الفصل الثالث
قال الراوي:
كان القصر قد استعاد رونقه بعد أن أصلحه أَبْرَهَة من آثار الحرب الطاحنة التي كانت بينه وبين أعدائه، وأصبحتْ أَبْهاؤه — كما كانت على عهد مُلوك تُبَّع — أُعجوبةً من أعاجيب الفن البديع.
كان البصر يمتدُّ في إيوانه بين صفين من الْعُمُد الْمَرْمَرية الرشيقة، تحفُّ بهما من الجانبين عقود أنيقة مُدَّتْ من بينها الطنافس الوثيرة من نسيج فارس والهند وأرمينية، وتتخلَّلها تماثيل بارعة الصنع من نُحاسٍ أو مَرْمَر، وآنية من فِضَّة أو حجَر شفاف، عليها نقوشٌ افْتَنَّ في تصويرها صُنَّاع القسطنطينية والإسكندرية. وكانت في أركان الإيوان أربعة أسود نُحاسية سمراء، إذا دخل الهواء في أجوافها سُمع لها صوت يُشبه الزئير، كأنها عائدة عند الفجر إلى دحالها بعد أن امتلأت من صيدها في الليل.
ولمَّا تقدَّم النَّهار توافدت على الأبواب جموعٌ من الذين جاءوا فوجًا بعد فوج، يُسرعون من فِجاج اليمن ليُظهروا الولاء لأَبْرَهَة الملك المنصور، قبل أن يخرج في جيشه العظيم إلى حرب قريش.
ووقفت الجموع في حلقاتٍ يتهامس بعضها مع بعض، وعيونهم تلوح بين حينٍ وحينٍ إلى ردهة الإيوان تترقَّب قدوم الملك. وكانوا جميعًا في زينةٍ مُختارة وملابسَ زاهية وسلاحٍ مُحلًّى بالذهب والفضة، فكأن ألوان الزهر اجتمعت هناك من أحمرها وأصفرها وأزرقها، وما بين ذلك من ظِلالٍ شتَّى. كان فيهم زعماء القبائل من حِمْيَر أصحاب الملك القديم، ومن أشراف خَثْعَم سادة فرسان الصحراء، وشيوخ هَمْدان شُجعان العرب، وفيهم من مَهْرَة والسَّكاسِك وكِنْدَة الذي عادوا إلى بلادهم بعد أن خلعتهم قبائل الشمال عن عروش نجد. وكان بينهم عدد كبير من وجوه المدائن الكبرى وصنعاء ونجران وزَبِيد وصَعْدَة وعَدَن وغيرها، قد احتشدوا جميعًا بدعوة من الملك ليستوثق من ولائهم قبل خروجه إلى مغامرته الجديدة التي ستمدُّ مُلكه على أرض العرب جميعًا.
ودخل شيخ بدوي يتوكَّأ على عصاه ويطأ بنعليه الغليظتين طنافس البهو في بطء، ناظرًا إلى الجمع الكثيف في هدوء، كأنه جاء يسوق إبله العطشَى إلى مورِد الماء. وكانت ملابسه الخشنة ووجهه المجعَّد تبدو مثل صرخة في وجه الجمع الحافل الأنيق، فكان أينما خطا تتَّجه إليه الأعيُن في اهتمامٍ ودهشة. كان في هيئته محاربًا قديمًا من بقية عهدٍ مُنقرض. وحيَّا الشيخ أقرب الناس إليه تحيةً خافتة تُضمر لونًا من الاعتداد بالنفس. وكان يقف بين خطواته البطيئة يُقلِّبُ بصره في الوجوه، كأنه يبحث عن وجه يعرفه. وكان يرى ما أمامه كأنه يلوح من وراء ضباب، ويستمع إلى الهمهمة الغامضة التي تتردد في البهو كأنها مُنبعثة من عالمٍ بعيد. وكانت الأعمدة الْمَرْمَريَّة تُبرق جديدة، والأروقة المزخرفة تطل هادئة جليلة، والمصابيح تتدلَّى من عناقيدها النُّحاسية الفخمة كما كان يراها منذ عهد، عندما كان يدخل على ذي نُوَاس آخِر الملوك، ومع ذلك فقد كان البهو يبدو في نظره الكليل أجنبيًّا. وعادت إليه صورة ذي نُوَاس يوم جمع شيوخ القبائل ليستنجد بهم على الأحباش الذين جاءوا لغزو بلادهم، وكان يبسط لهم يديه راجيًا أن يتناسَوْا أحقادهم وعداواتهم، ويقفوا وراءه صفًّا واحدًا ليحاربوا عدوهم ويدفعوه عن أرضهم. وتذكر ضجة الشيوخ وهم يتبادلون التهم ويتقاذفون بالصيحات الحانقة ثم ينصرفون فُرادى؛ لكي يلقاهم الأحباش أشتاتًا ويقهروهم واحدًا بعد واحد.
ثم عادت إليه صور المعركة الطاحنة التي شهدها، وصورة ذي نُوَاس وهو يُوَلِّي منهزمًا عند شاطئ البحر، ويخوض الماء بفرسه حتى يغرق فيه لكيلا يقع أسيرًا في يد عدوِّه المنتصر. أهؤلاء الذين يجتمعون في البهو الكبير من قومه؟ كان لا يعرف فيهم وجهًا واحدًا. أجاء من واديه البعيد ليقف في هذه الصفوف حتى يحضر أَبْرَهَة؟ وأحسَّ في صدره قبضة من الحزن ووخزة من الذِّلَّة. هذا ما تنبَّأ به ذو نُوَاس عندما كان يتضرع إلى شيوخ القبائل ويسألهم أن يقفوا من ورائه، كأنه كان ينطق بلسان الغيب. قال لهم عند ذلك واليأس يغالب الْحَنَق في صوته: «سوف تقفون أنتم أو من يبقى منكم بين يَدَيِ العدو، تَحْنُونَ له رءوسَكم خشوعًا كما يَحْنِي العبدُ رأسَه لسيده»، وهذا هو ذو نَفَر شيخ حِمْيَر، وبقية ذلك الجيل المنقرض تحكم عليه الأقدار أن يبقى حتى يُحقق نبوءة الملك اليائس. هذا هو يُقبل من أرضه البعيدة لكي يَحْنِي رأسَه إلى أَبْرَهَة، وهؤلاء الذين لا يعرف منهم أحدًا قد جاءوا جميعًا لكي يجتمعوا وراء أَبْرَهَة ويحاربوا من أجله، كما لم يجتمعوا وراء ذي نُوَاس وكما لم يُحاربوا من أجل أنفسهم. وحجبت بصرَه الكليلَ غِلالةٌ من دمعة مترددة، فلم يرَ من أمامه إلا أشباحًا مختلطة مضطربة، وسمع منها صوتًا يُناديه: مرحبًا يا أبا الهيثم.
