الفصل الخامس
قال الراوي:
خرج أَبْرَهَة في الصباح الباكر مع جيشه، يتدفَّق مثل نهر يَفِيض تحت عاصفة، وكانت الْفِيَلَة تسير في الطليعة كأنها حُصون تتحرك بطيئة، ومن ورائها سارت الخيول العربية رشيقة، من فوقها حِراب تبرق في سحابةٍ من الغبار، وبقيَتْ رَيْحانة في شرفتها تنظر في أعقاب الألوف المتدفقة بين جبلي نُقَم وعيبان، حتى غابت أواخرُ صفوفها بين الرُّبَى الخضراء، ثم استلقت على أريكتها وقد استولت عليها رهبة شديدة. كانت منذ ليلة تتحدث إلى نفسها حانقة على أَبْرَهَة، حتى خُيِّلَ إليها أنها لا تَضِيق بالحياة إلا من أجله، وجرفَتْها الهواجس في تيَّارها حتى اتَّهمت نفسها، وودَّتْ لو كانت قضت على حياتها قبل أن تعرفَه، ولكنها مع ذلك أحسَّتْ له وحشة عندما فارقها.
ومهما يكن من الأمر فإن رَيْحانة استلقت على أريكتها في الشرفة مُستسلمة لهواجسها، تتمثَّل أَبْرَهَة وقد بلغ مكة؛ فخرجَتْ إليه قريش خاضعة ذليلة، تسأله العفوَ وتُذعن له بالطاعة، ثم تتمثَّل الْفِيَلَة الضخمة وقد شُدَّتْ إلى الكعبة تنقض بِناءها حَجَرًا حَجَرًا، حتى تَدُكَّها وتُسَوِّيها بالرمال المحيطة بها. ثم تتمثله عائدًا بجيشه العظيم يشقُّ جَبَلَيْ صنعاء مرة أخرى ويسوق أمامَه الغنائم والأسرى، وقد خرجت تستقبله في موكبٍ ضخم مع شيوخ اليمن وأمرائها، وتستنجزه وعدَه الذي قطعه على نفسه أن يجعل لولدها سيف شطرًا من مُلْكه. أيفعل حقًّا؟ أم يعود أدراجه وينسى وعده، أو يجحد أنه نطق بحرفٍ منه؟ وما كادت رَيْحانة تخلص إلى تلك النهاية حتى ارتدَّتْ عليها الهواجس، تصور لها فرسان قريش وهم يُسارعون إلى القتال من رءوس جبالهم الجرداء، وشِعاب أوديتهم الوعرة التي يتربَّصون فيها، ثم يَثِبونَ على الحبشة فيشردونهم ويُوقِعون بهم القتل والْأَسْر، حتى لا يبقى لأَبْرَهَة جيش. وتمثَّلَتْه يرتدُّ كسيفًا يتعثر في هزيمته الشنيعة، هائمًا على وجهه في الصحراء. أهِيَ نقمة القضاء عليه من أجل تشريده لأبي مرة؟ وخُيِّل إليها أنها حقائق، لا هواجس يُجسدها الوهم لها. وكادت تصرخ قائلة: «أية مقادير تلك التي تتعقَّب آثاري؟» لم تحمل إليها تلك الخواطر الحزينة شيئًا مما تحمله أحلام اليقظة من الرِّضَى، بل إنها حملت إليها فزعًا وقلقًا لم تكن تتوقعه، فلو هُزم أَبْرَهَة حقًّا وشُرِّد عنه جيشه، وارتدَّ يتعثر في الهزيمة هائمًا على وجهه في الصحراء كما فعل أبو مرة من قبل، لكانت كارثة جديدة بعد كارثتها الأولى، كأن الزمان مُوَكَّل بها يختار لها أشد الكوارث وأقساها.
وأحسَّتْ يدًا تمسح على رأسها في رفق، فالتفتت إلى ورائها وهي ما تزال ماضية في سبحها، ثم انطلقت منها صيحة مكبوتة: سيف؟
ومدَّتْ إليه يدها قائلة: أين كنت يا ولدي؟
وجذبته إلى مقعد بجوارها، وأشرق على وجهها شعاعٌ من البِشْر وهي تتأمل قامته الفارعة، ووجهه الذي ينطق بالرجولة، وعينيه اللتين يَأْتَلِق فيهما نور حالم، وكأنها لم تَرَهُ منذ كان طفلًا إلا في تلك اللحظة، ألا ما أشد الشبه بينه وبين أبيه ذي يَزَن؟ أَوَهُوَ الشبهُ بينه وبين أبيها ذي جدن؟ وأطرقت تفكر فيما تقوله له كما كانت تطرق كلما رأته يدخل عندها.
