درس الفراعنة وقيمته لنا
كان درس الفراعنة مجهولًا جهلًا تامًّا إلى أن عرف شامبليون اللغة أو الخطوط المصرية القديمة، ولكن حتى بعد هذا الاكتشاف بقي تاريخهم مجهولًا لأسباب كثيرة بعضها يرجع إلى العقائد الدينية، وهو أن الفراعنة كانوا كفارًا، وما زلنا نسمي أطلال المدينة المصرية القديمة التي يأخذ الفلاحون ترابها لتسميد أرضهم بأنها «تل كفري» والمعنى المقصود هو أن هذه المدينة كان يسكنها الكفار قبل ٣٠٠٠ أو ٤٠٠٠ سنة.
ولكن روح التسامح الذي ساد أوروبا في القرن الماضي جعل الأوروبيين يتسامحون فيما كُتِبَ عن الفراعنة في التوراة، ويقبلون على دراسة آثارهم، ويخصون الكراسي في الجامعات لهذه الدراسة، بل يبعثون بالبعثات العلمية إلى مصر لكي تقوم بالتنقيب عن هذه الآثار وكشفها.
وبقينا نحن في مصر نجهل هذه الآثار، ولم تكن برامج التعليم تتناول التاريخ المصري إلا بصيغة موجزة كأنها خلاصة قد كتبها تلميذ للاستذكار فقط؛ ولذلك لم تبعث الدراسة المدرسية لتاريخ الفراعنة أي شوق بين الطلبة أو خريجي المدارس العليا للاستزادة، فلم يُؤَلَّفْ كتاب في تاريخ الفراعنة، ولم تتناول الجرائد أو المجلات هذا الموضوع.
وزاد على ذلك أنه لم يكن أحد من المصريين يتعلم اللغة المصرية القديمة، بل اقتصر تعلُّمُها على الأجانب الذين كانوا يؤلفون بلغاتهم الأجنبية.
ولكن الحال ليست كذلك الآن؛ فإن النهضة الحديثة إلى الاستقلال والحرية بعثت كبرياء جديدة في نفوس الشبان، جعلتهم يعتزون بذكر الفراعنة ويفخرون بآثارهم، ووافق ذلك نجاح بعض المصرلوجيين مثل سليم حسن وسامي جبرة في كشف بعض الآثار، فوجدت الصحف موضوعًا للكلام عن الفراعنة، كما أن «درامة» توت عنخ آمون قد بعثت الانتباه بل الدهشة والغبطة بين جميع أبناء الأمة، وبعد ذلك أو في أثناء ذلك حدثت تلك الزوبعة في الفنجان عن الفرعونية والعربية، فكانت أيضًا على صغرها موضوعًا للتنبيه العام عن قيمة الفراعنة في ثقافتنا أو في نهضتنا.
هذا التنبيه واضح حتى في تلك الأسر التي قد لا يفكر الآباء فيها في قيمة الحياة الفرعونية وهم مع ذلك يسمون أبناءهم بأسماء مصرية مثل رمسيس وأسيس وخوفو وأهمس، والمسلمون والمسيحيون سواء في ذلك.
•••
ولكن مع كل ذلك لا يزال اهتمامنا بدرس الفراعنة ضئيلًا إذا قيس بدرس الأوروبيين والأمريكيين له؛ فإن الكتب التي أُلِّفَتْ عن تاريخ جدودنا تعد بالمئات في اللغة الإنجليزية وحدها، وجميع الجامعات الأوروبية وبعض الأمريكية ينفق النفقات الكبيرة على إلقاء المحاضرات عن الفراعنة وبعث البعثات إلى مصر لدرس آثارهم، وقبل نحو أربع سنوات عرض علينا معهد روكفلر أن ينفق نحو مليوني جنيه للتنقيب، وعرض مع ذلك أن نضع نحن شروطنا لهذا التنقيب، ولكنَّا رفضنا، ولم يقل لنا أحد للآن لماذا رفضنا؟
واهتمام الغربيين بالآثار المصرية هو الذي يجعل مصرلوجيًّا عظيمًا مثل الأستاذ سليم حسن يؤلِّف كتبه عن مكتشفاته باللغة الإنجليزية دون العربية؛ لأنه يثق من وجود جمهور من القراء حين يؤلف باللغة الإنجليزية، وهو لا يثق من وجود هذا الجمهور بين أبناء بلاده.
والنتيجة لهذه الحال التي يُؤْسَفُ عليها أن جمهور القراء في لندن أو برلين أو نيويورك يدرون عن مكتشَفات سليم حسن أكثر مما ندري نحن، مع أننا أبناء هؤلاء الفراعنة الذين هم موضوع الدرس، وهذه الحال لا تشرفنا.
