الفصل الرابع
قال الراوي:
وكان الخريف يخلع على المروج الخضراء بقية روائه، كأنه الشباب الْمُدبر إذ يبالغ في الزينة متعلقًا بالحياة، ولكن رَيْحانة لم ترَ شيئًا من الجمال في كل ما وقعت عليه عينها وهي جالسة في شرفتها. كانت الوحشة الكامنة في صدرها تصور لها القصر الفخم كأنه سجن مظلم، تذكرها جدرانُه بأنها رَيْحانةُ الأسيرة التي فَقَدَتْ قومها وعِزَّها يومَ دخلَتْه. وكانت البساتين اليانعة التي تمتد تحت بصرها تلوح في رونقها كأنها عدوة حسناء تسخر من شقائها، وكلما هبَّتْ نسمات الجنوب على أفنان الشجر، أو لمعت أشعة الشمس على رءوس جبلَي نُقَم وعيبان، أو امتدَّتِ الظلال توشي ساحة صنعاء المزدهرة؛ زاد شعورها بوحدتها وقسوة الأمس واليوم والغد عليها. كانت كل المحاسن التي حولها لا تحمل بهجة إلى قلبها، وهو مغلق يسبح في ذكريات قديمة حزينة مرَّتْ بها منذ عشرين عامًا. وتمنَّتْ لو كانت تعيش في كوخٍ وضيع ينزوي في ركنٍ بعيدٍ من شاطئٍ قفر، أو في خُصٍّ مهلهل في جانب وادٍ من أودية سراة حِمْيَر تقضي فيه حياتها سعيدة مع من اختاره قلبها في شبابها؛ إذن لكانت الزهرة الخجول التي تنبت في شقٍّ من الصخر، أحلى منظرًا وأعطر أريجًا من كل أزهار البساتين اليانعة في غُمْدان، ولكانت قطعة العشب الضئيلة المصوحة التي تحف بجوانب بئر عميقة من ماء أُجاج في بطن وادٍ أَجْرَدَ، أحبُّ من كل المروج الريَّا الفسيحة التي تكسو رُبَى الساحة.
وما غُمْدان وما ساحتها وما البساتين والمروج؟ لم تكن كلها سوى زخارف سجن سلبها حريتها وذهب بكرامتها، ولم يُعطِها بدلًا منها سوى تحَف وآنية وأثاث ورِيَاش وطعام مُتْرَف وفراش مُنَعَّم. ماذا أعطاها غُمْدان غير تلك العروض الرخيصة التي لم تَهَبْ لها السعادة في يومٍ من الأيام؟ وتذكرت حياتها الأولى البعيدة التي مضى عليها أكثر من عشرين عامًا.
ما كان أقصرَها من حياة! ولكنها كانت ما تزال ماثلة في ذهنها واضحة حية نابضة، مرت بها ولم تخلف لها سوى ما تبعثه الذكرى من قلقٍ وألم وحسرة على حبٍّ مفقود. تذكرت زوجَها الأول أبا مرة ذا يَزَن الذي لم تعرف الحب إلا منه وله، وتذكرت الأشهر القليلة التي لم تزِد على عامين، وإن كانت عندها أثمن ما في حياتها، لقد تمتَّعتْ في تلك الأشهر القليلة بالحياة معه — مع أبي مُرة الفارس النبيل — وكان منزلهما على ضفاف وادي ضهر، قريبًا من قصر أبيها ذي جدن. ما كان أقصرها من أشهرٍ مرَّتْ كما تمضي ليلةُ الصيف الْمُقْمِرة، وأثمرت ثمرتها الفريدة، فولدت ولدها الأول والأحب، وكانت تحسَب أن الحياة تبتسم وأن الدنيا تغني أغنية السعادة، وأن ذلك الوليد سوف ينمو ويحبو ويشبُّ في رحاب أبيه؛ ليقر عينيهما في شيخوختهما، ويرث السيادة المنحدرة إليه من جَدَّيْه. ولكن وا أسفا! فإن أبا مرة خرج يومًا إلى حرب الأعداء ولم يعُد إليها، خرج إلى حرب هؤلاء الأحباش يقودهم أَبْرَهَة، وما كانت تحسَب عند ذلك أنهم يصيرون سادة الأرض، أو أنه سيأتي عليها يوم تكون فيه …
وأغمضتْ عينيها عندما تَمثَّلتْ لها صورة أَبْرَهَة.