وعَجِبَ أن يعرفَه أحد في ذلك الجمع، وكان يحسَب أن الذين عرفوه قد ذهبوا ولم يبقَ منهم أحد يُشاركه أسفه. ومدَّ بصره فرأى رجلًا طوالًا يمدُّ إليه يده.
وكان كهلًا متين البناء أنيق الملبس، وَخَطَ الشيبُ لحيته، ولكن لمعات عينيه ونضرة وجهه أكسبَته مظهر الشباب، وكان في مِنْطَقته خِنْجَر له مقبض فضي يلمع بقطعٍ من الجوهر، وكان صوته عميقًا في شيء من الغلظ عندما قال للشيخ: أما تعرف نُفَيْل بن حبيب؟
فقال الرجل في صوتٍ خافت: لا تعتب على بصري يا أبا حبيب، فما حسبتُ أن ألقاك هنا، ما حسبتُ أن ألقى هنا أحدًا يعرفني.
وأخذه نُفَيْل فابتعد به إلى ناحية بين عمودَين متقاربَين من أعمدة البهو الأنيق، وقال وهو ينظر حولَه: طال عهدك بالناس منذ فارقتَهم يا أبا الهيثم.
فقال الشيخ: لم تطأ قدماي صنعاء منذ فارقتها.
وسكت حينًا ثم أضاف: كنت أظن أبا عاصم هنا.
فقال نُفَيْل: الشيخ صفوان بن قيس؟
وقلَّب بصره الحديد في الجمع لحظة ثم قال: لا أظنه هنا.
فقال أبو الهيثم: كأنني أرى الناس من خلال ضبابة، وجوه لا أميِّز منها أحدًا. هكذا نجتمع مرة أخرى يا نُفَيْل.
وكان بعض الوافدين قد جاء فوقف قريبًا منهما.
فقال نُفَيْل: تعالَ يا أبا الهيثم إلى هناك، تعالَ يا ذا نفر.
وأخذ الشيخَ من ذراعه إلى ركنٍ أبعد من الزحمة، وأضاف قائلًا: أعرف أنك ما تزال تذكر أيامك الأولى، ولا آمَن أن يسمعك أحد هؤلاء.
فقال الشيخ في حزنٍ يتردد فيه الغضب: لم يبقَ لي ما أخشى عليه يا نُفَيْل؟ أما تعرف أين أبو عاصم؟
فأجاب نُفَيْل: ما هي سوى كلمات سمعتها، يقولون هو غاضب من أَبْرَهَة، أو أَبْرَهَة غاضب عليه. ولكن من هذا؟
والتفتَ فجأة إلى باب الإيوان وقال في دفعة: هذا أبو عاصم.
وذهب نحوه مُسرعًا حتى أتى به إلى الشيخ، فتلقَّاه فاتحًا ذراعيه قائلًا: كاد نُفَيْل يُؤْيِسُني من لقائك.
ومضت بعد التحية لحظةٌ طويلة قبل أن يقول الشيخ أبو عاصم: وماذا أتى بك إلى هنا يا ذا نَفَر؟
فقال الشيخ باسمًا: أتت بي راحلتي.
ونظر في وجهه لحظة أخرى ثم قال: وحَقِّ مَنَاة لولا نُفَيْل ما عرفتك يا أبا عاصم، أكنت تحسَب أن نتلاقى يومًا ها هنا؟ كيف حالك منذ تفارقنا؟
وسمع نُفَيْل صوتًا يُناديه من بين جماعة أقبلت جديدة، فذهب إليها وترك الشيخين وَحدهما.
وقال أبو عاصم في هدوء: الشمس تُشرق فلا أكاد أراها، وتغرب فلا أكاد أفتقد نورها. وآكل إذا حضر الطعام، ولا أُحِسُّ عطشًا عندما أرفع الماء إلى فمي، لا أذكر شيئًا من أيام حياتي كأنني أعيش في هباء، لا أذكر إلا الماضي البعيد كأنه لم يمضِ إلا منذ ساعة.
– ألا تذكر آخِرَ يوم تلاقينا؟
فقال ذو نفر: أكانت حقًّا عشرين عامًا؟ ما أسرع ما تمضي السنوات يا أبا عاصم ونحن لا نكاد نَحِسُّ مرورها.
فقال أبو عاصم: ألسنا نُحِسُّ مرورها حقًّا؟
فقال ذو نفر: بلى، إنها على الأقل تذَكِّرنا بمرورها إذا رأى أحدنا وجه صاحبه.
فقال الشيخ: نعم، نَحِسُّ التغيُّر الذي نراه على وجوهنا، ونُحِسُّه في ضعف حواسِّنا وأبداننا. كل شيء يزول، حتى الجبال الراسية، والبشر يذبلون كما تذبل النخيل المعمرة. وجوههم تتجعَّد كما تتجعد الثمرة الجافَّة، ويتحول سوادُهم إلى بياض وبياضُهم إلى سواد. كل ذلك لا يزيد على حقيقة صغيرة، وهي أننا مِنَ الفانِين.
فقال ذو نفر: أهناك حقيقة أكبر؟
فقال صفوان: نعم يا أبا الهيثم، فإننا نتغير في أعماقنا تغيُّرًا آخَرَ يَدِقُّ عن إدراكنا، حتى نقف عمدًا لكي نتبيَّنه بعقولنا لا بحواسنا. وقد نألفه وهو يدب فينا دبيب الفناء في أعضائنا، فلا نعرفه حتى يبدوَ لنا فجأة أو نطَّلع عليه فجأة كما أفعل اليوم.
وتلفت ذو نفر حولَه قائلًا: لا يبدو القصرُ كما عهدته، ولا الناس كما عرفتهم، أو هكذا هم في عيني.