إن لنا هيئات حكومية تقوم بطبع الكتب العربية القديمة، وهذه خدمة لا تُنْكَرُ للأدب أو لتاريخ الأدب، فلماذا لا تقوم هذه الهيئات نفسها بترجمة الكتب التي يؤلِّفها المصرلوجيون عن الآثار الفرعونية وطبعها؟
•••
وفينا من يعتقد أن درس الفراعنة لا يفيدنا كثيرًا؛ لأن الصلة قد انقطعت بيننا وبينهم في اللغة والدين والسياسة والاجتماع والثقافة والفنون.
ولكن هذا الاعتقاد خطأ؛ فإننا أولًا لا نزال من حيث السلالة مصريون، يجري في عروقنا الدم الذي كان يجري في جدودنا قبل خمسة آلاف سنة، واللغة لم تنقطع بيننا وبين عصور الفراعنة لأنها لا تزال حية في الكنائس المصرية، وكل ما طرأ عليها أنها تُكْتَبُ بحروف إغريقية على نحو ما كانت تُكْتَبُ التركية بحروف عربية قبل بضع سنوات، ولو أتاح الحظ للكنيسة القبطية قسيسًا وطنيًّا — وهو مع وطنيته عالم — لرد اللغة القبطية إلى الخط المصري.
أما السياسة والاجتماع والفنون فإنها جميعًا تعود في الأصول والأسس إلى مصر القديمة؛ لأن الحضارة اختراع مصري قديم.
•••
وهنا نقطة تستحق الإبراز لأهميتها؛ فإن الشائع أن الأقباط هم السلالة الخالصة للمصريين القدماء، وأن المسلمين قد اختلطت دماؤهم بالدم العربي، وأن درس الفراعنة يجب ألَّا يكون له عند المسلمين القيمة التي له عند الأقباط.
وقد كنت أظن أن هذا الفرض معقول من الناحية التاريخية، ولكن كان يعترضه ما نراه في اختباراتنا الريفية من عظم المشابهة بل المطابقة بين السحنة الغالبة بين الفلاحين وبين السحنة الغالبة على المصريين القدماء، وهذه الحقيقة يعترف بها إليوت سمث نفسه، وإن كان هناك بين الأقباط أفراد كأنهم التماثيل المنحوتة قد أُخْرِجَتْ ليومها من قبور الفراعنة.
وكنت أحار في تعليل هذه الحقيقة حتى أتاح لي ظرف حسن أن أناقش الأستاذ سعيد لطفي في هذا الموضوع، وهو رجل يمتاز فوق وطنيته المصرية بسحنة فرعونية.
ويرى الأستاذ سعيد لطفي أن المسلمين أخلص في العنصرية المصرية من الأقباط؛ لأن العرب حينما غَزَوْا مصر كانت الطبقة الحاكمة خلاسية يجري في عروق أفرادها مزيج من الدم المصري والدم الروماني، وكان الرومان الشرقيون (أي اليونان) قد قَضَوْا في مصر ألف سنة قبل دخول العرب فكان اختلاطهم كبيرًا بالمصريين، ولكن هذا الاختلاط كان مقصورًا على الطبقة الحاكمة فقط، على نحو ما كان قائمًا في بلادنا قبل نحو خمسين سنة؛ إذ كانت الطبقة الحاكمة من المصريين وذات السلطان الاقتصادي في البلاد خليطًا من الأتراك والمصريين والشراكسة، أما الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة فكانوا عند دخول العرب مصريين أقحاحًا لا تشوبهم شائبة من الدم الروماني، كما كانوا عند احتلال الإنجليز على هذه الحال أيضًا لا يشوبهم شيء من الدم التركي أو الشركسي.
وهؤلاء الفلاحون والعمال وسائر أفراد الأمة دخلوا في الإسلام، أما الطبقة الحاكمة أو ذات السلطان الاقتصادي فقد اعتزت بمركزها وامتنعت بمقامها وأمَّلت الآمال بخروج العرب، وهذه الطبقة هي التي ينتسب إليها الأقباط الآن وهي كما قلنا لم تكن خالصة الدم.
وعندي أن هذا المنطق معقول، وهو يثبت أن المسلمين المصريين أخلص دمًا وأوثق رابطة بالفراعنة من الأقباط الذين كثيرًا ما نجد بينهم السحنة الرومانية.
•••
وقد كان قاسم أمين فرعوني النزعة قبل أن نغرم نحن بهذا الهوى الجديد، وكان يرى أن دعوى الاختلاط بالعرب لا تنهض على أساس صحيح، وكان يقول إنه يكفي أن نضع عربيًّا قحًّا إلى جنب مصري لكي نرى الفرق العظيم بين السحنتين.
