الفصل التاسع
قال الراوي:
فرغ الشيخ من درسه وكان خفيفَ النفس متدفق الخاطر، فبينما هو يتحدث عن يومٍ من أيام الحروب إذا هو يورد ما قال الشعراء فيه يصورون هزَّات نفوسهم، ثم إذا هو يسبح في معاني الخير والشر ومقاييس الفضل والنقص.
وقام سيف وخَيْلاء يُشَيِّعانه وهو يسير بخطواته الهادئة يَتَّكئ على عَصاهُ الطويلة، حتى خرج من البهو وأخفَته الأروقة عنهما. والتفتَ سيف إلى خَيْلاء آخذًا بيدها قائلًا: كنتُ كمن صدمَته صخرة فزلزلته حينًا، ولكني أعود إلى نفسي، وما كنت أحسب أن جَناني يعود في مثل هذه الساعة القصيرة. أرى الْغِشاوات تزول عن عيني، وأبصر الأشياء كما ينبغي لي أن أراها. ليست الأشياء كما خُيِّلَ إليَّ منذ ساعة، صورًا مُجردة يخلقها لنا الوهم، فتبدو لنا في هباء تخدعنا وتضللنا. هذه أنتِ يا خَيْلاء إلى جنبي تستمعين إليَّ، وهذه يدكِ في يدي، وهذه هي السعادة ترفُّ علينا حقيقةً لا خيالًا. أكاد الآنَ أُومِنُ بنفسي.
فقالت خَيْلاء باسمة: وعرفت الإيمان؟
فضغط سيف على يدها قائلًا: ما أسرع العقول في تبدُّلها، وما أسرع تبدُّل الرؤى في أعيننا، أليست هذه الحواس تخدعنا؟ إنها تُخيِّل إلينا أن الشمس تجري بين السحاب إذا هبَّتْ عاصفة، وأن القمر يسير معنا في الليلة الصافية.
فقالت خَيْلاء: وتملأ قلوبنا بذلك شعرًا. أليس كذلك يا سيف؟
فقال سيف: ولكنكِ تسألينني عن الإيمان.
فقالت خَيْلاء: وهل نؤمن بعقولنا؟ الإيمان لا يدخل إلينا من العقل؛ لأنه أسمى من عقولنا، وأنَّى لنا أن نُدرك بعقولنا المحدودة ما يتعدَّى الحدود المباحة للحواس؟ نحن نلمس المادة الكثيفة، ونرى ما يستطيع بصرنا الكليل أن يبلغَه، ونسمع ما يَقْرَع آذاننا، ولكننا لا نستطيع أن نكابر الحق ونقول إن هذا كل شيء، فإن وراء ما نلمس عالم لا يُدركه اللمس، ووراء ما نرى عالم لا يبلغه البصر، ووراء ما نسمع عالم لا يكشفه السمع. ولو قنعنا في الإيمان بما تدركه الحواس، لَمَا زِدْنا شيئًا على النملة التي لا تستطيع أن تطيرَ في الجو، أو السمكة التي لا تعيش إلا في الماء، أو الحية الصمَّاء التي لا تُدرك إلا ما في الرمال التي تدبُّ عليها. لا نستطيع يا سيف أن نبلغ الإيمان عن طريق عقولنا؛ لأنها لا تعرف إلا ما تُمْلِيه عليها الحواسُّ التي تستعبدنا. لسنا ملائكة.
فقال سيف هامسًا: ألا يكون البشر ملائكة؟
فقالت: لا بأس علينا إذا لم نكن ملائكة، إذا كنا نتواضع ولا يحملنا الغرور إلى أبعدَ مما ينبغي لنا، فالبشرية ضعيفة محدودة، ولكنها لم تَخْلُ من جمالها. وهذا الضعف الذي فينا قد يكون مَبْعَث سعادة لنا إذا نحن آمنَّا. بل إن هذا الضعف يَحْمِلُنا على التعلُّق بالإيمان؛ لأنه وسيلتنا إلى السلام وإلى الرحمة وإلى المحبة.
فقال سيف في حماسة: لو تكلم الملائكة لما قالوا خيرًا من هذا يا خَيْلاء. فإن كلماتكِ تبعث في قلبي من الإيمان أكثر مما يستطيع عقلي؛ السلام والرحمة والمحبة. سأُومِن يا خَيْلاء، وسبيلي إلى الإيمان هو أنتِ. أنتِ السلام والرحمة والمحبة، فأنتِ هو.