كانت آخِرُ كلمة سمعَتْها من أبي مرة أنْ قال لها: «قَبِّلي طفلَنا كلَّ ليلة، وانظري إلى نجم الشِّعْرَى، فإني سأرقب طلوعَه لأنظر إليه، فتتلاقى نظراتنا هناك وأعلم أنكِ تُقبِّلين ولدي، وأرجو أن يكونَ لقاؤنا قريبًا.» ثم قبَّل الطفل الذي كانت تحمله بين ذراعيها، ونظر إلى وجهها باسمًا ولكنه لم يُقبِّلها، لقد آلَى ألَّا يشربَ خمرًا ولا يقرب امرأته حتى ينتصر على عدوِّه. وأسرع يبتعد عنها كأنه ينزع قدميه من موطئهما، ووقفت تنظر إليه وصورته تسبح من وراء عينيها الدامعتَين، ثم غاب وراء ثَنِيَّة الوادي، وغاب آخر فارس من الذين كانوا يركبون وراءه.
كانت تقف في الْأَصْباح والأماسي في شرفة قصر أبيها الذي انتقلت إليه، لعلَّها تجد مع أهله أنسًا. وكانت تترقَّب الأفق تنتظر عودة فارسها المنتصر، وكم خفق فؤادها كلما لاح لها شبح فارس من ثَنِيَّة الوادي، ولكنها كانت في كل مرة ترد بصرها خائبة حزينة.
وطلع عليها آخر الأمر فارس ومن ورائه رَكْبٌ، وجاءوا يقصدون نحو القصر، ولكنه لم يكن أبا مرة، وتأملت أشخاصهم في قلقٍ ولهفة حتى نزلوا، ثم صرخت في يأس. كانوا رَكْبًا من الأعداء الذين خرج أبو مرة إلى حربهم، سُود الوجوه شُعث الشعور، في أيديهم حِراب طويلة، وجاءوا إليها بَعْدَ حينٍ يحملون إليها أمر أَبْرَهَة أن تسير إلى صنعاء، وتلفَّتَتْ حولَها ترجو أن ترى نصيرًا، ولكن لم يكن هناك قومها، لم يكن هناك سوى شيوخ من الأتباع وعجائز أو صبية من الأهل؛ لأن الرجال جميعًا خرجوا مع أبي مرة. وصاح الجنود في وحشية يُنادونها باسمها، أمَا كان خيرًا لها لو ألقتْ بنفسها من الشرفة فتَدَهْدَهَتْ على حافَة الوادي الصخرية؟ ولكن الوليد كان بين ذراعيها، وأمسك بها في ذعرٍ عندما صرخت، ودفعَتها الفطرة إليه، فنظرت إليه تُطمئنه من خلال لهفتها، فتبسَّم لها بعينيه الواسعتين البريئتين وهو لا يدري ماذا ينتظره في الغد الموحش.
وأغمضت رَيْحانة عينيها مرة أخرى في يأس، تريد أن تُبْعِدَ الصورة عن ذهنها، ولكنها تشبَّثت بها في لجاجةٍ وقسوة، فلم تبعد عنها. ورنَّتْ في أذنيها أصداء ضحكة مزغردة، كانت بلا شك ضحكة أَبْرَهَة عندما رآها تدخل عليه في بهو غُمْدان، ثم قوله لها: أنتِ رَيْحانة حقًّا! ما هذه السحابة التي تغشي وجهكِ يا رَيْحانة؟
أهو حُلم أم حقيقة؟ أهي الرؤية البعيدة أم هو أَبْرَهَة الحي الذي أمامَها؟ وقامت رَيْحانة جافلة نحو باب الشرفة، وكان أَبْرَهَة هناك حقيقةً يُناديها في ضحكته المزغردة: ما هذه السحابة التي تُغَشِّي وجهكِ يا مليكتي؟ هكذا كنتِ عندما وقعَتْ عيني عليكِ أول مرة.