فقال صفوان: لا يملك أحدُنا إلا أن ينظر بعينيه، ولكن ليس هذا ما أقصد. هناك تغير آخر لا يتصل بما نرى، هناك تغير آخر يشمل العالم كله مستقلًّا عن أشخاصنا، وهو يجرفنا معه رَضِينا أو كرهنا. أنحن اليوم نفكر كما كنا نفكر، ونحكم على الأمور كما كنا نحكم؟ هل يَزِنُ الناس شئون الحياة بالمعايير التي كنا نزنها بها؟ أما زالت مُثُلنا باقية كما عرفناها، نقيس بها الفضائل والرذائل ونميز بها الخير من الشر؟
فقال ذو نفر: أنا رجل قضيت حياتي في البادية، ولا أستطيع أن أعرف من الأمور إلا ما يقع في خاطري. عرفتك يا أبا عاصم تطلب العلم وتقرأ الكتاب، ولست أعرف سوى إبلي وخيلي. ولكني مع ذلك أعرف أننا نتغير، نتغير في داخلنا كما نتغير في خارجنا، فإذا عركنا الدهر وامتحنتنا تجارِبُه تعلمنا منه أن نكون أكثرَ حكمة.
فقال صفوان: أوْ أكثرَ تفاهة. قد تُعَلِّمنا التجارِبُ أن نكونَ أكثر تهوُّرًا أو أكثر جُبنًا، وقد تَزِيدُنا بَذْلًا أو تَحْمِلُنا على مزيد من الحرص، وقد تجعلنا نقدِّس الحق، كما قد تجعلنا نخذله ابتغاءَ الراحة. قد تجعلنا الأيام أكثر حكمة، كما قد تَمِيل بنا إلى الإسفاف والتعسُّف.
فقال ذو نفر: إنها طبائعنا. الحنظل يزداد مَرارةً إذا نضج، والشوك يزداد حِدَّة وشِدَّة، ولكن الثمرة الطيبة تحلو.
فقال صفوان: لست أدري كيف أُبين لك ما أعنيه بقولي، فإني أُحِسُّه في نفسي غامضًا لا أستطيع أن أجدَ له لفظًا، أو لعلِّي أكون أصدق إذا قلت إن هذا الذي أُحِسُّه وأحاول أن أصفَه لم يَثُرْ في نفسي إلا منذ لحظات، عندما وقع نظري على هذا الجمع يا ذا نفر. هؤلاء جميعًا جاءوا لتحية أَبْرَهَة. مررتُ من باب القصر إلى هنا بين جموعٍ لم أرَ مثلها يجتمع لملِك مِنْ بَيْتِ تُبَّعٍ، فوا أسفا على ما سمعت في هذه الخطوات! لقد دفعني الفضول إلى أن أُبطئ في سَيْرِي لِأَتَسَمَّع ما يقولون، فوا أسفا، لقد طرأ على الناس تبدُّلٍ شامل جَرفهم جميعًا، حتى لقد سألْتُ نفسي: ألم أنجرف معهم؟ كل ما سمعت منهم ثقيل على أذني، كَرِيهٌ إلى قلبي، وسرتُ أتسلَّل من بينهم مثل غريب في مدينةٍ لا يَعْرِف لسانَها. كنت في شبابي أكره أشياءَ كثيرةً في أهل جيلي، ولكني لا أستطيع أن أصفَ لك ما وقع في نفسي عندَما سمعت هذه الأحاديث.
وأحسستُ في قلبي وحشة شديدة تُشبه وحشة الطريد الذي يجد نفسه وَحْدَه في فَلاةٍ، هو تبدُّل جَرَفَ الجيل كله إلى حيث لا ندري.
فقال ذو نفر: أصداء بعيدة يا صديقي، ما عرفت أنك رَضِيتَ عن الناس قَطُّ.
فقال صفوان: لستُ أراجعك في قولك يا أبا الهيثم، عرفت نفسي ولم تخف عني عيوبي. كنت كما تقول لا أرضى عن كثير مما أرى، ولا يرضى كثير من الناس عني. كنت أرى قومي يتطاحنون على الصغائر ويتنافسون على التوافه ولا ينظرون إلا إلى ما تحت أقدامهم، ولكني كنت أعرف الذين لا أرضى عنهم وأعرف ماذا أُنكر منهم. كنت أخالفهم أو يخالفونني، ولكنَّا كُنَّا نختلف ومقاييسنا واحدة نقيس بها الأمور. وأما اليوم فقد رأيت الناس ينظرون إلى الأمور نظرة أخرى، ولهم مقاييسُ مبتدَعة يقيسون بها قيم الأشياء، بل لقد وقع في روعي أنهم أصبحوا يُخْفُونَ ما في قرارة نفوسهم ويتَّبعون طريقًا رُسمت لهم، لا يجرءون أن يتحَوَّلوا عنها. إنهم لا ينطقون بما في نفوسهم، بل يتحاورون في أقوالٍ لُقِّنَتْ لهم. أظنني لم أَزِدْكَ بإيضاحي إلا غموضًا وإبهامًا.
فتبسَّم ذو نفر قائلًا: ألا نكون نحن الذين وَقَفَ الزمانُ بهم وهو يَعْدُو بهؤلاء جامحًا؟
فقال صفوان هادئًا: قد يكون ذلك يا أبا الهيثم، إنك ما زلت أَنْفَذَ مني بصيرةً وأفسح صدرًا. أنت تستلهم الحقائقَ من كونٍ أوسعَ من عالمي وأكثر صراحة.
وقال — كأنه يُحدث نفسه: «وقف الزمان بنا وهو يعدو بهؤلاء.»
فقال ذو نفر مبادرًا: عفوًا يا أبا الهيثم، فإني لم أقف يومًا لأفكر في مثل هذا الذي تقوله لي، وكأنني أحيانًا أدرك طَرَفًا مما تصفه لي، حقًّا إن الناس يستحسنون اليوم غير ما كنا نستحسن، ويُنكرون غير ما كنا ننكر، هم يَرْضَوْنَ ويَسْخَطُونَ، أو يقبلون وينصرفون، ويُحَرِّمون أو يُبيحون غير ما كانوا يفعلون من قبل. وقد صدَقْتَ في قولك إن ذلك التغير يجرفنا جميعًا، وإلا فلِمَ جئنا إلى هنا؟
وكان في صوته رنين الحزن. ثم مضى قائلًا: سمعتُ إنك غاضب يا أبا عاصم.