وأخذ يدها بين يديه ناظرًا إلى عينيها، وتحركت تقبض يدها، فتمسَّك بها قائلًا: ما كان لي أن أذهبَ حتى أقولَ كلمة ما زالت تشتعل في صدري.
فأغضَتْ وسحبَتْ يدها في رفقٍ، ومضى سيف قائلًا: نحن هنا وحيدان في غُمْدان يا خَيْلاء. لم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن عرفت أني وحيد هنا، كأنني لم أسأل نفسي عنكِ إلا في هذه اللحظة. نحن هنا وحيدان معًا، والدنيا أمامَنا فسيحة تدعونا لنلتمس فيها السعادة.
وبقيَتْ خَيْلاء مُطرقة صامتة.
ومضى سيف فقال: ألا تَجِدينَ في قلبكِ جوابًا؟ أليست القلوب تتحدث؟ ألا تُحِسِّين ما أريد أن أقول؟ لستُ أجد لفظًا يقوى على نقل ما في نفسي، فابحثي في قلبكِ عن الجواب على سؤالٍ لم أنطق به بلساني.
فقالت بصوتٍ متهدج: أنت تعرفه يا سيف.
فقال في حماسة: أعرف الأصداء التي تتردد في قلبي، ولكني أَتُوق إلى سماع صوتكِ لأنني أَتُوق إلى أن أستشرف السعادة منذ لحظتي هذه. انطقي بلفظة أتخذها زادًا حتى نلتقي مرة أخرى. لم أكن من قبل أعرف حقيقة هذا الذي أحسُّه، أنتِ رفيقة طفولتي، وصاحبة صِباي، وصديقة شبابي، ولكن هذا كله يتضاءل إلى جانب الحقيقة التي لم أكشف عنها إلا عندما تزعزعتُ وانكشف لي شقائي. لو قلتُ إنه الحب لكان أقلَّ مما يصور الحقيقة التي أقصدها. أعرف أنني أحبكِ حبًّا ينتظم كل حياتي، ولكن الحب الذي عندي، الحب الذي استمددته منكِ يأبى أن يتلبَّس في الثوب الذي اتخذه الناس على قدودهم، إنه شيء آخر أسمى من الحب الذي عرفه البشر منذ خلقوا له لفظًا. أأقول هو … ماذا أسميه؟ ولكن ماذا يُبكيكِ أيتها الحبيبة؟
وكانت خَيْلاء قد انفجرت في نشيجٍ واضعة وجهها بين كفَّيها.
فقالت خَيْلاء وهي تتحرك منصرفة: دعني يا سيف أمضي الآن.
فقال سيف في لهفة: إلى أين يا خَيْلاء؟ دعيني أكلمكِ وأستمع إليكِ. إنني لم أسمع بعد جوابًا.
فقالت: هذه السعادة تطلع عليَّ فجأة، فتُذهل الألفاظ عن لساني وتنفجر بدموعي. دعني أذهب الآن إلى حجرتي، دعني أذهب فإني أحسُّ حاجتي إلى الصلاة يا سيف.
فقال سيف متمسِّكًا بها: بل قولي إننا سنخرج معًا، نخرج من هذا القصر الذي لا تربطنا به غير ذكرياتنا، فلنخرج بها ولنذهب إلى ركنٍ من الأركان البعيدة على شط من شطوط الأودية، أو في براحٍ من الصحراء الفسيحة، هناك تكون دارنا لنا وحدنا.
فقالت خَيْلاء في صوتٍ خافت: قلبي يَفِيض ولا أقوى على أن أفكر في شيء، دعني أذهب الآن لعلي إذا لقيتُكَ بَعْدُ كنتُ أهدَى إلى سبيلي.
واختطف سيف يديها فقبَّلهما، وكان صدر خَيْلاء يضطرب وعيناها تدمعان عندما تركها سيف عند باب مخدعها.
وما كادت تدخل حتى ألقت بنفسها إلى جنب تمثال العذراء تصلي صامتة، متجهة بقلبها الواجف إلى مورد الحب الأعلى، تدعوه أن يحميَ حبها خالصًا نقيًّا، وتودع عنده عهدها على الوفاء لسيف حتى يجتمعا معًا عند كرسيِّه الأقدس.