وخُيل إليها أنه كان في مظهره ومشيته غير ولدها الذي اعتادت أن تراه مُقبلًا عليها، كأنها كانت غافلة عن مسايرة نموه حتى طلع عليها فجأة وهو رجل. أهكذا تبدَّل بين عَشِيَّةٍ وضُحاها؟ أَوَهِيَ التي كانت تنظر إليه ولا تراه؟ ولم يَفُتْها أن ترى كذلك ما على وجهه من آثار تنطق بأنه يُخفي في قلبه أشياءَ تقلقه وتحركه، ولا يستطيع أن يطلق بها لسانه. كانت عيناه تضطربان ولا تستقرُّ نظراتهما، وقد أحاطت بهما دائرتان بين السواد والزُّرقة. وكان وجهه ذابلًا، فيه خطوط تشبه تجاعيد الْكِبَر، وتتوسط خدَّيه بُقعتان ورديَّتان تشتعلان حينًا ثم تنطفئان. وهجم عليها ذلك الشعور القوي الذي تُحِسُّه الأم عندما ترى ابنها مُشرفًا على خطر، وامتلأ قلبها لومًا لنفسها وإشفاقًا على ذلك الابن، الذي لم يكن له في الحياة سند غيرها منذ طفولته الأولى. لقد تركته الأقدار طفلًا وليدًا بين ذراعيها، ثم ألقت به بين أعداء أبيه يمدُّون إليه أيديهم بالرحمة، وهم يشعرون في قرارة نفوسهم أنه ليس منهم، ولم يكن ذلك الشعور جديدًا عندها، بل كان يهجم عليها في كل مرة يقع بصرها عليه، وكانت كلما أحسَّته وجدت نفسها تضطرب وترتبك، ويغمرها ضيق عجيب يطوي تحته أمواجًا من مشاعر مُبهمة، تشبه مشاعر الذي يتهم نفسه بجريمة لم يطلع عليها غيره؛ فكانت لا تطيق مُجالسته إذا جاء يومًا ليجلس إليها، ولا تقوى على مواجهته بعينيها خوفَ أن تنمَّ عن خلجات ضميرها. فإذا انصرف تنفَّسَتْ نفس المكروب يؤذن كربه أن ينكشف عنه. وقد ازداد بها ذلك الشعور في الأشهُر الأخيرة؛ لأنها كانت كلما لقيَته أحسَّتْ في غموض أنه يريد أن يقول شيئًا ثم يردُّ نفسه عنه قسرًا، فما ذلك الشيء الذي يريد أن يقوله؟
وسمعتْ من أعماقها صوتًا يصيح بها: «خذي ولدكِ المسكين بين ذراعيكِ وبللي عنقه بالدموع، وافصحي له عن الحقيقة التي أخفيتيها عنه هذه السنين الطويلة. إنكِ تدعينه ابن أَبْرَهَة، وتأمرين الجميع أن يدعوه بذلك الاسم، وستكون صدمته عنيفة إذا تكشَّفَتْ له الحقيقة يومًا.» وكادت تطيع ذلك الصوت وتَجْهَر له بالحقيقة السافرة. وأيُّ عار عليها أن تكون قد أخفتْ عنه قصة مولده، وهو طفل لا يطيق أن يتحمَّل وقع المأساة ولا يتحمل معنى الحياة؟ بل أي عار عليها أن تتخذ أَبْرَهَة زوجًا بعد أن خرج أبوه من الأرض وتركها وَحْدَها لا حامي لها؟ ولكنها لم تَقْوَ على أن تخطوَ تلك الخطوة، بل ارتدَّتْ عنها في شيء يُشبه الذُّعْر. ألم تكن تستطيع أن تُهلك نفسها قبل أن تصيرَ زوجًا لغير صاحبها؟ أكان أَبْرَهَة يجرؤ على أن يتخذَها زوجة بغير أن يجدَ منها ما ينمُّ عن الرضا؟ أقالت لأَبْرَهَة عندما لَقِيَتْه: «أيها الرجل، اقتلني إذا شئت أو أطلِقْ سراحي؟»
ورفعت رأسها بعد لحظات كأنها ساعات طويلة، ونظرت إلى ولدها ورأتْ ما عليه من أمارات القلق والتعب، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى إطراقها في اضطرابٍ وارتباكٍ كأنها تتوارى.