فقال صفوان: لم أغضب على أحد بمقدار غضبي على نفسي. لم أغضب من أَبْرَهَة؛ لأنني عرفته هكذا منذ رأيته، يبذل كل شيء ويَلِين في القول حتى يطمئن، ثم لا يبالي بعد ذلك شيئًا، فإذا احتاج إليك مرة أخرى تملَّق كبرياءك حتى ينال منك ما يريد. أما نحن، أما أنا، فإني أذللتُ نفسي ورَضِيتُ أن أحضر مجالسه، وأن أسمع من حوله يتحدثون عمَّن أعرفهم وأحمل لهم أطيب الذكرى، ويصفونهم بما أُنكر ويقلبون الحقائق، فإذا النُّبْل على لسانهم دناءة، وإذا الكرَم لُؤْم. ثم رضيت آخرَ الأمر أن أجيء اليوم من داري البعيدة لأنحنيَ لأَبْرَهَة مع الذين جاءوا للانحناء.
فقال ذو نفر في مرارة: ونذهب إلى الْقُلَّيْس.
فقال أبو عاصم: نعم، سنذهب لنصلي من أجل انتصاره على قريش، كما لم نُصلِّ من أجل انتصار ذي نُوَاس. سنذهب إلى الْقُلَّيْس.
وأقبل نُفَيْل فقال في مرح: نعم، إلى الْقُلَّيْس لنرى بِدْعَة الفن الخالص، قطعة من الْمَرْمَر والذهب يكاد مَنْ يَراها يقول ما هو بِناء البشَر.
فقال ذو نفر: لن أذهب يا أبا عاصم.
فقال نُفَيْل هامسًا: لا تُعْلِ صوتك هكذا يا أبا الهيثم.
فالتفت الشيخ إلى نُفَيْل في شيءٍ من الغضب وقال: أعرفتَ المسيح يا نُفَيْل.
فقال نُفَيْل: لست أُبالي أين أذهب، فإني أنظر إلى مَنْ أُصَلِّي معه، وكان في صوته سخرية، ثم مضى قائلًا: لست أبالي أن أذهبَ إلى الْقُلَّيْس أو إلى بيت مَنَاة ما دمت في صُحْبَة مَلِك.
ثم همس ضاحكًا: إنها تجارة يا أبا الهيثم، هم يَتَّجِرُونَ مع مَنْ يشتري منهم، وأنا أَتَّجِرُ مع من يشتري مني. هذا هو أَبْرَهَة يُقبل والجموع تتحرك.
واهتزَّتِ الصفوف الْمُتراصَّة تتدافع عندما ظهر أَبْرَهَة في حلقة حراسة، وكان يسير بجسمه الضخم القصير كأنه يتدحرج، وجلس على العرش في صدر الإيوان، فخشعت الأصوات وشخصت إليه الأبصار.
وهمس نُفَيْل قائلًا: لقد تَعَلَّمَ أن يكونَ مَلِكًا.
وبدأ الناس يتقدمون إليه، ودبَّتِ الحركة في البهو وتعالت همهمة الأصوات، فقال ذو نفر ساخرًا: إنها تجارة حقًّا.
فقال نَفَيْل: لستُ أُبالي يا أبا الهيثم سخريتك، فقد طالما تجادلنا في أيام الشباب، وكنتَ تَضِيق بي وتشتد في لَوْمِي. كنتَ لا تحب سخريتي ممن يعبدون الصنم الأصم ويمسحون جباههم بأقدامه، ولكنني اليوم لا أسخر من شيء، بل أقول ما تعلمتُ من الأيام صريحًا: كلٌّ يعبد إلهه، كلٌّ يخلق إلهه.
فقال ذو نفر في حَنَق: إله تخلقه أنت؟
فقال نُفَيْل باسمًا: لا تغضب يا صديقي، فلستُ أقصد أن أُثيرَك. كلٌّ منا يصور لنفسه إلهه كما يشتهي، كلٌّ منا يقصد من إلهه شيئًا ويتعبد له من أجله، فإذا لم يجد عنده ما أراد خَلَقَ له إلهًا سِواه. انظر إلى أعماق نفسك وقل لي صادقًا: هل تراني أقول غير الحقيقة؟
فقال ذو نفرٍ في حَنَق: أتسمع يا أبا عاصم؟
فنظر نُفَيْل إليه باسمًا وقال: سِيروا، فالصفوف تتقدم.
ولم ينتظر جوابًا، بل سار حتى دخل بين الناس يرفع رأسه فوقَهم مُتطلِّعًا نحو صَدْر الإيوان، ولا ينظر من يدفع في سبيله.
ووقف ذو نفر إلى جنب صاحبه في سكون واضعًا كفَّيه فوقَ عَصاهُ الطويلة، مُتكئًا عليهما بجبهته حينًا، ثم رفع رأسه وتنفَّس طويلًا وقال: هلُمَّ نَسِرْ وراءَ الجميع يا أبا عاصم.
وتقدما حتى بلغا أطراف الجمع، وبلغت آذانهما أصوات الوفود وهي تُلقي تحيَّتها، وكان صوت أَبْرَهَة يجيب عليها بكلماتٍ قصيرة وضحكته العالية ترنُّ بين الجدران، كأنها صيحة أحد السباع في ليلةٍ ساكنة.
وتخلخلت الصفوف فظهر أَبْرَهَة والحراس وقوف من حوله، نحاف الأجسام، طوال القامة، حُفاة الأقدام، عُراة الرءوس، لهم شعور شعثاء تُزيِّنها حُلي من ريش الطيور الملونة. وكانت نظراتهم تلمع عابسة مثل أسِنَّة الحِراب الطويلة التي في أيديهم. وكان القُوَّاد يلبسون جلود فهود تتدلَّى من أكتافهم إلى رُكَبِهم، ونِعالًا من جلود الْوُعول، وأساورَ من الفضة في مَعاصمهم وسواعدهم. وكان أَبْرَهَة في حُلة حمراء مُوَشَّاة بالذهب، وعلى رأسه تاج تزينه الجواهر، وفي وسط جبهته ياقوتة حمراء تَأْتَلِق، ووجهه الضخم يتردد بين السماحة إذا تبسَّم وبين القسوة الصارمة إذا تجهَّم. فإذا انبسط وجهُه وانفرجَتْ أساريره ظهر عليه أثرُ جُرْح غائر يعترضه من أعلى عينه اليسرى إلى جانب خده الأيمن، يُعلن للأبصار أنه أَبْرَهَة المقاتل الذي يقف في وجوه المعارك ويتلقَّى ضربات السيوف.