ونظرت إليه نظرة صامتة فيها كل مشاعرها، فاستمرَّ قائلًا: إنها النظرة الحانقة الصامتة.
فعادت رَيْحانة إلى مقعدها صامتة، وقال أَبْرَهَة: أهكذا تَلْقَيْنَني؟
فقالت في دفعة: وماذا تريد مني؟
فقال أَبْرَهَة هادئًا: لقاء بديع في مثل هذا اليوم السعيد.
فسكتت رَيْحانة وقالت في سرِّها: سعيد حقًّا؟
ولكنها لم تنطق.
ومضى أَبْرَهَة قائلًا: أأنتِ غاضبة؟ لقد رأيتُ ذلك منذ كنا في الْقُلَّيْس. أأغضبكِ شيء؟ أهكذا تغضبين كلما رأيتِ مني انشراحًا؟
فقالت في حَنَق: إنها القسوة التي أعرفها.
فقال في دهشة: قسوتي أنا؟
فقالت: قسوة مَن إذن؟ هذه الضحكة التي تتعمد أن تسخر بها من آلامي، تقطع ضاحكًا، وتطعن ضاحكًا، وتَسُوق ضحاياك إلى الموت ضاحكًا.
فقال أَبْرَهَة في نغمة عتاب: كل هذا؟ كأنها أصداء قديمة.
فقالت: بل متجددة، تجددها دائمًا.
فقال: أهو الماضي مرةً أخرى؟ أَمَا يختفي ذلك الماضي ويَنْدَثِر حيث مضى؟
فقالت في دفعة: إنك أنت تنبشه ليعودَ جديدًا في بشاعته وقسوته، كأنك تجد متعة في العبث بجراحي.
فقال: حسبتُها انْدَمَلَتْ. أَمَا زالت بكِ بعدَ كل هذه السنين؟
فقالت فيما يشبه الحقد: إذن فاعلم أنها لم تندمل ولن تبرأ أبدًا. لن أنسى اليوم الذي جئتُ فيه إلى هذا القصر المظلم، ولن أنسى الكوارث التي ساقتني إليه، لن أنسى يوم جئتُ إلى هنا يسوقني عبيدُك كأنني أَمَة.
فقال أَبْرَهَة: وهذه السنون العشرون. وهذه الفلذات التي نحيا فيها معًا: مسروق وبَسْباسَة. أما تَرِقِّينَ من أجلهما؟ أما تَنْسَيْنَ من أجلهما؟
فتحركت رَيْحانة في ضجَر وثارت في قلبها عاصفة مكبوتة. مسروق، بَسْباسَة. أحقًّا هما ولداها؟ إنها تكاد تنكرهما، ألم تجعل اسمه «مسروق»؟
هكذا قالت في نفسها: «إنها لسرقة شنيعة أن تغتصب مني ولدًا.» ولكنها جمجمت ما في نفسها وبقيَتْ صامتة.
فقال أَبْرَهَة: أما تتغير هذه الجفوة على الدهر؟ هَبِيني أجنبيًّا أمتُّ إليك بأنني قريب لهذين. أما تتغير هذه الجفوة؟
فقالت في صوتٍ مُختنق: وهل تغيرت أنت؟ أما زلت تُذَكِّرني بأوجاعي وتَسْخَر من شقائي؟ أما زلت تُذَكِّرني بوحدتي وبهلاك قومي؟ ألم تكن اليوم كما كنتَ منذ هذه الأعوام العشرين، وتتمنى لو شفيت نفسك بأن ترى أهلي إلى جنبك يشهدون موكبك ويخضعون لمجدك؟ لقد كان القضاء بهم رحيمًا إذ أعفاهم من شهود هذا اليوم. ألم تَقُل لي: «ليت قومكِ كانوا هنا؟» ووضعَتْ رأسها على يديها باكية.