ولاحظ سيف ما بدا على وجه أمه من ظلال الحيرة، ونظر إليها نظرة إشفاقٍ مترددة، وهمَّ أن ينطق بكلماتٍ يسألها عمَّا بها، ولكنه أمسك، فكيف يسألها عمَّا بها في اليوم الذي يسير فيه أبوه إلى القتال؟
وفطن إلى الفكرة التي خامرته وقال في نفسه: أأقول إنه أبي فيما بيني وبين نفسي؟ فلِمَ جئت إذن؟
ومرت دقائق أخرى وهو لا يدري أيذهب عنها مُعتذرًا بعذرٍ مصنوع كما فعل من قبلُ مِرارًا، ثم يذهب إلى مخدعه ليناجيَ وساوسه حانقًا على نفسه، كما فعل في كل هذه الأشهر التي مضت عليه منذ أواخر الربيع؟ أم يجمع نفسه ويقذف الكلمة التي يريد أن يقولَها؟ وذهب إلى جانب الشرفة يجول ببصره في البساتين والرُّبَى وفي جبلَي نُقَم وعيبان، ووجد في اللحظات التي وقفها هناك متنفَّسًا يستجمع فيه جَنانه وأفكاره الشاردة. ولعلَّ رَيْحانة كذلك قد وجدتْ في تلك اللحظات متنفسًا تتماسك فيه، وتحاول أن تجمع قوَّتها لمقابلته. وعاد سيف إليها قائلًا: معذرةً يا أماه أن أكونَ قد جئتُ إليكِ في هذه الساعة التي …
وتردد لا يدري كيف يُتمُّ كلمته. فقالت رَيْحانة مع ابتسامة ضئيلة: اجلس هنا يا سيف، اجلس إلى جنبي فإني في وحشة! وأشعِرْني بقربك مني.
وبعثت كلماتها فيه هزَّة، أأمه رَيْحانة في حاجة إلى أن يجلسَ قريبًا منها ليُشعرها بوجوده؟ إذن فهذا هو إلى جنبها، وقال في عطفٍ وحماية: ها أنا ذا في جنبكِ أيتها الأم النبيلة. لا غَرْوَ أنكِ تُحِسِّين الوحشة في مثل هذا اليوم.
وكان صوته العميق يَفِيض رحمة. وأنسَتْ رَيْحانة إلى صوته وانقشع عنها كثير من وُجومها، وقالت في هدوء: أين كنت يا سيف؟ لم تكن في موكب الأمس ولا في وداع أبيك اليوم.
وما كادت تنطق بكلمتها حتى عاد إليها جفولها وندمت عليها. أتعيد الكذبة في مثل هذا الهدوء؟ أتسأله عن وداع أبيه؟ وفتحت عينيها وأذنيها تنتظر الجواب في لهفة.
وقال سيف في هدوءٍ كذلك: أبي؟ أسألكِ العفو يا أماه، فقد خرجت منذ يومين إلى وادي ضهر.
وغمرها شعور بالنجاة؛ لأنها لم تتوقع جوابه، وقالت كأنها في حُلْم: وادي ضهر؟
وأرادت أن تبعد عن موطن الخطر، فصرفت الحديث إلى ذلك الوادي قائلة: كانت ليالي قمراء.
فقال سيف: كان القمر في أزهى مطالعه حقًّا، لم أرَ الوادي في مثل منظره تحت أشعته الرفيقة، وكان يسبح بين السحب البيضاء كأنه مَلَاك يبحث في الآفاق عن الأشقياء ليبعث إليهم رحمته. كان يرسل أنواره إلى أركان الشطوط، كأنه يبحث فيها عن وحيدٍ يؤانسه أو حزين يواسيه.
وأحسَّتِ الأم أنه يعود إلى الموطن الذي تتهرب منه، وقالت في نفسها: «مسكين ولدي! إنه يَهِيم في الخيال كما أَهِيم، أهي جناية أخرى جَنَيْتُها عليه إذْ أورثتُه لعنتي؟»
ثم قالت له عاطفة: أكنتَ وَحْدَك؟
فقال في صوتٍ خافت: ومن يكون رفيقي؟
وكان في نغمته شيء زادها قلقًا.
