الفصل الثامن
قال الراوي:
مضى الخريف والشتاء ولم يَعُدْ أَبْرَهَة مع جيشه العظيم إلى صنعاء، ولم يبعث خبرًا بنصره على قريش، ثم أقبل الربيع في موكبه الحافل يختال بين البساتين ومروج الأرباض وفي الرحبة الفسيحة بين جبلي نُقَم وعيبان، وتزينت الأرض تتبرج في زخرفها، والسماء تُبدي صفاء ديباجتها لا تشوبها إلا سحب رقيقة تكلل الربى المزدهرة. وكان النسيم يهبُّ دفيئًا يفوح بعطر الليمون والنارنج، والحياة الجديدة تردد أغنية مرحة كأن لم يكن في صنعاء خوف ولا كآبة، وكأن لم يكن ملك الأرض غائبًا في تيهٍ لا يدري عنه أحد شيئًا. وجلست رَيْحانة في شرفة القصر تسرح بصرها في الأفق، وخيل إليها أن الطبيعة الضاحكة تتحدى هموم الإنسان وغروره ومطامعه. لِمَ لم يبعث أَبْرَهَة رسولًا كل تلك الشهور الطويلة؟ ألم تكن رحلة خريف؟ أم هو في شغلٍ من تدبير مُلكه الجديد بعد أن هدم الكعبة ودانت له قريش؟ وهل نسي أن يجعل لسيف شطرًا من ذلك الملك الجديد؟ أو بدا له أن يقيم على الحجاز مَلِكًا من أتباعه الذين كانوا يتبعونه كالكلاب الجائعة تنتظر أن يقذف إليها بفضلة من المجد؟ وكان فناء القصر يضطرب منذ الصباح الباكر بحركة الجنود؛ لأن يكسوم أعدَّ لذلك اليوم موكبًا عظيمًا يسير فيه إلى الكنيسة الكبرى للصلاة من أجل انتصار أبيه. وسمعت رَيْحانة تَصايُح الأحباش برطانتهم التي كانت لا تفهم منها حرفًا، وخيمت على قلبها سحابة. ماذا تحس في أعماقها التي لا تستطيع أن تخفي عنها حقيقتها؟ أكانت تلك التي تخفيها هناك أمنية أم خوفًا؟ أيكون أهل مكة حقًّا قد غرروا بأَبْرَهَة وتركوه حتى تنفد مئونته وتخور قوى جنوده من الحر والجوع والجهد، ثم هبطوا عليه من رءوس الجبال فجأة فحطموا جيشه؟ لم يبعث أَبْرَهَة رسولًا منذ خرج، ولكن الأنباء كانت تتطاير في الظلام مثل خفافيش الليل، تذيع في الناس أن أَبْرَهَة قد هُزم هزيمة طاحنة. أتحزن لتلك الكارثة لو كانت حقيقة؟ ماذا كان على أَبْرَهَة لو قنع بمُلك اليمن واقتطع لولدها قطعة منه ليعوض عليه ما أصابه في جده وأبيه وقومه؟ ولكن يكسوم يعد الموكب ليستنقذ الانتصار بالصلوات.
وضحكت رَيْحانة ضحكة كادت هي تفزع منها، وعادت تنظر إلى أعماقها لترى ما تخفي بها. أهي أمنية أم هي خشية؟ وماذا يفعل يكسوم لو صحَّ أن أَبْرَهَة قد هلك كما تقول الأنباء التي يتهامس بها الناس إذا خلا بعضهم إلى بعضٍ في ستر الظلام؟ كان يكسوم يزداد حَنَقًا وقسوة يومًا بعد يوم، ويزيده حَنَقًا ما يرفعه إليه جواسيسه من همسات الناس في خلواتهم. كانت الطباق الرطبة الجاهمة التي في أغوار القصر تستقبل كل ليلة عددًا من وجوه صنعاء، الذين يتهمهم الجواسيس بالتآمر على الثورة. بل إن يكسوم لم يتردد في أن يذهب إليها هي ليحدثها عن ولدها سيف وعن خَيْلاء، وأنهما يقضيان ساعات من الليل أو النهار وَحْدَهُما، يتحادثان فيما لا يدري أحد من الأحاديث، ويحضران معًا دروس ذلك الشيخ الذي يفسدهما بآرائه التي لا تزيد عن سفاسف العامة. فكيف تسمح لسيف أن يجالس فتاة مثلها؟ وكيف يقيم الشيخ في غُمْدان عزيزًا كأنه لم يكن في يومٍ من الأيام من أعداء أَبْرَهَة؟ أيبقى في القصر ليسمم قلب سيف ويُلقي ستارًا على اجتماعه بخَيْلاء؟ وكان يكسوم في ثنايا حديثه يشير إلى أن صبره كاد ينفد، وإلى أن سلامة الدولة لا تعرف قرابة ولا مجاملة. ومع هذا ستذهب معه في الموكب إلى الكنيسة وتصلي معه من أجل الانتصار، حتى لا يجد سبيلًا عليها. وسمعت صوت الأبواق ودق الطبول، رأت تحت بصرها صفوف الأحباش تنتظم في صفوف وتستعد للموكب، ولن تستطيع أن تعتذرَ عنه بعذرٍ من فتور أو مرض، بل إنها توسلَتْ إلى سيف أن يركب معها حتى لا يلهبَ غضب يكسوم عليه.