فمدَّ يده إلى رأسه عاطفًا وقال: كلمة واحدة تثير كل هذا؟ من أجل كلمة واحدة تنسين كل حبي وكل مودتي؟ ومع ذلك فما قصدت كل هذا.
فرفعت رأسها قائلة: إذًا فماذا حملك على إقحام قومي في حديثك؟ أكنت تريد أن يكونوا اليوم معك أتباعًا؟ إذا شئت فاعلم أنني لن أنسى أنهم كانوا أهل الملك وأصحاب الأمر، ولن أنسى ما فقدت عندما ذهبوا عني. نعم، ليتهم كانوا إلى جانبي وَحْدَهُمْ سادةً كِرامًا.
فقال ضاحكًا: في الْقُلَّيْس؟
فقالت في حِدَّة: حيث يكونون سادة، لا أبالي أيكونون في الْقُلَّيْس أم في معبد مَنَاة. لستُ أبالي أين يكونون لو كانوا إلى جانبي، ولكنها أمنية حمقاء.
فقال أَبْرَهَة: لقد قلتِ حقًّا، إنها أمنية حمقاء، وما كانت أمنيتي إلا كذلك، وماذا فقدتِ من السيادة والكرامة؟ ألستِ اليومَ ملكة؟
فقالت في حنقٍ: نعم، فامضِ في قولك وعُدْ إلى قسوتك. قُل ما تعودتُ سماعه منك غير مرة، فليست هذه أول مرة تَمُنُّ عليَّ فيها بأنك اتخذتني زوجًا. امضِ في سخريتك وقُل إنك لم تعاقبني كما تعاقَب الأمة، ولم تتخذني امرأة كما تُتخذ الأمة، وقُل إنك أكرمت ولدي الذي جئت أحمله بين ذراعَيَّ فجعلتَه مثل ولدك. قُل ذلك وغيره، فإنه غير جديد عليَّ.
فقال أَبْرَهَة: وهل في ذلك سخرية؟ نعم أقول إنني اتخذتك زوجًا وجعلت ولدك في مكان ولدي، وسمَّيْتُه سيف بن أَبْرَهَة، أقول ذلك لا أَمُنُّ به عليكِ ولكن لأُذكِّركِ بمكانتكِ عندي.
فقالت في جفاء: لم تزدني مكانة يا أبا يكسوم. لن أنسى أنني رَيْحانة ابنة ذي جدن.
فقال: هذا حق، وهو ما يزيدني لكِ مودة. أعندكِ طعنة أخرى؟ أما من طعنةٍ أخرى؟ لِمَ لا تقولين إنكِ رَيْحانة زوج أبي مرة؟
فانتفضت في وثبةٍ وقالت: بلى. أنا رَيْحانة زوج أبي مرة ابن ذي يَزَن. ألم تعرف ذلك عندما بعثت إليَّ تحملني إلى هنا؟ ألم تعرف ذلك وأنت تنزعني من بيت أبي؟ نعم أنا زوجة أبي مرة الذي ما يزال حيًّا، يَهِيم على وجهه في الأرض شَريدًا، يذكر امرأته وولده كلَّ يوم إذا أصبح وإذا أمسى.
فقال أَبْرَهَة: أنتِ تُثيرين غضبي.
فقالت في حَنَق: فليزِد قلبك ثورة، إذن فهلُمَّ إلى بطشك حتى لا تبقي على حياة أمقتها وأبقى فيها ولا أستطيع أن أنسى عاري.
ثم وضعت وجهها بين كفَّيها واستخرطت في البكاء.