وأما سيف فإنه لم يُطِقِ البقاء في مكان، كان يجد الفضاء نفسه أضيَق من أن يحتويَه، ولم يعرف أين يتَّجه، وخُيل إليه أن الكون كله لا يَهَبُ له إلا ملجأً واحدًا وهو خَيْلاء، فنزل إلى البستان ووجد الربيع فيه يتوهج بالأنوار، ولكن أين يستقر فيه؟ لم تكن أزهاره ولا طيوره تستطيع أن تستمع إليه إذا أراد أن يتدفَّق في الحديث، وما كانت ظلاله الحالمة توائم سعادته الواثبة التي تنفر به من الاستقرار. يذهب إلى أمه؟ ولكن أمه المسكينة كانت لا تقوى على التجرُّد من هزَّتها العنيفة لتؤنسَه بمشاركتها. وهل كان يجرؤ على أن يتحدث إليها عن أمنيته في ترك غُمْدان مع خَيْلاء؟
وخرج من الباب الخلفي إلى الأرباض القريبة، وكانت الأكواخ الصغيرة التي في أطراف الرَّبَض تَلوح له من بعيدٍ هادئة قانعة راضية، كأنها تُظل تحتَها قلوبًا سعيدة، وأيُّ سعادة تنطوي تحت أحدها إذا كان يأوي إليه مع خَيْلاء! وخُيل إليه أن يذهب إلى تلك الأكواخ واحدًا بعد آخر، فيحيي من هناك من المساكين قائلًا لهم: أنا ابن ذي يَزَن، ويصافح الأيدي الْقَحْلَة التي تمتد إليه مُرحِّبة.
وتمثلت له صورة شِعْب بعيد فيه منزل منعزل، تطلع إليه طريق صخرية، يحفُّ بها من الجانبين صفَّان من شجر الطَّلْح أو السمر، ويمتدُّ فناؤه الفسيح مسرحًا للعين، وفيه أركان ظليلة تتشابك فوقها فروع الأعناب وتستر جوانبَها أعوادُ الياسمين، يشرف عليه القمر إذا طلع، وتلمع فوقه النجومُ في الليالي المظلمة، وتكون فيه خَيْلاء. ألا يُزْرِي ذلك المنزل المتواضع بعظَمة غُمْدان؟ وودَّ لو لم يَطُلْ مقامه بَعْدُ في ذلك القصر الأجنبي ليلةً واحدة، فهو قصر أَبْرَهَة وأبناء أَبْرَهَة، ثم هو قصر يكسوم. وعادت إليه صورة يكسوم وهو يدفعه قائلًا: «ابن أَبْرَهَة أولى»، فما مقامه في غُمْدان وما مقام خَيْلاء هناك؟ فهي الأخرى …
وتذكر في تلك اللحظة أنه لم يفكر فيما تُحِسُّه خَيْلاء ولا فيما تحبه خَيْلاء، فإنه لم يسمع منها لفظًا واحدًا يدلُّ على أنها كانت تكره الإقامة في غُمْدان، أو أنها تُؤْثِر الإقامة معه في أحد الأكواخ المتواضعة أو في شِعْب منعزل في الجبال. وكان يرى في سيره أشباحًا تخرج من كوخ، أو توقد النار أمام خيمة قائمة، ترغو إلى جانبها ناقة هزيلة. أفي مثل هذه تقيم خَيْلاء؟ وهل تحمله غَضْبَتُه على مثل هذا التفكير الذي لا يَزِيد على هَذَيان الحُمَّى؟ وهي بعد كل هذا لم تقُل سوى أن قلبها يَفِيض، وأنها تريد أن تذهب إلى حجرتها لعلها تهدأ، حتى إذا لقيَته مرة أخرى كانت أهدَى إلى سبيلها، ولم تَقُلْ له أنها تُؤْثِر العيش معه في الخيمة المنعزلة أو في ركنٍ بعيد من شطوط الأودية. إنه هو كذلك يحتاج إلى أن يهدأ حتى يكون أهدى إلى سبيله، فأين يذهب إذا خرج من غُمْدان؟ ولو خرج وَحْدَه يومًا لِيَهِيمَ على وجهه في الأرض كما خرج أبوه من قبل لكان أمره هَيِّنًا، فهو يستطيع أن ينام حيث يُدركه الليل، وأن يتحمل الجوع والعطش إذا لم يَجِدْ طعامًا أو شرابًا. وفي أية غاية يجر خَيْلاء معه إلى عالمٍ مجهول غير محدود المعالم؟
من أجل أية غاية؟ الحياة؟ السعادة؟ الكرامة؟
وعاد أدراجه بقلب ثقيل، يسير نحو غُمْدان الذي خرج منه منذ ساعة بقلبٍ يَفِيض سعادة ولا يتسع له مكان. ولَمَّا بلغ القصرَ ذهب إلى حجرة الشيخ أبي عاصم، لعله يجد في حديثه ما يُضيء له غَيَابَة الظلام الذي خيَّم على نفسه.