وكانت كلما فكرت في ذلك الموكب زادت منه نفورًا، وأحست هاجسًا يهتف أنه ينطوي على نكبة. أيسير موكب في صنعاء الصامتة الكئيبة التي لم يمرَّ عليها أشقَى من الشتاء المنصرم ولا أشد كسادًا من ذلك الربيع؟ لم تتوافد القوافل في ذلك العام كعادتها من الشمال والشرق، ولم تتلاحق السفن إلى شواطئ زَبِيد وعدَن تحمل البضائع من أقصى أركان الأرض إلى صنعاء، ولم تنعقد الأسواق في ميادينها الفسيحة ولا في أرباضها الفيحاء، ولم يتزاحم أهل البوادي على الطرق المؤدية إليها صاعدين من كل فجٍّ عميق بما عندهم من سلع يعدُّونها طوال العام انتظارًا للموسم الأكبر، ولم تكن صنعاء في ذلك العام ملهًى صاخبًا، فيه السمر إلى جانب البيع، وفيه المجون إلى جانب الجد، وفيه المسابقات والمباريات والمناضلات والمفاخرات بالأشعار. لم تشهد صنعاء في ذلك الشتاء المنصرم شيئًا من كل ذلك؛ لأن الحرب تركتها خامدة مظلمة، وكانت طرقها الخالية وساحاتها العارية تبدو كأنها بقية من عالمٍ مُندثر. فهل كانت مثل هذه المدينة لتخرج بقية أهلها إلى الطريق العظمى لتحية الموكب، كما خرجوا لتحية أَبْرَهَة؟
وجاءت الوصيفة الحبشية لِتُؤْذِنَ الملكة بأمر سيدها أن الموكب في انتظارها، فسوَّت حُلَّتَها وحليها وقامت بطيئة بقلبٍ ثقيل تسير في البهو نحو السُّلَّم الرخامي، ولمَّا بلغت باب القصر كان يكسوم هناك بوجهه الجاهم، ومدَّ إليها يده ليساعدها على الصعود إلى هودجها. وسارت الخيول بعد أن استوى الموكب. وكانت أصداء حوافرها تقعقع على الأرض الصلبة في الطريق الخالية. وكانت البيوت العالية مغلقة الأبواب والنوافذ عن اليمين والشمال. ونظرت رَيْحانة خلفها فزادت قبضةُ صدرها، كان سيف يركب جواده الأبيض عن يسار يكسوم، وكان ولدها مسروق يسير عن يمينه، وكان يكسوم على جواده الأدهم وعبدان يُمسكان بزمامه، وفي يُمناه حربة طويلة وهو يسمو بقامته وهامته الضخمة فوق الركب، ونظراته العابسة تبرق كما يبرق سنان حربته. إنه موكب يكسوم! ولاحت قبة الكنيسة مشرفة من بعيد من بين أشجار الجوز والليمون والسمر والسلم. ثم بلغ الموكب الباب المزخرف ذا الياقوتة الحمراء. وكان القسوس وقوفًا تحت الدرَج الواسع في استقبال الركب الملكي، يلبسون مسوحًا سوداء واسعة، وعلى رءوسهم قلانس عالية، وتقدم القس الأكبر من الملكة، وفي يده صولجان من الأبنوس يعلوه صليب من الفضة.