وكل من قرأ تاريخ مصر العربي يعرف كيف كان الملوك يتخلصون من العرب ويرشونهم لكي يرحلوا عن البلاد، وهم بالطبع لم يكن في ميسورهم أن يرحلوا لو كانوا قد اختلطوا بالسكان، وكل هذا يدلنا على أن المصريين — إلا الطبقات العالية — احتفظوا بدمهم الفرعوني. وفي بلادنا الآن عرب لا يختلطون بالفلاحين، وكلنا يعرفهم في الصعيد والفيوم والبحيرة والشرقية، حيث يمارسون من تجارة الإبل والغنم ورعايتها ما يخالف مألوف الفلاحين مخالفة الرحلة والانتجاع للإقامة والفلاحة.
•••
وكما لكل فرد شخصيته التي تتألف من تراثه البيولوجي والاجتماعي،، كذلك لكل أمة شخصيتها التي تتألف من تاريخها وتراثها الثقافي والاجتماعي؛ ولذلك لا يمكننا أن ننظر للأمة إلا باعتبار ما لها من وحدة التاريخ. فدرسنا للتاريخ المصري هو درس للشخصية المصرية وللأخلاق المصرية، وللأثر الذي تخلفه البيئة الطبيعية لوادي النيل في سياسة الدولة ونزوات الحاكمين.
وهنا تحضرني ملاحظة أدلى بها المصرلوجي ويجال الذي مات في العام الماضي، فقد نظر إلى التاريخ المصري في مدى ستة آلاف سنة ماضية فقال — على ما أذكر — إن مصر بموقعها الجغرافي يجب أن تكون إمبراطورية إذا أرادت الاستقلال؛ فإن حدودها مفتَّحة الأبواب للعدو الذي يبغي غزوها سواء من الغرب أم من الجنوب أم من الشرق، وإن تاريخها أيام الفراعنة أو أيام الحكم العربي يدل على أنها كانت كذلك أو كانت العكس، فإما أن نملك السودان أو يملكنا، وإما أن نملك طرابلس أو تغزونا قبائلها، وإما أن نملك فلسطين وما والاها من الأقطار أو تملكنا هذه الأقطار، وهذا هو الذي حدث أيام الفراعنة في الدول القوية، وهذا هو الذي حدث أيام الإمبراطورية الفاطمية، أما حين لم نكن أقوياء فإن هذه الأمم المحيطة بنا غزتنا وحكمتنا. والمغزى أن مصر لا يمكنها أن تقف موقف الحياد والسلام للأمم المجاورة لها لأن حدودها لا تحميها، فهي إما أن تغزو هذه الأمم وإما أن تغزوها هذه الأمم، أو هذا على الأقل هو ما ينطق به تاريخها وموقعها الجغرافي.
والمستر ويجال يريد بالطبع مغزى آخر يتفق ونزعاته الإمبراطورية، ولكن هذا لا ينقص من قيمة هذا المنطق التاريخي الذي اعتمد عليه، وهو أننا لكي نفهم العوامل السياسية التي تتحكم في شئوننا يجب أن ندرس تاريخنا كله، ولا نقتصر منه على الحديث بل نرجع إلى أربعة الآلاف من السنين التي سبقت الميلاد المسيحي.
•••
ولكن إذا كان واجبًا على كل إنسان أن يدرس تاريخ بلاده فإنه يجب على المصري أن يدرس تاريخ مصر لا لأنه تاريخ مصر فقط بل لأنه تاريخ الدنيا، تاريخ الحضارة القديمة التي أخرجت الإنسان من العصر الحجري وجمع الطعام والرحلة في الغابات والبراري إلى عصر الزراعة واستنتاج الطعام والإقامة في المنازل وإنشاء الحكومة والأسرة.
فإن مصر هي — باعتراف طائفة كبيرة من المؤرخين — التي اخترعت الحضارة الأولى، ونحن حين ندرس تاريخها القديم ندرس علمًا آخر هو الأنثروبولوجية ونعرف كيف نشأ الطب وما العلاقة بين تحنيط الجثة وبين توبلة الطعام، ولماذا أجمعت الأمم على الإكبار من شأن الذهب، وما علاقة هذا المعدن المشئوم بالأزمة الحاضرة، وكيف نشأت الملوكية وطبقات الأشراف، وكيف عرفت الراية للحرب والرنك للأسرة الشريفة، وما الذي بعث على التجارة بين الأمم، ولماذا تسمى الكيمياء الآن باسم مصر القديم، ولماذا أخذ الأوروبيون التقويم المصري، بل لماذا تُقَدَّسُ البقرة في الهند الآن.