فقالت وهي تتكلَّف المرح: ما أبدع وادي ضهر في الليالي القمراء! لقد طالما خرجتُ إليه في صباي في مثل هذه الليالي، وكان البدر كما وصفت، يخلع على جمال الوادي ما يشبه أن يكون سحرًا.
ومضى سيف قائلًا في حماسة: كانت السحب تحيط بالربى الحالمة كأنها إطار من فِضَّة حول نقش بارع، وكانت الأشجار تقطع صفحة السماء بين باسق منها وقصير، في منظر يقصر اللفظ عن وصفه. كان السلام يلفُّ الأرض الصامتة، وكأن صوتًا عذبًا من أنغام السماء يتردد في طباق الجو قائلًا للناس إن الجمال أسمى من المجد، وأغنى من الغنى، وأخلد من الحياة.
وتبسَّمَتْ رَيْحانة مرتاحة؛ فهذا خير من الحديث عن حرب قريش وعن جيوش أَبْرَهَة وعن التفكير في الأمس والغد. وعجبَتْ أن تسمع من سيف مثل هذا القول الذي يُشبه قول الشعراء، ولم يكن عجيبًا منه أن يحس الشعر؛ فقد كان جده ذو جدن شاعر اليمن الذي بكى عِزَّها الذليل. وقالت: إذن قضيت لياليك ساهدًا.
فضحك سيف وقال: سوف ننام طويلًا.
ووثب قلبها وثبة شديدة. ماذا يقول سيف؟
وقالت وهي تنظر إلى الدائرتين المظلمتين حول عينيه: لقد أجهدت نفسك يا ولدي، ألا تصيب بعض الراحة في مضجعك؟
فأغضى سيف وقال في شيء من الارتباك أو السخرية: مضجعي؟
فقالت رَيْحانة: ماذا بك يا سيف؟
وما كادت تنطق بلسانها حتى انكمشتْ.
فقال هادئًا: عفوكِ يا أماه، فإني لا أحسُّ رغبةً في نوم. دعيني ساعة إلى جنبكِ فهذا أحبُّ إليَّ.
وأحسَّتْ رَيْحانة إحساسًا غامضًا بأنها حيال عاصفة توشك أن تهب، وقالت في دفعة لم تفكر فيها: أرى كأنك تخفي عني أشجانًا في نفسك.
ثم انكمشت مرة أخرى وندمت على كلمتها.
وقال سيف: معذرةً يا أمي؛ إذ أجيء إليكِ في مثل هذه الساعة التي تحتاجين فيها إلى السلام والمؤانسة، فأزعجكِ أو أثير أشجانكِ.
فقالت والألفاظ تنفلت منها انفلاتًا: كنت منذ حين أراكَ على غير عهدي بك، كنت أراكَ قلقًا حزينًا، وأرى على وجهك حديثًا تطويه عني، ولست أحب أن أتدسس إلى أسرارك، فإني أعرف الشباب وما يبعثه في القلب من شجون.
وتمنَّتْ لو أتاحت لها الكلمة الأخيرة منقذًا من موقفها.
فقال سيف: ليس بي شيء مما تظنين يا أماه.
فقالت باسمة: أعرف أن للشباب أسرارًا يؤثر أن يخفيها لكي يُناجيَها وَحْدَه.
وعلقت بصرها في وجهه تتمنَّى أن ترى عليه حُمرة، ولكنها رأته هادئًا، يُذكرها بوجه أبي مرة وهو خارج إلى المعركة.
وأجاب: إني أعلم ما في نفسكِ اليوم من وحشة وقلق، وما كان أجدرني أن أُجنِّبكِ فيه حديثي، ولكني أتيت إليكِ بعد أن سألتُ خَيْلاء.
«إذًا فهي خَيْلاء!»
وقالت رَيْحانة وهي تُحِسُّ النجاة: خَيْلاء! أسألتَها؟
فقال سيف مبادرًا: نعم، وأنا آتٍ من عندها في هذه الساعة، وهي التي أشارت عليَّ أن أُفْضِيَ إليكِ بكل ما في نفسي. إن إيمانها بكِ يُشبه إيمانها بالعذراء.