ونزل يكسوم عن فرسه مُسرعًا، فقبَّل يد القس مُنحنيًا، ونزلت الملكة في ثيابها البيض وعباءتها الحريرية الزرقاء، وكانت حليها تتوهج بالجوهر. وتقدم القس نحوها رافعًا يده بالصولجان، ونطق لها بكلماتٍ رومية فهمت منها أنها تحية مقدسة، فانحنت له في صمت، وسارت رافعة الرأس نحو الباب بين صَفَّيِ القُسوس حتى شقَّتِ الصحن. وكانت نوافذه العالية تصفي شمس الضحى في صفائحها الْمَرْمَرية وزجاجها الملون، فيغمر الضوء الخافت الفسيفساء الأنيقة التي كانت تزخرف الممشى، ويخلع على جو الكنيسة غموضًا وجلالًا.
وأقام القس الصلاة، وكان ترتيله عميق الصوت يرنُّ في جنبات الصحن، والصفوف المتراصَّة على المقاعد تُنصت خاشعة. ولمَّا فرغ من ترتيله أتى إلى الملكة والأمراء، فأشار إليهم ليذهبوا إلى قدس الأقداس. وكانت الشموع هناك تُضيء الحجرة الضيقة بنورٍ ضئيل، يغشى الجدران بظلال المذبح والتماثيل القائمة حولها، وكانت روائح الند والعود تفوح من مجامر النُّحاس ممتزجة بعطر المسك الذي طُليَتْ به الجدران.
وعادت الترانيم ترن جليلة عذبة، وأقبل القس الأكبر نحو الملكة رافعًا صولجانه مُرتلًا بصوتٍ هادئ، وتلقَّتِ الملكة بركته راكعة تميل برأسها نحوه، فلوَّح بالصليب فوق صدرها ورأسها، ولمس به تاجها الذهبي عند اللؤلؤة التي تتوسطه.
ولمَّا فرغ من مباركته ذهب يكسوم إليه، فتناول طرَف الصولجان وقبَّل الصليب وخشع يتلقَّى البركة، حتى إذا فرغ القس منه أقبل نحو سيف يُباركه، وعلَّقتِ الملكة نظرها في وجه ولدها والقس يقترب منه، فإذا يكسوم يُسرع ويدفعه في عُنف، ويقدِّم أخاه (مسروق) نحو القس قائلًا: «ابن أَبْرَهَة أولى.»
وكانت الحركة أسرع من أن تتنبَّه رَيْحانة إلى بدئها ونهايتها، فما كادت تفطن إليها حتى رأت وجه سيف يشتعل، ثم يتجه إلى يكسوم متحديًا في حَنَق، وأحسَّ القس حرج الموقف، فأسرع يُبارك الفتى الذي تقدم إليه، وذهبت رَيْحانة إلى ولدها الذي أذهلته المفاجأة، ولكنه بادر قبل أن تُدركه فانفلت من الحجرة قائلًا: «لا حاجة بي إلى بركة.» وظهرت في عينَي الأم دمعة، فحولت بصرها إلى الباب الذي خرج منه سيف، ودارت بها الأرض فلم تتمالك نفسها، حتى اقترب القس منها وعلى وجهه أثر من الارتباك وتمتم بكلمات، فقالت رَيْحانة: «عفوًا أيها الأب المبارك»، ثم انصرفت خارجة.
وعاد الموكب في الطريق الخالية حتى بلغ القصر، وذهبت الملكة إلى جناحها مُسرعة، حتى إذا بلغت مخدعها ألقت بنفسها على أريكة وغلبتها دموعها.
وجاء إليها سيف بعد قليل، فوقف عند رأسها ينظر نحوها صامتًا، ثم ناداها بصوتٍ خافت: مولاتي!
وسمعت صوته كأنها في حُلم، فرفعت رأسها وقالت في صيحة مكبوتة: عفوك يا ولدي!
فقال سيف هادئًا: بل عفوكِ أنتِ، فقد أحدثتُ لكِ حرجًا يا مولاتي!
فقالت في ألم: أبهذا تناديني؟
وقامت إليه فضمَّته بين ذراعيها وألقت رأسها على كتفه باكية.
فقال سيف: لا يحزنكِ شيء أيها الأم النبيلة.
فقالت: بل تكلم يا ولدي وانطق بما في نفسك، ولا تخفف من عنفه شيئًا. قل إنني كذبت وإنني ضعفت وإنني أسأت، فإنه خير عندي أن أسمع منك ما يصك أذني ويصدع قلبي؛ لعله يخفف من حزني.
فقال سيف: ليس في قلبي لوم ولا حاجة بي إلى مزيد من القول، لقد بَرِحَ الْخَفاءُ، وما كنتِ تستطيعين أن تكوني أكرم نفسًا.