فهدأ أَبْرَهَة واقترب منها، وجعل يمسح رأسها ويُفرِّق بأصابعه خُصَل شعرها الغزير الأسود. ثم قال: لا عليكِ يا رَيْحانة، قُطعتْ يَدٌ امتدَّتْ إليكِ بسوء. وهل تمتدُّ يدي إليكِ بغير الحب والإجلال؟ إنكِ تُزيِّنين ملكي، ولكِ عليَّ الفضل في عشرين عامًا من حياتي. أنتِ تعلمين ما أُضمره لكٍ في قلبي، أأغضبَتْكِ كلمة فُهْتُ بها عفوًا ولم أقصد بها ما فهمتِ منها؟
فقالت رَيْحانة وهي أهدأ: أكنتَ حقًّا تحب أن يشهد قومي موكبك؟
فقال أَبْرَهَة: أما قلتِ إنها أمنيةٌ حمقاء؟ هزَّني طربي فقلت الكلمة كأنني أُلْقِي بها تحيةً إليكِ. هَبِيها كلمة ذهبت في الهواء لا تقدم ولا تؤخر شيئًا.
فقالت رَيْحانة: ولم أفعل سوى أن قلت كلمة. وهل كنت لأملك نفسي من لوعة الذكرى؟ أغيرة من الموتى؟ أغيرة من خيال؟
فقال أَبْرَهَة في رقَّة: ما بي من غيرة ولا غضب. إنكِ أعز الناس عندي وأقربهم إلى قلبي، بل إنكِ صاحبة الفضل عليَّ؛ لأنكِ أدخلتِ إلى قلبي رقة لم أعرفها قبل أن أراكِ. منذ رأيتك تفتَّح قلبي كأنه كان في ظلمة ثم دخله النور. لست أكذب إذا قلت إنني كنت أقصد بكلمتي غير ما فهمتِ منها، فلو رأيتُ قومكِ اليوم لفتحتُ لهم ذراعي مُرحِّبًا وقلتُ إنهم أهلي. بل لست أكذب إذا عُدتُ إلى الماضي قليلًا يوم رأيتكِ، فلقد وددتُ في ذلك اليوم البعيد عندما وقع بصري عليكِ لو لم يكن بيني وبين قومكِ عداوة، وددتُ صادقًا لو رضي ذو يَزَن بالعودة إلى صنعاء، فأردُّكِ إلى بيته زوجة له كما كنتِ، ولا أمدُّ إليكِ يدًا. لستُ أدري كيف أدخلتِ السلام إلى قلبي منذ رأيتكِ، لم أنظر إليكِ كامرأة أريد أن أتخذَها لنفسي، بل كنتِ في نظري ملاكًا يوحي إليَّ بالسلام. ولو رضي ذو يَزَن أن يعود إلى صنعاء لجعلته أقرب سادة اليمن إلى مجلسي، ولكنه أبى، وآثر أن يخرج هائمًا في الأرض يلتمس المعونة ليعاود قتالي. فهل فعلت أكثر مما كان ينبغي لي؟ اتخذتكِ زوجة، وجعلتُ ولدكِ ولدي، وسميته باسمي، ولم أعاتبكِ يومًا على ما سمعته منكِ وأنت ترددين على مسمعٍ مني كل ما تدفعكِ إليه ثورتكِ، ولكني لم أكره يومًا بعد أن أحببت. ترفَّقي بنفسكِ وكفِّي عن هذا البكاء، ولا تُعكري عليَّ صفاء هذا اليوم. لا تذرفي هذه الدموع الحزينة، فإني ذاهب غدًا إلى حربٍ لست أدري ما يُخبئ لي القضاء فيها.
فقالت رَيْحانة وهي تجفف دمعها: لست أدري أنا ما يخبئ لي القضاء.
فقال: لقد طالما ندمتُ على هذه الضحكات التي تنطلق مني وتلك الكلمات التي ينفجر بها لساني أحيانًا، ولو استطعتُ أن أزيلَ عنكِ آلامكِ بأن أحملها عنكِ لما أحسستُ منها ألمًا. سأمضي إلى الحرب غدًا، ولا يُداخلكِ هم فإنها رحلة خريف قصيرة، وسوف أعود منها منصورًا، وأمدُّ ملكي إلى حدود الشام وأصافح مُلْك صديقي قيصر. وسوف أقسم البلاد فأجعل لسيف ولدكِ شَطْرًا منها، ولن يعرفَه الناسُ إلا سيف بن أَبْرَهَة. أيكون هذا اعتذارًا من خطئي؟ أيردُّ هذا حق ولدكِ إليه ويُرْضِي قلبكِ عني؟
فقالت رَيْحانة متهافتة: أتفعل حقًّا؟
ومرت صورةُ ولدها في ذهنها كما يمرُّ شعاع مضيء في حجرة مظلمة.