«أكان يسألها عني؟ ألم يحدِّثها هي؟ ليتَه يطمئنُّ إلى سلامها ووداعتها؟»
هكذا قالت في نفسها. ثم قالت تتمسَّك بأمنية واهية: أكنتَ تنتظر مشورة خَيْلاء لكي تُفضيَ إليَّ بما في نفسك يا سيف؟ قُل ما عندَك تجده ينطلق إلى قلبي قبل سمعي. لا تُخفِ عني نبضات فؤادك.
فقال سيف: كنت منذ أشهر أترقَّب مثل هذه اللحظة، ولكني لم أجرؤ، وهي التي شجعتني على أن أفضيَ إليكِ بوساوسي.
فقالت رَيْحانة في نفسها: «وساوسه؟» واستعدَّتْ تستقبل العاصفة التي أحسَّتْ ألَّا مفر منها.
ومدَّ سيف يده إلى يد أمه، فأمسك بها ومضى قائلًا: لم أجرؤ أن أحرك لساني بألفاظٍ لا تؤدي حقيقة ما في ضميري، وكثيرًا ما خلوت في مخدعي أو في ركنٍ من الأركان البعيدة، فأعيد على سمعي ما أودُّ أن أنطق به، فكنت في كل مرة أجد الألفاظ ناشزة لا تُعبر عن مقصدي؛ ولهذا كنت أتحاشى أن أزوركِ ما استطعت، ثم إذا غلبني شوقي إليكِ لم أشأ أن أُطيلَ زيارتي.
فقالت رَيْحانة في صوتٍ خافت: رأيتُ ذلك يا سيف، وكنت مثلك أودُّ أن أتحدث ثم لا أجرؤ.
وما كادت تقول كلمتها حتى كادت تصيح قائلة: «لا، لا.»
وبادر سيف قائلًا: عفوكِ يا أماه إذا سمعتِ مني ما يُشبه أن يكون شكًّا، فما هو سوى وَسْواس أحبُّ أن أكشف الستر عنه لأطرده من قلبي. أكاد أخجل من نفسي وأنا أسألكِ عن حقيقتي أيتها الأم النبيلة.
وكان قلب رَيْحانة يخفق في حَنَقٍ، ولكنها تعلقت بأمنية واهية أخرى: ألا يقول سيف إنه وَسْواس؟
وقالت في مرحٍ متكلَّف: حقيقتك؟ أنت سيف بغير شك.
فقال: نَشَدْتُكِ بحبي ألَّا تغلقي قلبي وقد جاهدتُ أن أفتحه. مُريني أن أُمسك لساني وأن أردَّ وساوسي إلى أعماق ضميري، ولن تسمعي مني حديثًا في هذا أبدًا.
وسرى حَرٌّ في جسم رَيْحانة ونَدِيَ جسمُها، إنها حيالَ ابن أبي مرة، وامتزج في نفسها الإعجاب والضيق معًا عندما قالت: عفوك يا ولدي، فما أردتُ إلا فكاهة. كُن أكثر بيانًا فإني لا أفهم. وخُيل إليها أن الموقف أعنف من شجاعتها، وكادت تقول له: «بل استمع أنت يا سيف ولا تَقُل شيئًا»، ثم تَجْهَر له بالحقيقة بغير مداورة.
بل لقد خُيل إليها أنها حِيالَ أبي مرة نفسه وقد عاد إليها يُحاسبها على التحلُّل من عهده. أتجثو على قدميه وتكشف عن نفسها صريحة ذليلة تسأله المغفرة؟
وقال سيف وهو أشد منها ارتباكًا: بل اغفري لي أنتِ جرأتي، فإن لساني يخذلني، كيف أضع لكِ سؤالي؟ هل أنا ابن أَبْرَهَة؟
وكأنه وهو يقول هذه الكلمة الأخيرة رجل مُستيئس، يرمي سهمًا إلى صدر عزيز، وهو يغمض عينيه حتى لا يراه يقع حيث رماه.
ولم تملك رَيْحانة صيحةً انفلتت منها، ثم تهالكت في مقعدها.