فقالت رَيْحانة في ضراعة: دع لي فرصة لأبَيِّن لك عذري. إنما عذري إليك محبتي وإشفاقي وضعف الأم التي تُحِسُّ ذنبها. لم تكن هذه الأكاذيب التي كررتُها عليك هينةً عندي، كان كل لفظ منها يجفف ريقي ويطعن قلبي، وكان ضميري في كل مرة يصيح بي قائلًا: «اجهري بالحقيقة»، ولكني ضعفت ولم أُطِع صوت ضميري كما تفعل المرأة التي تحسُّ ذنبها، وكان ذنبي أنني لم أقتل نفسي عندما كنت أحملك بين ذراعي. ألا فاعلم يا سيف أنك ابن الأكرمين كابرًا عن كابر، أنت ابن سادة اليمن، وأنا رَيْحانة ابنة ذي جدن، كان أبوك زين الفوارس؛ أبو مرة ذو يَزَن.
ففتح سيف عينيه وقال في همسة مدهوشة: ذو يَزَن!
ومضت رَيْحانة قائلة: إنهما اسمان لا يزيدان عندك على لفظين، ولكن استمع إلى قصتي لتعرف من كان هذان.
وأخذت تسرد عليه قصتها وهو يستمع إليها في لهفةٍ وتأثُّر. ثم قالت في ضراعة: هذه هي الحقيقة التي كنت أطويها عنك، وليس فيها ما يَنْدَى له جبينُك خِزْيًا إلا أن يكون أنني لم أضع في قلبي خِنْجَرًا عندما دخلت غُمْدان. فإذا كنت أسأت في هذا فإنني أطلب عفوك، ولا أتوارى مما يقع في قلبك.
ورفعتْ رأسها ثانيةً تنظر إلى وجهه الهادئ وجبينه الفسيح.
وأخذ سيف يديها فقبَّلهما قائلًا: لم يقع في نفسي إلا أنكِ أعزُّ الناس عندي وأكرمهم شيمةً وأنبلهم قلبًا.
وأطرق لحظةً ثم قال: ولكن الحقيقة تطلع عليَّ فجأة وتبهرني كما يقع النور الساطع على العين فيبهرها. قلبي يجيش ولساني يتلعثم.
والتفت يريد أن ينصرف، فتمسكت به قائلة: بل أقِم إلى جنبي حتى أهدأ، ولا تدعني لأحاديث وحدتي العنيفة. وانفجرت في بكائها متهالكة على مقعد.
فبقي سيف في جوارها حزينًا من أجل حزنها، ولكن أفكاره كانت تضطرب كما لم تضطرب من قبل في وساوسه، ورنَّتْ في أذنيه كلمات يكسوم وهو يقول: «ابن أَبْرَهَة أولى»، وتذكر نظرته عندما نظر إليه بعينيه الجامدتين. وعادت إليه فجأة صورة العينين اللتين طالما أفزعتا أحلامه وأفسدتا سلامه، أليستا هما العينين القاسيتَين اللتين اتجه بهما إليه في قدس الأقداس؟ تلك نظرتهما وهذا بريقهما البارد، وتلك هي الهامة الضخمة، وذلك هو الوجه الأسود الذي كان يُحَمْلِق فيه. إنه الوجه الغليظ الذي كان يَصِيح به في الأحلام: «مَنْ أنت حتى تضرِبَ ابن أَبْرَهَة؟»
وكان في مضطرَب أفكاره تلك ينظر إلى أمه المسكينة تهتزُّ في فَحْمة البكاء وقلبه مملوء رثاءً. ما كان أشد الأيام والليالي في قسوتها!
كان يراها مثل شابَّة لم تَنَلِ السنون منها إلا خيوطًا بيضاء قليلة تلمع بين خُصَل شعرها، وما كان يستطيع أن يحسب يومًا أن مثل تلك الآلام الْمُبَرِّحة تعذبها. أعرفت رَيْحانة في زمانها كل تلك المحن وعركت الدهر في كل تلك المواقف؟ فلو عرف أن أَبْرَهَة لم يكن أباه، وأنه لا يزيد على أن يكون ولدًا لرجل من العامة، مات عنه أو هجر أمه حتى تلقَّاها أَبْرَهَة فضمَّها إليه، لما أحسَّ في الأمر كله سوى صدمة الحقيقة. ولكن الحقيقة كانت أبشع من صدمة؛ لأنها كانت مأساة دامية، وما كانت رَيْحانة إلا إحدى ضحاياها. أكل ذلك كان ينطوي وراء بسماتها وأغانيها له؟ أكل هذه الأسرار السوداء كانت تكمن في قلبها ليلًا ونهارًا وهي لا تنطق بكلمة؟ وثبَّتَ بصره عليها حينًا وقلبه يتحدث: أيتها الأم المسكينة، لِمَ تتعذبين هكذا؟ ولِمَ تبكين مثل هذا البكاء المر؟ ألأنكِ لم تقتلي نفسكِ عندما قتل أَبْرَهَة قومكِ وشرَّدَ زوجكِ وبعث إليكِ لتكوني امرأته؟
وناداها قائلًا: هوِّني عليكِ يا أمي.