وسارت بقية الصفوف بين يديه لا يكاد يستوقف منها أحدًا إلا رَيْثَما يرد على تحيته بكلمة، قد تكون ضاحكة وقد تكون عابثة ساخرة، ولكن وجهه في كل أحواله ينطق قائلًا: «إنني أجيب على ألفاظٍ بمثلها.» وكان ذو نفر لا يُخفي تَمَلْمُلَهُ كلما سمع أقوال الوفود، ويَمِيل على صاحبه هامسًا: «لَشَدَّ ما تغيَّر الناس حقًّا.» وتقدم شيخ من أهل صنعاء يُلقي أمام الملك قصيدة من الشعر، يُظهر فيها مودة أهل المدينة وعرفانهم لِما شملهم به أَبْرَهَة من العدل بعد طول عهد المظالم، ومن الرحمة بعد أن كادت القسوة تقضي عليهم.
فقال ذو نفر في دفعة: أتسمع ما يقول هذا؟
فأخذ الشيخ بذراعه وتقدم إلى الأمام صامتًا، وكان الإيوان قد خلا إلا منهما، فأقبلا على أَبْرَهَة فصاح قائلًا: كنتُ أفحص الوجوه عنك يا أبا الهيثم. جئتَ تُقَدِّم رِجْلًا وتُؤَخِّر أخرى؟
فقال ذو نفر مبادرًا: أَبَيْتَ اللَّعْنَ أَيُّها الملك.
فضحك أَبْرَهَة ضحكته المزغردة وقال: لم تنسَ بَعْدُ تحيَّتَك القديمة يا أبا الهيثم؟
وكانت عيناه تلمعان لمعة غريبة عندما اتجه نحو أبي عاصم قائلًا: أحسنتَ يا أبا عاصم إذ جئت مع الشيخ، فقد بلغني أنك غاضب علينا.
وكان ذلك اللقاء مفاجأة للرجلين، وقال ذو نفر في دفعة: لم أتعلم بعد تحية خيرًا منها أيها الملك.
فقال أَبْرَهَة ساخرًا: أبعث إليك مَنْ يُعَلِّمُكَ غيرها؟
وأحسَّ أبو عاصم في نفسه حرجًا شديدًا، ولكن الألفاظ غابت عنه فلم يَدْرِ كيف يقول، واعتدل في وقفته يتَّكئ بكفَّيه على عصاهُ مواجهًا لأَبْرَهَة، وقال هادئًا: هَيْهاتَ أيها الملك، فإني كما ترى شيخ كبير.
فقال أَبْرَهَة في حِدَّة: لا يستعصي أحد على التعلم أيها الشيخ، بل قل إنك ما زلت تتعلَّق بأذيال الماضي وتُخَيِّل إلى نفسك أوهامًا تملأ بها شَدْقَيْكَ إذا خَلَوْتَ إلى مَنْ تُسميهم قومك. أتحسَب أن أقوالك لا تبلغ سمعي؟ ألست تقول لقومك إنكم كنتم الملوك؟
فقال ذو نفر: ما تعودت أن أَنْطِقَ إلا لكي يُسمعَ عني. سَلْنِي أيها الملك أُجِبْكَ صريحًا؛ فهذا أجدر أن تسمعَ ما أقول صحيحًا. وهل أملك أن أَنْزِعَ نفسي من ذلك الماضي؟ وهل بقي لي من الغد ما أُعَلِّل به نفسي؟
فقال أَبْرَهَة في غضب: ما ذلك الماضي الذي ما تزال به مفتونًا؟ أتخشَى على شُبَّان حِمْيَر أن يَنْسَوْا أنهم كانوا مِنْ قَبْلُ مُلوكًا؟ أنا وَحْدِي الذي أنزع نفسي من الماضي وأنسى عداوتي وحقدي وكراهتي. أنا وحدي الذي أتسامح وأغضي عيني على القذى. أتسمع ما يقول يا صفوان بن قيس؟
فقال الشيخ صفوان: عفوًا أيها الملك، فقد عرفنا حِلْمَك وحكمتك، وما جاء ذو نفر إلا مُظهرًا للولاء.
فقال أَبْرَهَة في دفعة سريعة: أتنطق عن الشيخ؟ أَمَا تَدَعُه يتحدث عن نفسه وتَقْنَع بأن تتحدثَ عن نفسك؟ إنك أنت كذلك لا تستطيع أن تنزع نفسك من ذلك الماضي، وتقول مثله إنك من حِمْيَر أصحاب الْمُلْك. أليس هذا ما تقوله صباحَ مَساءَ في دروس الصِّبْيَة؟
ووقعت الكلمة على الشيخ كأنها وَخْزَة؛ دروس الصِّبْيَة؟ أما يزيد في نظر أَبْرَهَة على هذا؟ وسكت أَبْرَهَة لحظة قصيرة ثم استأنف قوله، وكان صوته أهدأ وفيه رنين أسًى: كنت أحسَب أنني أكسب بالْحِلْم أصدقاء وأمحو أثر العداوة الأولى. كنت أحسَب أنني إذا قرَّبت الذين حاربوني اقتربوا مني، وإذا أَسَوْتَ جِراحهم وحَقَنْت دماءهم قَضَوْا سائر حياتهم يعرفون الدَّيْن الذي لي في أعناقهم، ولكني وجَدْتُ آخِرَ الأمر أنني أنا وَحْدِي الذي نَسِيتُ العداوة.