كل هذا نستطيع أن ندرسه عندما ندرس تاريخ مصر؛ لأن الحضارة الأولى التي اخترعها جدودنا نقشت في العالم ولها آثار ليست في بلادنا فقط بل في جميع الأقطار في الصين وإنجلترا وأمريكا وأفريقيا الوسطى وإيطاليا وجزيرة العرب.
ونحن حين ندرس تاريخنا نقف منه على الأساليب التي يتخذها الذهن البشري في الابتكار والاختراع، كما نقف على السيكلوجية التي تتفشى بها العقيدة، فدراستنا لتاريخ جدودنا هي دراسة أيضًا للتاريخ العالمي والفلسفة والأنثربولوجية والسيكلوجية.
لدرس الفراعنة يجب أن تُؤَلَّفَ اللجان في كل مدينة كبيرة أو صغيرة لكي تُشْتَرَى الكتب التي كثيرًا ما تتجاوز أثمانها طاقة الأفراد، وهذه اللجان تشتريها بالتعاون ثم يتوزعها أفرادها فيما بينهم لدرسها كما يجتمعون للمناقشة فيها، وهذه الكتب — كما قلت — تعد الآن بالمئات في اللغات الأوروبية وخاصة اللغة الإنجليزية.
كما يجب أن تُصْنَعَ الأفلام التاريخية عن الفراعنة بإشراف أحد المصرلوجيين لعرض الحياة المصرية القديمة، فقد رأينا فلمًا يؤلَّف عن كليوبطرة فيجب أن نرى أفلامًا أخرى تؤلَّف عن أخناتون وتحتمس ورمسيس، وهذه الأسماء ليست مألوفة في العالم الغربي الذي ألف اسم كليوبطرة؛ ولذلك قد لا ينشط مؤلفوهم إلى التأليف عنها، وإذن يجب علينا نحن أن نقوم بهذا العمل لتنوير الأذهان وإيناس القلوب بذكري الجدود.
كما يجب أن تؤلَّف الكتب باللغة العربية في تراجم هؤلاء الفراعنة؛ فقد استطاع ويجال أن يضع كتابًا عن أخناتون لا يقل عن ٣٠٠ صفحة كبيرة، وكان يجب أن يكون لهذا الملك الصالح كتاب بل كتب في العربية توضِّح لنا جهاده الروحاني، كما كان يجب أن نجد كتابًا آخر في الجهاد الحربي الذي قام به رمسيس وعشرات أخرى من الكتب في الحضارة المصرية القديمة.
كما يجب على المدارس أن تتوسع في تدريس التاريخ الفرعوني.
•••
ومدينة كبيرة مثل القاهرة هي عاصمة القطر ومَحَجُّ السائحين، يجب أن تأخذ بنصيب من الفن الفرعوني، هذا الفن الذي يبعث الهيبة والوقار والفخامة كما نراه في ضريح سعد الذي نرجو أن يعود جثمانه الشريف إليه قريبًا.
وفي كل من باريس ولندن وواشنطون وإستانبول مسلات مصرية، ولست أقترح أن تنقل إلى أحد الميادين في القاهرة مسلة مصرية، ولكني أظن أنه يمكن إقامة بعض التماثيل الفرعونية في مياديننا في القاهرة، وقد كان اللورد كتشنر يبغي نقل تمثال رمسيس إلى ميدان باب الحديد، ولكن قيل في ذلك الوقت إن جسر قصر النيل لا يتحمل نقله، وقد هُدِمَ هذا الجسر وأقيم مكانه آخر يمتاز بمتانته وسعته، فلم لا نعود فنفكر في نقل هذا التمثال العظيم إلى هذا الميدان؛ لكي يستقبل كل قادم إلى العاصمة ويذكره بالفراعنة؟
وليس تمثال رمسيس هو الوحيد الذي يمكن نقله، ولا ميدان باب الحديد هو الوحيد بين الميادين الذي يمكن إقامة التماثيل فيه؛ فإن تماثيل الفراعنة كثيرة ويمكن أن يقام منها عدد كبير في العاصمة لكي تكتسب المدينة منها مسحة فرعونية تنبه الذهن وتحيي القلب.
•••
إن درس الفراعنة هو في النهاية الدعاية للفراعنة، ونحن نريد هذه الدعاية لأنها تتمم شخصيتنا التاريخية وتزيد كرامتنا القومية، وتنير أذهاننا عن الأصول والأسس التي قامت عليها حضارتنا أي حضارة العالم.