ووضع يده في عطف على رأسها.
وكأنها كانت تنتظر منه تلك الكلمة، فرفعت رأسها تنظر إليه نظرة ملؤها الشكر، وقالت: أنت هذا إلى جانبي يا سيف؟
فقال لها: أنا فداؤكِ أيتها الأم النبيلة، هَوِّني عليكِ فإن هذه الأحزان تزيدكِ نُبلًا. إن قلبكِ الذي تحمَّل كل هذه الصدمات يجعلني أفخر بأنكِ أمي. كوني كما كنتِ دائمًا، أستمدُّ منكِ قوتي وآوي إليك في لحظات كربي، وأستوحي منكِ سبيل الهدَى. أمَّاه، لست أجد من الألفاظ ما أبين به رحمتي وحبي وإجلالي سوى أن أقول أماه! وسأمضي عنكِ حتى تعودي كما كنتِ، فلا أراكِ من بعد إلا ظلًّا لي ونبعًا وسندًا.
وخرج من الحجرة كأنه يسير في حُلم على رأس جبل، يرى من حوله فضاء ومن تحته فضاء، أنَّى رمى ببصره لم يرَ قرارًا. رأى أن حياته كانت قائمة على هوَّة انكشفَتْ فجأة بعد أن زال عنها غطاؤها، فرآها تَفْغَر فاها مُظلمة، ليس يدري ما ينطوي في جوفها. وبدتْ له الحقائق التي كان يطمئن إليها زائفة، والمعاني التي كان يستقر عليها ولا يخطر بباله أن يُجادلَ فيها، مسارب ظُنون يحيط بها الشك، وليس فيها موضع ليقين. عرف آخر الأمر أنه ليس ابن أَبْرَهَة، أليس هذا ما كان يود أن يعرفَه؟ ولكنه عندما عرف الحقيقة أدرك أنه كان يَهِيم في الخيال، بل أدرك أنه كان يخدع نفسه بغير أن يُحِسَّ، وأنه كان في قرارة قلبه يودُّ لو بقي على نسبته. فعندما خرج من عند أمه أول مرة وقد سخرتْ من وساوسه عاد إليه هدوءه ورضي عن نفسه، شاعرًا كأنه نجا من مأزقٍ مخطر. ألم يكن ذلك لأنه كان يُضمر أمنية خفية أن يبقى ولد أَبْرَهَة؟ وها هو ذا قد عرف الحقيقة، فماذا يجني منها؟ كيف يكون موضعه من يكسوم من بعد؟ وكيف يكون موضعه من خَيْلاء؟ أهي الأخرى لا تعبأ إلا بابن أَبْرَهَة؟ ونزل بغير أن يقصد إلى البستان، وسار في المماشي التي كان يسير في ظلالها مع خَيْلاء، وعادت إليه نبرات صوتها وهي تحدثه عن المساكين الذين كانت تراهم في ضوء القمر، يُساقون إلى ناحية الْجُبِّ العميق. كانت تَهِيم معه في الخيال مع أمانيها تقول له: «سنذهب يا سيف إلى أبيك إذا عاد، لتُخرج هؤلاء إلى ضوء الشمس.» وسار يدفعه دافع نحو بناء كالح في زاوية القصر مما يلي مرابط الخيل. هناك كان يتسلل مع خَيْلاء إذا هما طفلان، فيتعلقان بالقضبان الحديدية التي تعترض النوافذ الضيقة القريبة من الأرض، ويتدسسان بنظرهما في ظلمة الفراغ الذي وراء النافذة، ويُخَيَّل إليهما أن أصوات الجن تنبعث خافتة من أعماق الْجُبِّ العميق، تشبه صيحات بومة مخنوقة أو عويل قطة حبيسة، فيصيحان فزعًا ويجريان مبتعدين عن البناء الغامض، حتى إذا ما صارا منه على مسافة مأمونة وقفا يضجَّان ضحكًا ويصفقان ويقفزان. هذا هو الجب الذي حدثته عنه خَيْلاء منذ أسابيع قليلة، وكانت تحدثه بحزنٍ عميق عن المساكين من أهل صنعاء الذين كان الأحباش يسوقونهم إليه في غلظة تحت الظلام. كان عند ذلك يحسب أن هؤلاء المساكين من رعاياه ورعايا أبيه، وأنه سيشفع لهم من أجل خَيْلاء. ووقف عند النافذة القريبة من الأرض، وخُيِّلَ إليه أنه كان يسمع من وراء قضبانها الحديدية الصدئة أنينًا بعيدًا؛ إذن فهؤلاء هم قومه الذين يتعذبون ويفقدون أبصارهم؛ إذ يقضون أيامهم ولياليهم في غيابَة الظلام، هم هناك يقضون أيامهم أنَّة بعد أنَّة، أو لحظة معذبة بعد لحظة. وثار قلبه غيظًا من أجلهم ومن أجل نفسه؛ لأنه قد صار منذ ساعة أحدهم بعد أن كانوا رعاياه.