فرفع صفوان رأسه وقال: لستُ أنسى أيها الملك أنك أَسَوْتَ جراحي عندما حُمِلْتُ من المعركة، ولستُ أُنكر أنك رَحِمْتَني وحقَنْت دمي حين لم أنتظر منك العفو. كنتُ أعرف أنني عدو، ولا أحزن لو لَقِيتُ مصير العدو المنهزم، ولكن هذا ما كان منك وقد مضى عليه حين طويل، لقيتُ في أثنائه مِنْ بِرِّكَ ما جعَلني أُحِسُّ ثقل دَيْني. وقد حاولت أن أَرُدَّ لك بعضَ دَيْني بأنْ أكونَ معلمًا للصبية كما قلت، وحسبتُ أنك تُقدِّر ذلك وتجد فيه دليلًا على شكري، فإذا كنتَ لا تحب إلا أن تتقاضى دَيْنَك دمًا فهَلُمَّ أيها الملك، فلستُ به ضَنِينًا.
فقال أَبْرَهَة في نغمة اعتذار: لم أقصد كلَّ هذا يا أبا عاصم، ولكني أخشى الفتنة. لم أعبأ بهذه الأقوال التي كانت تَبْلُغني عنك، فإنما هي علالات خيال لا تنال مني شيئًا. ولكني اليوم مُقبل على قتال.
والتفت إلى ذي نفر قائلًا: سأذهب إلى حرب قريش، فماذا أعددتَ للسير معي؟
فأطرق ذو نفر حينًا ثم قال: سأجمع قومي إليها الملك كما ينبغي لي.
فقال أَبْرَهَة في دفعة: كلمة داهية! لم أنسَ بَعْدُ كلماتِك التي تُشبه سَجْع الْكُهَّان يا ذا نفر، ولكنا سنتحدث في هذا إذا عُدنا من الصلاة. لا تتخلَّفا عن مجلسي وكونا قريبَين مني لِنُتِمَّ حديثَنا.
ورفع يده فانصرف الشيخان وفي قلب كلٍّ منهما زوبعة، حتى صارا في الفناء فوقفا حينًا في صمت وجهًا لوجه، ثم قال ذو نفر: ماذا قلت يا أبا عاصم، وماذا قال لي؟
فقال صفوان: فلنشرب الكأس حتى الثُّمَالة، فلنشربها لأننا عصَرْناها بأيدينا.
فقال ذو نفر: وحَقِّ مَنَاة ما حسبت الطريق تنتهي بي هنا، سأجمع قومي كما قلت حقًّا، وسيعلم أنها كلمة داهية.
فقال صفوان: أما علَّمتك التجرِبة؟
فقال ذو نفر: قد تجعلنا التجرِبة أكثرَ تهوُّرًا. أليس هذا ما قلت؟
وسار يتوكَّأ على عصاهُ حتى غاب بين الجموع الزاخرة التي كانت تملأ الفناء، ووقف أبو عاصم وحده مُتردِّدًا، يحسُّ كأن قدميه لا تقويَان على الحركة، وأحسَّ كأن العيون تشخص إليه ساخرة وتتساءل إلى أين يمضي. سيذهب ذو نفر إلى بَنِيه وحَفَدَتِه وبني أعمامه وبني إخوته ليقفوا معًا، سيقول لأَبْرَهَة هؤلاء قومي، وأما هو فأين يتجه؟ إلى داره المحطمة في حقل صنعاء؟ وغمره شعور من العجز والذِّلَّة مع العرَق البارد الذي دبَّ على أعضائه، وتمنَّى لو كانت جراحه التي أصابته في المعركة القديمة قد نزفت دمَه ولم يعِش بعدَها يومًا.
ليت أَبْرَهَة قضى على حياته كما قضى على إخوته وبني عمومته الذين استماتوا في الدفاع إلى جنبه. أهكذا جرفه التيار معه فلم يفطن إلى الغمرة التي قذفه إليها، إلا بعد أن أوغل فيها وصار لا يستطيع انفلاتًا؟ أهكذا يقتلع أَبْرَهَة ريشَه واحدةً بعدَ واحدة، حتى إذا اطمأنَّ أنه يعجِز عن الطير يركله بقدمه مُطمئنًا؟ أمَا من أمل؟ أمَا من غاية؟ أمَا من نهاية؟ وتنبَّه على صوت نُفَيْل، فنظر إلى وجهه وكأنه لم يَرَهُ منذ ساعة، كانت عيناه محمَرَّتين تقدحان غضبًا، وكان وجهه المحتقن يشعُّ ثورة. وقال الشيخ في فتور: نُفَيْل؟
فقال نُفَيْل في صوتٍ أجَش: نعم أنا، فسَمِّني كما شئت. تعالَ بنا نعتزل عن هؤلاء. أعرفت كيف لَقِيَني أَبْرَهَة؟ أسمعتَ ضحكته وهو يقول لي: «أما تعرف لك سيدًا؟» ثم قال لي: «امسح لحيتك أمامي كما كنت تمسحها في نادي قومك، وأعِدْ ما قلتَ على ملأ منهم.» نعم سوف أمسح لحيتي أمامه وأقول لستُ أعرف سيدًا.
وسار يحدث الشيخ في صوتٍ مختنق يُعيد عليه ما قاله أَبْرَهَة عندما تقدم إليه ليؤديَ تحيته. وكان الشيخ يستمع إليه وتزيد نفسه كآبة، فهذا الرجل يثب على بقايا المعركة ويأخذهم واحدًا بعد واحد. ومروا في سيرهم بحلقةٍ صاخبة يمتزج الجد فيها بالفكاهة، وكان فيها جمع مختلط من الحبشة ومن وجوه صنعاء وأشراف القبائل يتحدثون ثُلاثًا أو رُباعًا.
فقال نُفَيْل في مرارة: أليس هذا قيس بن خُزاعِيٍّ وهذا حناطة الْحِمْيَرِيُّ؟ كانا منذ قليل يَلْعَقان قدميه وها هما ذان يأخذان أجرهما. أَمَا عرفْتَ أنه وَعَدَ ابن خُزاعيٍّ بِمُلْك مكة؟
فقال صفوان في ضجَر: قصة مُعادة يا نُفَيْل.