ثم قالت في صوتٍ خافت: ليست هذه أول مرة أُسيء فيها وتعفو، وتُكرمني وأجفو، وتُحسن إليَّ وألقى إحسانَك بالنُّكران، ولكني إذا خلوتُ إلى نفسي كدت أقطعها أسفًا. اعفُ عني لِما فَرَطَ مني في ساعة غلبني ضعفي، واذهب إلى حربك وعُد منصورًا موفَّقًا، وسأصلي لك لعلَّ الله يستجيب لدعائي ويغفر لي زَلَل لساني.
فنظر إليها أَبْرَهَة مُتأثرًا، ثم حوَّل عينيه حينًا فشخص إلى الأفق، ثم انفلت مسرعًا وهو يمدُّ يده إلى عينيه يمسح منها دمعة.
وبقيَتْ رَيْحانة في مكانها ساعة طويلة تتحدث إلى نفسها حديثًا صامتًا، وكانت كلمة أَبْرَهَة ترنُّ في سمعها إذ قال لها: «سأجعل لسيف ولدكِ شطرًا منها.» وكانت تضطرب مثل ريشةٍ في مَهَبِّ الهواء، يضيء لها الأفق الذي تحت عينيها حينًا، ثم يَقْتُم حينًا، وتُسائل نفسها: أحقًّا يصدق أَبْرَهَة؟ أم هي إحدى دفعاته التي يتدفَّق فيها القول على لسانه حلوًا، حتى إذا ما هدأتْ نفسه وذهبتْ عنه الدفعة، نسي ما قال أو تناساه، أو جحده في جمود. وهل يستطيع أن يبرَّ بذلك الوعد الذي نطق به في حرارة تشبه حرارة الصدق؟ أو هي حماسة لحظة لا تلبث أن تنطفئ إذا أحاط به ولده يكسوم وقواده الأحباش، الذين ما زالوا يلومونه على إفراطه في تكريمها؟ وهل كان يستطيع أن يصدق في قولته تلك ويتحدَّى ولده يكسوم؟ ومع ذلك كله فمن يدري؟ إنه لم يَعِدْها بأكثرَ من أن يجعل لولدها شطرًا من مُلكه. وأي مُلك هو؟ أهو الْمُلك الذي انتزعه قَسْرًا من قومها؟ أم هو الْمُلك الذي لم ينطق القضاء بعدُ بحكمه فيه؟ مَنْ يدري؟ ماذا يكون حظه في المغامرة التي يعتزم أن يقتحمها؟ إنه يعدها بقطعة من حُلمه، بظلٍّ من خيال، بأملٍ في أمنية ما تزال وهمًا في خاطره. أرضيَتْ نفسها بعهدٍ يقطعه على نفسه في أمرٍ ما يزال محجوبًا وراء ستار الغيب؟ وهل هي حقًّا رحلة خريف؟ تلك الحرب التي يعتزم أن يخوضَها مع قريش صقور عرب الشمال؟
وعاد قلبها يثور ويرمي أَبْرَهَة بالسخرية والقسوة، وقالت في سرها: «إنه في كل مرة يسحر قلبها بألفاظه المعسولة، حتى إذا ما ذهب عنها وجدت أنها لم تَقْبِض منه إلا على الريح. أين سيف؟ إنه لم يكن اليوم في الموكب.» وهجم عليها فجأة شعور الأم التي تفتقد ولدها، كأنها لم تفطن إلا في تلك اللحظة إلى غيابه. أين سيف؟ ولدي سيف؟ وقامت في لهفة تبحث عن ولدها.