وانصرف مُسرعًا يحسُّ كراهة تتزايد في قلبه، فلما بعد عن البناء الكالح التفت وراءه كأنه ينظر إلى الأنين الخافت يلحق به. وحمد الأقدار التي مهَّدتْ لأبيه سبيل الخلاص ليضرب في الأرض شريدًا. ذو يَزَن! أو مرة ذو يَزَن! اسم له رنين، ولا غَرْوَ أن يكون صاحبه فارسًا يستطيع أن يتحامل على نفسه في الليل وهو مُثْخَنٌ بالجراح ليهرب من العبودية. ولكنه لم يرَهُ يومًا يبتسم له كما يبتسم الآباء إلى أبنائهم، ولم يشعر يومًا بحمايته له ولا بمشاركته في عاطفة. لم يكن ذو يزن عنده سوى اسم، لا شخص له ولا صورة، ولو كان ابنًا لأحد المساكين من الرعاة الذين يتواثبون على صخور الجبال وراء قطعان الماعز، لكان أحبَّ إليه من أن يكون ابنًا لخيال، فإنه كان يعرف ذلك الأب ويعيش كما يعيش ويشقَى كما يشقَى، لا يعرف وراء حياته أمنية جوفاء تقلق نفسه.
ومرَّ بمرابط الخيل، فلمح من بعيد أحد السوَّاس من الأحباش يركب مُهره الأبيض، وهو يَصْهِل في غضب ويقفز من تحته يريد أن يقذفَ به عن ظهره، ورفع السائس سوطه فأهوى به على رأسه، فصاح سيف صيحة مكتومة وأسرع يجري نحوه، حتى أدركه وقد رمى به المهر عن ظهره، وعرف المهر صاحبه فوقف حياله رافعًا رأسه فاتحًا خياشيمه وفي عينيه ذعر وغضب. وأقبل الحبشي بسوطه يريد أن يهويَ به على رأس المهر، فبادر سيف إليه ونزع السوط من يده فأهوى به على وجهه بضربة حانقة، ولم يفهم شيئًا مما صرخ به الحبشي وهو ينظر إليه نظرة وحشية، ثم ينصرف عنه مزمجرًا. وأقبل سيف على مُهره يمسح وجهه ورقبته، حتى هدأ وذهبت عنه رجفته، وأخذ يشمُّ كتفيه ويصهل صهيلًا خافتًا، ثم قاده إلى مربطه وأوصى به كبير السوَّاس. وقال في نفسه وهو ذاهب نحو القصر: «ماذا يكون من هذا الرجل لو عرف أنني لا أزيد على ابن ذي يزن؟» ولما دخل من باب القصر كان يتخيل في نفسه أن ذلك السوط الذي أهوى به على السائس قد نزل على وجه يكسوم. أيستطيع يومًا أن يرد عليه إهانته؟
وزاد به الضيق عندما آوى إلى حجرته وأسلم نفسه للأمواج الصاخبة التي تدافعت إليه من شتَّى الآفاق، كيف يلقى الذين كان يلقاهم وهو ابن أَبْرَهَة؟ كيف يكون خطابه لهم؟ وكيف يكون خطابهم له؟ أيذهب إلى أمه آسفًا يقول لها إنه يود أن يبقى أمام الناس كما كان، ولا يكشف لهم عن حقيقة نسبه؟ كم من صِلاتٍ قديمة تنقطع عنه بعد يومه ذاك، وكم من صلات جديدة لا يعرفها سوف تصله بأقوامٍ لم يلقَهم من قبل؟ سوف تكون صلته الوثقى بهؤلاء الأشقياء الذين تُلقى إليهم الفضلات ويسخر الأحباش من شقائهم، سوف يغضب لهم ويتلبَّس بمشاعرهم وينظر إلى الأشياء من ناحيتهم. وسوف يلقاه هؤلاء السادة الأذلاء الذين يحتشدون بباب القصر يتزلَّفون آل أَبْرَهَة، فينظرون إليه شَزْرًا ويتبرءون منه علانيةً، كما كان يسمعهم من قبل يتبرَّءون من أبيه وهو لا يعرفه، وسوف تقع أقوالهم على أذنٍ أخرى تحسُّ في كل لفظٍ من ألفاظهم وخزة، ثم خَيْلاء، أكانت حقًّا … لا! لم تكن خَيْلاء لتنظر نظرة أحد غيرها من الناس.
