التي حادثته أمه عنها يومًا، فها هو ذا مرة أخرى يَهِيم في الخيال، ثم تجرفه الحقائق إلى حيث لا يدري. وطَنَّ في نفسه شيءٌ يشبه وقع حوافر خيل على الأرض الصلبة، أتكون هذه رسله عادت إليه بالبشرى؟ أم تكون طلائع قومه جاءوا يعتذرون عن تأخر أصحابهم؟ وقام خارجًا يتطلع إلى السفوح المضرسة التي كانت تبدو أمامه بعيدة راكدة موحشة، ولكنه لم يجد عليها شيئًا سوى الصخور الوعرة الناعسة.
وذهب وهو متردد إلى خيمة الشيخ (وهرز)، يريد أن يهرب من الخلوة المزدحمة التي يضيق بها، وكانت قبضة صدره تتزايد مع كل خطوة، ويحس كأنه ارتكب جرمًا مع الشيخ الباسل. ألم يقل له في ثقة رعناء إنه سيبعث إلى قومه، ولا يشك في أنهم يأتون إليه سراعًا؟ وكان وهرز وحده يضفر بيده أوتارًا من مِعَى الوعول، وقوسه إلى جنبه تعترض الخيمة من مداخلها إلى أقصاها، وكانت من عودٍ غليظ لم تقع عينه من قبل على مثلها.
ونظر إليه الشيخ من تحت حاجبيه المتهدلين، وقال بصوته العميق: لم أرمِ بهذه القوس منذ سنوات.
وكان في صوته هزةُ مَنْ يترقب نشوةً مُطرِبة.
وكاد سيف يقول له: «أحقًّا نحارب غدًا؟» لولا أن الشيخ وضع الوتر وقال في شبه مرح: غدًا أنتقم لولدي.
وتناول القوس وأخذ يفحصها بيديه الضخمتين ليستوثق من سلامتها، ثم شدَّ عليها الوتر وجعل يجذبه ويرسله، فيصدر عنه هزيم عالٍ متجاوب.
وقال سيف في نفسه: أهكذا تحزن الآلهة على وحيدها؟
ونظر إليه معجبًا. ذلك الرجل الذي لم يتردد أن يسير في مثل سنه في جيش عدته ثمانمِائة من الدَّيْلم، ثم لم يجزع عندما غرقت منه سفينتان في الرحلة عليهما مائتان من رجاله، فلما نزل على الساحل الْقَفْر أحرق سفنه بما عليها من الأحمال حتى لا يَترك في قلب أحد من جنوده ظلًا من الأمل في الارتداد، ثم قال لرجاله: «ليس أمامَنا سوى الانتصار أو الهلاك.» لم يسمعه سيف مرة يتَأَوَّه حزنًا، ولم يقل عندما عرف أن الأحباش قتلوا ولده إلا أنه لقي جزاء من يتعرض للأعداء في مدة الهدنة.
وكان الشيخ منصرفًا إلى سهامه يسوِّي الريش عليها، عندما همَّ سيف أن يقول له: «ألا نتستر بالظلام ونتسلل بين الأودية حتى يجتمعَ الناس إلينا؟» ولكنه لم ينطق بكلمة. ووضع الشيخ سهمًا أمام عينه مبسوطًا ليرى صحة اعتداله، ثم قال: إنما هي جذبة واحدة أضع بها هذا السهم حيث أريد.
ثم لمس حاجبه قائلًا: ليس يقلقني إلا هذا الحاجب المتهدل يا سيف، فإنه ينطبق على عيني، فلا أستطيع أن أُثبت نظري كما أحب. أَرِني هذه العمامة يا ولدي.
وحل سيف عمامته وذهب إليه باسمًا، وقال: هذا تاجي.
وتبسم الشيخ قائلًا: سأثبته على حاجبي يا سيف لكي يثبت من بعد على جبينك. أراك تُحسن لف العمامة، فاعصب بها جبيني وحاجبي.
وكأنه عاد فتيًّا عندما أخفَتِ العمامة تجاعيد جبينه، وتحسَّسها بيده قائلًا: هكذا أحارب غدًا.
ووضع السهم في كبد القوس وجذب الوتر، فطاوعته في بطء حين ملأ يده منها، وسدد سهمه وسوَّى نظره عليه لحظة، ثم قال: ليته الساعة تحت بصري! سأثأر غدًا لولدي.
ثم أعاد القوس إلى استوائها وعضلات ذراعه تتقلص، كمن يضع حملًا ثقيلًا، ثم أقبل على سهامه يسوي الريش عليها في اهتمام.