فقام سيف في لهفة وأمسك بيديها قائلًا: أيتها الأم النبيلة، عفوًا. لا تظني بي الظنون فإني ما تزعزعتُ عن يقيني لحظة، كان خيرًا لديَّ لو كان شكي في انتسابي إليكِ أنتِ، ولكن لم تُطعني طبيعتي. كيف آتي إليكِ أسعى بنفسي يائسًا سائلًا: «أنا ابنكِ حقًّا؟» حين روحي تصيح بي ودمائي تتداعى بالحق أنكِ أمي. غير أني لو كان هذا سؤالي كان عندي أخف وقعًا وقسوة، بل لعلي أراه أشبه شيء باعتراف مني بُحسن صنيعكِ. أنتِ أولى بالنبل لو لم تكوني لي أمًّا، وهبتِ لي من حنانٍ فوق قدرة الوفاء والشُّكْران. ليت قلبي يشكُّ فيكِ فآتي شاكرًا ما لقيتُ من إحسانكِ.
وسكت سيف لحظة، ونظر إلى وجهها الحزين وهي مُطرقة صامتة، ثم استأنف قائلًا في رقَّة: لا تَضِيقي بما أقول يا أماه. نعم، فإني أحتمل كل شقاء في الحياة، بل إنني أحتمل الموت أو العار نفسه حتى لا أُحْرَمَ من بُنُوَتكِ أيتها الحبيبة. ومع ذلك فإني أجد ألفاظ سؤالي تصدع سمعي كأنها قعقعة الصواعق، وتجعلني أتجرع ما أتجرع وأنا أسألكِ عن أبي، فرفقًا أيتها الأم، ولا تحزني واحتملي قسوة سؤالي، فإن الألفاظ عاجزة عن أن تذهب ببشاعته.
وتمالكت الأم جَنانها بشيء من الْقَسْر وقالت: ماذا يدفعك إلى أن تستسلم إلى هذا الذي تسميه وَسْواسًا؟ وما الذي أدخله إلى نفسك؟ ماذا حَمَلَك على الشك في أُبُوَّة أَبْرَهَة؟ ألم تجدْه أبًا بارًّا؟
فأجاب سيف: بل عرفته يُقربني ويُكرمني ويُفِيض عليَّ من رحمته ما لا يدع لي شكوى، ولكني لم أُحِسُّ منذ عقلْتُ أنه أبي. كنت منذ طفولتي أشعر بشيء يقف حائلًا بينه وبيني. كنت أدخل عليه فأناديه: «يا أبي»، ثم أُحِسُّ قلبي يخونني، وأجد بردًا يتمشَّى في مفاصلي. وأنظر إلى وجهه متأمِّلًا فأراه يبتسم لي مُرَحِّبًا مُداعبًا، ومع ذلك فإني كنت أُحِسُّ أنه يضحك مني، فأبادر خارجًا أتسلَّل والخجل يُبلل جسمي.
وصمتَ حينًا، وكانت رَيْحانة مطرقة تحاول أن تُهدئ من ضربات قلبها، ومضى سيف قائلًا: قولي كلمة واحدة تكفيني. قولي ولو إشارة فإن صمتكِ يُشعرني بأني ارتكبتُ جُرمًا.
وأوشكت رَيْحانة أن تَجْهَر بالحقيقة، ولكنها نكصت تتعلق بأملٍ ضعيف أن تؤجل الصدمة حتى تتبصَّر فيما تقول، فإنها كانت تُحِسُّ أنها لا تقوى عليها في تلك اللحظة.
ومضى سيف قائلًا: وهذه الأحلام يا أماه، أليست توحي بالحقيقة؟ وإلا فما هذه الرؤى التي تعتادني؟ وما هذه الأشباح التي تسألني عن أبي؟
وقالت وهي تكاد تغص بريقها: أهذا هو كل ما تشفي به نفسك يا ولدي؟ أوهام طفولة عابرة، وأحلام وأشباح لا تزيد على أخيلة؟ أما كان جديرًا بك أن تكشف من قبل عن هذه الهواجس أو أن تلقاها وجهًا لوجه وقد كبرتَ وصِرْتَ رجلًا؟ إنما هي أرواح خبيثة أعرف أنها تُدْخِلُ على الطفولة أوهامًا ومخاوف، وكنت دائمًا حريصة أن أقرأ عليك الرُّقَى حتى لا تجدَ إليك سبيلًا. فابحث في أعماقك ثم حدِّثني كيف تساورك، ومتى تعتريك اليوم؟ فإنه لا يجدر بك الآن أن تُقيمَ وزنًا لمخاوف الطفولة الجوفاء.