وسار في حجرته يحدث نفسه بألفاظٍ متقطعة تتخلَّلها ضحكات تشبه أن تكون مأفونة: «إلى أين؟ من أين؟ ظلام فوق ظلام. أهذه هي الحقيقة؟ اسم جديد لخيال جديد؟ أهذه قُصارَى الحقيقة التي كنتُ أنشدها وأعذِّب نفسي من أجلها؟ أم هو حلم من الأحلام المفزعة التي طالما اعتادتني؟ أم هي صحوة من حلمٍ طويل؟ أحقًّا رأيت الشمس طالعة في هذا الصباح ترسل أول شعاعها من وراء الأفق كأنه موكب قدسي؟ وهل كنت في الصباح حقًّا في موكب يكسوم، وذهبت إلى الْقُلَّيْس واستمعتُ إلى ترانيم القسوس؟ وهل دفعني يكسوم قائلًا: «ابن أَبْرَهَة أولى؟» أهاتان هما عيناه أم هما العينان اللتان أفزعتا أحلامي؟»
وضحك ضحكة أخرى جوفاء أفزعته، فأسرع خارجًا من الغرفة إلى حيث لا يدري، وكأنه يهرب من نفسه.
وسمع صوتًا في البهو يُناديه: إلى أين يا سيف؟
فالتفت إلى خَيْلاء، وكانت تنتظر الشيخ أبا عاصم كعادتها ساعة الدرس، وقالت في لهجة الاعتذار: أراكَ مُسرعًا.
وكانت إلى جانب الوعاء الْمَرْمَري، ونظراتها تنمُّ على ارتباكٍ ودهشة، وصدرها يتحرك في موجة رفيقة، وخُيل إليه عندما رآها أنه كان غريقًا فعثرت يده بجانب صخرة، وملأ عينيه منها ثم تردد كالحالم إذا بدأ يستيقظ، وتعجَّب كيف لم يرَها من قبل في مثل هذا الرواء.
كانت خَيْلاء في تلك اللحظة مثل دمية أحد البارعين الذين يخلِّدون اللحظات المسحورة بفنِّهم، ولو وُضعت في الكنيسة لكانت أيقونة العذراء. أهي خيال آخر في حُلمٍ متصل؟ واقترب منها كالمأخوذ، ومدَّ يده نحوها ولم يَدْرِ ما يقول لها. ومرت لحظة طويلة وهي رافعة بصرها إليه مترددة، وكست وجهَها بسمةٌ خاشعة حزينة، وزادت موجة صدرها شدة، ونزع سيف ألفاظه مرتبكًا: خَيْلاء! معذرة لِما تَرَيْنَ مني. لم أذكر أنكِ هنا، بل ما عرفت أنني آتٍ إلى هنا. تعالَيْ أستمع إلى صوتكِ، فإن قلبي ممتلئ وهو مغلق، وكأن نبعًا حارًّا قد انبثق في أعماقي، أُحِسُّه يتدفق كامنًا مكبوتًا فوَّارًا.
وجلس معها على المقعد في جوار الوعاء الْمَرْمَري، وكانت نظرتها على هدوئها تصيح سائلة. فقال سيف: لا تعجبي لما تَرَيْنَ، فإني اليوم غير من تعرفين، وغير من أعرف أنا. إنني أشكُّ في نفسي في هذه الساعة وأشكُّ في كل ما حولي، ويُخيَّل إليَّ أنني في عالمٍ أجوف لا حقيقة فيه، وكل ما أرى منه لا يزيد على صورٍ يخلقها لي وهمي وأحسبها حقائق. أسْمِعِيني صوتَكِ لأني لا أستطيع أن أشك فيه إذا سمعته، أعينيني على العودة إلى حسي حتى لا أنفضَ يدي من الحياة يائسًا.