وخُيل إلى سيف مرة أخرى أنه يسمع وقع حوافر على سفح الهضبة، فذهب يشتاف الفضاء، وكانت السفوح الصخرية ما تزال هادئة تحت ضوء القمر، إلا من جوادين يركضان في عنف في مسيل وادٍ ضيق، فأسرع نحوهما في لهفة. ولما رآه الفارسان وثبا نازِلَيْنِ، فقال أولهما: الأودية تسيل برجالك وراء الهضبة.
فوثب قلب سيف، وأسرع إلى وهرز كأنه يدخل صنعاء منتصرًا، ورفع الشيخ بصره قائلًا: ها قد فرغت يا سيف، ولم يَزَل في الليلة بقية.
فقال سيف في هزة: عاد رسلي!
وكان صوته ينمُّ عن هزته.
فقال الشيخ هادئًا: لن يَحولَ شيء بيني وبين ثأري. أجاء قومك؟
فقال سيف: هم وراء هذه الهضبة.
فقال الشيخ: هم هناك حيث ينبغي أن يكونوا. اذهب الساعة إليهم يا ولدي وتريث بهم إلى الصباح.
فقال سيف في دهشة: أما كنت أتلهف في انتظارهم؟
فقال الشيخ: بل هم هناك أنفع لنا. سأبدأ الحرب وحدي، لا تفوِّت عليَّ ثأر ولدي. سأرمي أول نشابة لأُبرد بها كبدي، وسيرمي جنودي هؤلاء سهامَهم من بعدي، فهذه السهام لا يعرفها أحد من هذه الألوف الكثيرة التي وراء مسروق. سيَرَوْنَ سلاحًا يُصيبهم بأيدٍ لا يَرَوْنَها، كأن الشياطين تبعثها، فإذا ما وقع الرعب في قلوبهم كان ذلك نصف النصر، وسأبدأ الزحف بعد ذلك بجنودي، فإذا ما بدأت المعركة صعدت أنت بأصحابك من وراء الهضبة، فتأخذونهم من خلفهم، وتكون مفاجأة قاصمة.
وهكذا فرغ الشيخ من خطة القتال في لحظة.
فقال سيف: أنحارب معًا والهضبة بيننا يا أبا نوزاذ؟
فقال الشيخ: تلك خطة أخذتُها عنكم يا سيف. ما كنت أخشى في حروبي إلا كمين العرب. ترقب من هنا صيحة تشبه عواء الذئب.
ولما ركب سيف ذاهبًا إلى قومه صافح الشيخ في تأثُّر، وكان يسأل نفسه وهو سائر: كيف يشهد الشمس إذا أشرقت؟
•••
وطلع الفجر وكان البحر هادئًا وأمواجه تتقلب ناعسة، وكان جيش الحبشة يطل من فوق الهضبة على الساحل الضيق الذي تعسكر عليه الكتيبة الصغيرة، وبدأ يستعد للهبوط عليها كأنه الصخرة العاتية تتقلقل للهبوط.
وقال وهرز وهو قابض على قوسه: أعيدوا لف عمامتي، فإن حاجِبَيَّ يَتَهَدَّلان ثانيةً.
ولما سُوِّيَتِ العصابة على جبينه رفع رأسه قائلًا: هكذا أبصر سهمي. فانظروا أين مسروق إذا بدأ زحفه.
وطلعت الشمس من وراء البحر فاترة، وكان مسروق يسير في طليعة الجيش على فيله الضخم وعليه حليته الثمينة، وكانت الخيول تتواثب رشيقة من حوله في نصف دائرة، وتمتد من ورائه الصفوف إلى غير نهاية.
ووقفت كتيبة الدَّيْلم في صفٍّ قصير تنتظر قائدها أن يرميَ سهمه، وتردد جيش الحبشة حينًا حتى نزل الملك عن فيله واعتلى فرسًا أدهم، وكان على رأسه تاج يلمع بياقوتة حمراء في شعاع شمس الصباح. فلما صار عند أول السفح جذب وهرز قوسه قَسْرًا، وسوَّى سهمه حتى أحكم تسديده، ثم أرسله يسبح في الفضاء كأنه يمدُّ حبلًا، فما هي إلا لحظة حتى اضطرب صف الفرسان والتفَّ حول مسروق.
فصاح الشيخ صيحة يكاد من يسمعها يحسب أنه ذئب جائع، وعلت من ورائه صيحة من صف جنوده كأنها عواء قطيع من ذئاب، ثم رَمَوْا سهامهم في الجمع الكثيف الذي أمامهم بغير حاجة إلى تسديد؛ فتزعزعت صفوف الحبشة وتصدعت جموع الأعراب، حتى خُيل إلى الشيخ أن العدو يتردد في زحفه ويوشك أن يرتد! ولكنها لم تكن سوى هزة، واستأنف الجيش الضخم سيره على السفح كما يتهاوى سيل من الْحُمَم على جانب بركان.