فقال نُفَيْل في حِدَّة: نعم قصة مُعادة. لست أحب أن أتَسَتَّر ولا أن ألتمسَ العذر لنفسي. نعم قصة معادة تذكرني بها يا أبا عاصم، تجارة يبيع فيها كل امرئ ما عنده، كانت لي عنده تجارة وقبضت ثمنها ثم انقطع ما بيننا. أتسمعني؟ ولكن قيس بن خزاعي لن يبلغ مُلْكًا، أقول لك لن يبلغ مُلْكًا، إنما هي أمنية كاذبة يخدعه الرجل بها، ولن يَلْقَى إلا مثل السهم الذي أصاب أخاه من قبله. لن يقبض سوى الثمن الذي قبضه أخوه محمد بن خزاعي.
وكان في حَنَقه ينفلت من حرصه المعتاد فيعلو صوته بين حينٍ وحين، والشيخ مُطْرِق إلى جنبه كأنه لا يسمع.
ومضت الحلقة الصاخبة في حديثها، فقال حناطة الحميري يخاطب عدوة الحبشي: ما لي أراك واجمًا يا عدوة؟
فقال الشيخ الحبشي: أرأيت هذين؟
وأشار إلى صفوان ونُفَيْل وهما يتباعدان.
فقال أنيس كبير سُوَّاس الْفِيَلَة: وما يَعْنِيك منهما يا عدوة؟
فقال الرجل: وجهاهما ينطقان شرًّا. وهذا الشيخ الذي كان أَبْرَهَة يُدخله القصر، أما رأيت وجهه؟
فقال أنيس ضاحكًا: لقد أصبحت كاهنًا.
فقال عدوة: الحمقى لا يعرفون إلا السخرية.
فقال حناطة: صدق عدوة. أما سمعت أنفيهما؟
فأجاب عدوة وسط ضحك الجماعة: دع الحديث في هذا يا حناطة، فإنه عن الرجال.
فقال حناطة: أتغضب أن أقول لك صدقت؟ كان أولى بك أن تُكافئَني بحديث عن امرأة.
وعادت ضحكة أخرى عالية.
فقال أنيس: وما للكهنة والنساء؟
فقال عدوة: وأنت يا سائس الْفِيَلَة؟
فقال قيس بن خزاعي: لا تغضب من هؤلاء يا عدوة. سيعرفون حقَّك غدًا إذا نشب القتال؟
فقال حناطة: أراك تستعجل تاج الحجاز.
وقال أنيس: عِدني أن تبنيَ لي عندَك قصرًا يا ملك قريش.
فقال عدوة: قصرًا عاليًا في الهواء.
فصاح قيس: كهانة أخرى؟ متى تمطر السماء يا عدوة؟
فقال عدوة: متى سمعتَ رَعْدها ورأيت برقها.
وظهر أَبْرَهَة عند ذلك من باب الإيوان، فقال حناطة يخاطب ابن خزاعي: أسرع أيها الملك إلى زميلك.
وعلتْ ضحكة أخرى، فقال ابن خزاعي في ضجَر: اسْكُتوا أيها الحمقَى؟
وأقبل أَبْرَهَة في حلقة حراسه، وسارت من ورائه حاشيته وأمراء جنده، وكان وجهه يَفِيض بِشْرًا عندما وقع بصره على الجموع الزاخرة، وكان يسايره شيخٌ من قُواد الحبشة يَمِيل عليه أَبْرَهَة بين حينٍ وحين كأنه يُسِرُّ إليه حديثًّا، وهو بين حينٍ وآخر يضحك ضحكته المزغردة التي تَفِيض سخرية. وخشعَتْ ضجَّة الأصوات وثَبَتَ كلُّ جمع في مكانه. ولمَّا اقترب الملك من حلقة عدوة التفت إليه قائلًا: كيف أصبحت يا عدوة؟
فقال عدوة: كما كنت دائمًا يا مولاي، وَلِيًّا مُخلصًا.
فقال أَبْرَهَة: هذا عهدي بك دائمًا. وما لهؤلاء الشبان يُخْفُونَ ابتساماتهم؟ أكانوا يُعابثونك؟ قل كلمة وسأوقع بهم العقوبة جميعًا.
ونظر إلى حناطة قائلًا: وأنت يا حناطة، كم بلغ عدد نسائك؟ ثم رَنَّتْ ضحكتُه وسار بغير أن ينظرَ وراءه. والتفت إلى الشيخ الحبشي الذي كان يُسايره وقال له في صوتٍ هامس: أتظن بي البلَه يا بن مقصود؟ تحسبني كما يقول أصحابُك الذين تحلو لهم الثرثرة؟ أتحسَب أني لا أعرف هؤلاء فردًا فردًا وأعلم ما تنطوي عليه نفوسهم؟ قيس بن خزاعي؟ ذلك الشاب المفتون؟ أتحسب حقًّا أنني أجعله ملك الحجاز؟
فقال الأسود بن مقصود: إني أفضي إليك يا مولاي بما يتردد على الألسنة.
هؤلاء الذين تأمن إليهم من العرب لا يريدون إلا شيئًا واحدًا.
فقاطعه أَبْرَهَة قائلًا: قطعة من غنيمة، تجارة لها ثمن، خديعة يُدارون بها الخوف، أعرف هذا كله قبل أن ينطق به غيري. أعرف أنهم لا يبالون شيئًا سوى أن ينالوا مآربهم، ولو وجدوا فرصة لانقضُّوا عليَّ يضربون في ظهري. أليس هذا ما تريد أن تقول؟
فقال الأسود: هذا ما أردتُ حقًّا.
فقال أَبْرَهَة: تقولون إنني نسيت عداوتي وأقفلتُ عيني، وخدعني هؤلاء العرب عن نفسي. ألَا فاعلم أنت وغيرك ممن يظنون بي السخف والبلَه أنكم أنتم البُلهاء. رأيت العرب يبيعون لي مكرًا، فاشتريته بمكرٍ مثله، ويبيعون لي عداوة فاشتريتها بقطعة صغيرة من الحلوى، فهم يظنون أنهم يخدعونني فأدعهم يخدعون أنفسهم. اذهب يا بن مقصود فقل لأصحابك الذين يتحدثون عني أنني أسمع أقوالهم وإن كانت همسًا.
وكان قد بلغ قريبًا من الباب، فالتفت إلى الوراء نحو باب القصر مما يلي جَناح الملكة، وكانت جماعة عدوة تسير من ورائه منذ مرَّ بها، فوقع بصره على حناطة الْحِمْيَرِيِّ، فقال له: أعددتَ سلاحك ودُروعك؟ ستجد في مكة حسناوات من قريش يا حناطة. ألست بهنَّ مفتونًا أيها الخبيث؟ سوف أُهْدِي إليك أبرعَهن حُسنًا.