فتحركت خَيْلاء في قلق لا يخلو من الذعر، ولم يَخْفَ ذلك عندما قالت: تثبَّتْ يا سيف وهدِّئ من روعك وحدِّثني بما يزعجك. حدَّثني عمَّا تُحِسُّ أو ما يحزنك، لعلي أحمل معك حِمْلَك. كنتَ اليوم في الْقُلَّيْس؟
فقال سيف في ضحكةٍ ثائرة: نعم، ذهبت إليه في الصباح. ذهبتُ إليها شخصًا وخرجتُ منها شخصًا آخر. إنني في هذه الساعة مثل طفل صغير يسير في الظلام ويرى فيه أشباحًا، فينطق ولا يدري ما يقول، وينادي وليس يعرف من ينادي، لعله يأنَس بسماع صوت نفسه، فكلِّميني يا خَيْلاء فإني أفزع من صوتي.
فقالت خَيْلاء: أما من سبب لكل هذا؟
فقال: إنني أبدأ حياة جديدة منذ اليوم، ولست أدري أين أتَّجه فيها. عليَّ أن أرتادَها وأن أفهمَها بعقل غير عقلي الذي اعتدت أن أزِنَ به أموري، وأن أتعرفَ أهلَها وأحوالها بعينٍ غير عيني الأولى. قلت لك إنني مثل طفل، فلا تدعيني أتكلم، لا تسأليني، بل تحدَّثي إليَّ، قولي أي شيء، حدِّثيني عن هذا الوعاء وعن اللحظات المسحورة؛ فقد كان حديثًا جميلًا. حدثيني عمَّا صنعتِ منذ الصباح، أو عمَّا قلتِ في صلاتكِ للعذراء، لعلَّ ذلك يُدخل إلى قلبي شيئًا من إيمانكِ. لو كنتُ أُومِنُ بشيء لآمنتُ بنفسي، ولكني أَسْبَح في فراغ.
فأمسكَتْ خَيْلاء بذراعه في حزنٍ وأطرقَتْ تبكي صامتة.
فقال سيف: معذرة يا خَيْلاء، فقد قسوتُ في ثورتي العمياء. لا تظني بي الْخَبَل، وإن كنتُ لا ألومكِ إذا ظننتِ ذلك. ولكني أحاول أن أتماسك. دخلتُ هذا الصباح إلى الكنيسة وأنا سيف بن أَبْرَهَة، وخرجتُ منها وأنا سَيْف بن ذي يَزَن. أتفهمين قولي؟
فرفعَتْ رأسها في دهشة ولهفة، ولكنها لم تتكلم، فمضى سيف قائلًا: كنتُ أعيش كل هذه السنين في نسيجٍ من الأكاذيب، كانوا يسمونني ابن أَبْرَهَة وهم يعلمون أنني ابن رجل شَرِيد، ذهب على وجهه في الأرض منذ كنت طفلًا. وأخذ يعيد عليها قصة أمة.
وكانت خَيْلاء تُعلق فيه بصرها وهو يتحدث ووجهها ينطق قائلًا: «ما أسعدني!»
ولما فرغ سيف من القصة قال كأنها يحدث نفسه: سَيْف بن ذي يَزَن. اسم جديد، لو سمعتُه بالأمس لَمَا استرعَى سمعي إلا كما يسترعيه اسمٌ في أسطورة، ولكنه اليوم هو السبب الذي يصلني بالحياة. سَيْف بن ذي يَزَن! سَيْف بن ذي يَزَن.
وكان في ترديده يتمهَّل، كأنه يريد أن يملأ منه سمعه ويتبيَّن جرسه ويقدر رنينه.
وارتفع صوت من ورائهما يقول في حماسة: ما أعذبه اسمًا! كأنه خُلق هكذا وكُتب هكذا في سجل الأزل.
ولمع وجه الشيخ أبي عاصم وهو يتقدم قائلًا لسيف: مَنْ علَّمك هذا؟
فقال سيف في ارتباك: كأنك كنت تعرفه يا سيدي الجليل.
فقال الشيخ هادئًا: أعرفه؟ أسؤالًا بسؤال؟
وجلس أمامَهما على مقعدٍ وطيء، وأعاد عليه سيف قصة الْقُلَّيْس.