فقال سيف في حزن: ولكنها تتعلق بي برغمي، وما تزال تطاردني.
فقالت رَيْحانة وهي أَمْلَكُ لنفسها: ما هي يا ولدي؟ ما تلك التي تتعلق بك؟
فقال سيف: أشباح غامضة تتحرك في غبش الظلام وتنطق في جلجلة خرساء، فأهبُّ من نومي وأنا أسأل: «أأنا ابن أَبْرَهَة؟»
ثم حدَّثها عن أحلامه التي كانت تعاوده على فترات.
فقالت رَيْحانة: أضغاث أحلام يا سيف، أضغاث أحلام. أمن أجل هذا تُفسد على نفسك السعادة؟ أتعطي زمامك لخيالٍ لا يزيد على أن يكون نَفْثة شيطان يحقد عليك؟ سوف أذبح للعذراء قربانًا وأجعل خَيْلاء تصلي لها من أجلك حتى لا يعودَ إليك. واملأ قلبك يا ولدي بمباهج الشباب، أنت تعذب نفسك يا ولدي بهذه الأوهام التي تضرب فيها وتتطلَّع إليها، لقد صَرَفَتْك عن الحياة حتى أَلِفْتَها وجعلتها عالمك، وأسلمتَ نفسك للخيال يَشْرُد بك، حتى إذا عُدتَ إلى الحقائق وجدتها تصدمك وتهزمك وتجرفك. اعرفْ هذا يا ولدي لأنني عرفتُه في نفسي، ولعله ميراث مني، فحاول أن تتخلص منه وتعيش مع نفسك ومع الناس. أنت في زهرة العمر التي لا تتفتَّح إلا مرة في ساعةٍ قصيرة، أما تخرج للصيد مع لدَاتِكَ كما كنت تفعل؟ أما تذهب إلى مَنازِهِ الأودية النضيرة مع صَحْبك وخدَمك؟ وخَيْلاء، أين أنت منها؟ وهذه الدروس التي كنت تحضر فيها إلى ابن عمي أبي عاصم، لِمَ هجرتَها؟ أين ذهب أبو عاصم؟ لقد بلغني أنه غَضِبَ وذهب إلى داره في حقل صنعاء، أفلا تذهب إليه تسأله باسمي أن يعود إلى غُمْدان؟
وقامت تتنفَّس، وأخذت بكتفَيْ سيف قائلة: دَعْ هذه الوساوس واذهب الآنَ إلى مخدعك حتى تنالَ حاجتك من الراحة، قُم إلى مخدعك معي، فأُغَنِّي لك كما كنت أفعل وأنت طفل، أتضحك يا سيف؟ إنك ما تزال عندي صغيرًا، وهكذا تبقى حتى تَصيرَ شيخًا. نعم، هذا أطيب لنفسي، فقبِّلني كما كنت تفعل كلَّ ليلة إذا ذهبتَ إلى سريرك. هلُمَّ فاسْتَشْعِرِ الأمان إلى جنبي.
وجذبته فسار معها حتى ذهبت به إلى حجرته، واستطاع بعد قليل أن يُغمض عينيه على أغنيتها، وهي تمسح بكفِّها على شعره الصقيل، وتبسَّمَتْ في حزنٍ عندما نظرتْ إلى وجهه الهادئ في نومه كما كانت تبتسم كلما رأته ينام وهو طفل، وسألت نفسها كما كانت تسألها: «ماذا يكون غدًا؟» ثم عادت إلى مخدعها تجرِّر قدميها، وهجمت عليها ذكرياتها تتدسَّس في تلافيف سرِّها، وكان رثاؤها لنفسها يُصاحب رحمتها لولدها، كِلاهما يعيش في الخيال ويصطدم بالحقائق، كلاهما يهيم مع الصور ويفزع من الواقع. أيَّة لعنة أورثت ولدها! وأسفَتْ أشد الأسف على أن ابن عمها، الشيخ غادر القصر، فهو وَحْدَهُ الذي يحب ولدها ويستطيع أن يُعيد إليه الطمأنينة. ولكن أيرضى أن يعود؟ أيرضى وهذه الذئاب تتربَّص به في بلاط غُمْدان؟ وعزمت على أن تتوسل إليه ليرضى، فإنه البقية الضئيلة من أهلها، لعلَّ ولدها يجد في قُربه أُنسًا وفي حكمته هاديًا.