وكان عدوة واقفًا وراء حناطة يسمو بقامته فوق الرءوس، وشعره الجعد يكلل رأسه وقد امتزج سواده بالبياض.
فقال له أَبْرَهَة: كبرنا يا عدوة. كأني أرى نفسي على وجهك أيها الصديق. ولكنَّا سنحارب مرة أخرى.
فأغضى الرجل متأثرًا، ولكنه أحسَّ في صدره قولًا يريد أن ينطق به ولا يجرؤ.
وعلَت أصوات الطبول، وصاحت كتيبة الجنود المصطفَّة عند الباب بتحيةٍ تشبه صيحات الحرب في جبال الحبشة، وأقبل قائدها يكسوم بن أَبْرَهَة فانحنى بما يُشبه السجود، فتبسَّم له أبوه بسمة ضئيلة، ثم أسرع فالتفت إلى ورائه مرة أخرى نحو باب القصر، وتهلَّل وجهة قائلًا: ها هي ذي الملكة.
واقتربت رَيْحانة تسير بين الصفوف المنفرجة، وكانت في حُلَّة زرقاء مُوَشَّاة بالذهب وعليها حلية مجوهرة، وسارت رافعة الرأس لا تلتفت إلى أحد. وكانت بَسْباسَة إلى يسارها تزينها حلية ثقيلة من الذهب والجوهر، ولكن شعاع الحسن كان يتنفس عن يسارها من قبل خَيْلاء. وتقدم يكسوم فساق الفيل الذي يحمل هودج الملكة حتى اقترب منها، فأسلم القياد للسائس وهو يُخالس النظر إلى أبيه. وكان وجه أَبْرَهَة يُشرق بابتسامة وهو يأخذ بيد رَيْحانة ليساعدها على الصعود في السلم المغطَّى بالقطيفة الحمراء حتى اعتلتِ الهودج.
وهمس حناطة لأنيس قائلًا: ما تزال العجوز حسناء.
فشدَّ أنيس على ذراعه هامسًا: اصمت أيها الخبيث. أتقول إنها عجوز؟
وتقدمت بَسْباسَة وخَيْلاء نحو هودجهما، فقال حناطة: ألا ترى الربيع إن كنت ترى؟ هذه هي الظبية العربية.
فقال أنيس: أيها الثرثار، لا تقل عربية ولا حبشية.
فقال حناطة: صدقت يا سائس الْفِيَلَة. لست أبالي من أي قوم تكون الحسناء.
وجاء يكسوم فاقترب من خَيْلاء يريد أن يساعدها، وقال لها هامسًا: عِمْتِ صباحًا يا خَيْلاء.
فتمتمتْ ردًّا وأسرعت تركب وراء بَسْباسَة قبل أن تمتدَّ إليها يده، وانفلتت من يكسوم نظرة حانقة نحوها.
فغمز حناطة ذراع أنيس هامسًا: بل ظبية نافرة برغم أنفك.
فقال أنيس: دعني لفيلتي.
وأسرع ليأخذ مكانه في الموكب.
وتلفَّتت خَيْلاء من وراء أستار الهودج تقلِّب بصرها في الوجوه، ولكنه لم يكن هنا. لم يكن سيف هناك وراءها — كما تمنَّتْ — على فرسه الأبيض ينظر نحو هودجها.
وتزاحم أهل صنعاء على جانِبَيِ الطريق يُحَيُّون الملك الحبشي الذي أنساهم أنه الأجنبي المنتصر. وكان أَبْرَهَة يتلفَّت مبتسمًا إلى الجموع المحتشدة ويرفع يمينه بالتحية ردًّا على دعائهم، كما كان قيصر يفعل إذا حيَّا جموع القسطنطينية. ولمَّا بلغ الموكب رَحْبَة الكنيسة ووقع بصرُه على مدخلها الرائع وزُخْرِفها البديع، جذب عِنان فرسه ووقف حينًا يتأمل بابها المرَصَّع بالياقوت والذهب، وقِبابها التي تُبْرِق بغشائها الذهبي في ضوء الشمس.
ونظر إلى من حوله من قواده وجعل يُحدثهم عن محاسن البناء الذي سيُخلِّد اسمه على آباد الدهر.
ولم يفارقه مرحُه عندما استقبله الجاثليق والقسوس ورفعوا أصواتهم بالترتيل وهم يسيرون إلى صحن الكنيسة، فكان يُداعب القس الأكبر بلغةٍ رومية ينطق بها في عسر وبطء، ويضحك بعد كل كلمة ينطق بها. وسار إلى جنب الملكة بين الجدران الْمَرْمَرية وعِطْر المسك يفوح منها، حتى بلغ باب المحراب وهو يتمايل بجسمه الضخم في زَهْو. ونظر إليها قائلًا: هذا يوم من أسعد أيامي يا مليكتي. أُحِسُّ السلام يملأ قلبي، وأكاد أحب أعدائي. ليت قومكِ كانوا في هذا اليوم معي.
فوجمت الملكة ونظرت إليه نظرة سريعة، وقالت في جفاء: ما أشد وحشتي إليهم ومن بعدهم.
وجلست عابسة صامتة، فلم تُجب أَبْرَهَة بعد ذلك على أحاديثه التي كان يتدفق فيها. ولمَّا تمت الصلاة وتلقَّى أَبْرَهَة ومن معه بركةَ القس الأكبر، عاد الموكب إلى القصر، فما كادت رَيْحانة تبلغه حتى أسرعَتْ إلى جَناحها، وانتبذت في شرفتها تُسْنِد رأسها إلى يدها وتتأمل الأفق البعيد ساهمة.
وشغل أَبْرَهَة بضيوفه، وكان قد أعدَّ لهم سماطًا عظيمًا لطعام الغداء، وكان يتفقَّد ذا نفر ونُفَيْل بن حبيب وصفوان بن قيس، فلم يَرَهم بين الوفود، وأحسَّ لذلك قلقًا مبهمًا، وكان في أثناء طعامه يستعيد صورهم ويردد أصداء أحاديثهم في شيءٍ من الْحَنَق.