وصاح وهرز صيحة أخرى مثل ذئب يعرس في فريسته، وعلت من ورائها صيحة جنده، ووقعت السهام مرة ثانية كدفعة من المطر الدافق، فتزعزعت الصفوف وتصدعت، ولكن الجيش لم يلبث أن استجمع وبدأ ينحدر سريعًا.
وفي تلك اللحظة علت صيحة من وراء الهضبة، وتدفقت جموع من الفرسان خلف صفوف الحبشة، فتوقف انحدار السيل الجارف وتردد، ثم استدار في اضطرابٍ ليلقى المفاجأة المفزعة.
وكان سيف في درعه المعلمة يتقدم الفرسان، ويضرب في عنف كأنه يصدع جانبًا من صخرة، وأصحابه من ورائه ومن حوله يطحنون الصفوف المضطربة بسيوفهم ورماحهم وحوافر خيولهم؛ فلم يلبث الجيش العظيم أن تصدع، فذهبت قطع منه إلى اليمين وقطع أخرى إلى اليسار، ثم اختلطت الخيول العربية بالفلول الحائرة، وجعلت تحطم كل كتلة منها قطعًا، ومرت ساعة طويلة في فوضى يحجبها غبار كثيف.
•••
وعاد المطارِدون آخِرَ النهار ومعهم جموع من الأسرى وأكداس من الغنائم، ولم يبقَ من أثر المعركة سوى حُطام يغطي السفح! أشلاء جنود وخيل، وقطع من سلاح، ودماء متجمدة، وخدوش في الأرض، وحجارة مبعثرة. وكان مسروق مُسجًّى بثيابه النفيسة المجوهرة، تلوثها بقعة من دماء داكنة اللون. ومالت الشمس إلى رءوس الجبال الجرداء، والبحر ما يزال هادئًا كأنه بساط زبرجدي، تتواثب أشعة الأصيل على رءوس أمواجه الفاترة، كأن لم تهلِك دولة في أثناء ذلك النهار.
واعتزل سيف على صخرة من الساحل، يحس في صدره قبضه كأن الملك لم يُصبح بين يديه. لقد قتل حتى ملَّ من القتل، وأسال دماء أعدائه حتى كره منظر الدماء، ورأى جثة أخيه معفَّرة في الرمال، وصدقت نبوءة الساحرة عليه. كأن هزيم الرياح كان يتنبَّأ له بها في كهف ينور، وها هو ذا جيشه المنتصر يضرب خيامه فوق الهضبة التي كان عليها جيش مسروق في الصباح، ولم يبقَ شيء يحول بينه وبين غُمْدان، ولكن صدره بقي ضيقًا ثقيلًا لا ينعشه نسيم البحر ولا تستفزه نشوة الانتصار.
وقال في نفسه: مسكينة رَيْحانة! فلعلها في تلك الساعة تجلس مُطرقة في شرفتها تنظر إلى الفضاء وتُحدث نفسها كما كانت تحدثها دائمًا عن قسوة الأمس والغد، وهي تفكر في ولديها الذين يقفان وجهًا لوجه في المعركة الصارمة، ولعلها في تلك الساعة تسأل نفسها أي ولديها هلك وهي مفجوعة في الحالين. أكانت تحسب عندما قالت له: «اذهب في الأرض» أنه سيعود يومًا ليقاتل أخاه؟ أكانت تتوقع أن يكسوم يهلِك، ويخلي بينها وبين المقادير لتسخر منها؟
وهل يلقى خَيْلاء؟ أهي هناك في تلك الساعة في دَيْر نَجْران؟ أيستطيع أن يعود إليها ويحدثها عن مغامراته ومصادفاته، والمآزق التي وقف فيها حتى استطاع أن يظفر بالملك آخِرَ الأمر؟ وهل يقوَى أن ينظرَ في عينيها الصافيتين وصورة طليبة تتخايل أمامَه دونها؟ طليبة التي قَتلت نُفَيْلَ بن حبيب من أجله، والتي كانت تستغرق في ضحكها وهي تعزم على العودة إلى الحانة؛ لترقص حتى تَعْيَا وتشرب حتى لا تَعِيَ ثم تنتظر قضاءها الفظيع؟ أكان يجرؤ أن يطرد من حياته تلك الهرة الوحشية، ويعود إلى خَيْلاء يسألها أن تعود إليه؛ ليتنسم السلام من عندها، ويعيش معها سائر حياته في كذبة متصلة؟
وأفاق من غمرة أفكاره على صوت الأبواق ودق الطبول مُؤْذِنَة بالسَّيْر إلى صنعاء.